بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تنويه :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد : فهذا هو الجزء السابع من كتابنا «بحوث في علم الأصول» وقد استوعبت أجزاؤه السبعة جميع مباحث الدليل اللفظي ، ابتداء من مبحث تعريف هذا العلم ، وانتهاء بمبحث المجمل والمبين ، وبه تمّت دورة كاملة في مباحث الألفاظ ، استفدتها خلال تشرفي بحضور درس سيدي وأستاذي الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر قدّس الله سرّه الشريف.

وإني وإن كنت قد استوعبت وقتي كلّه حلقات التدريس في معهد الشهيد الأول للدراسات الإسلامية ، وأعمال المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ، وإدارة المحاكم الشرعية ، مضافا إلى أعمال الدعوة والتبليغ والعلاقات الاجتماعية الأخرى ، لكن أخيرا وفقني الله تعالى لإعادة النظر فيما كنت قد كتبته من هذه الدروس في النجف الأشرف ، لإعداده وطبعه وعرض آخر ما انتهى إليه الفكر الأصولي من خلال هذه المدرسة الأصولية اليتيمة ، والتي أقام أركانها وشيّد بنيانها هذا المعلم الرباني الشهيد الصدر.

فلا عجب أن تحتوي على جليل الأفكار والمباني العلمية الدقيقة مما

٣

يجعلها بحق تجديدا في هذا الفن ، وتطورا عظيما لمناهج هذا العلم ومضامينه.

فسلام الله عليك يا سيدي أيها المعلم العظيم ، حيث كنت علما لا تضاهى ، يهتدى بك في كل مفردات المعرفة ، كما ستبقى مدرستك الخالدة ترسم للأجيال معالم الطريق إلى الحقيقة التي جاهدت بعقلك ودمك من أجلها ، حتى استشهدت في محراب عقيدتك ورسالتك.

فسلام عليك يا سيدي : يوم جاهدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حيّا ، ونسأل المولى أن يوفقنا لاتباع نهجك ، واللحوق بقافلتك ، والاجتماع بخدمتك في مستقر رحمته مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

حسن عبد السباتر

بيروت ١٤١٥ هجرية

٤

«العام والخاص»

والبحث فيهما في فصول

٥
٦

الفصل الأول

في العام

ويبحث فيه عن جهتين :

١ ـ الجهة الأولى : في تعريف العموم وأقسامه :

وقد عرّفه صاحب الكفاية (١) (قده) بأنه عبارة عن شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه من الأفراد.

وتحقيق الحال في هذا التعريف يكون من خلال عدة نقاط.

١ ـ النقطة الأولى : هو ، انّ الشمول ، تارة يستفاد من مرحلة المدلول اللفظي للدليل كما في قوله : «أكرم كل عالم» ، حيث يستفاد من لفظ «كل» ـ بناء على وضع كلمة «كل» لغة للاستيعاب ـ. وأخرى يستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة كما في قوله : «أكرم العالم» ـ بناء على أن المفرد المعرف باللام لا يفيد العموم ، ولذلك يسمّى لفظ «العالم» هنا مطلقا لا عاما. وعليه ، لا يصح حينئذ القول بأنّ العموم هو الشمول بنحو مطلق ، لأنّه حينئذ يشمل المطلق ، إذن ، فلا بدّ من تقييده بالشمول المستفاد من اللفظ ، وعليه : فإطلاق الشمول في تعريف صاحب الكفاية (قده) ليس في محله.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٧

وبتعبير آخر يقال : إنّ الاستيعاب تارة يستفاد من مرحلة المدلول اللفظي للدليل كما في المثال المتقدم ـ بناء على وضع كلمة «كل» لغة للاستيعاب ـ. وأخرى يستفاد من مرحلة التحليل العقلي ، ونقصد بها ، مرحلة تطبيق العنوان على معنونه خارجا ، كما في قوله : «أكرم العالم» ، حيث أنّ اللفظ لا يدل وضعا ولغة على أكثر من جعل الحكم على طبيعي العالم بحسب مرحلة الجعل ، إلّا أنه بلحاظ الخارج ومرحلة المجعول يطبّق الحكم على كل مورد يتحقق فيه العالم خارجا.

والعموم هو النوع الأول من الاستيعاب لا الثاني.

٢ ـ النقطة الثانية : هي انّ الشمول والاستيعاب المدلول للفظ وضعا ، تارة يفاد بنحو المفهوم الاسمي ، كما لو قال : «أكرم كل عالم» ، وهكذا ، «جميع ، وكافة ، وعموم». وغيرها من الألفاظ الموضوعة لغة لنفس معنى الاستيعاب والشمول والعموم ، فإنّ كلّ واحدة منها تعامل معاملة الاسم ، كجعلها مبتدأ في الجملة.

وأخرى يفاد الشمول والاستيعاب بنحو المعنى الحرفي ، كما في «هيئة الجمع المحلّى باللام» ، بناء على أنّ الجمع المعرّف باللام يفيد العموم ، وحينئذ تكون اللام دالة على النسبة الاستيعابية ، كما في قوله : «أكرم العلماء».

وفي مقام تطبيق تعريف صاحب الكفاية (قده) يقال : إنّه قد استفيد استيعاب العالم لجميع أفراده بقرينة «كل» كما في المثال الأول ، وبقرينة «اللام» ، كما في المثال الثاني ، إذ انّ لفظ عالم وعلماء قد يلحظان مرآة لتمام أفرادهما ، وقد يلحظان مرآة لبعض أفرادهما.

ولفظة «كل» و «اللام» تدلان على أنه أريد منهما تمام أفرادهما التي يصلح انطباق المفهوم عليها ، فعموم عالم معناه استيعابه وشموله لجميع ما يصلح انطباقه عليه.

٨

وإن شئت قلت : إن الاستيعاب المدلول للّفظ وضعا ، تارة : يكون مفادا بنحو المعنى الاسمي كما في ، كل ، وجميع ، وكافة ، وعموم ونحوها من الألفاظ الموضوعة لغة لنفس معنى الشمول والاستيعاب والعموم وذلك بدليل أنها تعامل معاملة الاسم كجعلها مبتدأ في الكلام. وأخرى يكون هذا الشمول مفادا بنحو المعنى الحرفي ، كما هو في هيئة الجمع المحلّى باللام ، بناء على دلالتها على الشمول والاستيعاب. إذ انّها كغيرها من الهيئات والأدوات ، فقد وضعت لمعان غير مستقلة ، إلّا انّ هذا الكلام غير تام. فإن هذا التعريف يحتمل فيه أحد وجهين.

أ ـ الوجه الأول : هو أنه إذا كان الاستيعاب مفادا بنحو المعنى الاسمي ، فإنّ تعريف صاحب الكفاية للعموم لا يتم بذلك.

بل ينبغي أن يقال في تعريفه ، بأنّ العموم هو استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر ، حيث يلحظ المفهوم الواحد مرآة لتمام أفراده ، كما لو لوحظ مفهوم «العالم» فانيا في تمام أفراده بنحو الشموليّة والبدليّة ، فيكون العام دالّا وضعا على أنّ المفهوم قد لوحظ بهذا النحو.

وقد أوضحنا في مبحث الوضع ، أنّ كل مفهوم منتزع عن الطبيعة ، لا يعقل أن يرى به إلّا ذات الطبيعة ، ولا يمكن أن يرى به كثرة أفراده ، فمفهوم «عالم» لا يرى به إلّا ذات الطبيعة ، ولا يمكن جعله عنوانا للكثرة ليرى به كثرة الأفراد ، وكذا مفهوم الكثرة ، لا يمكن أن يرى به إلّا ذات الطبيعة ـ «الكثرة» ـ ، لكن إذا أضيف مفهوم الكثرة إلى مفهوم آخر ، كمفهوم «عالم» مثلا ، حينئذ ، يكون مفهوم الكثرة حاكيا عن أفراد مفهوم «العالم» ومستوعبا له.

ومن هنا ، قلنا في بحث «الوضع» ، إنّه يستحيل الوضع العام ، والموضوع له الخاص من دون استعمال مفهوم زائد على الطبيعة التي يراد وضع اللفظ بإزاء أفرادها.

ومفهوم الكثرة ، من جملة الطبائع التي ينتزع عنه مفاهيم متعددة ، كمفهوم «كل» ، و «عامة» ، و «كافة» ، و «جميع» ، وهي وإن كان حالها حال

٩

سائر المفاهيم الأخرى التي لها أفراد متعددة ، من حيث انّه لا يمكن أن يرى بها كثرات متعددة ، بل يرى بها نفس طبيعة الكثرة ، إلّا انّها بإضافتها إلى مفهوم آخر تفصيلي كمفهوم «العالم» مثلا ، فإنّها ترينا أفراد ذلك المفهوم ، فإنه بالإضافة إليها ، يستفاد كثرة ذلك المفهوم التفصيلي وأفرادها ، فإذا قيل «أكرم كل عالم» ، فهنا مفهوم «عالم» لا يرينا إلّا ذات طبيعة العالم ، ومفهوم «كل» ، يرينا طبيعة الكثرة والاستيعاب ، فإذا أضيف «كل» إلى «عالم» ، تكون حاكية عن أفراد مفهوم «العالم» ومستوعبة لها ، وحينئذ ، يكون الأصح هو : أن يقال : بأنّ العموم هو استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر ، ولا يصح ما ذكره في الكفاية ، من أنّ العموم هو ، استيعاب المفهوم لجميع أفراد نفسه أو ما يصلح انطباقه عليه.

نعم يمكن أن يقال : بأنّه لو لوحظ المفهومان كمفهوم واحد مسامحة ، أمكن انطباقه على التعريف المذكور.

ب ـ الوجه الثاني : هو أن يكون المقصود من استيعاب المفهوم لأفراد نفسه ، نسبة استيعابية في مرحلة المدلول اللفظي ، قائمة بين المفهوم وأفراده ، كما في قوله : «أكرم العلماء» ، فإنّ هذا يستدعي دوالا ثلاثة في مرحلة اللفظ هي : مادة العلماء ، الدالة على طبيعة العالم ـ وهيئة الجمع ، الدالة على الأفراد بالجملة لدلالتها على الثلاثة فصاعدا واللّام الدالة على النسبة الاستيعابية بينهما ، كما هو الحال في كل معنى اسمي كما سيأتي توضيحه عند الكلام عن الجمع المحلّى باللام ـ بناء على إفادته العموم ـ ولذلك يختص هذا الوجه من تفسير العموم ، بنحو المعنى الحرفي لا الاسمي ، فإنّه إذا كان الاستيعاب مفادا بنحو المعنى الاسمي كما في «كل ، وجميع ، وكافة» ، فإنّه يكون ذاتيا للمفهوم المستوعب ، كما في «كل عالم» ولا يحتاج إلى أكثر من دالين ، وهما «كل ، وعالم» ، وأمّا إذا كان الاستيعاب مفادا باللّام ، فلا يكون ذاتيا ، ويحتاج إلى دال ثالث وهو ، اللّام في قوله : «أكرم العلماء» ، كما ستعرف توضيحه في بحث دلالة الجمع المحلّى باللّام على العموم وعدمه.

فالصحيح هو ، أن يقال في تعريف العموم : إنّه عبارة عن استيعاب

١٠

مفهوم وضعا لأفراد مفهوم آخر ، سواء كان الاستيعاب ذاتيا للمفهوم المستوعب ـ بالكسر ـ أو بدال ثالث مثلا.

٣ ـ النقطة الثالثة : هي في أقسام العموم ، وقد قسّم إلى ثلاثة أقسام.

١ ـ القسم الأول : هو العام الاستغراقي ، وهو أن يكون حكم العام مشتملا على أحكام عديدة بعدد أفراده ، أو قل : هو ، أن يكون الحكم فيه شاملا لجميع الأفراد في عرض واحد ، فتكون موضوعيّة كل فرد للحكم ، في عرض موضوعيّة سائر الأفراد.

٢ ـ القسم الثاني : هو أن يكون العام مشتملا على أحكام عديدة ، بعدد أفراده ، لكن تكون موضوعيّة كل فرد للحكم ، ملحوظة على نحو البدليّة ، أي أنّ حكم العام ، يكون شاملا لجميع الأفراد على نحو البدل ، لا في عرض واحد.

وهذا يعني ، أنّ حكم العام فيه ، مرجعه إلى ثبوت الحكم للجامع ، كما ستعرف بيانه إن شاء الله تعالى.

٣ ـ القسم الثالث : هو أن يكون حكم العام فيه ، مشتملا على حكم واحد تعلّق بمجموع الأفراد الملحوظة ، بما هي مركّب واحد ، فيثبت حكم العام على جميع الأفراد ، وكأنها موضوع واحد مركب ، له حكم واحد.

وفي مقام تحقيق هذا التقسيم ، نستعرض ثلاث نظريات :

١ ـ النظرية الأولى : وهي لصاحب الكفاية (١) (قده) ، فإنه يدّعي فيها وحدة معنى العموم في هذه الأقسام الثلاثة ، من الاستيعاب والشمول ، وأمّا خصوصيّة الاستغراقية ، أو البدلية ، أو المجموعية فهي خارجة عن العموم بما هو عموم ، وتابعة لكيفيّة تعلق الحكم بموضوعه من كونه في عرض واحد ، أو على سبيل البدل ، أو كونه حكما واحدا وإن شئت قلت : إنّ صاحب

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٣٢.

١١

الكفاية يرى أن العام بما هو عام لا ينقسم إلى هذه الأقسام ، لأن العموم معناه الشمول والاستيعاب ، وهذا يكون على نحو واحد. وأمّا خصوصية ، الاستغراقية ، أو البدلية ، أو المجموعية ، فهي حالات لكيفية تعلق الحكم بالعام بعد فرض الاستيعاب. إذ ان الحكم ، تارة يتعلق بالأفراد على نحو يختص كل فرد بحكم في عرض ثبوت الحكم السائر الأفراد ، وهذا هو العموم الاستغراقي. وأخرى ، يتعلق بكل فرد على نحو البدلية ، وهذا هو البدلي ، وثالثة يثبت حكم واحد لجميع الأفراد بما هي مركب ، وهذا هو المجموعي. وهذه النظرية غير تامة ، لأنها اعتبرت أن هذه الخصوصيات من شئون طرو الحكم ، وفي مرحلة لاحقة له ، مع أنه لا إشكال في كون البدلية والاستغراقية ، حالتين للعموم في مرتبة سابقة على طرو الحكم. أي في مرحلة المدلول التصوري وقبل الوصول إلى الحكم ، حيث نرى بالوجدان ، الفرق بين قولنا : «جميع الأشياء» ، وقولنا : «أحد الأشياء» ، فإنّ هنا في المثالين صورتين متغايرتين ، فالاستغراقيّة في المثال الأول ، والبدليّة في الثاني ، بقطع النظر عن تعلق أيّ حكم بهما.

وأمّا الفرق بين العموم الاستغراقي ، والمجموعي ، فسوف يتضح عند مناقشة النظرية الثانية التي تشارك نظريّة صاحب الكفاية (قده) في خصوص هذا الجزء ، أي في كون المجموعيّة والبدليّة ، والاستغراقيّة ، من شئون كيفيّة تعلق الحكم.

٢ ـ النظرية الثانية : وهي للمحقق العراقي (١) (قده) ، وقد بحث فيها نقطتين ، الأولى : في بيان الفرق بين الاستغراقية والبدلية ، والثانية ، في بيان الفرق بين الاستغراقية والمجموعية.

١ ـ النقطة الأولى : فقد ذكر فيها ، انّ الفارق بين البدلية والاستغراقيّة خارج عن مدلول أداة العموم ، فهما ، ليستا من شئون الحكم ، تماما كما ذكر

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٤٦.

١٢

في الكفاية ، وإنّما هما خصوصيّتان تابعتان لكيفيّة ملاحظة مدخول أداة العموم ، حيث أنّه ، إن كان مدخولها نكرة ، تعيّن أن يكون العموم بدليا ، لأنّ التنكير ناشئ من أخذ قيد الوحدة فيه ، ومعه لا يعقل شمولها لجميع أفرادها في عرض واحد ، وإلّا كان خلف أخذ قيد الوحدة فيه.

وهكذا إذا كان مدخول أداة العموم اسم جنس دلت أداة العموم على الاستغراقية ، وتعيّن أن يكون العموم استغراقيا ، لأن مفهوم الجنس في حالة استيعابه لأفراده إنما يستوعب كل أفراده في عرض واحد.

وهذه النقطة غير تامة ، لأن العموم لا يصح أن يفترض أنّه عبارة عن استيعاب مفهوم لأفراد نفسه ليصح ما قاله ، وإنّما هو عبارة عن استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر.

أو قل : إنما هو عبارة عن استيعاب مفهوم لتمام أفراد مدخوله بنحو الشموليّة أو البدليّة ولو كان منكّرا ، فكون المدخول قد أخذ فيه قيد الوحدة أو ، لا ، لا ينافي استيعاب الأداة لتمام أفراد الآحاد بنحو الشمول أو استيعابها لها على نحو البدل ، فإنّ ما يراد كونه مستوعبا هو مفهوم ، «كل» ، نفسه لا نفس المدخول ، ليلزم المحذور ، فتقول : «كلّ واحد من العلماء» ، أو «كل عالم» ، بناء على أنّ تنوينها للتنكير ، وكذلك تقول : «أيّا من العلماء» ، رغم أنّ مدخولها ليس منكّرا.

٢ ـ النقطة الثانية : فقد ذكر فيها ان المجموعية والاستغراقية من شئون كيفية تعلق الحكم ، كما ذهب صاحب الكفاية (قده) ، فإن كان الحكم واحدا كان العام مجموعيا ، وإن كان متعددا كان العام استغراقيا ، وهذه النقطة غير تامة أيضا ، لأنه ان كان المراد من وحدة الحكم وتعدده ، وحدته وتعدده في عالم الجعل ، ففيه ان الحكم في عالم الجعل واحد حتى في العموم الاستغراقي. وإن كان المراد ، وحدته وتعدده في عالم المجعول ، ففيه حينئذ أنه لا بدّ من فرض فرق بين موضوع الحكم في العام المجموعي ، وموضوع الحكم في العام الاستغراقي في مرحلة سابقة على تعلق الحكم ، وإلّا لزم أن

١٣

يكون العموم استغراقيا دائما وذلك لأن إنشاء الوجوب على الطبيعة على وجه كلي وإن كان واحدا من حيث الجعل ، لكن من حيث المجعول ينحل إلى أحكام بعدد أفراد الطبيعة ومعه يكون استغراقيا. فلكي لا ينحل ويكون مجموعيا لا بد من إيجاد فرق وإعمال عناية في مرحلة سابقة على الحكم.

وحاصل هذه العناية ، هي أن المولى يجعل الأفراد كلها فردا واحدا بالتركيب وبهذا يصبح كل فرد جزء وتتحول الطبيعة الكلية إلى كل ثم يعلق الحكم بهذا المركب ، وحينئذ ، يكون العموم مجموعيا ، وهذا الإشكال يرد على نظرية صاحب الكفاية أيضا.

وإن شئت قلت : إن وحدة الحكم ، وتعدده الموجب لصيرورة العام مجموعيا أو استغراقيا إن أريد به وحدة الحكم ، بمعنى الجعل ، فهو واحد فيهما ، وإن أريد به وحدة المجعول فمن الواضح أن المجعول تابع في وحدته وتعدده لما جعل موضوعا له.

فإن كان موضوعه واحدا بالنوع ولكنه منحلا إلى أفراد عديدة ، فحينئذ يتعدد المجعول ، وإن كان موضوعه واحدا بالشخص ، بأن لوحظت الأفراد بشكل مركب واحد بحيث كان كل فرد جزء منه ، فحينئذ يكون المجعول واحدا لا محالة ، إذن ، فالوحدة والتعدد في الحكم ، تابع لكيفية موضوع الحكم من حيث كونه مجموع الأفراد كمركب واحد أم لا.

٣ ـ النظرية الثالثة : وهي المتعيّنة ، وهي ما نتبنّاه ، وحاصلها : انّ تقسيم العام إلى هذه الأقسام إنما هو بلحاظ نفس العام ، فإن هذه الخصوصيات ترجع إلى الاستيعاب المستبطن داخل العام ، فإن كان الاستيعاب لمجموع الأفراد في عرض واحد ، فيكون العام استغراقيا ، وإن كان الاستيعاب على نحو البدل ، فيكون العام بدليا ، وهذا في مرحلة المدلول التصوري وقبل طرو الحكم.

هذا فيما يخص التفريق بين البدلي والاستغراقي.

١٤

وأمّا فيما يعود للتفريق بين المجموعي والاستغراقي ، فكما عرفت من أن أفراد الطبيعة إذا حولت إلى مركب ثم تعلّق بها الحكم فالعموم يكون مجموعيا وإلّا فاستغراقيا كما مرّ معنا ، والخلاصة : هي أن هذه الأقسام متصورة للعام بما هو عام ثبوتا ، فالبدلية في قولك : أيّ عالم ، والشمولية في قولك : كل عالم ، مستفادتان من أداة العموم لا من مدخولها ، فإنّه واحد فيهما.

٤ ـ النقطة الرابعة : وهي في دفع توهم ، إنّ الأعداد من ألفاظ العموم ، حيث أنّه ربّما يتصور أن أسماء الأعداد كعشرة من حيث استيعابها لما تحتها من الوحدات ، تكون من أدوات العموم. وقد حاول صاحب الكفاية (١) (قده) دفع هذا التوهم ، بأن العموم هو استيعاب الأفراد ، لا الأجزاء ، والوحدات في أسماء العدد أجزاء لها لا أفراد. وبتعبير آخر يقال : إن لفظ العدد ـ كعشرة ـ تارة يلحظ بما هو مضاف إلى طبيعي الرجل كما لو قيل ـ عشرة رجال ـ فإن لفظ عشرة لا يستوعب طبيعي الرجل بما له من أفراد ، بل تأخذ مقدارا منه ، وبهذا اللحاظ لا يأتي التوهم ، لأن عدم تحقق الاستيعاب واضح ، وأخرى يلحظ بما هو مضاف إلى وحداته ، وحينئذ ، تكون العشرة مستوعبة لوحداتها بلا شك في ذلك.

وبهذا اللحاظ قد يقال : إنّ العشرة ونحوها من ألفاظ العموم ، وقد يجاب على ذلك فيقال : بأن هناك فرقا بين أداة العموم ولفظ العشرة ، حيث انّ أداة العموم تقتضي استيعاب المفهوم للأفراد ، بينما استيعاب العشرة لوحداتها استيعاب للأجزاء لا للأفراد ، حيث انّ كل وحدة جزء لها ، وليست فردا لها.

لكن هذا الجواب غير تام. لأن أداة العموم كما تصلح للاستيعاب الأفرادي ، فهي كذلك تصلح للاستيعاب الأجزائي حيث يصح أن يقال :

__________________

(١) كفاية الأصول ـ ج ١ ـ ص ٢٣٢.

١٥

تارة ، أقرأ كل كتاب ، ويقال أخرى ، اقرأ كل الكتاب كما هو واضح فالعموم كما عرفت هو الاستيعاب وهو كما يكون بلحاظ الأفراد يكون بلحاظ الأجزاء.

ولكنّ الصحيح في الجواب أن يقال : إنه بناء على ما تقدم من أن العموم هو ما دل على استيعاب أفراد مفهوم آخر ، فمن الواضح حينئذ ان أسماء العدد لا تدل على استيعاب أفراد مدخولها ، بل على استيعاب أفراد نفسها ، فالتعريف لا يكون منطبقا في المقام وأمّا بناء على عدم اعتبار ذلك في التعريف ، فإنه أيضا لا تكون أسماء الأعداد من العموم لأنها لا تدل على الاستيعاب أصلا ، بل تدل على مفهوم مركب هو العدد ، مهما كانت حقيقته ، نظير سائر المركبات التي لا يتوهم كونها من العموم في شيء. أمّا حيثية شمول كل عدد لما يحتوي عليه من الوحدات فهي حيثية واقعية في ذلك المفهوم المركب ، لا ان الاحتواء والاستيعاب مدلول للفظ كما هو الحال في أدوات العموم ، ويشهد لذلك ، دخول أدوات العموم عليها كما تدخل على سائر الطبائع ، فيصح أن تقول : أكرم كل عشرة من العلماء ، دفعة واحدة ، كما تقول : أكرم كل رجل ، وأكرم كل العشرة ، واقرأ كل السورة.

والخلاصة هي أنّ الصحيح أن يقال : إنه بناء على ما سلكناه في تعريف العموم ، يكون دفع التوهم واضحا ، لأنه في الأعداد لا يوجد مفهومان ، أحدهما مستوعب ، والآخر مستوعب ليشمله التعريف. وأمّا بناء على مسلك صاحب الكفاية (قده) في تعريف العموم ، فإن دفع التوهم أيضا واضح ، لأن الاستيعاب الذي يكون عموما ، هو الذي يكون ثابتا في مرحلة المدلول اللفظي للكلام إمّا بنحو المعنى الاسمي ، وإمّا بنحو المعنى الحرفي كما عرفت سابقا.

وحينئذ يقال : إنّ عدد عشرة ، وإن كان مستوعبا لوحداته ، إلّا أن هذا الاستيعاب حكم واقعي للعشرة وليس مدلولا للفظ عشرة.

وعليه : فلا ينطبق تعريف العموم عليه حينئذ.

٥ ـ النقطة الخامسة : هي انّ العموم والاستيعاب ، تارة يكون بلحاظ

١٦

الأجزاء ، وأخرى يكون بلحاظ الأفراد فهي موضوعة في المقامين لمعنى واحد هو واقع الاستيعاب ولكن الطبع الأولي لأداة العموم المسمّاة ، كل ، هو الاستغراق الأجزائي ، لأن كل ، تدل على استغراق تمام الطبيعة المدخولة لها. وبما أن أجزاء الطبيعة ألصق بها من أفرادها ، لأن وجدانها لأجزائها أمر ذاتي ، بينما وجدانها لأفرادها أمر يحتاج إلى نظر ، حينئذ يكون مقتضى الطبع الأولي لها كون الاستغراق فيها أجزائيا ، وحينئذ ، فصرفه إلى الاستغراق الأفرادي يحتاج إلى قرينة ، ويؤيد ذلك ، إن ما يقابل لفظ كل ، هو لفظ بعض ، وبعض لفظة واضحة في التجزئة ، فتكون دالة إذن على الاستغراق الأجزائي ، لكن هناك ظاهرة ملحوظة في موارد استعمال ، كل ، وهي انه إذا كان مدخولها معرفا أفادت الاستيعاب الأجزائي ، كما في قوله : اقرأ كل الكتاب ، أو كل السورة ، وأمّا إذا كان مدخولها نكرة ، أفادت الاستيعاب الأفرادي كما في قوله : اقرأ كل كتاب ، وهذا الظهور لا إشكال فيه ، وإنما الكلام في تخريجه وتفسيره.

وقد ذكر المحقق العراقي (١) (قده) تفسيرا عرفيا لذلك الظاهرة.

وحاصلها هو : إنّ الأصل في «اللّام» ، أن تكون عهديّة ، والعهديّة مساوقة للتعيّن والتخصّص ، بحيث إذا قيل ، «اقرأ كل الكتاب» ، يتبادر إلى الذهن ، الكتاب المعهود ، وهذا ينافي الاستغراق الأفرادي ، فيتعيّن أن يحمله الذهن على الاستيعاب والاستغراق الأجزائي ، وأمّا إذا لم توجد «اللّام» كما في قوله : «اقرأ كل كتاب» ، فلا مانع من توجه الاستغراق إلى الأفراد.

والظاهر من كلام المحقق العراقي (قده) هنا ، كأنّه فرض أن استيعاب الأفراد هو الأصل في لفظة «كل» ، وإنّما يصرف إلى استيعاب الأجزاء ، بواسطة دخول «اللام».

وما ذكره المحقق العراقي (قده) غير تام : لأنّه إن قصد بالعهديّة ،

__________________

(١) مقالات الأصول ـ العراقي ـ ج ١ ـ ص ١٤٦ ـ ١٤٧.

١٧

المعنى المساوق ، «للام العهد» ، كما هو ظاهر كلامه ، فحينئذ ظاهرة تحوّل الاستيعاب من الأفرادي إلى الأجزائي لا تنحصر بوجود اللّام بل إذا كان المدخول معرفا ولو بالإضافة فإن الاستيعاب يتحول فيه إلى الأجزائي كما في قوله : اقرأ كل كتاب زيد ، إذن عهدية اللام ليست التفسير الصحيح لتخريج المطلب ، وإن قصد بالعهدية معنى يساوق التعيين المحفوظ في جميع موارد المعرفة ، فهو غير تام أيضا ، لأن التعيين بهذا المعنى لا ينافي الاستيعاب الأفرادي ، فإن العهدية بما أنها ترجع إلى الإشارة لفرد مخصوص يكون التعريف بلام العهد منافيا للاستغراق الأفرادي ، وأمّا غيره فلا.

وإن شئت قلت : إن الملحوظ هو استيعاب الأفراد دائما في موارد دخول كل على المنكر ، مع أن المانع لو كان هو اللام كان اللازم وقوع كلا الاستيعابين فيه ، هذا أولا : وثانيا : هو أنه إن كان المراد من التعيين هو مطلق التعيين المساوق مع التعريف فمن الواضح أنه لا ينافي مع التعدد الأفرادي كما هو الحال في المعرف بلام الجنس ، وإن كان المراد التعيين العهدي خاصة ، فاستفادة الاستيعاب الأجزائي ليست مختصة به ، بل هو جار في كل موارد المعرفة كما في قوله : اقرأ كل كتاب زيد.

والصحيح في تخريج هذه الظاهرة هو أن يقال : إنك وقد عرفت أن مقتضى الأصل الأولي هو توجه الاستيعاب نحو الأجزاء المدخولة لكل. لأن المفهوم المدخول لكل سواء كان مفردا أو جمعا تكون دلالته على أجزائه ثابتة بمقتضى إطلاقه الأولي ، وهكذا في الحالات التي يكون مدخول كل معرفة ، يكون الاستيعاب للأجزاء على القاعدة. وإنما الذي يحتاج إلى تخريج هو كونه أفراديا إذا كان مدخولها نكرة.

وتخريجه هو أن يقال : إنه لو حذفنا أداة العموم ، وقلنا : اقرأ سورة ، فحينئذ يستفاد الإطلاق البدلي ، وهذا الإطلاق قرينة على ملاحظة الأفراد ، لأن المطلوب في المقام ، أي فرد من أفراد السورة. وإذا دخلت أداة العموم وقلنا : أقرأ كل سورة ، تكون دالة على استيعاب الأفراد باعتبار وجود قرينة

١٨

على أن الأفراد ملحوظة. ومن هنا نرى أن استيعاب الأفراد ملازم لهذه النكتة ، وهي انه لو لا أداة العموم لكان الإطلاق بدليا ، وأداة العموم كما تصلح للاستيعاب الأجزائي. كذلك هي تصلح للاستيعاب الأفرادي. ومن هذا يعرف أن دخول كل على الجمع أو ما هو بحكمه ، كما في اسم الجمع يمكن أن يكون العموم فيه باعتبار استيعابه لتمام أجزاء المدخول. بحيث تكون مراتب الجمع أجزاء فيه ، ويمكن أن يكون باعتبار استيعابه لتمام أفراد المدخول ، ولكن لا يبعد أن يكون الأول هو الأظهر فيه كما هو الحال فيما إذا دخل على اسم العدد المعرف ، من قبيل كل العشرة.

ودعوى ان هذا ينافي صحة استثناء أحد الأفراد كما في قوله. قرأت كل الكتب أو الكتب العشرة إلّا هذا الكتاب ، وعدم صحة أن يقال : إلّا هذا الجزء من الكتاب ، ممّا يعني أن الاستيعاب أفرادي لا أجزائي. هذه الدعوى مدفوعة ، بأن يقال : بأن أجزاء العشرة أو الجمع بما هو جمع إنما هو مراتبه لا أجزاء آحاده ، والمفروض ان المدخول هو الجمع بما هو جمع. نعم لو دخل كل على المثنى كما في قولك : قرأت كل الكتابين أو كل هذين الاثنين ، كان ظاهرا في استيعاب أجزاء كل منهما لعدم مناسبة الاثنين مع التكثر والاستيعاب. فيكون هذا بنفسه قرينة على النظر إلى أجزاء كل منها.

٢ ـ الجهة الثانية : في أدوات العموم :

والبحث فيها يقع في مقامين :

١ ـ المقام الأول : في أسماء العموم.

٢ ـ المقام الثاني : في سنخ العموم الذي تدل عليه.

وأمّا المقام الأول : فإن أول أدوات العموم لفظة «كل» وهي ممّا لا ينبغي الإشكال في دلالتها على العموم ، خلافا لشك بعض (١) قدماء الأصوليين.

__________________

(١) لاحظ ـ زبدة الأصول ص ٩٠ ـ ٩١ ـ المنخول ـ للغزالي ـ ص ١٣٨ ـ ١٤٥ ـ الرسالة ـ ٥٢ ـ ٥٣ ـ السرخسي ـ ج ١ ـ ص ١٢٥ ـ التبصرة ص ١٤٠ ـ الإحكام للآمدي ص ١٨٥ اللمع ج ١ ص ٣٣٥

١٩

وإنّما الكلام في تخريج هذه الدلالة لغويا ، حيث قيل : بأنّ دلالتها على العموم منوطة بإجراء مقدمات الحكمة في مدخولها.

وقد قيل بعدم احتياجها إلى ذلك.

وقد ذكر صاحب الكفاية (قده) مسلكين معقولين في إفادة «كل» لعموم مدخولها.

١ ـ المسلك الأول : هو أنها موضوعة لاستيعاب تمام ما يصلح انطباق المفهوم عليه.

وهذا المسلك يستلزم أن لا تكون في دلالتها على العموم محتاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة في مدخولها ، بل هي بنفسها تثبت الاستيعاب لتمام أفراد الطبيعة ، لأنها حينئذ تكون موضوعة لإفادة ذلك.

٢ ـ المسلك الثاني : هو أنها موضوعة لاستيعاب أفراد ما يراد من مدخولها.

وهذا المسلك ، يستلزم توقف دلالتها على الاستيعاب ، على إجراء مقدمات الحكمة في مدخولها مسبقا ، لأنّ مقدمات الحكمة حينئذ ، هي التي تعيّن المراد من المدخول ، وليس كل هي التي تحدّد المراد من المدخول ، وإنّما وظيفة «كل» حينئذ ، هي استيعاب أفراد ما أريد.

فهنا مسلكان ، ولكل واحد منهما قائل به.

١ ـ المسلك الأول : هو ، إنّ دلالة كل على العموم ، يتوقف على إجراء مقدمات الحكمة في مدخولها.

وقد اختار هذا القول جملة من العلماء منهم الميرزا (١) (قده).

__________________

المعتمد للبصري ج ١ ـ ص ١٨٩ ـ ١٩٢ ـ هداية المسترشدين ص ٢٠٨ قوانين الأصول ص ١٩٧ ـ الأحكام ـ للشافعي ـ الشريف المرتضى ـ المعالم ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ٢ ـ ص ٤٤١.

٢٠