بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وبهذا تختلف الجملة الخبرية عن الإنشائية ، حيث انّ الثانية مرادها الجدّي جعل الحكم في نفس المتكلم.

وحينئذ يطبّق كلام صاحب الكفاية (قده) ، فيقال : إنّ المخصّص المنفصل إذا عارض مع الدلالة الاستعمالية ، فهذا يعني ما قاله الشيخ الأعظم (قده) في المحاولة الثالثة.

ولكن إذا طبقنا كلام صاحب الكفاية (قده) يقال : لا موجب لرفع اليد عن الدلالة الاستعمالية ، بل العام مستعمل في العموم ، لكن نرفع اليد عن المدلول الجدّي وحينئذ يقال : لم يقصد الحكاية عن العموم.

وقد يقال في مقابل ذلك ، بأنّ المخصص المنفصل هنا لا يعارض مع أيّ من المدلولين ، وإنّما يعارض مع مدلول ثالث ، لأنه هنا ، لو فرضنا صحة كلا المدلولين ، فهذا يعني أنّ المتكلم ، استعمل لفظ العام في العموم وقصد الحكاية عنه ، ويكون المخصص صحيحا ، بمعنى أنّ الحكم ليس بثابت للفقراء الفسّاق.

إذن فلا محذور في صدق المخصّص وكون العام قد يثبت كلا مدلوليه ، غايته أنّه يلزم الكذب حينئذ بمقتضى الجمع بين العام والخاص ، إذن ، فالمنافاة تقع في مدلول ثالث ، فيقال حينئذ : إنّ العام الإخباري له ثلاث مدلولات.

مدلول استعمالي ، ومدلول جدّي ، ومدلول واقعي ، بمعنى أنّ ما حكى عنه موجود في الخارج.

والمخصّص المنفصل ، إنّما يعارض مع المدلول الثالث فقط ، بينما يصدق المدلولان الأولان ، دون أن يصدق المدلول الثالث حيث يقال : انّ هذا المتكلم استعمل اللفظ في العام وقصد الحكاية عنه ، ولكنه كان كاذبا في بعض القضيّة ولا بأس بذلك ، باعتبار انه قد تكون المصلحة في إظهار خلاف الواقع ، بل إن الكذب على كل حال متحقق بناء على ما حققناه فقهيا. من أن

١٤١

التورية كذب ، لأنها عبارة عن كشف خلاف الواقع ، ولذا نقول بحرمتها إلّا في مورد واحد.

وهذا بخلاف العمومات الإنشائية ، فإن المعارضة فيها بين المخصّص المنفصل والمدلول الجدّي للعام ، بل يمكن القول : إنه لا معارضة بين المخصص المنفصل وأيّ مدلول للعام ، لأنّه مع المدلول الأوّل والثاني يمكن أن يجتمع معهما.

وأمّا المدلول الثالث للعام ، وهو ثبوت المطلب واقعا ، فهو ليس مدلولا للكلام ، وإنما يعرف من الخارج ، ككون المتكلم صادقا ، فإنّ هذا في ذمة وثاقة المتكلم ، فإنّ كونه صادقا ، يعرف من خارج كلامه ، ولكن هذا ليس من التعارض بين الكلامين ، لا بلحاظ المدلول الاستعمالي ، ولا بلحاظ المدلول الجدي.

نعم ، المخصص هنا ، مخالف لأمر ثالث وهو ، مطابقة ذلك الكلام مع الواقع ـ وقد يعبّر عنها باصالة الجد ـ إلّا أن هذا الظهور ليس من ظهورات الكلام ومدلولاته ، وإنّما هو مرتبط بوثاقة المتكلم وكونه صادقا لا يخطئ وهذا هو معنى عدم التنافي بين الكلامين ، العام الخبري والمخصص ، وعليه فلا تعارض بينهما.

والخلاصة هي : إنّ كلّ ما ذكرناه من كلام صاحب الكفاية ، إنما هو في حجية العام في الباقي في العمومات الإنشائية ، فهل يتعدّى منها إلى العمومات الإخبارية أم لا؟

قد يقال : إنّ العام الإخباري له مدلولان ، مدلول استعمالي ، وهو قصد إخطار العموم ، ومدلول جدّي ، وهو قصد الحكاية عن العموم ، وبهذا تختلف الخبرية عن الإنشائية ، حيث انّ الثانية ، مرادها الجدّي جعل الحكم في نفس المتكلم.

وحينئذ : إن عارض المخصّص ، المدلول الأول ، فيكون كما قاله

١٤٢

الشيخ الأنصاري (قده) في المحاولة الثالثة ، وإن عارض المدلول الثاني ، يكون كما قاله صاحب الكفاية ، من أنّه لا موجب لرفع اليد عن المدلول الاستعمالي ، بل نرفعها عن الظهور في الجديّة.

فيقال حينئذ ، انّه لم يقصد الحكاية عن العموم ، وإن استعمل فيه.

وقد يقال : إنّ المخصص لا يعارض أيا من المدلولين ، بل نفرض أنّ كلا المدلولين للجملة الخبرية صحيحين ، وأنّ المخصّص صحيح أيضا ولا محذور في صدق كل ذلك ، غاية الأمر ، انه يلزم الكذب ، باعتبار انّ المتكلم قصد الحكاية عن قضية بنحو الموجبة الكليّة ، ولم تكن ثابتة كما حكى.

وعليه فالمنافاة بين المخصّص والعام هنا ، تقع في هذا المدلول الثالث ، ولا بأس بذلك ، باعتبار أنّه قد يتفق أن تكون المصلحة في إظهار خلاف الواقع ، بل الكذب متحقّق على كل حال ، كما هو مبنانا الفقهي ، من أنّ الكذب متقوم بكشف شيء خلاف الواقع ، ومن هنا نبني فقهيا على حرمة التورية ، وكونها كذبا أيضا إلّا في حالة نادرة لا مجال للتعرض لها الآن ، بل يمكن أن يقال : إنه لا معارضة بين هذا المخصّص المنفصل والعام ، لا بلحاظ مدلوله الاستعمالي ، ولا بلحاظ مدلوله الجدّي ، وذلك لإمكان اجتماع المخصّص مع مدلولي العام الأول والثاني.

نعم المخصص هنا ، مخالف لأمر ثالث ، وهو مطابقة ذلك الكلام مع الواقع ، المعبّر عنه باصالة الجدّ ، ولكن هذا الظهور ليس من ظهورات الكلام ومدلولاته بشيء ، وإنّما هو مرتبط بوثاقة المتكلم وكونه صادقا لا يخطئ ، وهذا هو معنى عدم التعارض بين العام الخبري والمخصص.

ولكن الصحيح هو ، أنّه يوجد تعارض. بين المخصص وبين ظهور الكلام في الحريّة والاختيار ، وذلك إنّ عدم مطابقة الكلام مع الواقع ـ أي الكذب ـ له منشئان ، إذ تارة يكون منشؤه عدم الوثاقة ، وأخرى يكون منشؤه الاضطرار ، وهذا مرتبط بالوضع الذي يعيشه المتكلم كما في حال التقية ، وحينئذ يقال :

١٤٣

أمّا الكذب بالمعنى الأول فهو غير مربوط بمدلول الكلام ، ولا ينفى بظهور من ظهوراته ، وإنّما هو مربوط بعلم الرجال ، فيعرف حاله من هناك.

وأمّا الكذب بالمعنى الثاني فهو خلاف ظاهر حال المتكلم ـ وهذا أصل عقلائي ـ فإنّ المتكلم له ظهور حالي ـ وإن كان منشؤه الغلبة ـ فإنّ العقلاء يرون أنّ الأصل في كل عاقل ، أن يعبّر بملء حريته ما لم تقم قرينة على خلافه ، والمخصص يعارض هذا الظهور ، بمعنى انّه لا يمكن التحفظ على الظهورات الثلاث في الجملة الخبرية مع وجود المخصص ، وإلّا لزم كون المعصوم كاذبا لعدم الوثاقة ، وليس للاضطرار ، فمثلا ؛ لو فرضنا انّ المتكلم صادق كالمعصوم الذي يستحيل منه عدم المطابقة الاختياري ، حينئذ يكون المخصّص منافيا مع ظهور العام الخبري في الجديّة ، لأنّ مقتضى ظهوره الحالي هو كون كلامه اختياريا وصادرا عنه بحريّة ، ولازم هذا حينئذ ، صدور الكذب من المعصوم ، وهو مستحيل ، إذن فلا محالة من وقوع التعارض بين المخصص والعام الخبري ، ولو بلحاظ ظهوره الثالث.

ولو أردنا أن نطبّق محاولة صاحب الكفاية (قده) ، لوجب أن نطبقها بلحاظ هذا الظهور.

١٤٤

استدراك له علاقة بالمطلب المتقدم

ذكرنا في المطلب المتقدم أمرين عن المخصصات المتصلة.

١ ـ الأمر الأول : هو أنّ هذه المخصصات ، عند ما تتعقّب العام ، لا نشعر بوجود مئونة زائدة ، كما إذا قال : «أكرم كلّ فقير» ثم قال : «ولا تكرم فسّاق الفقراء».

٢ ـ الأمر الثاني : هو أنّه بناء على الأمر الأول ، فإنه ينطبق في موارد المخصصات المتصلة ، الجواب الأول من محاولات الأجوبة الثلاثة ، لأنه لو طبّقنا المحاولة والجواب الثالث ، لكان معناه ، وجود عناية المجاز.

وإن طبّقنا محاولة الجواب الثاني ، لكان معناه ، عدم التطابق بين مرحلة الثبوت ومرحلة الإثبات ، وعليه ، فيتعين الجواب الأول.

والأمر الأول من هذين الأمرين ، صحيح ، وأمّا الأمر الثاني ، فقد اعترض عليه ، بأنه مناف مع ما ذكرناه في بحث التعادل والتراجيح ، وهذا صحيح.

والصحيح هو ما قلناه سابقا في بحث التعادل والتراجيح ، يعني ما يقال من أنّ الجواب الأول منطبق على المخصصات المتصلة ، وأنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب تمام أفراد المدخول المتحصّل من مجموع الكلام ، والذي لم يخصّص بمتصل ، فإنّ هذا غير صحيح ، فإنّ أداة العموم لا يصح أن يقال فيها بأنها موضوعة لاستيعاب تمام أفراد المدخول ، غير ما خرج

١٤٥

بالتخصيص المتصل ، إذ كما أنّ عدم التخصيص المنفصل لا يصح أخذه قيدا ، فكذلك عدم أخذ التخصيص المتصل ، لا يصح أخذه قيدا.

وتوضيحه هو ، أنّ التخصيص على نحوين.

١ ـ النحو الأول : هو أنّ مخصصيّة المخصص ثابتة في مرحلة المدلول التصوري ، بمعنى أن التخصيص في هذه المرحلة ، أيضا ثابت تصورا على حسب طبع هذه المرحلة ، وذلك من قبيل المخصّص المتصل الذي يكون بلسان التقييد للمدخول كما في ، «أكرم كل فقير عادل» ، فإن مخصصيّة «عادل» هي مخصصيّة تصوريّة بحسب مرحلة المدلول التصوري ، إذ أن هذا القيد ، مدلوله التصوري هو التقييد التصوري ، وهذا لا محالة يكون تقييدا في مرحلة المدلول التصوري ، ولذا لو سمعنا قائلا يقول «أكرم كل فقير عادل» ، لتبادر إلى أذهاننا صورة المخصص ، سواء كان لهذا العام مدلول تصديقي أو لم يكن ، كما لو صدر الخطاب من غير العاقل ، وهذا معناه ، أنّ التخصيص ثابت في مرحلة المدلول التصوري للكلام ، لأنّ الكلام الصادر من الحجر ليس له إلّا مدلوله التصوري.

ومثل هذا التخصيص ، يكون عدمه مقوما لدائرة العموم ، بمعنى أنّ أداة العموم ، إنّما تدل تصورا على العموم إذا لم تقترن بهذا المخصص ، ومثل ذلك يقال فيما إذا كان المخصص المتصل استثنائيا ، كما لو قال : «أكرم كلّ فقير إلّا الفسّاق» ففي مثله ، أيضا الكلام هو الكلام ، لأنّ «إلّا» ، مخصصيّتها مخصصيّة ثابتة في مرحلة المدلول التصوري ، لأنّ دلالتها مدلول تصوري وضعي ، وهي ، النسبة الاقتطاعيّة ، وفي مرحلة المدلول التصوري يوجد اقتطاع ، وهذا تخصيص ، ولهذا لو سمعنا هذا الكلام من النائم أو الحجر ، مع انّه ليس له مدلول تصديقي ، فإنه رغم هذا ينتقش في أذهاننا صورة عام مخصّص ، وحينئذ ، تكون أداة العموم متوقفة في دلالتها على العموم ، على عدم هذا المخصّص.

٢ ـ النحو الثاني : هو المخصص الذي تكون مخصصيّته بلحاظ عالم المدلول التصديقي ، باعتبار برهان عقلي يستكشف به ، إنه لم يكن أراد

١٤٦

العموم على عمومه جدا ، ولا الخاص على خصوصه جدا ، وذلك من قبيل النحو الآخر من المخصص المتصل ، كما لو قال ، «أكرم كلّ فقير» ، «ولا تكرم فسّاق الفقراء» ، بأن أتى بالمخصص جملة مستقلة ، فالجملة الثانية مخصّصة للأولى ، لكن ليس في مرحلة المدلول التصوري ، لأنها إنّما هي بنكتة عقليّة هي ، استحالة أن يريد المولى إكرامهم كلهم ولا يريد إكرام بعضهم ، وذلك لاستحالة صدق الموجبة الكليّة مع السالبة الجزئية ، للتناقض بين القضيتين ، أي انّ المخصص هنا ، قرينة على أنّ الموجبة الكليّة ليست مرادة للمولى ، والتناقض هنا ، ليس بين الصورتين الذهنيتين ، بل بين المدلولين التصديقيين ، لأنّ هذه النكتة ، إنّما هي بلحاظ المدلول التصديقي للكلام ، إذا في مرحلة المدلول التصوري لا تناقض بينهما حيث لا مانع من تصورهما معا بما هما ، ولهذا ، لو صدر هذا الكلام من الحجر وقال : «أكرم كلّ فقير» ، و «لا تكرم فسّاق الفقراء» لا نقول بالتخصيص حينئذ بلحاظ المدلول التصوري ، ولا بلحاظ المدلول التصديقي ، لأنّ الأول كما عرفت ، إنه لا تناقض كي تهدم إحداهما الأخرى وأمّا الثاني فلأن التخصيص بلحاظ المراد الجدّي ، والمفروض انّه لا جدّية ، وحينئذ ، إذا لم تك هذه المخصصيّة في مرحلة المدلول التصوري ، بل هي راجعة إلى مرحلة المدلول التصديقي ، ـ أي المخصصيّة على النحو الثاني ـ حينئذ ، لا معنى لأن يقال : إنّ أداة العموم موضوعة لإفادة العموم وإخطاره تصورا ووضعا ما لم تقيّد بهذا المخصص ، لأنّ هذا يعني ، ربط المدلول التصوري لجزء من الكلام ، بمدلول تصديقي لجزء آخر من الكلام.

وقد ذكرنا سابقا ، إنّ هذه مغالطة ، وكشفنا وجهها.

وبهذا يتبرهن ، إنّ الجواب الأول رغم أنّه هو المعروف من المخصّصات المتصلة ، وأنها من باب التخصص ، إلّا أنّ الصحيح هو أنه إنّما يكون كذلك ، في المخصصات التقييديّة والاستثنائية من المتصلة ، لأنّ مخصّصيتها ثابتة في مرحلة المدلول التصوري دون المخصّصات المتصلة المستقلة ، لأنها ليست في تلك المرحلة.

١٤٧

وحينئذ نقول : بعد إبطال الجواب الأول في المخصصات المتصلة ، يدور الأمر بين الجواب الثاني والثالث ، وقد عرفت أنّ كلا منهما فيه عناية ، مع انّنا ادّعينا عدم الشعور بها.

ويمكن الجواب عن هذا ، فيقال : إنّه لو طبّقنا محاولة صاحب الكفاية ـ أي الجواب الثاني ـ حيث يقال : إنّ اللفظ مستعمل في العموم ، وحينئذ لا يوجد عناية مجاز ، غايته ، انّه يثبت عدم الجدّية في جزء من المراد الاستعمالي.

وحينئذ نقول : إنّ الهزليّة وعدم الجدّية اللتين تثبتان للمتكلم ، وإن كانتا بعناية وخلاف ظاهر حال المتكلم ، لكن إنّما يكون كذلك ، فيما إذا كان هزلا بلحاظ مجموع الكلام ، لا بلحاظ جزء الكلام الذي لم يتم بعد.

ففرق بين هزل يسكت عليه ـ وهذا لا يناسب العاقل ـ وهزل يصحّحه ولا يسكت عليه ، باعتبار انه بلحاظ مجموع كلامه يكون جادا لا هازلا.

والأصل في العاقل ، أن لا يكون هازلا ، بالنسبة لمجموع الكلام.

وبهذا نستطيع أن نفسّر عدم العناية في المقام ، فإنّ هذا الهزل ليس على خلاف شأن العقلاء ، لأنه قد يصحّحه ولا يسكت عليه.

إذن فالصحيح في المقام هو ، التفصيل في المخصّصات المتصلة ، كما تقدّم في التعادل والتراجيح.

١٤٨

الفصل الثاني

حجيّة العام مع المخصّص المجمل

والبحث فيه هو ، أنّ المخصّص إذا كان فيه نحو إجمال ، فهل يسري هذا الإجمال إلى العام فلا يتمسّك بالعام حينئذ أو لا يسري؟.

وإن شئت قلت : إذا كان المخصّص مجملا ، فهل يكون العام حجة في عام يعلم شموله للمخصّص أم لا؟.

وقد قلنا في بداية البحث ، إنه توجد عندنا مشكلتان.

الأولى : هي أنّه إذا ورد العام ، وورد المخصّص ، فما هو الوجه في تقديم المخصص؟. وقد قلنا إنّ هذه مشكلة مربوطة ببحث التعادل والتراجيح.

والمشكلة الثانية : هي أنه بعد فرض رفع اليد عن العام بمقدار المخصص ، فهل يكون العام حجة في الباقي أو لا؟ ، وقد عرفت بأنّنا فرغنا من هذه المسألة.

والآن ، نتكلم فيما لو فرض أنّ المخصّص لم يكن معلوم الحدود بالتمام ، بل كان فيه نحو إجمال ، حينئذ ، هل يسري إجماله إلى العام فلا يكون العام حجة إلّا في المقدار الذي يقطع بعدم شمول المخصص له ، أو انّه يكون حجة في تمام الباقي حتى في ما أجمل فيه الخاص؟

١٤٩

وهذا إنّما يكون بعد فرض عدم حجية المخصص في هذا المجمل ، غايته احتمال شموله له.

وهذه المسألة تنقسم إلى أربعة مسائل.

١ ـ المسألة الأولى : هي أن يكون المخصص متصلا.

٢ ـ المسألة الثانية : هي أن يكون المخصص منفصلا.

٣ ـ المسألة الثالثة : هي أن يكون الإجمال في المتصل أو المنفصل من باب الدوران بين الأقل والأكثر.

٤ ـ المسألة الرابعة : هي أن يكون الإجمال في المتصل أو المنفصل من باب الدوران بين المتباينين.

وإن شئت قلت : إنّه بعد أن ثبت أنّ العام حجة في الباقي بعد التخصيص ، ولكن لو كان المخصص مجملا غير معلوم الحدود بالتمام ، فهل يكون العام حجة في الباقي أيضا ، أي أنّه إذا كان المخصص مجملا ، فهل يسري إجماله إلى العام فيسقطه عن الحجية أم لا؟.

وحينئذ نقول : إنّ المخصص ، إمّا متصل ، وإمّا منفصل ، والإجمال ، تارة ، يكون من باب الدوران بين الأقل والأكثر ، وأخرى ، يكون من باب الدوران بين المتباينين ، وبهذا تكون مسائل هذا الفصل أربع.

وقبل الدخول في هذه المسائل ، لا بدّ من التكلم في أصل موضوعي له دخل في تنقيح هذه المسائل.

وحاصل هذا الأصل هو ، أنّه بالنسبة للمشكلة الأولى التي قلنا إنها مربوطة ببحث التعادل والتراجيح فإنه حينما قيل : إنّ المخصّص يقدم على العام ، قيل أيضا : بأن المخصص إذا كان متصلا يكون هادما لظهور العام ، وإذا كان منفصلا يكون العام مستقرا في ظهوره فيه ، ولكن المخصص يكون هادما لحجيته في العموم لا لأصل ظهوره فيه ، حينئذ يكون هنا دعويان :

١٥٠

١ ـ الدعوى الأولى : هي أنّ المخصّص المتصل يقدّم على العام ويوجب هدم ظهوره.

٢ ـ الدعوى الثانية : هي أنّ المخصّص المنفصل يقدّم على العام ، ولكن لا يوجب هدم ظهوره ، وإنّما يوجب هدم حجيّته.

أما الدعوى الثانية ، فهي دعوى صحيحة بكلا جزأيها.

أمّا الجزء الأول ، وهو ، كون المخصّص لا يهدم أصل ظهور العام في العموم ، فهو واضح على أساس ما ذكرنا في كيفية تكوين ظهور العام ، فإنّ ظهور العام بتمام مراتبه من الدلالة التصورية ، والتصديقية بقسميها لا تنهدم ذاتا ووجودا بالمخصص المنفصل.

أمّا الدلالة الأولى وهي التصورية ، فباعتبار أنّ ملاكها هو الوضع. والوضع ثابت والمخصص المنفصل لا يزيلها. وأمّا الدلالتان التصديقيتان ، وهما. الظهور الحالي في تشخيص المراد الاستعمالي ، والظهور الحالي في تشخيص المراد الجدي ، فهذان ظهوران ثابتان حتى بعد مجيء المخصص المنفصل ، لأن هذا المخصص غاية ما يكشف عنه هو ، كون هذا العام على خلاف الواقع وخلاف ما أظهر فيه ، وهذا لا ينافي فعليّة هذا الاظهار في العام ولا ينافي استقرار ظهور حال المتكلم وأنه أراد إخطار المعنى وإرادته جدا أيضا. لأن ظاهر حاله أن يكون قاصدا إخطار ما يكون كلامه دالا عليه تصورا. وأن يكون قاصدا جدا ما أراده استعمالا. وهذان الظهوران لا يتبدلان بالمخصص المنفصل لأنهما ليسا مشروطين بعدم ورود المخصص. وإلّا لو كانا مشروطين بعدمه لما أمكن إحرازهما مع احتمال ورود المخصص المنفصل ، مع أنّهما محرزان مع احتماله ، بل نفس ظهورهما في العام ينفيان المخصّص المنفصل إذا شككنا في وجوده.

وأمّا الجزء الثاني ، وهو ، إنّ المخصّص المنفصل يهدم حجية ظهور العام في العموم ، فهذه هي المشكلة التي يعالجها بحث تعارض الأدلة ، أي التعادل والتراجيح ، إذ انّ هناك قاعدة من قواعد الجمع العرفي ، وهي حمل

١٥١

العام على الخاص ، وانّ المخصص يقدّم على العام ، إمّا من باب تقديم أظهر الدليلين وأقوائيته على الآخر كما ذكره صاحب الكفاية «قده» ، وإمّا من باب ان الخاص قرينة على التصرف في العام وعدم إرادة العموم ، كما ذكر المحقق النائيني «قده».

والفرق بين القرينيّة ، والأقوائيّة يأتي تفصيله في محله من بحث تعارض الأدلة ، إذن فهذه الدعوى بكلا جزئيها صحيحة.

وأمّا الدعوى الأولى : وهي أنّ المخصّص المتصل يهدم أصل الظهور ، فقد تقدم أنّ المخصص المتصل على ثلاثة أقسام.

أ ـ القسم الأول : المخصص المتصل ، الذي يكون بلسان تضييق دائرة المدخول ، كقوله «أكرم كلّ فقير عادل».

ب ـ القسم الثاني : المخصص المتصل ، الذي يكون بلسان الاستثناء ، «كأكرم كل فقير إلّا الفسّاق».

ج ـ القسم الثالث : المخصص المتصل ، الذي يكون جملة مستقلة واقعة قبل أو بعد جملة العام مباشرة ، كقوله : «أكرم كلّ فقير ، ولا تكرم فسّاق الفقراء». وقد برهنّا على أن المخصصية في القسمين الأولين إنّما هي مخصصية في مرحلة المدلول التصوري وأن المخصصية في القسم الثالث إنما هي مخصصية في مرحلة المدلول التصديقي.

وحينئذ نقول : إنّ المخصّص المتصل ، إن كان من قبيل القسمين الأولين ، فالدعوى الأولى وهي انهدام ظهور العام في العموم ، في غاية الوضوح ، وذلك ، لأنّ العام يكون مخصّصا فيهما في مرحلة المدلول التصوري ، أي إنّ المخصّص المتصل يهدم أصل الظهور بما برهنّا عليه ، من أنّه يساهم في تكوين الصورة الذهنية المعطاة من مجموع الكلام ، فتكون صورة عام ضيّق الدائرة.

وإن كان المخصص المتصل من القسم الثالث ، فهل يهدم ظهور العام ، أم انّه يهدم حجيته؟.

١٥٢

قد يقال : ان هذا المخصّص لا يهدم أصل الظهور ، فإنّ الظهورات الثلاثة المتقدمة كلها موجودة ، وإنّما يهدم حجيّة هذه الظهورات ، لا أصلها ، بقرينة أنّ هذا المخصّص إذا فرض تحكيمه على العام ، فلا بدّ من أن نلتزم بعناية المجاز في العام ، وهي أنّ المتكلم استعمل العام في غير ما وضع له ، أو انّه استعمله في المعنى الموضوع له ، لكن لم يرده جدا بتمامه ، وهذا معنى أنّ المخصص لا يهدم الظهور ، وإلّا فلو كان يرفع الظهور لما كان هناك عناية ، لأنّ العناية إنّما تنشأ من الظهور ، إذ ما دام هناك عناية ، فهناك ظهور ، غاية الأمر ، انّ المخصص يرفع حجيّة هذا الظهور.

ولكن هذا الكلام ، ظهر بطلانه سابقا ، حيث بيّنّا انه لا عناية أصلا في المخصص المتصل ، باعتبار أنّ المستقر هو هزل غير مسكوت عنه ، ومن هنا كان المخصص المتصل هادما لأصل الظهور ، بخلاف موارد المخصص المنفصل ، فإنّ الثابت هو هزل مسكوت عنه ، ولذا كان المنفصل هادما للحجيّة ، لا لأصل الظهور ، وعليه فهذا الأصل الموضوعي صحيح ، وينطبق على جميع المخصّصات المتصلة بأقسامها الثلاثة.

وإن شئت قلت : إنّه إن كان المخصّص من قبيل القسم الثالث ، فهل يهدم ظهور العام ، أم يهدم حجيته؟.

قد يقال إنّه يهدم حجيّته ، بقرينة انّه لو فرض تحكيمه على العام ، فلا بدّ من الالتزام بعناية في العام ، وهي إمّا عناية المجاز ـ أي استعمال العام في غير ما وضع له ـ أو عناية انه استعمله في المعنى الموضوع له ، لكن لم يرده جدا بتمامه ، وهذا معنى انّه لا يهدم الظهور ، وإلّا لو كان يرفع الظهور لما كان معنى لوجود العناية ، إذ ما دام هناك عناية ، فهناك ظهور ، غاية الأمر هي ، أنّ المخصص يرفع حجية هذا الظهور.

ولكن قد ظهر بطلان هذا الكلام ، حيث أوضحنا سابقا انه لا عناية أصلا في المخصص المتصل ، وفسّرنا الوجدان القاضي بعدمها ، حيث قلنا : إنّ دلالة اللفظ التصورية على العموم محفوظة ، كما أنّ اللفظ استعمل في

١٥٣

المعنى الموضوع له ، نعم إنّ الظهور في الجديّة غير موجود أصلا ، لا أنّه موجود ونرفع اليد عنه من أجل ظهور أقوى ، لأننا قلنا إنّ الظهور الحالي للمتكلم وإن كان هو الجد في مقابل الهزل. لكنه ليس مطلقا ، بل في مقابل هزل يسكت عليه. وليس في مقابل هزل لا يسكت عليه. فإن الأول خلاف ظاهر حال المتكلم دون الثاني. وبتعبير آخر هو : أن الظاهر الحالي للمتكلم هو نفي الهزل بلحاظ مجموع الكلام لا نفي الهزل الناشئ من جزء الكلام أو كل جزء جزء من الكلام الواحد ، ومن الواضح انه بتحكيم المخصص في المقام لا يثبت هزل قد استقر عليه ، بل يثبت هزل مرحلي. إذن بلحاظ مجموع الكلام لا هزل. وهذا سرّ ما يقال من انه يهدم أصل الظهور لا الحجية ، باعتبار انه يثبت هزلا لم يستقر عليه الكلام ، بخلاف المخصص المنفصل ، حيث يثبت هزلا قد استقر عليه الكلام وهو على خلاف ظاهر حال العاقل.

وعلى ضوء هذا ، نتكلم في مسألتنا ، وهي أنّ المخصّص إذا كان مجملا ، فهل يسري إجماله إلى العام ، فلا يتمسّك بالعام حينئذ ، أو انّه لا يسري؟.

أو قل : هل يجوز التمسك بالعام في الموارد التي يحتمل دخولها في المخصص المجمل أو لا؟

وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين.

١ ـ القسم الأول : هو أن يكون إجمال المخصّص مفهوميا ، أي ، يكون منشأ الإجمال في المخصص هو ، الاشتباه في المفهوم.

٢ ـ القسم الثاني : هو أن يكون إجمال المخصّص مصداقيا ، أي ، يكون منشأ الإجمال في المخصّص هو الاشتباه في المصداق.

القسم الأول :

هو ما إذا كان إجمال المخصّص على نحو الشبهة المفهومية ، ففي هذا القسم أربعة فروع.

١٥٤

١ ـ الفرع الأول : هو أن يكون المخصص المجمل مفهوما ، متصلا.

٢ ـ الفرع الثاني : هو أن يكون المخصص المجمل مفهوما ، منفصلا.

٣ ـ الفرع الثالث : هو أن يكون المخصص المجمل مفهوما ، سواء كان متصلا أو منفصلا ، أن يكون مرددا بين الأقل والأكثر.

٤ ـ الفرع الرابع : هو أن يكون المخصص المجمل مفهوما ، سواء كان متصلا أو منفصلا ، أن يكون مرددا بين المتباينين.

وإن شئت قلت : إن هذه المسألة تنقسم إلى قسمين ، لأنّ الإجمال في المخصص تارة ينشأ من الاشتباه في المفهوم ، وأخرى ينشأ من الاشتباه في المصداق.

أمّا الأول : ففيه فروع أربعة : لأنّ المخصص ، إمّا متصل ، وإمّا منفصل ، والاشتباه ، تارة ينشأ من التردد بين المتباينين ، وأخرى ، ينشأ من التردد بين الأقل والأكثر.

١ ـ الفرع الأول : وهو ما كان المخصّص المجمل مفهوما ، متصلا بالعام ، ودار أمره بين الأقل والأكثر ، فحينئذ ، هل يتمسّك بالعام في الزائد ، أو لا يتمسّك ، كما في قوله : «أكرم كل فقير ، ولا تكرم فسّاق الفقراء» ، فلو شككنا في مفهوم الفاسق ، وصار أمره مرددا بين مرتكب الكبيرة فقط ، أم أنّه يعمّ مرتكب الصغيرة أيضا.

إذن فمفهوم الفاسق ، مردّد ، والمتيقّن خروجه من تحت حكم العام هو ، مرتكب الكبيرة ، والمشكوك خروجه هو ، مرتكب الصغيرة ، وحينئذ فهل يصح التمسك بالعام بالنسبة لمرتكب الصغيرة أم لا؟.

والصيغة التي يمكن أن نقدمها في البداية لتوضيح عدم جواز التمسك بالعام في المقام ، هي أن يقال : إنّ المفروض أنّ المخصص هنا متصل ، والمخصّص المتصل مقدم على العام وهادم لأصل ظهوره ، إذن فأصل ظهور العام ينهدم بمقدار ما يشمله المخصّص ، فإذا شكّ في انّ فاعل الصغيرة هل

١٥٥

يشمله المخصّص أو لا ، فمعنى ذلك ، أنّا نشك في أنّ ظهور العام هل هو موجود فيه أو منهدم ، فيكون شكّنا شكا في أصل ظهور العام ، ومعه ، لا وجه للتمسك بظهور العام حينئذ ، لأنّ التمسك به فرع إحراز ظهوره وهو غير محرز ، وهذه صيغة صحيحة.

إلّا أنّ وراءها صيغة فنية ، وهي تحليل لهذه الصيغة ، وتلك الصيغة تستفاد ممّا أوضحناه سابقا في تفسير أنّ المخصص المتصل يهدم ظهور العام ، فإنّ المخصّص المتصل ، وإن أثبت أنّ المتكلم لم يكن جادا في تمام كلامه ، بل كان هازلا في جزء منه ، لكن هذا الهزل ليس على خلاف ظاهر حال العاقل ، لأنه هزل غير مستقر ، لأنّ المتكلم ألحقه بما يدل على واقع مراده الجدّي ، فحينئذ ، هنا ، إذا فرضنا أنّ ظاهر حال المتكلم هو ، نفي الهزل المستقر ، لا نفي الهزل الذي لا يسكت عنه ، إذن هذا الهزل الذي يثبته المخصّص المتصل ليس على خلاف ظاهر حال المتكلم.

والخلاصة هي : انّ تفسير انّ المتصل يهدم ظهور العام ، هو أنّ المخصص إن كان يثبت أنّ المتكلم لم يكن جادا في جزء من مدلول العام حيث ان جزءا منه كان هزليا ، لكن هذا الهزل ليس على خلاف ظاهر حال العاقل ، لأنه هزل غير مستقر ، لأنه سرعان ما ألحقه بما يدل على مراده الجدّي ، وما هو على خلاف ظهور حال المتكلم إنّما هو ، الهزل المستقر ، الذي يسكت عليه ، والظهورات اللفظية مرجعها إلى هذه الظهورات الحالية ، وهذا معنى أنّ المخصص المتصل يهدم أصل الظهور.

والآن نريد تفسير ما قلناه : من أنّ ظاهر حال العاقل نفي الهزل المستقر الذي يسكت عليه ، فما هو المراد من كلمة ، «يسكت عليه» ، فهل المراد ، الهزل الذي لا يعقبه المتكلم بكلام يكون دالا بحسب نظام اللغة التي نتكلم بها ، على واقع مراده الجدّي وعلى هزليّة هذا الهزل؟

فإذا كان المراد هذا ، فنقول : إنّ المتكلم هنا لم يسكت على هذا الهزل ، باعتبار أنه أعقب كلامه بكلام مجمل ، فأتى بمخصّص مجمل لعلّه

١٥٦

بيان ـ بحسب لغته التي يتكلم بها ـ لمراده الجدّي ، فأخرج به فاعل الصغيرة ، كما يدل على إخراج فاعل الكبيرة ، وحينئذ فلا نحرز أنّ هذا الهزل نحو هزل قد سكت عليه المولى ، إذن فلا ظهور.

وأمّا إذا فسّرنا كلمة يسكت عليه ، يعني انّه غير واضح لجميع المقصودين بالإفهام خلافه ، إذن فهو قد سكت على الهزل ، لأنّا نحن بعض المقصودين ، ولم يوضّح لنا خلافه ، لأنه أتى بالمخصّص مجملا ، ولو باعتبار عدم فهمنا للغة ، إذن فمرتكب الصغيرة غير مراد له جدا ، إذن ، فهذا هزل قد سكت عليه ، فيكون هذا عناية ، ويكون ظاهر حاله نفي هذه العناية ، وحينئذ ، يتشكل ظهور العام ويتم.

إذن تارة نقول : إن ظاهر حاله نفي الهزل الذي يسكت عليه ، بمعنى انّه لا يعقبه بما يكون قرينة عليه بحسب مدلوله اللغوي.

وأخرى بمعنى انّه لا يتضح للمقصودين بالإفهام انه هزل ، ولا شكّ حينئذ ، أن المتعيّن من تفسير كلمة «يسكت عليه» هو الصيغة الأولى ، لأنّ المتكلم العاقل ليس مكلفا بأكثر من أن يصوغ مجموع كلامه وفق اللغة التي يتحدث بها ، وليس مكلفا بأن يناقش ويوضّح مفاهيم تلك اللغة.

إذن فالمتعيّن هو المعنى الأول.

بقي شبهة واحدة وهي : ان المورد من موارد الشك في ظهور العام ، حينئذ نقول : السبب في الشك في ظهور العام هو الشك في شمول القرينة لهذا العام وعدم شمولها له.

وحينئذ قد يقال : إنّه تجري اصالة عدم القرينة لتنقيح ظهور العام ، ثم التمسك بالعام بعد ذلك.

فيقال : إن فاعل الكبيرة خارج ، وأمّا فاعل الصغيرة ، فإنّا نشكّ في شمول القرينة له ، والأصل عدم شمولها ، إذ إنّ شمول العام له مسبّب عن الشك في كونه فاسقا ، وإذا عولج الشك السببي ارتفع الشك المسببي.

١٥٧

وجواب ذلك هو : إنّ اصالة عدم القرينة ، إمّا أن يراد به أصلا شرعيا تعبديا ، «كالاستصحاب» ، وإمّا أن يراد به أصلا عقلائيا من قبيل «اصالة الحقيقة».

فإن أريد به الأول ، بأن يقال : نستصحب عدم ورود كلام من المتكلم يدل على إخراج فاعل الصغيرة.

قلنا : انّ هذا الاستصحاب لو تمّت أركانه ، فإنّه لا يمكن جريانه ، لأنه مثبت ، لأنّ اصالة عدم القرينة ، ليس له أثر شرعي ، بل له معلول تكويني ، وهو تماميّة ظهور العام ، نعم ، هذا الأثر التكويني ، يقع موضوعا لأثر شرعي ، وهو الحجيّة ، فيكون الأثر الشرعي مترتبا على المستصحب بواسطة أثر عقلي ، وهذا هو الأصل المثبت.

وإن أريد بهذا الأصل ، الأصل العقلائي ، كاصالة الحقيقة ، بأن يقال : إنّ اصالة عدم القرينة ، هي بنفسها أصل عقلائي.

فيقال : إنّ جواب هذا ، تقدّم في بحث حجية الظواهر.

وخلاصته : إن اصالة عدم القرينة ، وإن كان أصلا عقلائيا ، ولكنه إنّما يكون كذلك في مورد توجد فيه نكتة كشف نوعي لتعيّن عدم القرينة ، ويكون ذلك في حالتين.

١ ـ الحالة الأولى : ان يتكلم المتكلم بعام ، ويقول : «أكرم كلّ فقير» ، ثم نشك في انّه هل أتى بمخصص فقال : «لا تكرم فسّاق الفقراء» أو لا؟.

فهنا نشك في وجود المخصص المتصل ، وهذا الشك ناشى عن غفلة السامع ، وفي مثله ، الأصل عدم هذا المخصص.

ونكتة ذلك ، هي أنّ هذا الشك مسبّب عن احتمال الغفلة ، والغفلة على خلاف ظاهر طبع العاقل المخاطب ، فتجري اصالة عدم الغفلة.

٢ ـ الحالة الثانية : هي أن يصدر عام وليس له مخصّص متصل ، فينعقد له ظهور في العموم ، ثم نحتمل صدور مخصص منفصل من المولى ، ولكن لم يصل إلينا.

١٥٨

فهنا نقول : الأصل عدم القرينة على التخصيص ، وذلك لنكتة كاشفة كشفا نوعيا عن عدم القرينة ، وهذه النكتة هي ، نفس ظهور العام في العموم ، لأنّ ظهوره فعليّ مستقر ، يدل على جديّة المولى في تمام مدلول خطابه ، وهذا الظهور إمارة عقلائية تنفي المخصص ، والمقام ليس من باب الحالة الأولى ، ولا الثانية ، لأنّ الشك في المخصص هنا لم ينشأ من احتمال الغفلة ليدخل في الأولى ، بل نشأ من جهة الجهل باللغة ، والجهل ليس الأصل عدمه في العقلاء ، إذ ما أكثر الجهّال ، كما أن المشكوك هنا على تقدير وجوده فهو متصل وليس منفصل ، فلا يدخل في الحالة الثانية ، وعليه فلا تجري اصالة عدم القرينة في المقام.

٢ ـ الفرع الثاني : هو ما إذا كان المخصص المجمل مفهوما متصلا ، وكان أمره دائرا بين المتباينين ، كما في قوله «أكرم كلّ فقير ، ولا تكرم الموالي» ، وتردّد لفظ المولى بين معنيين متباينين ، إمّا ابن العم ، وإمّا العبيد. والبحث عن جواز التمسك بالعام في هذا الفرع يقع في ثلاث نقاط.

١ ـ النقطة الأولى : هي أنّه ، هل يجوز التمسك بالعام في كلا محتملي المخصّص ، وهما «العبد ، أو ابن العم» مثلا ، باعتبار أنّ كلا منهما ، لو لوحظ بنفسه فلا نقطع بخروجه بالتخصيص ، أم لا؟.

٢ ـ النقطة الثانية : هي أنه ، بعد الفراغ عن عدم إمكان التمسك بالعام في كلا محتملي المخصص ، حينئذ هل يجوز التمسك بالعام بلحاظ أحد المحتملين دون الآخر؟ ولو فرض عدم إمكان ذلك أيضا ، ننتقل إلى النقطة الثالثة.

٣ ـ النقطة الثالثة : هي أنه بعد فرض عدم تماميّة الثانية ، هل يجوز التمسك بالعام لإثبات حكمه لأحدهما على سبيل الإجمال ، على نحو يتشكل لدينا علم إجمالي بعد ذلك في وجوب إكرام أحدهما؟.

أمّا النقطة الأولى : وهي التمسك بالعام لإثبات الحكم لكلا المعنيين المحتملين ، فهذا أمر غير معقول.

١٥٩

أمّا أولا : فلما برهنّا عليه سابقا ، من أنّ المخصّص المتصل يوجب هدم ظهور العام وسقوطه بمقدار ما يحتله من موقع ، والمفروض في المقام ، انه قد طرأ مخصص متصل ، وهذا المخصّص قد أخرج أحد هذين المعنيين للفظ الموالي ، وهذا معناه ، العلم بأنّ ظهور العام انهدم في أحدهما ، ومعه ، لا يعقل إعماله في كليهما ، إذ انّ إعماله فيهما معناه ، إعمال العام فيما لا ظهور له فيه ، وهو واضح البطلان.

وثانيا : هو أنه لو فرض أنّا تنزلنا عن ذلك الأصل الموضوعي ـ وهو كون المخصّص المتصل يهدم أحد الظهورين ـ وقلنا إن المخصص المتصل كالمنفصل في انه يهدم حجية العام في العموم دون أصل الظهور. فمع ذلك ، أيضا لا يعقل التمسك بالعام في كلا المعنيين. لأن المخصص المتصل إن لم يكن هادما لأصل ظهور العام في أحد المعنيين ، فلا أقل من أن يهدم حجيته. إذن فحجيته في أحدهما ساقطة يقينا ، ويكون المقام من باب اشتباه الحجة باللاحجة. حيث انّنا لا ندري في أيهما سقطت الحجية ، ومعه لا يمكن العمل بكلا الظهورين حال كون أحدهما ليس بحجة ، وبذلك يتضح انه لا يمكن التمسك بالعام لإثبات حكمه لكلا المعنيين معا.

وأمّا النقطة الثانية : وهي إمكان التمسك بالعام ، لإثبات حكمه لأحد المعنيين بالخصوص دون الآخر ، فإنّ المفروض انّ أحد المعنيين خرج بالمخصّص ، فيقال : إنّه لا يمكن التمسك بالعام لإثبات حكمه لكلا المعنيين ، لكن لا مانع من التمسك بالعام لإثبات حكمه لأحد هذين المعنيين. ويوجد هنا بيانان :

١ ـ البيان الأول : وهو مبني على الأصل الموضوعي المتقدم ، وهو انّ المخصص المتصل يوجب هدم أصل الظهور للعام ، وحينئذ ، فأيّ واحد من المعنيين بالخصوص ، لا نحرز شمول ظهور العام له ، لاحتمالنا طرو المخصص المتصل عليه ، وحينئذ ، يسقط ظهور العام فيه. إذن فيكون هذا شبهة مصداقية لظهور العام ، ومع الشك في الظهور ، لا يمكن التمسك بالعام.

١٦٠