بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

دعوى انّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي ، وانّ القائلين بالتعميم ، أي بوضع أدوات الخطاب للموجودين والمعدومين ، المشافهين والغائبين ، مرجع قولهم إلى دعوى انّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائي ، وهذا الأخير هو مختار السيد الخوئي (قده)

ولكن كلا المرجعين لا يخلو من إشكال.

أمّا المرجع الأول فيرد عليه ، انّ الخطاب الحقيقي مدلول تصديقي للكلام ، لا تصوري ، لأنّ الخطاب الحقيقي ، كالطلب الحقيقي والتمني والاستفهام الحقيقي ، ونحو ذلك من الدواعي الجدية ، وهذه كلها مداليل تصديقية للكلام.

والمشهور الذين وقع بينهم هذا النزاع ، لم يكونوا يرون انّ المدلول التصديقي مدلول وضعي ، وذلك خلافا للسيد الخوئي (قده) (١).

وقد ذكرنا فيما سبق ، انّ الدلالة الوضعية ، هي الدلالة التصورية ، وعليه : فلا داعي لأن يفترض فيهم انّهم يريدون انّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي ، لأنّ معنى ذلك ، أخذ المدلول التصديقي ـ الحقيقي ـ في المعنى الموضوع له أدوات الخطاب ، وهو غير صحيح عندهم ، وباطل عندنا.

فتفسير كلام هؤلاء القائلين بالاختصاص بهذا المعنى لا ينطبق على واقع الحال.

وأمّا المرجع الثاني : وهو القول بعدم الاختصاص ، بل للعموم ، بدعوى انّ أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائي ، فهذه الدعوى أيضا لا تخلو من غموض.

ويرد عليها : انّه إن أريد من كونها موضوعة للإنشائي ، أنّها موضوعة لإبراز قصد تفهيم المخاطب ، فهذا هو عين القول الأول ، بأنّها

__________________

(١) محاضرات فياض ـ ج ٥ ـ ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٣٢١

موضوعة للخطاب الحقيقي ، التي أنكر السيد الخوئي وضع أدوات الخطاب لها ، وإن أريد من كونها موضوعة للإنشائي أنّها موضوعة لإيجاد التخاطب بحسب عالم اللفظ فقط ، نظير إيجاد التمني والاستفهام باللفظ ، فهذا يناسب مع مسلك صاحب الكفاية (قده) (١) القائل : بأنّ الجمل الإنشائية أو الخطاب الإنشائي موضوع لإيجاد المعنى باللفظ ، فالجملة الطلبية عنده (قده) موضوعة لإيجاد معنى الطلب باللفظ.

وهذا المسلك ، لا يناسب مسلك السيد الخوئي (قده) القائل : بعدم معقولية إيجاد المعنى باللفظ وأنّ الجمل الإنشائية غير موضوعة (٢) لذلك.

والصحيح ، هو ان أدوات الخطاب ـ بناء على ما هو المختار ، من انّ الدلالة الوضعية تصورية دائما سواء في الإنشاء أو الإخبار ـ كسائر أدوات الإنشاء ـ موضوعة بإزاء نسبة تصورية مخصوصة بين المخاطب والمخاطب ، كالنسبة الطلبية والاستفهامية ونحوها ممّا نعبر عنها بمفهوم اسمي هو المخاطبة والنسبة الخطابية ، فتكون أدوات الخطاب دالة على هذه النسبة دلالة تصورية على حدّ دلالة صيغة «افعل» على النسبة الإرسالية ، ثم إن وجد مدلول تصديقي على طبق هذا المدلول التصوري ، فهذا معناه : إنّ المتكلم جاد في هذه المخاطبة ، وإن لم يكن جادا ، بقي المدلول التصوري بلا مدلول تصديقي ، فمثلا : صيغة «افعل» موضوعة للنسبة الخاصة بين المخاطب والمخاطب ، فإن كان المتكلم جادا ، إذن فقد تطابق المدلول التصوري مع المدلول التصديقي ، وإلّا فلا.

إذن فلا إشكال في انّ أدوات الخطاب موضوعة لسنخ مدلول تصوري محفوظ في حالتي الجد والهزل ، كما هو الحال في سائر الجمل ، وحينئذ ، لا يكون أحد الاستعمالين مجازا ، بل مع الجد يتطابق المدلولان التصوري والتصديقي ، ومع عدم الجد ينفك أحدهما عن الآخر ، فلا تطابق.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) المرجع السابق ، فياض ج ٥ ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٣٢٢

ومن هنا يعرف ، إنّ ما يوجب اختصاص الخطاب بخصوص الحاضرين ، إنّما هو الظهور السياقي الدال على المدلول التصديقي ، وإلّا لو بقينا نحن والمدلول التصوري فلا موجب للقول بالاختصاص بالحاضرين ، إذ مجرد كون أدوات الخطاب موضوعة للمدلول التصوري بحيث تصلح لشمول الغائبين والمعدومين كما فعل السيد الخوئي (قده) لا يكفي لحل المشكلة وإثبات شمول الخطاب لهم ، لأنّ هذا المدلول التصوري تحديد للمدلول الوضعي للكلام ، وهو لا يفيد في التعميم ، وإنّما المهم والمفيد إنّما هو شمول المدلول التصديقي للكلام ، وهو قصد التفهيم والمخاطبة للغائبين والمعدومين ، لأنه مرحلة الكشف عن الحكم فعلا حيث لا إشكال في انه في مرحلة المدلول التصديقي للكلام يكون الخطاب ظاهرا في الخطاب الجدّي حينئذ ، كما هو الحال في سائر الجمل الأخرى.

إذن فالصحيح انّ أدوات الخطاب وإن كانت موضوعة للخطاب الإنشائي بالمعنى الذي اخترناه ، أي لنسبة خاصة تصورية ومدلول تصوري ، إلّا انّ مدلولها التصديقي هو الخطاب الحقيقي ، وعليه فيختص حينئذ بخصوص الحاضرين والموجودين ما لم تقم قرينة عامة أو خاصة على التوسعة في قسم من الأدلة.

وقد ذهب الميرزا (قده) (١) إلى وجود قرينة عامة على التعميم في قسم الأدلة ، حيث فصّل في المقام بين كون الخطاب المجعول على نهج القضية الخارجية ، وبين ما إذا كان مجعولا على نهج القضية الحقيقية ، فذكر انّ الحكم المجعول في الكلام إذا كان مجعولا على نهج القضية الخارجية ، اختص بخصوص الحاضرين الموجودين ، وإذا كان مجعولا على نهج القضية الحقيقية ، فلا بأس بدعوى عموم الخطاب للمعدومين ، وذلك لأنّ توجيه الخطاب إليهم يتوقف على عناية ، وهي تنزيل المعدومين منزلة الموجودين ، وهذه العناية تحتاج إلى قرينة ، وهذه القرينة موجودة في القضية الحقيقية دون

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ج ١ ـ ص ٣٤٨.

٣٢٣

الخارجية ، وهي نفس طبع القضية الحقيقية ، حيث انّ طبعها يقتضي فرض وتقدير وجود الموضوع ، وهذا عبارة أخرى عن تنزيل المعدوم منزلة الموجود.

وهذا التفصيل غير تام ، ويرد عليه إيرادان.

١ ـ الإيراد الأول : هو انّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود لا يصحح الخطاب الحقيقي ، وذلك لأنّ قابلية المخاطبة أثر تكويني للوجود والحضور وليس أثرا شرعيا ليترتب بمجرد التنزيل وعليه ، فإن تقدير الموضوع في القضية الحقيقية ، ليس معناه تقدير وجود الأفراد بالفعل في مقام المخاطبة ، وإنّما يعني تقديرهم موضوعا للحكم ، كل في ظرف وجوده.

إذن فهذا خلط بين تقدير الغائب والمعدوم موضوعا للحكم في القضية الحقيقية المفادة بالخطاب ، وبين تقديرهما موجودين ومخاطبين بالخطاب بما هو كلام.

٢ ـ الإيراد الثاني : هو انّ هنا خلطا آخر بين الكلام كقضية ، وبين الحكم المجعول في الكلام ، حيث انّ الميرزا (قده) أخذ تنزيل المعدوم منزلة الموجود في موضوع الحكم المجعول في الكلام ، فمثل هذا الحكم أخذ موضوعه مقدر الوجود.

بينما التخاطب ليس في الحكم ، أو قل : إن كلامنا ليس في الحكم ، بل التخاطب يكون بالكلام ، والكلام موجود الآن ، ومفاده الجعل لا المجعول ، فهو ظاهر في التخاطب الفعلي ، إذن فهذا الكلام الموجود الآن هو صغرى التخاطب الفعلي ، وحينئذ ، فتنزيل المعدوم منزلة الموجود بلحاظ الحكم المجعول لا يصحح تنزيل المعدوم منزلة الموجود فعلا بلحاظ توجيه هذا الكلام.

فالنتيجة إذن ، هي انّ هذه الغاية لا يمكن المصير إليها في المقام.

وإنّما الصحيح هو ، انّ الخطابات تكون بحسب ظهورها التصديقي مختصة بخصوص الموجودين الحاضرين ، ولا تعم المعدومين ، إلّا إذا قامت قرينة على ذلك.

٣٢٤

في ثمرة هذا البحث

وقد ذكر لهذا البحث ثمرتان :

١ ـ الثمرة الأولى (١) : وهي مبنيّة على أصل موضوعي اختاره المحقق القمي (قده) صاحب القوانين في حجية الظهور حيث اختار ، انّ حجية الظهور مختصة بخصوص من قصد إفهامه دون غيره.

وعليه نقول : انّه إذا بنينا على أنّ الخطاب لا يختص بخصوص الحاضرين ، بل يعم الغائبين والمعدومين ، إذن فجميعهم مخاطبون ، وهذا معناه : انّهم جميعهم مقصودون بالإفهام ، ومعه إذن ، يجوز لكل أحد منهم ونحن منهم أن يتمسك بظهور هذا الكلام في تشخيص مراد المتكلم لإثبات مفاده.

وأمّا إذا بنينا على أنّ الخطاب مختص بخصوص الموجودين المشافهين ـ حتى لو كان مفاده حكما لا يختص بالحاضرين ـ فلا يعلم حينئذ دخولنا فيمن يقصد إفهامه كي يكون الخطاب حجة في حقنا ، كما لو قال : «يا أيها الناس انّ الحج واجب على المستطيع» ، فمعنى هذا ، انّ وجوب الحج على المستطيع سواء كان حاضرا أو لا ، وإنّما نفس الكلام خوطب به الحاضر باعتباره مختص بالحاضر ، ومعه : لا يجوز للغائب والمعدوم ونحن منه بعد وجوده أن يتمسك بظهور هذا الكلام ، إذ لا دليل على أنه مقصود بالإفهام ، إذ لعلّ المقصود بالإفهام خصوص من كان مخاطبا ، فإن لم يتم هذا في القرآن بدعوى وجود قرينة عامة

__________________

(١) قوانين الأصول ـ القمي ـ ص ٢٢٧.

٣٢٥

على أنّ المقصود بالإفهام كل الناس ، ولكن عدم تماميته بالنسبة إلى السنة الشريفة ليس لأجل ذلك ، إذ لم تقم قرينة على ذلك في كل كلام.

وعليه فالمعدوم والغائب لا يمكن أن يتمسك بظهور الكلام في تشخيص المراد ، حتى لو كان الحكم شاملا لكل إنسان ، إذ مع ذلك لا يستطيع تشخيصه بالكلام.

٢ ـ الثمرة الثانية : هي انه لو فرض انّ الحكم كان قد أنشئ على المخاطبين لا على نهج القضية الحقيقية كما لو قال : يا أيها الناس حجّوا البيت إذا كنتم مستطيعين ، حينئذ ، فالدليل يكون مفاده ثبوت الحكم للمخاطبين خاصة ، فإن كان المخاطبون في المقام أعم من الموجودين والمعدومين ـ كما لو قلنا بعدم اختصاص الخطاب بالموجودين ـ إذن ، فنتمسك بإطلاق الدليل اللفظي لإثبات الحكم ـ وجوب الحج ـ على المعدومين بعد وجودهم واستطاعتهم ، وأمّا إذا قلنا باختصاص الخطاب بخصوص الموجودين ، إذن ، فهذا الدليل اللفظي بقرينة انّه مطروح بعنوان المخاطبة ، يكون مخصوصا بخصوص الموجودين في عصر الخطاب ، ولا إطلاق له بنفسه لغير الموجود في عصر الخطاب.

وحينئذ ، فإذا شككنا في شمول هذا الحكم لنا أو لمن لم يكن موجودا في عصر الخطاب ، فلا يصح التمسك بهذا الدليل اللفظي لإثبات الحكم لهم ، بل لا بدّ حينئذ من الرجوع إلى دليل لبّي ، كالإجماع وغيره ، يثبت الاشتراك في الحكم.

وهذه الثمرة متينة في الجملة ، ولا يرد عليها ما قد يقال : من انّ خصوصية التخاطب ـ بحسب الفهم العرفي ـ لا يحتمل دخلها في الحكم الشرعي ، وأن الإطلاق تام على كلا القولين ، مع إلغاء تلك الخصوصية ، والتعدّي إلى غير المخاطبين بحسب الارتكاز العرفي ، مثل هذا الإشكال لا يرد ، لأنه ليس المقصود في المقام إبداء احتمال الاختصاص بالمخاطبين بنكتة أنهم مخاطبون ، ليقال : ان هذه النكتة ملغية عرفا ، بل إبداء احتمال

٣٢٦

الاختصاص بالمخاطبين باعتبار أنهم واجدون لصفة أخرى وراء صفة التخاطب ، وهي صفة كونهم في عصر الظهور لا عصر الغيبة ، فإنّه لو خوطبوا بخطاب في عصر ظهور الإمام عليه‌السلام ، فلو كان هذا الخطاب مخصوصا بهم ، إذن ، لا يمكن التعدّي إلى من بعدهم ، لكن عدم التعدّي هذا ، ليس لاحتمال انّ نفس التخاطب دخيل في ثبوت الحكم ، بل لاحتمال أن يكون هناك صفة مشتركة بين المخاطبين ، وهي صفة كونهم في عصر الظهور ، وهذه الصفة موجودة فيهم وغير موجودة في الغائبين عن عصر الظهور ونحن منهم ، ومثل هذا الاحتمال لا يمكن إلغاؤه عرفا بمناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الأذهان.

وتفصيل الكلام في ذلك هو ، انّ احتمال دخل شيء في الحكم بنحو يمنع من شمول الحكم لنا ، يمكن تحليله إلى ثلاث احتمالات.

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون الدخيل في ثبوت الحكم أشخاص هؤلاء الناس ، كونهم زيد ، وبكر ، وعمرو ، وهكذا ، اقتضوا جعل هذا الحكم عليهم.

وهذا الاحتمال ساقط بحسب الارتكاز العرفي ، لأنّ الأحكام الشرعية ليست شخصيّة جزئية تابعة للذوات الخارجية ، بل هي تابعة للموضوعات الكلية والصفات النوعية.

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون هناك صفة مشتركة بين المخاطبين في عصر صدور هذا الخطاب ، وهذه الصفة المشتركة يحتمل دخلها في ثبوت الحكم ، إلّا انّها سنخ صفة قابلة للزوال عنهم ، كما لو فرضنا انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في السنة الثالثة للهجرة؟ ـ وكانت سنة فاقة وفقر ـ تصدّقوا ، واحتملنا أن يكون لهذا الفقر دخل في جعل الحكم ، في حين انّ هذا العنوان ـ الفقر ـ لم يعد ينطبق على من جاء بعد تلك السنة لعدم الفقر حينذاك.

فهذا الاحتمال حينئذ ، ننفي دخالته في الحكم بالنسبة إليهم ، حتى بناء على القول باختصاص الخطاب بالحاضرين ، وذلك : بالتمسك بإطلاق

٣٢٧

«تصدقوا» لهم إطلاقا أحواليا لا إطلاقا إفراديا ، إذ مقتضى إطلاقه هذا ، وجوب الصدقة ، وثبوت الحكم على أيّ حال ، على من كان غنيا ومن كان فقيرا في ذلك الزمن ، وبعد هذا نقول : انّه إذا ثبت ذلك الحكم في حقهم مطلقا ، سواء الفقير والغني منهم ، فإنّه حينئذ ، يثبت هذا الحكم علينا أيضا كذلك لأنه ليس احتمال الفرق بيننا وبينهم من ناحية الذوات ، وإنّما احتمال الفرق بيننا وبينهم بالصفات ، والمفروض انّ هذا الحكم يجري فيهم على واجد الصفة وفاقدها ، وليس منوطا بالصفة ، إذن فلا مانع من شموله لنا أيضا.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يكون ما يحتمل دخله في الحكم صفة مشتركة بين المخاطبين ، غير قابلة للزوال عنهم ، إمّا عقلا ، أو عرفا ، وفي مثله ، لا يمكن التمسك بالإطلاق الأحوالي للدليل اللفظي بالنسبة إليهم ، لأنّه إنّما يتمسك به بالنسبة إليهم فيما إذا كانوا في معرض أن يطرأ عليهم حالات مختلفة ، وإلا فلا.

وحينئذ ، تظهر الثمرة هنا ، إذ بناء على اختصاص الخطاب بخصوص الحاضرين ، لا يمكن أن نثبت الحكم لنا بالدليل اللفظي ، لا بالإطلاق الأفرادي ، ولا الأحوالي.

أما الأول : فلأنّ الإطلاق الأفرادي ينافيه فرض اختصاص الخطاب بالمشافه الحاضر ، وأمّا الثاني : فلأنّ الإطلاق الأحوالي ينافيه فرض انّ المخاطب له حالة واحدة لا حالتان على البدل ليتمسك به في إثبات الحكم لهم في كلتا الحالتين.

وأمّا إذا قلنا بعموم الخطاب للمعدومين ، فحينئذ ، يتمسك بالإطلاق اللفظي ، لإثبات الحكم لهم ثم لنا.

٣٢٨

تخصيص العام بالضمير الراجع

إلى بعض أفراده

إذا تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض أفراد العام ، وعلم من الخارج انّ الحكم المعلّق على الضمير كان مختصا ببعض أفراد العام ، كما في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً)(١) ، حيث علم من الخارج انّ الضمير في «بعولتهنّ» راجع إلى خصوص الرجعيات من المطلقات ، فهل يكون هذا الضمير مخصصا للعام وانثلام العموم في المطلقات بالنسبة إلى الحكم الأول ، الذي هو وجوب التربص ، حيث يختص الحكم الأول الذي حكم به على العام ـ أي وجوب التربص ـ ببعض أفراده ، أم انّه لا يخصّصه ، فيبقى العام على عمومه؟

وحاصل عنوان المسألة هو ، انّه كلّما كان هناك عام علّق عليه حكمان ، وكان موضوع أحد الحكمين ضميرا يرجع إلى بعض أفراد ذلك العام ، فهل يستوجب ذلك تخصيص العام بخصوص هذا البعض في كلا الحكمين ، أم انّه لا يخصصه ، فيبقى العام على عمومه؟

وهنا عندنا في بادئ الأمر أصلان ، اصالة العموم أو الإطلاق في قوله

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٢٨.

٣٢٩

تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، فبمقتضى هذا الإطلاق والعموم ، انّ كل مطلقة يجب أن تعتد.

وأمّا الأصل الثاني من الأصول اللفظية هو ، اصالة عدم الاستخدام بأن لا يكون الضمير راجعا إلى بعض ما يراد من مرجعه ، أو اصالة التطابق بين الضمير ومرجعه.

وحينئذ ، يقع الكلام في مقامين :

١ ـ المقام الأول : هو انّه هل يوجد مقتضي لجريان كلا الأصلين معا أو لا؟

٢ ـ المقام الثاني : هو أنّه لو فرض ثبوت حجية كل منهما في نفسه ، فحينئذ ، يقع التعارض بينهما ، ويقع الكلام في كيفية علاج هذا التعارض بين هذين الأصلين ، والكلام في ذلك له فرضان.

١ ـ الفرض الأول : هو أن نعلم بأنّ الضمير أريد به الخاص استعمالا وجدا لا هزلا.

٢ ـ الفرض الثاني : هو أن نعلم بأن المراد الجدّي من الضمير هو الخاص ، مع احتمال أن يكون المراد الاستعمالي منه العام.

أمّا الفرض الأول ـ وهو ما لو علمنا انّ الضمير أريد به الخاص استعمالا وجدا ـ فهل يجري كلا الأصلين في أنفسهما؟ ثم هل يتعارضان أم لا؟

وهنا قد يستشكل في جريان اصالة العموم في نفسها مع قطع النظر عن الأصل الآخر المعارض تارة ، كما قد يستشكل في جريان اصالة عدم الاستخدام في نفسها مع قطع النظر عن الأصل الآخر المعارض تارة أخرى.

أمّا الاستشكال في جريان اصالة عدم الاستخدام ، حيث يكون المراد من الضمير معلوما ، والشك إنّما هو في كيفية الاستعمال ، أي الشك ليس في المراد ، بل في الاستناد ، فبتطبيق دعوى عامة ، وهي انّ الأصول اللفظية لا تكون حجة إلّا في مقام الكشف عن المراد عند الشك فيه ، مع العلم بالاستناد ، دون ما إذا كان الشك في الاستناد مع العلم بالمراد.

٣٣٠

والحاصل هو ، انّ اصالة عدم الاستخدام لا تجري في نفسها في محل النزاع باعتبار انّ المفروض هو العلم بالمراد من الضمير ، وهو بعض العام ، وإنّما الشك في كيفية الإرادة ، وفي مثله ، لا تجري اصالة عدم الاستخدام.

وهذا الإشكال له نظائر في موارد أخرى في كلمات المحققين.

منها ما تقدم في بحث العام والخاص في مورد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، فيما إذا علم انّ الفرد ليس من أفراد العام ، وشكّ في فرديّته للعام ، فيكون الأمر دائرا بين التخصيص والتخصص.

وقد قيل هناك في اصالة العموم ، نفس ما قيل في اصالة عدم الاستخدام ، أي انّ اصالة العموم لا تجري ، لأنّ الشك في الاستناد وليس في المراد ، بينما موردها إنّما الشك في المراد.

ومنها ـ ولعلّه الأصل لهذه القاعدة ـ ما كان يستدل به السيد المرتضى (قده) على الوضع بالاستعمالات الواردة في كتب الأدب واللغة وانّ الاستعمال علامة الحقيقة ، حيث اعترض عليه المحققون ، بأنّ اصالة الحقيقة لا تجري في مورد يعلم فيه بالمراد الاستعمالي للمتكلم ، ويشك في الاستناد وكيفية الاستعمال ، وإنّما تجري عند ما يكون الشك في المراد ، وهنا في محل الكلام ، الشك في الاستناد.

ومن هنا صيغت نظرية عامة ، وطبّق ذلك على الأمثلة المتقدمة وهي : انّه كلّما كان الشك في كيفية إرادة المعنى من اللفظ ، فلا تجري اصالة الحقيقة.

وهذه النظرية والأمثلة المتقدمة كلها بما أنها ترجع إلى أصل واحد ، وهو اصالة الظهور ، إذن فتكون القاعدة هي ، انّه كلّما كان الشك في كيفية إرادة المعنى من اللفظ ، فلا تجري اصالة الظهور.

وكأنّ هذا المطلب اعتبر في كلماتهم بأنه نحو تخصيص في حجية اصالة الظهور ، باعتبار انّهم رأوا انّ مقتضى طبع الظهور هو إثبات عدم التخصص وعدم الاستخدام.

٣٣١

والحقيقة ، هي انّ الظهور كما يمكن أن نثبت به المراد ، كذلك يمكن أن نثبت به الاستناد عند العلم بالمراد ، وحينئذ ، يكون هذا الذي ذكرناه تخصيصا في دائرة حجية اصالة الظهور.

ومن هنا حاول المحقق الآخوند (قده) في مقام تفسير هذه القاعدة أن يبرر هذا التخصيص ، بتقريب انّ مدرك حجية الظهور إنّما هو السيرة العقلائية ، وهو دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، والقدر المتيقن منه إنّما هو ما إذا أريد بالظهور إثبات المراد عند الشك فيه مع العلم بالاستناد ، وليس العكس.

ونحن قد أشرنا في بحث دوران الأمر بين التخصيص والتخصص إلى أنّ مثل هذا البيان ليس تاما في كل الأدلة اللبية ، إلّا في الإجماع ، فإنّه لا بأس بدعوى عدم الإطلاق في معقده ، بينما أشرنا هناك إلى إنّ افتراض تفصيل من قبل العقلاء في حجية الظهور في المقام لا بدّ وأن يكون بإحدى عنايتين.

١ ـ العناية الأولى : هي أن يكون هذا التفصيل بين مورد ومورد ، باعتبار انّ كاشفية إمارة في هذا المورد أضعف من كاشفيتها في المورد الآخر ، وحيث انّ حجية الإمارات من باب الكاشفية ، فمن المعقول أن يفترض تفصيل على أساس درجة الكاشفية بين مورد ومورد ، باعتبار انّ كاشفيتها في أحدهما أقوى فيقال بالحجية في مورد دون آخر ، كما لو فصّلوا بين شهادة الثقة الذي هو عدو للمشهود عليه ، وبين شهادة الثقة غير العدو للمشهود عليه ، فأخذوا بالثانية دون الأولى.

٢ ـ العناية الثانية : هي إعمال نكتة نفسية ، وذلك بأن يفرض انّ كلتا الحالتين من حيث الكاشفية لا فرق بينهما ، لكن هناك نكتة نفسية اقتضت التمييز بين الحالتين في الحجية ، وبالتالي الحكم بالحجية في إحداهما دون الأخرى ، ومثاله : التمييز بين ظواهر الكلام ، وبين ظواهر الحال ، فإنّ ظهور الكلام إمارة على أن المراد هو المعنى الظاهر ، وظاهر الحال في هذا الإنسان أنّه عادل ، لكن مع ذلك ، بنى العقلاء على حجية ظاهر الكلام ، ولم يبنوا على حجية ظاهر الحال إلّا إذا رجع إلى ظهور الكلام.

٣٣٢

وهذا التفصيل معقول لو ثبت من العقلاء باعتبار نكتة نفسية ، وهي إدانة المتكلم بكلامه ، فإنّ كل إنسان مأخوذ بظاهر كلامه ، فهذه الإدانة تقتضي تتميم الكشف لظواهر الكلام دون ظواهر الحال لعدم وجود نكتة الإدانة في ظواهر الحال.

نعم ظهور الحال إذا بلغ ظهور الكلام يكون حجة لما عرفت.

والخلاصة : هي انّ الحجج العقلائية في غير موارد الاطمئنان تبتني على أحد أمرين ، إمّا كاشفية وإمارية قائمة على أساس حساب الاحتمال ، وإمّا نكتة نفسيّة موضوعية كالإدانة وتحميل المتكلم ظاهر كلامه.

وعليه ، فليس كل ظن حاصل من حساب الاحتمال يكون حجة.

ومن هنا. فإنّ صاحب الكفاية (قده) ، ومن تبعه ، ممن صاغوا هذه القاعدة ، وادّعوا انّ حجية الظهور لم تثبت إلّا بالسيرة العقلائية وبناء العقلاء ، وانّ القدر المتيقن من هذه السيرة هو البناء على حجية الظهور في مورد الشك في المراد لا الاستناد. ظاهر قولهم هذا ، التسليم بوجود الظهور ، وانّ هذا الظهور حجة فيما إذا كان الشك في المراد ، وغير حجة عند ما يكون الشك في الاستناد ، وانّ هذا تخصيص في حجية اصالة الظهور ، وانّ هذا التخصيص في الحجية إنّما هو لضيق دليل الحجية ، حيث انّه دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن كما عرفت.

وحينئذ نقول : بأنّ السيرة العقلائية إذا كانت هي دليل حجية الظهور ، وفرض انّ العقلاء يفصلون بين موارد الشك في المراد وبين موارد الشك في الاستناد. إذن لا بدّ لهم في إثبات نكتة فرق بين الموردين تكون موجودة في أذهاننا أو ولو بعض المرتكزات العقلائية بحيث إذا رجعنا إليها تثبت ذلك الفرق ، وذلك باعتبار انّنا من عصابة العقلاء.

والظاهر انّ نكتة الفرق موجودة عندنا ، سواء أريد بها النكتة الأولى ـ الطريقيّة ـ أو النكتة الثانية ـ النفسيّة ـ لكن ليس في جميع موارد هذه

٣٣٣

القاعدة ، بل هي موجودة في قبال الاستدلالات السيد المرتضى (قده) (١) السالفة ، حيث انّه في تلك الموارد لا يصح إجراء اصالة الظهور والحقيقة لإثبات الوضع واللغة ، كما فعل السيد ، فإنّ الظهور في هذا المورد ليس بحجة للنكتتين كما سيأتي.

وأمّا في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، وموارد الشك في كيفيّة الاستعمال وانّه حقيقيا أم مجازيا مع العلم بالمراد ، ففي مثله كلتا النكتتين غير موجودة.

أمّا النكتة الأولى ، فيمكن تطبيقها في الموارد التي استند فيها السيد المرتضى إلى اصالة الحقيقة واصالة الظهور ، وحيث انّ النكتة الأولى تقوم على أساس الكشف والطريقية كما عرفت ، فالكشف والطريقيّة في موارد الشك في المراد مع العلم بالوضع يكون أضعف.

وتوضيحه : هو انّ كل متكلم له ظهور حالي في انّه يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي ، وهذا الظهور الحالي ، منشؤه الارتكازي ، هو ، غلبة الاستعمال في المعنى الحقيقي ، وهذه الغلبة تشكل قرينة بحسب حساب الاحتمال. على أن المتكلم استعمل اللفظ في معناه الحقيقي ، وهذه القرينة الناشئة من الغلبة. في موارد العلم بالوضع لا معارض لها ، وأمّا في موارد عدم العلم بالوضع ، مع العلم بالمراد والشك في الاستناد كما لو استعمل لفظ أسد في الرجل الشجاع ، فظهور حاله انّ هذا الاستعمال حقيقي بمقتضى الغلبة كما عرفت ، إذ مقتضى تلك الغلبة أن يحصل كشف نوعي بأن هذا اللفظ استعمل في معناه الموضوع له ، وهذا يكون مدلولا التزاميا لهذا الكشف النوعي. ومن هنا يستكشف ويستنتج أن لفظ أسد موضوع للرجل الشجاع. فلو بقينا نحن وهذا المقدار يكون هذا الظهور حجة في إثبات هذه القضية اللغوية. لكن هذا الكشف هنا له معارض. وهو حساب الاحتمال في نفس

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين ـ ص ٤٦.

٣٣٤

تلك القضية اللغوية. إذ ان هذا المعنى المراد ـ الرجل الشجاع ـ يستعمل فيه لفظ «أسد» عند الحاجة أحيانا. لكن ليس كل معنى يستعمل فيه اللفظ عند الحاجة أحيانا يكون موضوعا له ، بل بالاستقراء نرى جملة كثيرة من المعاني لم يوضع لها ، ولنفرض انه في كل ثلاث معاني يحتاج إليها يوجد معنى واحد يوضع له اللفظ ، وحينئذ سوف يقع التعارض بين أمارتين ، بين إمارية كاشفية الغلبة المستلزمة لكون الرجل الشجاع معنى حقيقيا للفظ أسد ـ أي بين إمارية الوضع ـ وبين أماريّة حساب الاحتمال في طرف المستعمل.

وهذا قد بيّنا أصوله الموضوعية في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، وقد أوضحنا انّ من جملة هذه الحالات ، لو انّ شخصا ثقة أخبر بخبر ، فهنا احتمال صدقه تسعة من عشرة ، لكن لو فرض انّ تلك القضية في نفسها كانت بعيدة وكانت عوامل عدمها أكثر من عوامل وجودها ، فيتعارض هنا مع حساب الاحتمالات ، كما لو أخبرنا انّ طفلا عمره ثلاث سنين يتكلم ثلاث لغات.

وقد ذكرنا هناك ، انّ حلّ هذا التزاحم يكون بتشكيل علمين إجماليين لتحديد صحة كل منهما.

ولكن في محل كلامنا ، فإنّ كشف إخبار الثقة بقضية ، يزاحم مع عوامل عدم كشف تلك القضية ، فهنا يكون ظهور حال هذا المستعمل في انّه يستعمل لفظ الأسد في معناه الحقيقي ، معارض مع نفس عوامل عدم وضع لفظ أسد للرجل الشجاع.

وحينئذ ، فلا بدّ من أخذ نسبة العوامل في كل من المتعارضين.

ومن هنا يمكن أن يقال : انّ هذه نكتة نوعية عقلائية ، وتكون بوجودها الارتكازي مؤثرة.

ولهذا استقرّ بناؤهم على أنه لا معنى لإثبات الوضع باصالة الحقيقة ، وليس ذلك إلّا لأنّ إثبات القضية اللغوية باصالة الحقيقة معناه ، إدخال حساب

٣٣٥

الاحتمالات الجاري بالنسبة لنفس القضية اللغوية ، ومن هنا تضعف قيمة احتمال كاشفية هذا الكاشف.

وكل هذا البيان المتقدم. لا يتأتى في مورد الدوران بين التخصيص والتخصص ، ولا في مورد الحقيقة والمجاز ، لأنه في مقام الدوران بين التخصيص والتخصص ، لا نريد إثبات قضية لغوية ، فمثلا لو أردنا إثبات استعمال اللفظ في العموم ، كما لو قال : «أكرم كل عالم» وعلمنا انّ زيدا لا يجب إكرامه ، ودار أمره بين التخصيص والتخصص ، فهنا نريد إثبات التخصص أي استعمال اللفظ في العموم ، وهذا لا يتعارض مع شيء ، لأنّ كونه مستعمل في العموم ليس معناه إثبات قضية لغوية ليتعارض مع حساب آخر ، إذن فنكتة نقصان الكشف في الظهور إنّما توجد في مورد يراد به إثبات مسألة لغوية بهذا الظهور ، إذن ، ففي كل مورد لا يراد فيه إثبات مسألة لغوية بهذا الظهور ، فلا معارض له بحساب الاحتمالات.

وبهذا نستطيع أن نفسر عدم جريان اصالة الحقيقة في مدّعى المرتضى (قده) في موارد الشك في الاستناد مع العلم بالمراد.

هذا هو التفسير الأول.

والخلاصة هي : انّهم ـ كما أشرنا سابقا ـ بعد ان صاروا إلى هذا التفصيل ، صاروا في مقام تفسيره ، أي تفسير عدم حجية الظهور رغم انه موجود.

وكأنّهم يرون انّ هذا تخصيص في قاعدة حجية الظهور كما تقدم ، ولهذا صاروا في مقام تبرير ذلك.

فقالوا : إن الظهور وإن كان موجودا ، إلّا انّ دليل حجية الظهور ، حيث انّه دليل لبي ، وهو السيرة العقلائية ، إذن فيقتصر فيه على القدر المتيقن. وهو حجية الظهور فيما إذا كان الشك في المراد مع العلم بالاستناد دون العكس.

وقد ذكرنا في مقام التعليق عليه. انّ الدليل اللبي هو دليل الحجية ، لكن هذا الدليل لو كان شيئا مثل الإجماع لأمكن القول بأن مجرد احتمال الفرق بين مورد المتيقن من معقد الإجماع وبين غيره يكفي للتوقف وعدم

٣٣٦

التمسك بإطلاق الدليل. ولكن الدليل اللبي ليس إجماعا ، بل الدليل هو السيرة العقلائية ، أي المرتكزات التي عليها بناء العقلاء ، وهذه المرتكزات ، معنى كونها مرتكزات هو انها موجودة في حاق نفوس العقلاء وأذهانهم. وعليه : فحينما ندّعي تفصيلا في دليل لبي مرجعه إلى السيرة العقلائية ينبغي أن يكون هناك تفسير احتمالي ممكن لهذا التفصيل باعتبار انّ جاعل الحجية هو نحن العقلاء وليس الشارع ، وإنّما الشارع يمضي هذا الجعل لهذه الحجية ، إذن ، ففي الموارد التي نجعل فيها الحجة ، إذا ادّعينا تفصيلا بين الموارد لا بدّ وأن نفسر ذلك على أساس فارق محتمل بحيث نبرز نكتة نجعل على أساسها هذا الفرق كما فعل صاحب الكفاية (قده) ومن تبعه. ولكن إذا كنّا لا نرى في وجداننا هذا الفرق ، فلا فائدة في هذا التفصيل.

وهنا قد أشرنا فيما تقدم ، انّ كل حجية عقلائية تتكون من مجموع نكتتين ، هما : نكتة الكاشفية ، ونكتة نفسية ، بمعنى انّ نظر العقلاء ، في العمل بالظهور ، ليس إلى مجرد الكشف ، وإلّا لزم أن يكون كلّ كشف بأيّ درجة هو حجة ، مع انّ المفروض عدم صحة تعميم أيّ درجة من الكشف ، إلّا الاطمئنان.

إذن لا بد من أن نفترض في الإمارات الكاشفة ، صحة نكتة أخرى غير الكشف ، وهذه النكتة الكاشفة الأخرى هي ، نكتة نفسية ، بحيث تتميز عن بقية الكواشف الأخرى وان اتحدت درجة الكشف فيها مع غيرها.

ثم ذكرنا فيما تقدم ، انّ التفصيل المدّعى معقول في الجملة بالمقدار الذي يهدم كلام السيد المرتضى (قده) ويبطل التمسك باصالة الحقيقة لإثبات الوضع اللغوي ، إلّا انّ ذلك لا لتفصيل في حجية الظهور ، بل لخروج المقام عن حجية الظهور موضوعا.

وقد ذكرنا انّ الدليل على عدم حجية اصالة الحقيقة في موارد العلم بالمراد مع الشك في الاستناد باعتبار انّه لا ظهور أصلا ، ولذلك لا ابتلاء بالمعارض ، بينما في الموارد الأخرى ـ كالدوران بين التخصيص والتخصص

٣٣٧

ـ الظهور موجود ولا نتعقل فرقا بين حجية الظهور فيه وبين حجيته في موارد الشك في المراد مع العلم بالاستناد ، ومعنى ذلك ، هو انّ الارتكاز والسيرة منعقد على الحجية في كلا الموردين.

وأمّا التفسير الثاني ، فهو انّ الظهور الذي وقع موضوعا للحجية عند العقلاء ، غير الظهور الذي يستدل به السيد المرتضى (قده).

وتوضيحه هو : إنّ الظهور كحالة عامة ، لم ينعقد بناء العقلاء على حجيته مطلقا بقطع النظر عن هذا التفصيل ، وإنّما الظهور الحجة نوع مخصوص ، فإذا نحن اكتشفناه ، فسوف يتضح معه انّ مورد استدلالات السيد المرتضى (قده) خارجة عنه موضوعا.

وإن شئت قلت : إنه أشرنا سابقا إلى انّ الحجية العقلائية تتقوم بمجموع نكتتين هما : نكتة الكاشفية ، ونكتة نفسية ، بمعنى انّ نظر العقلاء في العمل بالظهور ليس إلى مجرد الكشف ، وإلّا لزم أن يكون كلّ كشف ـ بأيّ درجة كان ـ حجة ، مع انّ المفروض عدم تعميم أيّ درجة من الكشف إلّا الاطمئنان.

وعليه : فلا بدّ من ان نفترض في الإمارات الكاشفة ، نكتة أخرى ـ غير الكشف ـ هي نكتة نفسيّة ، تتميز عن بقية الكواشف ، وإن تساوت درجة الكشف فيهما.

ثم إنّه ذكرنا فيما تقدم ، إنّ التفصيل المدّعى معقول في الجملة بالمقدار الذي يهدم كلام السيد المرتضى (قده) ، ويبطل التمسك باصالة الحقيقة لإثبات الوضع اللغوي. وقلنا هناك انّ ذلك ليس لتفصيل في حجية الظهور ، بل لخروج المقام عن حجية الظهور موضوعا ، حيث لا ظهور أصلا ولذلك لا ابتلاء بالمعارض. بينما في المورد الأخر ـ كالدوران بين التخصيص والتخصص ـ الظهور موجود ، ولا نتعقل فرقا بين حجية الظهور فيه ، وبين حجية الظهور في موارد الشك في المراد مع العلم بالاستناد ، ومعنى هذا انّ الارتكاز والسيرة منعقد على الحجية في كلا الموردين.

٣٣٨

ثم أخذنا مورد استدلال السيد المرتضى (قده) بالخصوص لردّه وقلنا : إنه لو استعمل شخص لفظ ، «أسد» ، في «الرجل الشجاع» ، ثم شككنا في انّ هذا الاستعمال ، هل كان استعمالا حقيقيا ، أم مجازيا ، حينئذ ، لا يصح أن نتمسك باصالة الحقيقة لإثبات انّ هذا الاستعمال حقيقي ، وانّ اللفظ موضوع للرجل الشجاع.

وقد قلنا سابقا ، إنه يمكن تفسير هذا بأحد تفسيرين.

الأول : هو أن يقال : بأن هذا ظهورا حاليا للمتكلم ، وهو انّ ظاهر حاله إذا أراد أن يفهم معنى ، فإنه يستعمل ما وضع له من لفظ في اللغة ، وحيث انّه استعمل لفظ «أسد» ـ مثلا ـ في الرجل الشجاع ، إذن ، فهو يدل بالدلالة الالتزامية على انّ هذا اللفظ موضوع للمعنى الذي استعمله فيه ، وهذا مرجعه إلى امارة عقلائية قائمة على أساس غلبة إفادة المعاني بالألفاظ الحقيقية على إفادتها بالألفاظ المجازية ـ وهذا نتيجة حساب الاحتمالات ـ.

وقد قلنا هناك : انّ هذا الكلام في نفسه صحيح ، لكن هذا الظهور الحالي للمتكلم ، مزاحم بغلبة أخرى ، فإنه إذا أردنا أن نحسب احتمال وضع لفظ «أسد» للرجل الشجاع في نفسه ، لنرى ما هي قيمته ، نجد انّه تجري فيه حساب احتمالات ـ بلحاظ الحالات التي يتحقق فيها الوضع ، ولحاظ الحالات التي لا يتحقق فيها الوضع ـ نتيجته ، غلبة الحالات التي لا يتحقق فيها الوضع على الحالات التي يتحقق فيها ، وهكذا يصبح عندنا غلبتان متعاكستان ، فمن جانب اللفظ الغالب في المستعمل انه يأتي باللفظ الموضوع للمعنى لغة ، ومن جانب الواضع ، الغالب دواعي عدم الوضع على دواعي الوضع ، وحينئذ ، يقع التزاحم.

وقد يفرض ولو صدفة ، انّ ذلك المزاحم ضعيف جدا ، إلّا انّه دائما موجود على اختلاف درجاته ، فلو لوحظ باللحاظ النوعي ـ كما هو شأن العقلاء ـ نستكشف أنّ العقلاء لم يجعلوا الحجية في هذه الحالة ، أي حالة الشك في الاستناد مع العلم بالمراد ، وذلك لأنّ كاشفية الظهور الحالي مبتلاة

٣٣٩

بالمزاحم دائما ، وإن لم تكن درجته محددة ، وهذا بخلاف ما لو كان الشك في المراد ، حيث لا يوجد مزاحم نوعي.

وهذا فرق عقلائي بين الموردين ، يصح على أساسه جعل الحجية في مورد دون آخر.

هذا هو التفسير الأول الذي ذكرناه.

وأمّا التفسير الثاني : فهو انّ الظهور الذي وقع موضوعا للحجية عند العقلاء ، هو غير الظهور الذي يستدل به السيد المرتضى (قده).

وتوضيحه هو : انّ الظهور كحالة عامة ، لم ينعقد بناء العقلاء على حجيته مطلقا ، فمثلا ، كون ظاهر حال إنسان يسلك مسلكا خاصا إنّه فقير ، بينما إنسان آخر يسلك مسلكا آخر ، ظاهر حاله إنه غني ، وثالث نتيجة مسلكه ، ظاهر حال إنه غير ذلك ، وهكذا رابع وخامس إلى ما هنالك ، ومن الواضح انّه لا يمكن أن نبني على حجية كل هذه الظهورات ، وإنّما الظهور الذي هو حجة هو نوع خاص من الظهورات ، فإذا نحن اكتشفناه ، سوف يتضح حينئذ ، انّ موارد استدلالات السيد المرتضى (قده) خارجة عنه موضوعا ، وتشخيص هذا النوع ، يقرّب بأحد تقريبين.

١ ـ التقريب الأول : هو أن نقول : بأنّ الظهور الذي جعله العقلاء حجة ، إنّما هو خصوص الظهور الواقع في طريق تشخيص مدلول الخبر ـ أي انّه يحقّق صغرى حجية الخبر ـ.

وحينئذ نقول : لو فرض انّ إنسانا قال : رأيت «أسدا» ، ونحن لا ندري ، هل انّه قصد الحيوان المفترس ، أو الرجل الشجاع ، لكن ندري على كل حال ، انّ هذا إخبار منه ، فهنا نقول : إنّ دليل حجية الخبر منطبق في المقام ، لأنّه أخبر بخبر ونحن لم نعلم ما ذا أراد ، وحينئذ يكون الظهور حجة ، لأنّ الظهور هو الذي يعني صغرى الخبر ، أي عن أيّ شيء أخبر وقد ثبت انّه أخبر عن رؤية الحيوان المفترس ، أي المعنى الحقيقي للخبر ، بحيث لو لم يكن قد رآه واقعا يكون كاذبا أو مخطئا.

٣٤٠