بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

تمام مرامه وأنّه هو التمام ، مع أنّ المحقق الخراساني (قده) استثنى ذلك القيد الثاني حيث قال : إنّه لو كان في مقام التخاطب ، إذن فالإطلاق يكون تاما ، بينما يلزم ـ بناء على تصوّره ـ أن يمنع القدر المتيقن في مقام التخاطب ، عن انعقاد الإطلاق ، كما عرفت بالبيان السابق أنّه بناء على هذا التصوّر ، يوجد ظهوران للمتكلم.

الأول : انّه في مقام بيان تمام مرامه.

الثاني : انّه في مقام بيان أنّه التمام.

ومقتضى الظهور الأول منهما ، أنّه لو أراد المقيّد ـ العالم الهاشمي ـ فإنّه لا يلزم الخلف ، وذلك لوجود القدر المتيقن ، وحينئذ تبطل مقدمات الحكمة ، لابتنائها على لزوم الخلف ، ومعه يصبح الكلام مجملا مرددا بين وجوب إكرام «مائة» وبين وجوب إكرام «الخمسين» ، وعليه ، فالخمسين الثانية ـ أي غير الهاشميين ـ لا يكون الكلام وافيا ببيانها ، وبذلك نستكشف أنّها غير مرادة ، لأنّها لو كانت مرادة لزم خلف الظهور الأول ، إذ لو كانت المائة تمام مرامه ، يكون قد قصّر في بيان ذلك ـ لأنّ القدر المتيقن يقتضي إكرام الهاشميين ـ والمفروض أنّه في مقام بيان تمام المراد.

وبهذا البرهان ، تصبح إرادة الإطلاق مستلزمة للخلف ، ومعه نثبت انحصار مرامه بالمقيّد ، ويثبت أنّه هو تمام المرام ، وبهذا يتحقق الظهور الثاني ، وحينئذ ، يكون قد بيّن أنّه تمام المرام.

٢ ـ المحذور الثاني : هو أن يقال : إنّه لا يتم الإطلاق في موارد وجود قد متيقن من الخارج ـ كما لو فرض أنّ «الهاشمي» كان هو القدر المتيقن من الخارج ـ لأنّ كون المولى في مقام بيان تمام المرام «يعني بناء على تصوّر المحقق الخراساني (قده)» أي أنّه في مقام بيان تمام الأفراد التي يريدها ـ إمّا الخمسون ، وإمّا المائة ـ.

وحينئذ ، نقول : إنّه لو كان مرامه هو الخمسون وأرادها ، إذن لا يلزم

٥٠١

الخلف لأنّه يصدق حينئذ أنّه قد بيّن تمام مرامه في ضمن بيان المطلق ، لأنّ إرادته لإكرام مائة إرادة لإكرام خمسين في ضمنها ، غايته انّ هذا الكلام يبيّن إرادة خمسين أخرى ، وهذا لا يضرّ ، لأنّ المفروض أنّ المتكلم في مقام بيان تمام مرامه وليس في مقام بيان انّه التمام ، وعليه ، فلا يوجد خلف ، لأنّ غرضه بيان تمام الأفراد التي يهمه أن تكرم ، ـ وليس في مقام بيان عدم وجوب غيرها ـ وقد بيّن وجوب إكرام ما يهمه ولو كان في ضمن عبارة مطلقة ، وليس في ذلك خلف ، لكونه في مقام بيان تمام مرامه ، ولو كان في موارد وجود القدر المتيقن من الخارج.

ولا يقال : إنّ هذا الكلام يجري حتى في غير موارد القدر المتيقن ، حيث أنّ كل مقيّد هو مبيّن بنحو «ما» في ضمن المطلق.

لأنّا نقول : إنّ هذا الكلام في غير موارد القدر المتيقن يؤدّي إلى التعارض بين الأطراف ولا يؤدّي إلى البيان ، لأنّه يمكن تطبيقه على كل مقيد ، ومعه تتعارض الأطراف حينئذ حيث لا مرجع لتطبيقه على طرف دون الآخر ، وهذا بخلاف موارد القدر المتيقن.

٣ ـ المحذور الثالث : هو أن يقال : إنّ هذا التصور يؤدّي إلى غلق أصل مقدمات الحكمة ، بحيث لا يتمّ إطلاق ، وذلك ، لأنّ جوهر مقدمات الحكمة هو أن يقال : إنّ الكلام أمره مردّد بين المطلق والمقيّد ، ومعه ، لا يمكن إرادة المقيّد منه ، لأنّه يلزم من إرادته له الخلف ، إذن فيتعيّن الإطلاق ، باعتبار أنّ هذا الكلام لو أريد منه الإطلاق ، فالكلام يكون وافيا به ، بينما لو أريد منه المقيّد فلا يكون الكلام وافيا به ، وإذا صدقت وتمّت هاتان الجملتان ، تمّت مقدمات الحكمة ، لأنّهما الأساس فيها ، وإلّا فلا ، وعلى ضوء هذا ، نأتي إلى هاتين الجملتين لنرى أيّتها تثبت.

فنأخذ الجملة الأولى منهما القائلة : إنّ هذا الكلام لو أريد منه الإطلاق ، يكون وافيا به ، وهذه الجملة بناء على تصورنا ، نراها صحيحة تامة ، لأنّه لو أريد المطلق ، إذن ، الموضوع الكلي للحكم بسيط ، وهو هنا

٥٠٢

«العلم» ، والكلام يدلّ على موضوعية «العلم» ، إذن فالكلام واف بما هو الموضوع الكلي للحكم.

وأمّا بناء على تصوّر المحقق الخراساني (قده) القائل : بأنّ معنى المطلق هو ، الأفراد ، وكانت «مائة» كما تقدم في المثال ، فلا تصح هذه الجملة ، لأنّ الكلام لا يكون وافيا بها ، لأنّه إن كان وفاؤه بها بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، كان دورا صريحا ، لأنّ هذه الجملة أساس للمقدمات التي هي أساس للإطلاق.

أو قل : إن كان الوفاء بالإطلاق ومقدمات الحكمة كان دورا صريحا ، لأنّ ثبوت الوفاء متوقف على الإطلاق ، فلو توقف الإطلاق على الوفاء ، كان دورا صريحا ، لتوقف الشيء على نفسه ، وإن كان وفاء الكلام بها بغير مقدمات الحكمة والإطلاق ، إذن ، فما هو هذا الغير.

إذن فالمنهج الذي ترتّبت به مقدمات الحكمة يناسب ما قلناه ، إذ يفرض علينا بطبيعته اختيار الثاني دون الأول.

وبهذا يتضح جوهر مقدمات الحكمة ، كما اتّضح حال المسألتين الخلافيتين المترتبتين على هذا الجوهر.

وبعد هذا نطبّق ما ذكرناه على مقدمات الحكمة المسطورة في كتب الأصول.

وقد ذكر المحقق الخراساني (قده) في الكفاية (١) أنّ مقدمات الحكمة ثلاث.

المقدمة الأولى : هي كون المتكلّم في مقام البيان ، وقد ذكر انّ هذه المقدمة تثبت بالأصل العقلائي حيث يقال : إنّ الأصل في كل متكلم أن يكون في مقام البيان لا الإهمال والإجمال إلّا ما خرج بدليل.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٨٤.

٥٠٣

وقد قلنا نحن سابقا : إنّ هذه المقدمة تعبّر بشكل «ما» عن ذلك الظهور الحالي السياقي الذي قلنا عنه انّه الأساس في استفادة وإثبات الإطلاق بالبيان المتقدم.

وبناء عليه : فإن كان مراد المحقق الخراساني (قده) من الأصل العقلائي المذكور هو هذا الظهور الذي ذكرناه ، وإنّما عبّر عنه بالاصل تسامحا ، إذن ، فهذا عين ما نقصده ، وإن كان مراده بالاصل الحجية والقرار العقلائي كما هو المتعارف ، أي أنه اصل برأسه ، فليس عندنا اصل من هذا القبيل ، مع قطع النظر عن الظهور المذكور ، وإنّما عندنا ظهور حالي سياقي ، أو عندنا اصالة الظهور.

إذن ، فاصالة كون المولى في مقام البيان ، إن أرجعناها إلى نفس الظهور ، فهذا هو مقصودنا ، وإن أريد بها اصل برأسه في مقابل اصالة الظهور ، فلا أصل عندنا من هذا القبيل ، بل ولا نحتاج إلى اصل برأسه من هذا القبيل عند الالتفات إلى هذا الظهور وانّ كل ظهور حجّة.

إذن ، فجوهر القضيّة هو هذا الظهور الحالي السياقي ، وانّ المولى في مقام بيان تمام مرامه بكلامه.

ثم إنّ هذا الظهور الذي ترمز المقدمة الأولى إليه. لا يعني أنّ المولى في مقام بيان أيّ شيء ، وإنّما يعني ، أنّ الشيء الذي يكون المولى في مقام بيانه ، ظاهره أنّه في مقام بيان تمامه ، لا بيان بعضه وإهمال وإجمال الآخر ، يعني أنّ الكلام إذا صدر من المتكلم لا بدّ وأن يكون بصدد معنى وتعيين المعنى يكون بظهور عرفي لفظي غير مقدمات الحكمة. وبعد ذلك يقال : إنّ ظهور حال المتكلم أنّه في مقام بيان تمام ذلك المعنى لا حصة منه فقط ، ومن هنا ، حينما يقال : إنّ هذا الكلام ليس في مقام البيان من تلك الجهة ، فليس هذا على خلاف ما يقال ، من أنّ الأصل كون المتكلم في مقام البيان ، لأنّ هذا الظهور الحالي الذي هو جوهر مقدمات الحكمة ليس وظيفته تعيين مفاد الكلام كما تقدّم ، بل بعد ذلك يأتي الظهور الحالي فيقول : إنّ الظاهر من حاله أنّه يبيّن تمام ذلك الشيء بحدوده.

٥٠٤

والخلاصة : هي انّ هذا الظهور ليس مفاده معنى الكلام ، بل مفاده انّ المتكلّم أراد تمام المعنى الذي دلّ عليه اللفظ ، إذن ، فهو يأتي في مرحلة ثانية ، إذ في المرحلة الأولى يدلّ اللفظ على معناه ، وبعد ذلك نقول : إنّ ظاهر حال المتكلّم انّه في مقام البيان ، أي أنّه في مقام بيان تمام المعنى لا بعضه.

٢ ـ المقدمة الثانية : وهي : «أن لا ينصب قرينة على القيد» ، وهذه المقدمة ضرورية ، باعتبار أنّها السبب في تكوين الدلالة الالتزامية لذلك الظهور العرفي ، حيث يقال حينئذ : بأنّ ظاهر حال المتكلّم ، أنّ تمام مرامه مبيّن ، وحيث أنّ المقيّد غير مبيّن ، إذن ، فالمقيّد غير مراد ، ولو كان المولى قد نصب قرينة على القيد ، إذن ، لكان المقيّد قد بيّن ، وحينئذ ، لا تتم الدلالة الالتزامية.

ثمّ إنّ هذه المقدمة الثانية ، صيغت بصياغتين.

الأولى : هي كما صاغها صاحب الكفاية (قده) (١) حيث قال : «بأنّها عدم نصب قرينة متصلة على التقييد».

الثانية : كما صاغها الميرزا (قده) ، «من أنّها عدم نصب قرينة متصلة أو منفصلة على التقييد» (٢).

وقد كان من نتائج الفرق بين الصياغتين ، الخلاف الأول من الخلافين السابقين ، إذ بناء على الصياغة الأولى ، فإنّه بمجرّد أن ينتهي المتكلّم من كلامه ولم ينصب قرينة يثبت الإطلاق ، فلو جاءت القرينة المنفصلة بعد ذلك ، فإنّها لا تزاحم اصل الإطلاق ، بل تزاحم حجيته.

بينما بناء على الصياغة الثانية ، فإنّ مجيء القرينة المنفصلة يزاحم أصل الإطلاق ويرفعه.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٨٤.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٥٢٩.

٥٠٥

وهاتان الصياغتان تتفقان في عدم نصب قرينة متصلة ، وتفترقان بزيادة الثانية على الأولى ، بعدم نصب قرينة منفصلة أيضا.

وأمّا ما به الاشتراك ، ففي تفسيره ثلاث احتمالات :

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون المراد من عدم نصب المولى قرينة متصلة ، يعني ، أن لا يأتي بكلام يكون دالّا على نفي الحكم عن غير المقيّد لو خلّي ونفسه هذا الكلام ، بحيث أنّ المتكلم لو قال : «أكرم العالم» ، ثمّ أتى بكلام آخر لو خلّي هذا الكلام ونفسه وعزل عن الكلام الأول ، لدلّ على أنّ «العالم الفاسق» لا يجب إكرامه ولو بالإطلاق ، وبهذا تنهدم المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة ، لأنّ المولى نصب ما يكون دالّا في نفسه على أنّ الحكم غير ثابت لغير المقيّد.

والخلاصة : هي أن يكون المراد من عدم نصب القرينة المتصلة هو ، أن لا يأتي بكلام يكون دالّا على نفي الحكم عن غير المقيّد لو خلّي ونفسه ، فلو أتى بما يكون دالّا على ذلك لأوجب انهدام المقدمة الثانية.

وهذا مثاله : المطلقين المتعارضين بنحو العموم من وجه المتصل أحدهما بالآخر كما في قوله : «أكرم العالم ولا تكرم الفاسق» ، فإنّ تماميّة مقدمات الحكمة في «أكرم العالم» متوقفة على عدم إتيان المتكلّم بكلام يدلّ لو خلّي ونفسه على عدم وجوب إكرام العالم الفاسق.

ومن الواضح ، أنّ الخطاب الثاني وهو «لا تكرم الفاسق» يدلّ لو خلّي ونفسه على عدم وجوب إكرام الفاسق ، سواء كان عالما أو جاهلا ، إذن ، فقد ارتفعت المقدمة الثانية ، ولذا لا ينعقد إطلاق في موارد المطلقين المتعارضين بنحو العموم من وجه لا في هذا الطرف ولا في ذاك الطرف ، لأنّه لا مقتضي للظهور في الإطلاق ، لأنّ المقتضي للظهور الإطلاقي هو مقدمات الحكمة ، وهي منهدمة هنا وهناك ، لأنّها ابتليت ببيان صالح ينفي حكم الآخر عن المقيّد ، فيكون اقتران المطلق بالمطلق الآخر موجبا لسقوط مقدمات الحكمة.

٥٠٦

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون المراد من عدم نصب قرينة متصلة هو ، الإتيان بكلام دالّ بالفعل على نفي الحكم عن غير المقيد ، وحينئذ ، بناء على هذا ، لو فرض أن جاء مطلقان متعارضان بنحو العموم من وجه ، كما في مثالنا المتقدم ـ «أكرم العلماء ولا تكرم الفاسق» ـ فالمقدمة الثانية من مقدمات الحكمة محفوظة ، بناء على هذا التفسير ، لأنّ كلّا من المطلقين لا يدلّ بالفعل على نفي الحكم عن غير المقيّد في الآخر ، وعليه : فالمقتضي في كلّ منهما موجود ، وحينئذ ، يكون التعارض بين الإطلاقين ، من باب تزاحم المقتضيين ، ويصير حالهما حينئذ حال ظهورين عموميين وضعيين إذا تعارضا.

وبناء على هذا التفسير والاحتمال ، لو ورد مطلق وعام ، مثل : «أكرم العالم ، ولا تكرم أيّ فاسق» ، فهنا مقدمات الحكمة تنهدم في «أكرم العالم» ، لأنّ مقدمات الحكمة فيه متوقفة على أن لا يأتي المتكلم ببيان يكون دالّا بالفعل على عدم وجوب إكرام الفاسق من العلماء ، والمفروض أنّ العام الوضعي هنا «لا تكرم أيّ فاسق» ، دالّ بالفعل على عدم وجوب إكرام الفاسق من العلماء ، لأنّ دلالته وضعيّة تنجيزيّة ، فيكون العام الوضعي رافعا لمقدمات الحكمة في المطلق ، وحينئذ ، لا ينعقد الإطلاق اصلا ، وهذا معنى ما يقولون : من حكومة العام على المطلق ، لأنّ ظهور العام تنجيزي ، وظهور المطلق تعليقي.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يكون المراد من عدم نصب قرينة متصلة ، هو أن لا ينصب المتكلم قرينة على القيد ـ لا أنّه لا يأتي ببيان يدلّ على عدم ثبوت الحكم لغير المقيّد ـ بحيث لو كان المطلق عاما أيضا لكان هذا صالحا لتقييده ، لأنّه قرينة على القيد ، وحينئذ ، لو ورد مطلق وعام وضعي في وقت واحد ، فقد تتم مقدمات الحكمة في المطلق ولا يكون هناك حينئذ حكومة للعام عليه ، لأنّ العام ليس قرينة على القيد ، لأنّ النسبة بينه وبين المطلق العموم من وجه ، ولذا لو كان المطلق عاما لما كان في أحدهما قرينة على الآخر ، نعم ، هو وإن دلّ على نتيجة التقييد ، لكن لسانه ليس لسان التقييد ،

٥٠٧

فلو اشترط في المقدمة الثانية أن لا ينصب قرينة على القيد ، فالعام لا يصلح قرينة على المقيد ، وفي مثله تكون مقدمات الحكمة تامة في المطلق ، وينعقد الإطلاق ويقع التعارض حينئذ بين الظهور الإطلاقي والظهور العمومي.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ المرجع في معرفة الصحيح من هذه الاحتمالات إنّما هو ذلك الظهور الحالي السياقي للمتكلم ، وعليه نريد أن نعرف أنّه متى يرتفع الخلف الذي وظيفة المقدمة الثانية أن تثبته ، وذلك بإرادة المقيد حيث أنّه بذلك نحدّد القيد المناسب للمقدمة الثانية حيث أنّه لا إشكال في أنّه إذا لم يبين الخلاف بوجه من الوجوه يكون مقتضيا لثبوت الإطلاق ، وحينئذ لو أراد المقيد لكان خلفا.

وبعد هذا نقول : إنّه لو بين الخلاف بإرادة المطلق بحيث لو كان وحده لكفى ـ كما في التفسير الأول ـ فقال : «أكرم العالم ، ولا تكرم الفاسق» ، فهل يبقى الخلف لو أراد المتكلم المقيّد ، أم أنّه يرتفع؟ فإذا لم يلزم خلف من إرادة المقيّد ـ رغم بيان الخلاف بمطلق ـ يكون التفسير والاحتمال الأول لعدم نصب القرينة المتصلة هو الصحيح.

لكن الصحيح انّ الخلف باق لأنّ المفروض أنّ المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، ومن الواضح ، أنّه لم يتحصّل لنا مرامه من مجموع هذا الكلام ، لأنّ مادة الاجتماع ـ «العالم الفاسق» ـ لا نعرف أنّها داخلة في مرامه أم لا ، إذن ، فهو لم يبيّن تمام مرامه على تقدير إرادة المقيد ، إذن فعلى تقدير كون مرامه المقيّد ، يلزم الخلف ، وهذا معناه ، بطلان الاحتمال والتفسير الأول.

ولو فرض أنّ هذا المتكلم بيّن الخلاف ، بأن جاء بمطلق وعام وضعي فقال : «أكرم العالم ولا تكرم أيّ فاسق» ، فهل يبقى الخلف لو أراد المقيّد أم أنّ الخلف يرتفع؟

فإن ارتفع الخلف يثبت الاحتمال الثاني ، وإن بقي يثبت الاحتمال الثالث.

وحينئذ قد يقال : إنّ إرادة المقيّد من «أكرم العالم» لا يلزم منه الخلف ،

٥٠٨

وحينئذ يثبت الاحتمال الثاني ، وذلك لأنّ المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، ونحن حينما نأخذه بكلامه المطلق ، ونحكّم الظهور العمومي لأنّه تنجيزي ، على الظهور الإطلاقي ، نستنتج بالنهاية أنّ وجوب الإكرام ثابت لغير مادة الاجتماع ـ «العالم الفاسق» ـ وحينئذ ، نخرج مادة الاجتماع ـ المردّدة بين المطلق والعام ـ نخرجها من المطلق ، وندخلها في العام ، لأنّه تنجيزي ، وذاك تعليقي ، إذن ، فالمقيّد هو تمام مرامه ، ولا يلزم الخلف من إرادته المقيّد من كلامه ، إذن ، فوجود العام يكون كافيا في رفع الخلف وهدم مقدمات الحكمة ، وهذا معناه ، تعيين الاحتمال الثاني.

وفي قبال هذا القول ، يمكن أن يقال على سبيل الاستظهار : إنّ ظاهر حال المتكلم أنّه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، لكن ليس بأيّ وجه اتّفق ، بل على أنّ الكلام مبينا لتمام المرام على نحو يتطابق مع واقع ذاك المرام ، بمعنى أنّه إذا كانت «العدالة وعدم الفسق» قيدا في موضوع وجوب الإكرام ثبوتا ، فظاهر حاله أنّه يبيّن ذلك بلسان القيديّة ، وذلك ، لوجوب التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات ، لا أنّه يبيّن بالنتيجة.

ومن الواضح ، أنّ البيان بلسان القيديّة لا يتحقق في المقام ، لأنّ قوله : «لا تكرم الفسّاق» ، ليس لسانه لسان قيد ، نعم لو قال : «أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم» ، كان لسانه قيديا.

إذن ففي الحقيقة ، أنّ النتيجة ، أي معرفة أي الاحتمالات هو الصحيح ، تنتهي إلى هذه الحالة الاستظهارية ، فمن يستظهر ذلك الظهور الحالي ، بأن يكون ظهورا لحال كون المتكلم أنّه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه كيفما اتّفق ، إذن يكون الاحتمال الثاني هو الصحيح ، وإذا استظهر كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بكلام على طرز مرامه ، إذن ، فالاحتمال الثالث هو الصحيح.

وبما ذكرناه ، يتّضح أنّ المقدمة الثانية ـ عدم بيان ما يصلح للتقييد ـ بصيغتها المشتركة ، دخيلة في تكوين الإطلاق وتأسيس الدلالة الالتزامية

٥٠٩

بالنحو الذي تقدم ، ومنه يندفع ما قد يتوهم من أنّ المقدمة الثانية ليست دخيلة في تتميم مقتضي الإطلاق والدلالة عليه ، وإنّما هي بيان لعدم المانع بعد فرض أنّ المقتضي محفوظ للإطلاق ، إذ من الواضح أنّ بيان التقييد يمنع عن تأثير الإطلاق ، فيتوهم أنّ المقدمة الثانية ليست دخيلة في اصل تكوين المقتضي للإطلاق ، وإنّما هي من باب رفع المانع.

وقد عرفت بما أوضحناه بطلان هذا التوهم ، حيث اتّضح أنّ ثبوت الإطلاق إنّما هو باعتباره مدلولا التزاميا للظهور الحالي السياقي ـ ظهور كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ـ وهذا الظهور يدلّ بالالتزام ، وبقانون عكس النقيض على الإطلاق ، ومن الواضح أنّ الدلالة على اللازم فرع مجموع أمرين ، أولهما : إثبات الملزوم ، وثانيهما : ثبوت الملازمة ، فإذا ثبت الملزوم ، وثبتت الملازمة ، وجدت الدلالة على اللازم.

والمقدمة الأولى من مقدمات الحكمة ، مثبتة للملزوم ، لأنّ مرجعها إلى ظهور حال المتكلم في أنّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، وبهذا يثبت الملزوم.

ثم إنّه لو فرض أنّ المتكلم قد جاء بما يدلّ على التقييد ، فلا يكون أيّ ملازمة حينئذ بين هذا الملزوم وبين الإطلاق ، لأنّ إرادة المقيّد حينئذ لا تنافي هذا الظهور الحالي السياقي ، لأنّ المقيّد حينئذ هو تمام المرام وقد بيّن بالكلام.

إذن ، فكون المولى أنّه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه لا ينافي إرادة المقيّد إذا أتى بلفظ يدلّ على القيد ، وحينئذ يكون ذلك الظهور الحالي مستلزما للإطلاق إذا لم يأت بلفظ يدلّ على التقييد ، لأنّه في حال عدم الإتيان بذلك يقال : لو كان مراده المقيّد للزم الخلف ، إذن ، فعدم نصب قرينة على التقييد يحقق الملازمة ، ومن دون هذا لا ملازمة بين ذلك الظهور الحالي وبين الإطلاق.

وقد قلنا سابقا : إنّ إثبات الملازمة فرع مجموع أمرين ، والذي يتولّى

٥١٠

إثبات الأول أي الملزوم ، هو المقدمة الأولى ، ويتولّى إثبات الثاني أي الملازمة ، المقدمة الثانية.

وإن شئت قلت : إنّ الملازمة هذه ، إنّما تثبت ببركة المقدمة الثانية ، واصل الملزوم يثبته المقدمة الأولى ، هذا كله بالنسبة للصيغة المشتركة بين الميرزا (قده) ، والآخوند (قده).

وبهذا يعرف أنّ كلتا المقدمتين دخيل في تكوين الدلالة الإطلاقية.

وأمّا ما به الافتراق والامتياز بين الصياغتين ، فقد امتازت مدرسة الميرزا (قده) حيث فرض أنّ الإطلاق يتوقف على عدم نصب قرينة منفصلة أيضا مضافا إلى القرينة المتصلة ، وهذا الافتراض يتصور له صيغتان.

١ ـ الصيغة الأولى : هي أن يكون اشتراط عدم القرينة المنفصلة بنحو الشرط المتأخر ، بمعنى أنّ انعقاد الإطلاق وتكوّن الظهور من أول الأمر مشروط بأن لا ينصب المتكلم بعد ذلك قرينة على التقييد ولو بعد سنة ، بحيث لو جاءت قرينة على التقييد في أيّ وقت ، لما انعقد الإطلاق من أوّل الأمر.

٢ ـ الصيغة الثانية : هي أن يكون اشتراط عدم القرينة المنفصلة بنحو الشرط المقارن ، بمعنى أنّ الإطلاق ينعقد ما دام لا يوجد قرينة على التقييد ، فهو دائما مشروط بعدم القرينة إلى وقت انكشافها ، بمعنى أنّه عند انكشاف القرينة على التقييد يرتفع الإطلاق من حين مجيء القيد.

وكل من الصيغتين باطلة كما عرفت الوجه في ذلك سابقا ، حيث قلنا هناك : إنّ الصيغة الأولى ـ وهي كون عدم القرينة بنحو الشرط المتأخر ـ يرد عليها البطلان حلّا ونقضا.

أمّا حلّا : فلأنّه خلاف الوجدان ، فإنّ الوجدان قاض بأنّ القرينة المنفصلة على التقييد ليست شرطا متأخرا بالنسبة إلى الإطلاق ، وذلك لأنّ اشتراط عدم القرينة المنفصلة لثبوت الإطلاق ليس جزافا ، بل هذا الاشتراط ، باعتبار تكوين الدلالة الالتزامية ـ وهو لزوم الخلف وعكس النقيض ـ فإنّ

٥١١

الوجدان قاض بأنّ الظهور الإطلاقي يحدث من أوّل الأمر ، وأنّ العقلاء يبنون عليه ولا ينتظرون احتمال مجيء القرينة المنفصلة ، فلو كان اشتراط عدم القرينة المنفصلة شرطا متأخرا ، لكان مرجعه إلى أنّ ظاهر حال المتكلم ، أنّه في مقام بيان مرامه بمجموع كلامه ، مع أنّ الوجدان قاض ، بأنّ ظاهر حاله أنّه في مقام بيان مرامه بشخص كلامه كما عرفت سابقا ، لا بمجموع كلامه ، إذن فلما ذا يشترط عدم القرينة المنفصلة؟

وأمّا نقضا : فإنّه بناء على أخذ عدم القرينة المنفصلة شرطا في ثبوت الإطلاق على نحو الشرط المتأخر ، يلزم منه أنّه لو احتمل أنّه سوف تأتي القرينة المنفصلة على التقييد في المستقبل ، فضلا عمّا لو احتمل إتيانها الآن ، يلزم منه أن لا يتمسك بالإطلاق ، لأنّ الإطلاق فرع عدم القرينة المنفصلة على نحو الشرط المتأخر ، إذ ما لم يحرز الشرط المتأخر في ظرفه ، لا يحرز المشروط ، وحينئذ ، لا تجري اصالة عدم القرينة ، كما أوضحنا ذلك سابقا ، إذن فالصيغة الأولى باطلة.

وأمّا الصيغة الثانية : وهي كون اشتراط عدم القرينة المنفصلة بنحو الشرط المقارن ، بمعنى أنّ الظهور الإطلاقي يبقى مستمرا إلى حين ظهور القرينة ويرتفع عند ظهورها.

وفائدة هذه الصيغة هي علاج النقض الوارد على الصيغة الأولى ، لأنّ احتمال القرينة البعديّة بناء على هذا ، لا يوجب التوقف عن العمل بالإطلاق ، لكن هذه الصيغة غير صحيحة حلّا ونقضا.

أمّا حلّا : فلأنّها غير معقولة ، إذ لا يعقل أن يفرض أنّ الإطلاق مشروط بنحو الشرط المقارن ، لأنّ اشتراط الإطلاق بعدم مجيء القرينة المنفصلة ليس جزافا كما ذكرنا آنفا ، بل هو لأجل تتميم الدلالة الالتزامية لذلك الظهور الحالي السياقي.

وحينئذ إذا نظرنا إلى هذا الظهور الحالي السياقي ، نتصور فيه ثلاث احتمالات.

٥١٢

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون ظاهر حال المتكلم أنّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، وهذا المعنى هو الثابت وجدانا لهذا الظهور.

وبناء عليه : فمن الواضح حينئذ أنّ هذا الظهور ينعقد بمجرّد أن يسكت المتكلم ولم ينصب قرينة متصلة على التقييد وحينئذ يلزم الخلف لو أراد المقيّد ، ومجيء القرينة بعدم يوم أو سنة ، معناه ثبوت الخلف ، إذ حينئذ لا بدّ من رفع اليد عن الظهور الأول بالظهور الثاني.

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون ظاهر حال المتكلم أنّه في مقام بيان تمام مرامه بمجموع كلامه الفعلي والاستقبالي ، أي بمجموع ما يقع منه في حياته من كلام.

وبناء عليه : من الواضح حينئذ ، انّ هذا يرجع إلى الشرط المتأخر ، لأنّ معناه ، أنّه لا ينعقد إطلاق إلّا إذا لم يأت قرينة على التقييد إلى الأبد ، لأنّ الإطلاق فرع لزوم الخلف.

وحينئذ ، بناء على هذا التصور ، لو جاءت قرينة على التقييد ولو بعد زمن ، فإنّه لا يلزم الخلف بإرادة المقيد ، وقد عرفت مناقشة ذلك سابقا.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يكون ظاهر حال المتكلم ، أنّه في مقام بيان تمام مرامه بمجموع ما هو فعلا من كلامه ، وهذه الكميّة من الكلام قابلة للزيادة والنقصان ، فلو قال المولى : أحلّ الله البيع يوم الجمعة ، وفي يوم السبت لم يصدر منه شيء ، فحينئذ ، يكون كلامه الفعلي فيهما واحدا ، فلو صدر منه القيد يوم الأحد فقال : وحرّم الربا ، حينئذ ، يصبح الفعلي من كلامه مجموع كلامين ، أحدهما المطلق الأول ، والثاني كلامه الدالّ على التقييد.

وحينئذ يقال : إنّ ظاهر حال المتكلم أنّه في مقام بيان تمام مرامه ، بمجموع ما صدر منه حتّى الآن من كلام.

وهذا التصور يناسب الصيغة الثانية ، حيث أنّه في يوم الأحد ما دام أنّه لم يصدر منه قرينة على التقييد ، إذن يكون الإطلاق ثابتا ، وإن صدرت القرينة على ذلك يرتفع الإطلاق حينئذ من حين صدور القرينة.

٥١٣

ونحن إذا أردنا أن نحسب حساب ما صدر من كلامه حتى الآن ، نرى انّ هذا الاحتمال غير معقول ، إذ لا يعقل أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بمجموع ما صدر منه حتى الآن من كلام ، لأنّه إذا فرض أنّه قال يوم الجمعة : «أحلّ الله البيع» ، ثمّ لم يقل شيئا آخر يوم السبت ، ولكنه يوم الأحد قال ما يدلّ على التقييد ، حينئذ نسأل : إنّه يوم الأحد ما ذا كان مرام المتكلم ، أكان المطلق ، أم المقيّد؟ حينئذ ، إذا قال ما قال وهو في مقام بيان تمام مرامه بمجموع كلامه ، إذن ، المطلق يقول : أنا مرامه ، لأنّه لم يصدر منه قبل التصريح الأخير شيء ، وهنا ، التصريح الأخير يقول : أنا مرامه ، لأنّي قرينة على التقييد ، وحينئذ ، يلزم أن يكون لكلامه الواحد مرامان متهافتان ، وهذا غير معقول ، لأنّ الخطاب الواحد ليس له إلّا مفاد واحد.

والخلاصة هي ، أنّه لا يعقل أن يكون المتكلم في مقام البيان بمجموع الكلام الصادر منه حتى الآن ، وذلك لأنّه يلزم أن يكون له مرامان متهافتان من كلام واحد ، هما : الإطلاق قبل ورود القيد ، والمقيّد بعد ورود القيد ، وهذا تهافت ، إذن فهذه الصيغة غير معقولة.

هذا مضافا إلى أنّه يرد عليها النقض بعد فرض تعقلها ، وذلك فيما إذا احتمل أنّ القرينة صدرت فعلا ولكنها لم تصل إلينا ، فهنا نسأل : إنّه هل يريدون من القرينة المنفصلة القرينة الصادرة واقعا وإن لم تصل ، أم أنّهم يريدون خصوص القرينة الواصلة إلينا؟

وحينئذ ، بناء على الأول ، يلزم منه أنّه لو احتمل أنّ المولى قد صدر منه قيد لكنه لم يصل ، إذن فلا يمكن التمسك بالإطلاق ، لأنّ مقدمات الحكمة غير محرزة.

وبناء على الثاني ، وهو فيما لو أرادوا من كلامه ، القرينة الواصلة إلينا فقط ، فهذا واضح البطلان ، لأنّ وصول الكلام وعدمه لا دخل له في تشخيص مرام المتكلم وظهور كلامه ، وإنّما له دخل في المعذريّة والمنجزيّة ، ولهذا ، فقد يصل إلى شخص ولا يصل لآخر ، إذن ، فالصيغة الثانية أيضا باطلة نقضا وحلّا.

٥١٤

وأمّا المقدمة الثالثة من مقدمات الحكمة ، وهي أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب ، فقد اتّضح أنّه لا أساس لها ، حيث عرفت أنّه لا يشترط في الإطلاق الحكمي عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب ، بل الإطلاق ثابت حتى مع وجود قدر متيقن في مقام التخاطب.

هذا حاصل الكلام في مقدمات الحكمة ، وحاصل تطبيق ما ذكرنا في بيانها كما ورد في الكتب.

ثم إنّ المحقق النائيني (قده) ذكر أنّ مقدمات الحكمة تقلب «اللّابشرط المقسمي» إلى «اللّابشرط القسمي» ، وهو الذي نعبّر عنه بالمطلق ، فمدلول اللفظ الذي يدلّ عليه بالوضع من أول الأمر هو ، الجامع بين المطلق والمقيّد ، وهذا المسمّى «باللّابشرط المقسمي» ، وهذا هو الذي ينقلب إلى «اللّابشرط القسمي» ، وهو المسمّى «بالمطلق» بالخصوص.

وهذا التعبير بحسب الروح صحيح ، وإن اختلفنا عنه في المصطلح ، حيث أنّ الأحسن أن يقال : بأنّ مقدمات الحكمة تقلب الطبيعة المهملة إلى الطبيعة المطلقة بناء على أن يكون المراد من المطلق هنا ، ما ذكرناه من «لحاظ الماهيّة مع عدم لحاظ القيد» ، وليست لحاظ الماهية مع لحاظ عدم القيد كما فسّره السيد الخوئي (قده) حيث ذهب إلى أنّ المطلق اللّابشرط القسمي ، هو لحاظ الماهية ولحاظ عدم القيد ، إذ أنّ مقدمات الحكمة لا تبرهن على لحاظ عدم القيد كما عرفت سابقا ، بل هي تبرهن على أنّ تمام مراد المتكلم هو ما بيّنه ، أي ـ ذات الطبيعة ـ وهذا يثبت أنّ المتكلم لم يلحظ القيد ، لا أنّه لحظ عدم القيد.

وهذا منبّه برهاني على عدم صحة تفسير المطلق بما فسّره به السيد الخوئي (قده) ، لأنّ مقدمات الحكمة لا تفي بالمطلق هذا ، بل إنّ ما تفي مقدمات الحكمة بإثباته هو كون المطلق عبارة عن لحاظ الماهيّة وعدم لحاظ الزائد ، لا لحاظ عدم الزائد ، وهذا ما عبّرنا عنه ، بأنّ مقدمات الحكمة تقلب الطبيعة المهملة إلى الطبيعة المطلقة.

هذا تمام الكلام في مقدمات الحكمة.

٥١٥

تنبيهات مقدمات الحكمة

١ ـ التنبيه الأول :

هو انّه قد اتّضح ممّا ذكرناه في صياغة مقدمات الحكمة عدّة أمور كنّا قد ذكرناها سابقا ، وكنّا نحيل تحقيقها على بحث المطلق والمقيد.

أ ـ الأمر الأول : هو انّ الإطلاق الحكمي مدلول تصديقي وليس مدلولا تصوريا ، لأنّ الإطلاق الحكمي مدلول التزامي لذلك الظهور الحالي السياقي ، وهو كون المتكلم انّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، والمقصود من المرام ، هو المقصود الجدّي التصديقي له دون التصوري التخيّلي ، كما انّ البناء العقلائي قائم على انّ الإنسان إنّما يبرز تمام مراده الجدّي الواقعي في مقام التأثير والعمل ، وعليه : فالظهور الحالي السياقي ناظر إلى مرحلة المراد الجدي ، وبالدلالة الالتزامية نثبت الإطلاق في هذه المرحلة.

ب ـ الأمر الثاني : وهو أنّا كنّا ندّعي ، ونثبت الآن ، أنّ الدليل المطلق لا نظر له إلى الأفراد ، بل نظره إلى ذات الطبيعة ، وانّ ثبوت الحكم للأفراد ليس بذات الدليل ، وليس هذا الحكم مفادا له ، وإنّما يكون بالانحلال في حكم العقل ، بينما في دليل العام ، يكون النظر فيه من قبل المولى إلى الأفراد مباشرة ، لأنّ أداة العموم ناظرة إلى الأفراد نظرة إجمالية.

وهذا أيضا قد اتّضح ممّا ذكرناه ، لأنّ مقدمات الحكمة تقلب الطبيعة

٥١٦

المهملة إلى الطبيعة المطلقة ، والطبيعة المطلقة ليست إلّا لحاظ الماهيّة وعدم لحاظ القيد ، إذن فلا نظر لها إلى الأفراد ، وإنّما المستفاد في هذه المرحلة هو ثبوت الحكم للطبيعي.

ج ـ الأمر الثالث : هو انّ الإطلاق في الأدلّة المطلقة هو عبارة عن رفض القيود وليس الجمع بينها ، ومقصودنا بذلك هو ، أنّ ثبوت الحكم لواجد القيد ، ولفاقد القيد ليس بما أنّ هذا واجد للقيد ، أو بما انّ هذا فاقد للقيد ، بل ثبوته لهما بلحاظ الحقيقة المشتركة المحفوظة فيهما معا ، فلا الوجدان ، ولا الفقدان له دخل في ثبوت الحكم ، لأنّ مقتضى التطابق بين مدلول الكلام وتمام المرام ، هو ، انّ تمام المرام لا يزيد على مدلول الكلام ، ووجود القيد ليس داخلا في مدلول الكلام ، وحينئذ يخرج عن المرام ، إذن فالإطلاق هو إخراج القيد عن المرام تبعا لخروجه عن مدلول الكلام.

د ـ الأمر الرابع : هو انّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الإثباتيين ، هو تقابل العدم والملكة ، خلافا للتقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين في عالم الجعل ، فإنّ التقابل بينهما يشبه تقابل السلب والإيجاب بعناية «ما» ، وملخّصها هو ، انّ الإطلاق الحكمي الذي ينصب على الطبيعة رهين بواحدة من مقدمات الحكمة ، هي عدم نصب قرينة على التقييد ، ومن الواضح أنّ ترك نصب القرينة ، تارة يكون لعجز المتكلم وعدم قدرته لسانا عن نصبها وذكرها.

وأخرى يكون عدم ذكر القيد رغم تمام الاقتدار على ذكره إثباتا.

فإذا فرض الشق الثاني ، وهو عدم ذكر القيد رغم الاقتدار على ذكره ، فيلزم حينئذ من إرادة المقيّد الخلف لذلك الظهور الحالي السياقي ، لأنّ المتكلم في مقام بيان تمام المرام بشخص الكلام ، فلو كان مرامه المقيّد وهو قادر على ذكره ، ومع هذا لم يذكره فهو خلف ، وببرهان استحالة الخلف يثبت الإطلاق ، إذن فهو مريد للإطلاق.

وأمّا إذا فرض الشق الأول ، وهو أنّ المتكلم غير قادر على ذكر القيد

٥١٧

إثباتا تكوينا ، فحينئذ ، لا يكون إرادة المقيّد خلفا ، لأنّه قد يكون تمام مرامه المقيّد ، وهو في مقام بيان تمام المرام ، لكنه حيل ما بينه وبين ذكر القيد لعارض العجز في اللسان أو ما شابه ذلك ، فحينئذ ، لا يلزم الخلف من إرادته المقيّد ، ومعه لا يتعيّن كون المطلق مراما ، وعليه : فلا تجري مقدمات الحكمة إذن.

ومن هذا البيان يعلم أنّ الإطلاق إنّما يثبت في مورد عدم التقييد عند ما يكون التقييد ممكنا ، وهذا هو معنى كون التقابل بينهما إثباتا تقابل العدم والملكة.

وهذا غير مسألة الإطلاق والتقييد الثبوتيين في عالم التقسيمات الثانوية ، لأنّ مرجع ذلك إلى عالم الثبوت.

٢ ـ التنبيه الثاني :

هو انّه بناء على ما أشرنا إليه في التنبيه الأول ، من انّ الإطلاق من شئون المدلول التصديقي لا التصوري ، حينئذ يتّضح ، أنّ إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة لا يمكن أن يكون في الجمل الناقصة ، وذلك لأنّ الجمل الناقصة ليس لها مدلول تصديقي ، بل مدلولها تصوري.

وأمّا الجمل التامة ، فهي ذات معاني حرفية ، ومعاني اسمية ، فجملة «أكرم العالم» يوجد فيها هيئة «افعل» ، وهي معنى حرفي ، ويوجد فيها «مادة الإكرام والموضوع والمتعلق» ، وهذه معاني اسمية ، ولا إشكال في جريان مقدمات الحكمة في المعاني الاسمية وأطراف النسبة التامة.

وأمّا المعنى الحرفي في الجملة ، أي النسبة التامة ، فالتمسك بإطلاق هيئة «أكرم» وجريان مقدمات الحكمة فيها محل كلام بينهم ، كنّا قد فرغنا منه في بحث المطلق والمشروط ، حيث يقال : إنّ هيئة افعل والنسبة التامة في «أكرم» معنى حرفي ، وعليه : لا يمكن التمسك بإطلاقه. وإن كان التمسك بالإطلاق فيها وعدمه مربوط في الحقيقة بالمسالك التي يتصور فيها المعنى

٥١٨

الحرفي ، حيث أنّه على بعضها يمكن التمسك بالإطلاق ، وعلى بعضها لا يمكن.

ومن هنا قلنا هناك : إنّ بحث المعنى الحرفي له ثمرة أصولية باعتبار كونه دخيلا في تنقيح أمر مهم ، وهو قابلية المعنى الحرفي للإطلاق والتقييد.

وقد أوضحنا ذلك في محله من بحث المطلق والمشروط وبحث المعنى الحرفي.

٣ ـ التنبيه الثالث :

وهو أنّا نلاحظ أنّ الإطلاق الذي يثبت بمقدمات الحكمة ، تارة يكون شموليا كما في قوله : «أحلّ الله البيع» ، وأخرى يكون بدليا كما في قوله : «أعتق رقبة» حيث أنّ كل بيع حلال في الأول قبل ورود القيد ، بينما إطلاق المادة في الثاني بدلي وليس متعينا في رقبة خاصة ، بل قد يكون الإطلاق في حكم واحد هو بلحاظ موضوعه شموليا ، وبلحاظ متعلقه بدليا كما في قوله «أكرم العالم» ، فإنّه بلحاظ أفراد العالم يكون الحكم شموليا ، ولكن بلحاظ أقسام الإكرام لا يجب إلّا تحقيق مسمّى الإكرام دون تحقيق كل أنواعه ، كما أنّه قد يكون في مورد بلحاظ المتعلق شموليا أيضا كما في قوله : «لا تكذب» ، ومن هنا يطرح سؤال عن منشأ الشموليّة والبدليّة رغم كون الدال على الإطلاق واحد في جميع الموارد وهو ، مقدمات الحكمة ، إذن ، كيف اختلفت النتيجة فيها ، حيث أنتجت أحيانا البدليّة ، وأحيانا الشمولية؟

وقد سلكت عدّة مسالك في حلّ هذا السؤال.

١ ـ المسلك الأول : هو ما ذهب إليه السيد الخوئي (١) (قده) ، من أنّ الشمولية والبدلية لا تستفادان من مقدمات الحكمة كي يرد الإشكال المذكور آنفا ، بل مقدمات الحكمة مدلولها شيء واحد بسيط هو الإطلاق الجامع بين

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٥١٨ ـ ٥١٩.

٥١٩

الشمولية والبدلية ، أمّا كونه شموليا أو بدليا فهذا يتعين بمقدمة أخرى تضاف إلى مقدمات الحكمة ، وهذه المقدمة الإضافية هي في موارد الشمولية غيرها في موارد البدلية ، ففي موارد الشمولية يقال : إنّه بمقدمات الحكمة نثبت نفس الإطلاق ثم يدور الأمر بين كون هذا الإطلاق شموليا أو بدليا ، وبإضافة مقدمة : وهي انّ البدلي مستحيل عقلا ، تصير هذه المقدمة الحاكمة بالاستحالة قرينة عرفية على تعيين الشمولية ، إذن فاستحالة كون الإطلاق بدليا يكون قرينة عرفية على كونه شموليا ، ففي قول المولى «لا تكذب» ، مقتضى مقدمات الحكمة انّ الحكم فيه مطلق ، والمقدمة الإضافية تقول : إنّ البدلية غير معقولة ، لأنّ حمل هذا الخطاب على البدلية معناه : انّ المولى يريد الاجتناب عن كذب واحد ، ومن الواضح أنّ المكلف لا يمكنه تحقيق امتثال ذلك ، حيث أنّه لا يمكنه أن يكذب كل الكذب الموجود في الدنيا ما عدا كذبا واحدا يجتنبه للنهي ، لأنّ المولى لا يأمر باجتناب كذب واحد فقط ، لأنّ الكذب الواحد فقط حاصل قهرا عند كل إنسان ، إذن فيكون خطاب المولى هذا لغوا ، وحينئذ ، ما دام انّه تعذّر الإطلاق البدلي ، يتعيّن كون الإطلاق شموليا ، وكذلك في موارد البدلية نحتاج إلى مقدمة إضافية غير الأولى ، تثبت أنّ الشمولية مستحيلة ، واستحالة كون الإطلاق شموليا يكون حينئذ قرينة عرفية على كونه إطلاقا بدليا ، كما في قوله «صلّ» ، إذ بمقدمات الحكمة نثبت اصل الإطلاق ، والشمولية البحتة غير معقولة ، لأنّه لا يمكن لمكلف أن يأتي بكل الصلوات الممكنة ، وهذا يكون قرينة عرفية على انّ الإطلاق بدلي بحت.

وهذا المسلك غير تام ، فإنّه لم يضع يده على سرّ فذلكة المسألة ، وذلك أنّه ليس دائما إذا عيّنّا كون الإطلاق بدليا تكون الشمولية مستحيلة ، وكذا العكس ، إذ قد تتعيّن الشمولية مع انّ البدلية تكون ممكنة ، ففي قوله : «أكرم العالم» ، إذا أجرينا مقدمات الحكمة في الموضوع ، وهو «العالم» ، يكون الإطلاق فيه شموليا بحسب الفهم العرفي ، بينما في هذا المورد ، البدلية غير مستحيلة ، إذ من المعقول أن يحكم المولى بوجوب إكرام عالم واحد كما

٥٢٠