بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وحينئذ ، لا بدّ للمولى أن يعالج هذا الانقسام ، فيعالجه إمّا بالإطلاق ، وإمّا بالتقييد ، لأنّ الإجمال غير معقول ، وحينئذ ، فإن عالجه بالتقييد ، فقيّد المرأة بالاتّصاف بعدم القرشية ، فإنه حينئذ يثبت المطلوب ، وهو أنّ المأخوذ في الموضوع هو العدم النعتي ، ولا يعقل بعد ذلك ، حينما يأتي إلى المرتبة الثانية ـ وهي الانقسام بلحاظ المقارنات التي يدخل العدم المحمولي ضمنها ـ أن يأخذ العدم المحمولي في الموضوع ، بل هو لغو صرف ، لأنّ العدم المحمولي مستبطن في العدم النعتي ، ـ فإنّ العدم النعتي عدم محمولي وزيادة ـ إذن فينحصر الأمر بالعدم النعتي ، وهو المطلوب.

وإن فرض انّ المولى يريد أن يعالج الانقسام الأولي بالإطلاق بالنسبة للقرشية وعدمها ، وإنّ الحكم ثابت لها بكلتا حصتيها ، القرشيّة وعدم القرشية ، فحينئذ ، يستحيل عليه في المرتبة الثانية أن يأخذ العدم المحمولي ، لأنّه يلزم التهافت ، ما بين أخذه للمحمولي في المرتبة الثانية ، وإطلاقه في المرتبة الأولى ، إذ يرجع محصل هذا وذاك ، إلى قولنا : إنّ الحكم ثابت على المرأة ، سواء كانت موصوفة بالقرشية ، أو موصوفة بعدمها ، إذا لم يكن هناك امرأة متصفة بالقرشية ، وهذا تهافت ، لأنه رجع إلى العدم المحمولي.

وبهذا يتبرهن ، على أنّ أخذ العدم المحمولي غير معقول ، بل إمّا أن يؤخذ العدم النعتي ، وإمّا أن يكون الحكم مطلقا.

وهذا البرهان قد أقامه الميرزا (قده) على أصل موضوعي كما عرفت ، وهو ، أن يكون علاج مشكلة الإطلاق والتقييد بلحاظ المرتبة الأولى من الانقسام ، أسبق رتبة من علاجه بلحاظ المرتبة الثانية من الانقسام.

وهذا الأصل الموضوعي طرح في تقريرات (١) الميرزا (قده) كأنّه مسلّم من دون برهنة عليه ، وكذلك ، فقد ادّعى بداهته في رسالته التي كتبها هو في حكم اللباس المشكوك ، حيث قال : انّ هذا المطلب من لوازم استحالة الإهمال في لبّ الواقع.

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٦١

ولأنّ الميرزا (قده) لم يستدل ويبرهن على هذا الأصل ، كان من السهل نقضه ، ومن هنا نقضه تلميذه السيد الخوئي (قده) (١). فقال : بأنّ من قال بأنّ علاج مشكلة الإطلاق والتقييد بلحاظ المرتبة الأولى ، أسبق مرتبة من علاجها بلحاظ المرتبة الثانية من الانقسامات ، فهذا مجرد دعوى بلا برهان عليها ، بل القول بأنّ انقسام المرأة إلى امرأة موصوفة بعدم القرشية وما يقابلها ، وانقسامها إلى امرأة أخذ فيها العدم المحمولي وما يقابلها ، انقسامان عرضيان.

ومن الواضح ، انّ المرأة متى ما وجدت خارجا ، فالعدم المحمولي ، والعدم النعتي متلازمان بالنسبة إليها ما دامت موجودة في الخارج ، حينئذ ، فالمولى بالاختيار ، إن شاء ، أخذ المحمولي في الموضوع ، بعد فرض وجود المرأة ، وأغناه ذلك عن العدم النعتي ، وإن شاء ، أخذ العدم النعتي فيه وأغناه عن العدم المحمولي ، شأن كل أمرين متلازمين أراد المولى تقييد مراده بأحدهما.

وهذا الجواب مرجعه إلى إنكار الأصل الموضوعي لأنّه لم يبرهن عليه.

ولكن نحن سوف نحاول أن نبرهن عليه ، وبعد ذلك ، نناقش هذا البيان.

ولعلّ ما سوف نذكره من البرهان هو ما أشار إليه الميرزا (قده) في كلامه المختصر المذكور آنفا.

وهذا البرهان يتكوّن من عدة نقاط.

١ ـ النقطة الأولى : هي أنّ العدم النعتي ، والعدم المحمولي ، يمكن أخذ كل منهما في الحكم الشرعي ، لكن مركز أخذ المحمولي غير مركز

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٦٢

النعتي ، إذ مركز أخذ المحمولي هو نفس الحكم لا موضوعه ، بينما مركز أخذ العدم النعتي إذا أخذ فإنّ ما يقيّده به هو موضوع الحكم لا نفسه ، فمن هذه الناحية هما متعاكسان.

وتوضيح ذلك هو : إنّ موضوع الحكم عندنا هو «المرأة» ، وحينئذ ، فتارة ، نريد أن نجعل هذا الحكم منوطا ـ زائدا على المرأة ـ بالعدم المحمولي ، وحينئذ ، هذا العدم المحمولي نأخذه قيدا في نفس الحكم ، أي شرطا فيه ، كما يقول الميرزا (قده) ، لا قيدا لموضوعه ، لأنّ أخذه قيدا لموضوعه لا يخلو من أحد معنيين.

فإنه إمّا أن يؤخذ قيدا بنحو النعتيّة ، وهذا خلف كونه عدما محموليا.

وإمّا أن يؤخذ ، لكن لا قيدا ، بل من قبيل أخذ جوهرين بنحو التركب ، ولكن يؤخذ قيد المقارنة ، وهذا خلف أيضا ، لأنه من البداية استبعدنا أخذ مفهوم المقارنة ، وإلّا لا نسدّ باب الاستصحاب حتى لو كان العدم محموليا ، إذن فالعدم المحمولي لا يعقل أخذه قيدا للموضوع ـ أي المرأة ـ وإنّما يؤخذ قيدا لنفس الحكم ، فيقال : مثلا : «إذا لم تكن المرأة قرشية ، إذن فالمرأة ممّن يحيض إلى الخمسين» ، فيكون العدم المحمولي قيدا لنفس الحكم.

وأمّا إذا أخذنا بالعدم نعتيا ، فالأمر بالعكس ، فإنّ الاتّصاف بعدم القرشيّة ، لا يعقل أخذه قيدا في نفس الحكم ، لأنّ العدم النعتي ليس من صفات الحكم ، وإنّما المرأة ، هي التي توصف بذلك ، وحينئذ ، فيجب أخذ العدم النعتي ـ إذا أخذ ـ في موضوع الحكم ، وهو المرأة ، لا الحكم.

٢ ـ النقطة الثانية : هي انّ كلّ قيد أخذ في الموضوع ، فهو قيد في الحكم ، ولا عكس ، لأنّ تقييد الموضوع يسري بالواسطة إلى الحكم دون العكس.

٣ ـ النقطة الثالثة : هي أن يقال : إنه إذا أخذ العدم النعتي في الحكم ، فحينئذ ، لا إهمال ، لا في الموضوع ، ولا في الحكم ، وذلك لأنّ أخذ العدم

٢٦٣

النعتي ، معناه ، أخذه في مرتبة الموضوع كما في النقطة الأولى ، وأخذه في الموضوع يسري إلى الحكم كما في النقطة الثانية ، إذن فكل من الموضوع والحكم يصبح مقيدا ، ولا إهمال فيهما ، وبهذا يتم غرض المولى ، وهو انّ جعل الحكم على موضوع أخذ فيه العدم النعتي لا إهمال فيه.

ومع أخذ العدم النعتي لا يعقل بعد أخذ العدم المحمولي.

وأمّا لو أراد المولى أخذ العدم المحمولي ، فلا بدّ من أخذه في الحكم حينئذ ، وقد عرفت انّ ما أخذ في الحكم قيدا لا يسري إلى الموضوع ، إذن فالإهمال في مرتبة الحكم ارتفع ، لكن في مرتبة الموضوع ، إمّا أن يكون مقيدا وإمّا أن يكون مطلقا ، وإمّا أن يكون مهملا ، فإن كان مقيدا ، فيجب تقييده بالعدم النعتي ، وهذا رجوع إلى الفرض الأول ، وإن كان مهملا ، فهو مستحيل كما هو عند الميرزا (قده) ، حيث انّه عنده لا يخرج عن الإطلاق والتقييد ، وإن كان مطلقا ، لزم التهافت ، لأنّ معناه ، انّ المرأة سواء كانت متصفة بالقرشية ، أو بعدمها ، يثبت لها الحكم مع عدم القرشيّة ، ومن هنا قال الميرزا (قده) عن أصله الموضوعي ، انّ هذا من نتائج استحالة الإهمال في لب الواقع. ولعلّ قوله هذا ، إشارة إلى هذا البرهان.

إذن ، فأصل فرضيّة أخذ العدم المحمولي في الموضوع باطلة ، ولعلّ هذا البرهان هو ما لخّصه في عبارته السابقة.

وجواب هذا البرهان هو : إنّا نختار الشق الثالث ، وهو انّ العدم المحمولي يؤخذ في الحكم ، والموضوع ولا يكون الموضوع مقيدا أو مهملا ، بل مطلقا ، ولا يلزم منه التهافت ، وذلك لأنّ الإطلاق في الموضوع لو كان بمعنى الجمع بين الأفراد والقيود ، كما في العموم ، وهو المعبّر عنه «بسواء» «أي سواء كانت قرشيّة أو لا» ، فإنه حينئذ يلزم منه التهافت ، إذ لا معنى لإسراء الحكم إلى كلتا الحصتين ثم تقييده بإحدى الحصتين ، وإذا كان الإطلاق بمعنى فعليّة إسراء الحكم إلى تمام الحصص ، فإنه يلزم التهافت

٢٦٤

أيضا ، وذلك لأنّ إطلاق الموضوع سوف يكون في المرتبة المتقدمة منافيا مع تقييد الحكم بالعدم المحمولي في المرتبة المتأخرة ، لأنّ ذلك يعني إسراؤه لكل الحصص ، وهذا خلف تقييده ببعضها.

ولكن الصحيح هو ، إنّ معنى الإطلاق هو ، رفض القيود وإلغاء الخصوصيّات ، وقصر النظر على ذات الطبيعة ، وأمّا سريان الحكم إلى تمام الأفراد إنّما هو بحكم العقل ، لأنّ العقل لا يرى مانعا من انطباق الحكم على تمام الأفراد ، لا أن الإطلاق بنفسه عبارة عن لحاظ سريان الحكم ، أو الجمع بين الحصص ، وحينئذ ، بناء على أنّ الإطلاق هو رفض القيود ، فلا منافاة بين كون الموضوع في المرتبة السابقة ملحوظا مقصور النظر على ذات الطبيعة ، وبين كونه في المرتبة الثانية ملحوظا فيه أخذ العدم المحمولي قيدا في الموضوع ، ولا يلزم التهافت في نظر المولى ، لأنّ المفروض انّ الإطلاق ليس معناه ، انّ المولى يتصدّى لإسراء الحكم إلى تمام الحصص بنظره الإطلاقي ، فحينئذ لا تهافت بين نظر المولى في هذه الناحية وبين التقييد.

كما انه لا تهافت في مرحلة حكم العقل ، لأنّ الإطلاق في الموضوع غير مانع عن السريان في نظر العقل ، وهذا لا ينافي وجود مانع آخر عن سريان الحكم ، كما في التقييد في مرحلة الحكم ، إذن ، فالعقل لا يرى مانعا عن السريان في مرتبة الموضوع ، وإن كان يوجد مانع في مرتبة الحكم ولا تهافت.

وعليه : فالبرهان غير تام ، إذن فمدّعى الميرزا (قده) ، غير تام.

وعليه : فكما يمكن أخذ العدم النعتي ، يمكن أخذ العدم المحمولي ، إذن في هذا المقام لا تعيّن لأحدهما دون الآخر في مقام الثبوت.

٢ ـ المقام الثاني : وهو مقام الإثبات ، فقد ذكر الميرزا (قده) ، انّه لو تنزلنا عن مدّعانا الثبوتي ، وهو استحالة أخذ العدم المحمولي في موضوع الحكم ، وفرضنا إمكان الوجهين معا ، حينئذ ، غاية الأمر انه يصبح الدليل مجملا في هذه الناحية ، حيث لا يعلم ان العدم المأخوذ في موضوع العام بعد

٢٦٥

التخصيص ، هل هو العدم المحمولي ، أم العدم النعتي ، ومجرد الشك في ذلك يكفي لتعذر جريان الاستصحاب ، لأن جريانه في العدم المحمولي ، الذي هو العدم الأزلي ، فرع إحراز أخذه في موضوع الحكم الشرعي ، وأنّ ما أخذ فيه هو موضوع الحكم الشرعي ، ومع احتمال أن لا يكون هو الموضوع ، وانّ الموضوع هو العدم النعتي ، فإنّ الاستصحاب لا يجري ، إذ لا يقين سابقا حينئذ ، إذن لا بدّ من بحث انه في مقام الإثبات ، هل هناك ما يعيّن أخذ العدم المحمولي فيه في مقابل العدم النعتي ، ليجري الاستصحاب ، أم انّه ليس هناك ما يعيّنه.

وهنا يمكن تقريب تعيين العدم المحمولي بعدة وجوه.

١ ـ الوجه الأول : هو أن يقال صغرويا : بأنّ المقام هو من موارد دوران المخصّص بين الأقل والأكثر ، لأنّ النسبة بين العدمين هي ، نسبة الأقل والأكثر ، حيث انّ العدم النعتي هو عدم محمولي مع زيادة النعتية.

ويقال كبرويا ، بأنّه كلّما دار أمر المخصص بين الأقل والأكثر ، فالأقل هو القدر المتيقن ، والزائد ينفى بالتمسك بالعام ، وينتج من ضم الصغرى إلى الكبرى ، إن العدم المحمولي هو المتعيّن ، وخصوصيّة النعتيّة شك في التخصيص الزائد ، فيرجع في نفيها إلى العام كما تقدم.

وتحقيق الحال في ذلك هو ، أمّا بالنسبة للصغرى ، فإنّ المراد بالأقل والأكثر هنا ، الأقل والأكثر المفهومي لا الصدقي ، لأنهما بحسب الصدق بعد فرض وجود الموضوع ، فإنّ كلّا من العدم المحمولي والعدم النعتي متلازمان خارجا ، وليس أحدهما أوسع صدقا من الآخر ، إذن ، فالأقل والأكثر هنا ، ملحوظان على أساس المفهوم.

وحينئذ نقول : إنّ العدم النعتي ، تارة نرجعه إلى أمر وجودي مقابل ـ على ما تقدم في بحث تصوير العدم النعتي ـ كإرجاع الاتصاف بعدم القرشية إلى التولد من غير قريش. وأخرى نتحفظ على كونه عدميا ، غايته إنّا نتصور له ثوبا نعتيا.

٢٦٦

فإن بني على الأول ، فمن الواضح أنهما مفهومان متباينان ، وليسا من قبيل الأقل والأكثر ، لأنّ مرجع العدم النعتي إلى التولد من غير قريش ، ومرجع العدم المحمولي إلى عدم التولد من قريش ، وهذان متباينان ، إذ انّ أحدهما عبارة عن وجود أحد الضدين ، والآخر عدم الضد الآخر ، فهما متغايران ومتباينان مفهوما.

وأمّا إذا بنينا على الثاني ، وفرضنا انّ العدم النعتي مبنيا عليه ، أي تحفظنا على كونه عدميا حقيقة ، وتصورنا للعدم نعتية ، حينئذ ، يمكن القول : بأنّ النسبة بين مفهوميهما هي نسبة الأقل والأكثر ، أي انّ العدم المحمولي هو الأقل ، وإنّ العدم النعتي هو الأكثر.

وقد يدّعى في قبال ذلك ، إنّهما متباينان ، بدعوى ، انّ النعتية والمحمولية حدّان من حدود كيفية لحاظ العدم ، فإنّ العدم ، تارة يلحظ بما هو بذاته وحياله ، وأخرى يلحظ بما هو صفة وتابع لمحله وموصوفه ، وهذان حدّان متباينان وليسا أقل وأكثر.

إلّا أنّ هذه الدعوى غير منتجة في المقام ، لأنّ التباين في الحقيقة هنا ، ليس بين الملحوظين ، بل هو بين اللحاظين ، من قبيل التباين بين المطلق والمقيد ، بمعنى أنّ ذات الملحوظ في العدم المحمولي بنفسه محفوظ في الملحوظ في العدم النعتي مع زيادة في الثاني ، وهو خصوصيّة الربط القائم بين العدم ومحله.

نعم لو التفتنا إلى اللحاظين فهما متباينان من حيث الحدود ، لأنّ أحدهما وقف على العدم ، والآخر سرى إلى الذات بنحو النعتيّة ، فذات الملحوظين من قبيل الأقل والأكثر ، والميزان في التحصيص هو ذات الملحوظ ، لا اللحاظ بما هو لحاظ.

إذن ، فبناء على أنّ العدم النعتي هو عدم حقيقة ، فالنسبة بينه وبين العدم المحمولي في التحصيص ، نسبة الأقل والأكثر ، وحينئذ ، بناء على هذا البناء فقط تتم الصغرى.

٢٦٧

وأمّا الكلام في الكبرى ، وهو الاقتصار على الأقل ، فقد اتضح ممّا تقدم ، انّ هذا تام في المخصّص المنفصل دون المخصص المتصل ، إذ انّه في المنفصل إذا دار أمره بين الأقل والأكثر المفهومي ، يتمسك في الزائد بالعام ، وأمّا إذا كان متصلا ودار أمره بين الأقل والأكثر ، فلا يتمسك في الزائد بالعام.

وقد يقال : بأنّ هذه الكبرى منوطة بأن يكون المخصص منفصلا ، فإن كان الدليل الذي يخرج المرأة القرشية منفصلا يتم هذا التقريب ، وأمّا إذا كان متصلا فلا يتم ، لأنّ المتصل يوجب إجمال العام.

وفي مقابل ذلك ، دعويان :

١ ـ الدعوى الأولى : هي أن يقال : بأنّ هذه الكبرى باطلة على كلا التقديرين ، سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا ، وذلك : لما ذكرناه من أنّ الدوران بين الأقل والأكثر دوران مفهومي لا صدقي ، والتمسك بالعام إنّما هو فيما إذا دار أمر المخصص بين الأقل والأكثر الصدقيّين ، لأنه حينئذ ، يرجع الأكثر إلى إخراج فرد زائد من تحت العام وهو بلا موجب ، فيتمسك بالعام لنفي خروجه بالمخصص.

وأمّا بناء على ما هو محل الكلام ، من أنّ الدوران مفهومي ، حينئذ ، فالعدم النعتي ، والعدم المحمولي ، من حيث الصدق متساويان مصداقا وخارجا ، فلا يلزم من الحمل على النعتية إخراج فرد لم يكن خارجا لو لا الحمل على النعتية ، بل من يخرج على كلا التقديرين ، وكذا من يبقى ، وذلك للتلازم بين المفهومين.

وعليه : فلا محذور في الأكثر ، لأنه لا يلزم منه تحصيص زائد.

وجواب ذلك هو : انه صحيح ، إن التحصيص الزائد وإن لم يلزم بلحاظ الأفراد ، لكن يلزم التقييد الزائد للحاظ الخصوصية التي بها يزيد العدم النعتي على العدم المحمولي ، فلو فرض أنّ هذه الخصوصية الزائدة كان

٢٦٨

لوجودها أو نفيها أثر شرعي ، وهو جريان الاستصحاب في موارد السعة والشك ، فحينئذ ، يقال : بأنّا نتمسك بالإطلاق لنفي هذه الخصوصية ، تمهيدا لإجراء الاستصحاب ورفع الشك في موارد الشك.

٢ ـ الدعوى الثانية : هي أن يقال : إنّ هذه الكبرى تامة على كلا التقديرين ، أي حتى لو كان المخصص متصلا ، وذلك لأنّ ما قلناه سابقا من أنّ المخصص المجمل مفهوما المردد بين الأقل والأكثر ، إذا كان متصلا بالعام ، انه يوجب إجمال العام ، هذا صحيح ، ولكن المورد ليس من مصاديقه ، لأنه في محل الكلام ، لا يوجد إجمال في المخصص ، فإنّ المخصص المفروض كونه متصلا ، وهو أداة الاستثناء ، «إلّا القرشية» ونحوه ، فهذه العبارة ، مدلولها العرفي واضح ، إذ لا تعطي أكثر من العدم المحمولي وليست مجملة مفهوما ، بل هي استثناء يدل على أخذ نقيض المستثنى ، غاية الأمر انّا نحتمل وجود تحصيص آخر يوجب أخذ النعتية مضافا إلى العدم ، وهذا شك بدوي في التخصيص الزائد ، لأنّ المخصص يدور أمره بين الأقل والأكثر ، وفي مثله يتمسك بالعام ، لأنّ هذا التخصيص الزائد ليس محتملا في ذات المخصص بل هو محتمل في نفسه ، فهو من قبيل ، «أكرم كلّ فقير» ، «ولا تكرم فساقهم» ، ونحن نحتمل انه إن كان تاركا للمستحب لا يجب إكرامه ، فهنا لا إشكال في التمسك بالعام لنفي هذا الاحتمال ، لأنّ هذا شك في التخصيص الزائد ، ونحن ندّعي انّ المخصص المتصل ، مدلوله العرفي ، وهو العدم المحمولي لا إجمال فيه ، لكن نحتمل أن يكون المولى قد أخذ في عالم الجعل شيئا زائدا ، وهو النعتية في العدم ، وهذا ينفى بالعام ، وهذا هو الصحيح.

إذن ، فهذا التقريب تام من ناحية الكبرى ، سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا ، كما انه اتضح بذلك ، انه تام حتى لو فرض انّ الدوران كان بين المتباينين ، بأن كان بين أمر عدمي وآخر وجودي ، لأن قوله ، «إلا القرشية» ليس معناه التولد من غير قرشي ، إذ ان هذا لا يفهم من الاستثناء ، وإنّما الذي يفهم من أداة الاستثناء هو ، العدم المحمولي ، وحينئذ ، صرف الدليل عنه إلى

٢٦٩

الوجود الملازم مع العدمي خلاف اصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، إذ انّ مقتضى اصالة التطابق هو ، انّه كما انّ مقام الإثبات لفّق الموضوع نحو الاستثناء ، كذلك لفّق الموضوع ثبوتا بنحو الاستثناء.

إذن فقد اتضح أن البيان لا يتوقف على تتميم تلك الصغرى.

٢ ـ الوجه الثاني : في تقريب كون العدم المحمولي هو المتعين ، هو أن نفترض انّ الأمر دائر بين المتباينين ، وانّ العدم النعتي مع العدم المحمولي متباينان ، كما نفترض أيضا بأن المخصص سنخ مخصص يكون مجملا من حيث تعين العدم النعتي أو العدم المحمولي ، ويكون مفاده متساوي النسبة إليهما ، كما إذا كان المخصص لبيا ، كالإجماع مثلا ، فيعلم بواسطته إن حكم العام لا يشمل المرأة القرشية ، لكن لم يكن لهذا المخصص لسان نستظهر من ضمه إلى العام إن العدم محموليا لا نعتيا.

وحينئذ قد يقال : بأن هذا يدخل في المخصص المجمل مفهوما الدائر أمره بين المتباينين ، وفي مثل ذلك ، يكون الإجمال في المخصص موجبا لعدم إمكان التمسك بالعام ، لا في موارد المخصص المتصل ولا في موارد المخصص على ما تقدم تحقيقه في مكانه.

وهذا الوجه ، يريد تخريج إثبات كون العدم الثابت محموليا ، وتعيّنه في مقابل العدم النعتي في موارد المخصص المجمل المنفصل.

وحاصل هذه المحاولة هو : انّه إذا كان المخصص المنفصل المجمل قد اقتضى رفع اليد عن إطلاق العام في الجملة ، لكن دار الأمر بين تقييدين متباينين ـ حيث حسب الفرض ـ أحدهما التقييد بالعدم المحمولي ، والآخر ، التقييد بالعدم النعتي ولو بإرجاعه إلى أمر وجودي ، حينئذ يكون هذا المخصص دالا على بطلان أحد إطلاقين في العام ، لأنّ العام في نفسه فيه إطلاقان ، أحدهما إطلاقه المنافي لأخذ العدم المحمولي ، والآخر ، إطلاقه المنافي لأخذ العدم النعتي ، والمخصص المجمل المنفصل يدل على أن أحد الإطلاقين باطل ، وعلى أن العام قد تعنون بأحد العدمين ، وحيث انّ

٢٧٠

المخصص منفصل ، إذن ، فالظهور الإطلاقي منعقد في نفسه ، إذن ، فهناك ظهوران إطلاقيّان منعقدان ، أحدهما ينفي العدم المحمولي كقيد ، والآخر ينفي العدم النعتي كقيد ، لكن المخصص المنفصل يوجب سقوط أحد حجيتي هذين الظهورين ، وحيث انّه مجمل ، فيشكل علما إجماليا بسقوط حجية أحد الإطلاقين ، وحينئذ يقع بين هذين الإطلاقين نفسيهما ، وفي مثله يقال : إنّ الإطلاق النافي للعدم النعتي يكون حجة ، والإطلاق النافي للعدم المحمولي لا يكون حجة ، وذلك لأن نفي العدم النعتي له أثر عملي زائد على ما هو المعلوم بالإجمال في أخذ أحد العدمين في موضوع العام ، وأمّا نفي العدم المحمولي ، فليس له أثر عملي زائد ، فالأثر المشترك المعلوم على كل حال ، سواء كان المأخوذ عدما محموليا ، أو نعتيا ، هو أنّ الحكم لا يثبت للمرأة القرشية.

وأمّا الأثر الذي يتميز به أخذ العدم النعتي على المحمولي ، فهو عدم إمكان إجراء الاستصحاب لإحراز موضوعه في مورد الشك ، لأنه مثبت ولا عكس.

إذن ، فهناك أثر شرعي معلوم وجدانا ، وهناك أثر يمتاز به العدم النعتي وعليه : فاصالة الإطلاق في مقابل العدم النعتي جارية ، ويراد بها نفي الأثر الزائد الذي يتميز به أخذ العدم النعتي على أخذ العدم المحمولي.

وأمّا اصالة الإطلاق النافي للعدم النعتي لا تجري ، لأنه إن أريد بها نفي الأثر المشترك ، فهذا لا يعقل نفيه ، لأنه معلوم البطلان وجدانا ، وإن أريد نفي أثر زائد فهو غير موجود حسب الفرض ، وهذا هو معنى انّ اصالة الإطلاق النافية للعدم النعتي ، تجري بلا معارض.

وهذا التقريب ، لو تمّ ، فإنّما يتم في المخصص المنفصل دون المتصل ، لأنه في المتصل لا ظهور معه ، فيكون المخصص حينئذ موجبا لإجمال العام رأسا ، فلا تصل النوبة لانعقاد ظهورين ثم التعارض بينهما حتى يقال ما ذكر.

٢٧١

ثم إنّ هذا التقريب ، موقوف على كون هذا الأثر أثرا عرفيا ، بحيث تجري اصالة الإطلاق بلحاظه ، وأمّا إذا ادّعي انّ اصالة الإطلاق تحتاج إلى أثر في مرحلة مدلول الكلام لا في مرحلة الصفات الظاهرية ، حينئذ ، فإنّ هذا الكلام لا يتم.

٣ ـ الوجه الثالث : لإثبات كون العدم محموليا ، وهو مركب من أمرين.

أ ـ الأمر الأول : هو أن نستظهر من ضمّ العام إلى المخصص ، أو من أيّ قرينة أخرى ، إنّ العنوان الوجودي المأخوذ في الخاص والذي أخرج بالتخصيص ، يكون مانعا عن تأثير مقتضي الحكم ، وإنّ عنوان العام يكون مقتضيا للتأثير ، فمثلا ، حينما يرد «أكرم كل فقير» ، ويرد ، «لا تكرم الفقير الأموي» ، نقول : بأنّا نستظهر من ضم هذا المخصص إلى العام إنّ العنوان المأخوذ في العام وهو الفقير ، مقتضي لوجوب الإكرام ، وإنّ الأموية مانعة عن تأثيره ، إذن الفقير على الإطلاق واجد للمقتضي ، وإنّما لا يجب إكرام الأموي باعتبار مانعية الأموية.

ب ـ الأمر الثاني : هو انه بعد استظهار أنّ دخل الأموية في المطلب من باب دخل المانع ، إذن يتعيّن عقلا أن يكون المأخوذ في موضوع العام هو العدم المحمولي دون العدم النعتي ، لوضوح انّ الحكم لا يتوقف على أكثر من وجود المقتضي وانتفاء المانع كيفما اتفق ، وحيث انّ المفروض انّ الحكم ينشأ على طبق الملاكات ، فحينئذ يكون أخذ خصوصية زائدة في عدم المانع لغوا صرفا باعتبار ان مانعية المانع تزول بمجرد افتراض عدمه ، سواء طعّم هذا العدم بربط مخصوص أم لا ، فأخذ هذا الربط يكون على خلاف مقام الثبوت ، وحيث انّ مقام الإثبات يتطابق مع مقام الثبوت ، فيكون ذلك قرينة عقلائية ، على أنّ المأخوذ في مقام الجعل هو العدم المحمولي دون النعتي.

وهذا البيان ، إنما يتم فيما لو فرض انّ البديل للعدم المحمولي هو العدم النعتي ، فإنه حينئذ يقال : بأنه إذا كان العدم مأخوذا من باب عدم

٢٧٢

المانع ، فحينئذ أيّ معنى لتطعيم العدم بخصوصية زائدة على ذاته ، إذ انّ مجرد انعقاد العدم يكفي في انتفاء العدم.

وأمّا إذا فرض أنّ المخصص كان مجملا من هذه الناحية ، وكان أمره دائرا بين كون المأخوذ أمرا عدميا أو أمرا وجوديا ، فلا يتعيّن حينئذ أن يكون أخذ هذا القيد بملاك المانعية ، بل لعلّه أخذ بملاك الشرطية ، وحينئذ ، يمكن أخذ التولد من غير قريش.

وهذا البيان ، ينفع فيما إذا كان القيد مأخوذا بما هو أمر عدمي وبملاك المانعية ودار الأمر بين أخذه بما هو عدم صرف أو بما هو مطعّم بالنعتية.

وبهذا يتضح انّ المعول عليه هو الوجه الأول من هذه الوجوه الثلاثة.

وهذا هو تمام الكلام في مقام الإثبات مع الميرزا (قده) في كلامه الأول ، واتضح انّ استصحاب العدم الأزلي يجري بلا إشكال لا ثبوتا ولا إثباتا.

ويبقى كلام مع الميرزا في مقام الإثبات في كلامه الثاني.

وأمّا الكلام الثاني للميرزا (قده) ، فقد ذكره في رسالته التي عقدها لتحقيق حكم اللباس المشكوك ، وقد أضاف إلى ما كتبه تلامذته في تقرير بحثه ، كلاما لو تمّ ، لمنع عن جريان استصحاب العدم الأزلي في الحالة الثانية والثالثة أيضا ، ويتضح كلامه (قده) إذا قسمناه إلى مقدمتين.

١ ـ المقدمة الأولى : هي انّ الأشياء بلحاظ النعتية تنقسم إلى ثلاثة أقسام.

أ ـ القسم الأول : هي أشياء تكون النعتية داخلة في قوامها ماهية ووجودا ، وذلك كالمعاني الحرفية التي هي نسب ، بمعنى أنّ النسبة لا يمكن وجودها في الخارج على وجه النعتية ، كما انه في عالم الذهن لا يمكن تصورها كذلك.

ب ـ القسم الثاني : وهو عكس الأول ، أي انّ النعتية لا تكون داخلة في

٢٧٣

قوام الشيء ولا في وجوده ، وذلك كالماهيّات الجوهرية ، مثل ، الماء ، والهواء ، والأجسام ونحوها ، فإنّ هذه أشياء لا تحتاج إلى ربط بغيرها لا في عالم الوجود ولا في عالم الذهن.

ج ـ القسم الثالث : وهو الأشياء التي يكون للنعتية دخل في قوام وجودها دون ماهيتها ، أو تكون من شئون وجودها لا من شئون ماهيتها ، كالمفاهيم الوصفية والمقولات العرضية ، كالبياض والسواد والقرشيّة ونحوها ، فهذه الأشياء من النعتية من شئون وجودها لا ماهيتها ، بمعنى ان البياض إذا وجد في الخارج لا بدّ وأن يوجد نعتا لشيء ، بينما يمكن تصوره في عالم الذهن مستقلا.

ومقصود الميرزا (قده) من هذا الكلام ، إثبات كون النعتية في الأعراض انها من شئون الوجود لا الماهية ، إذن فأخذ النعتية في موضوع حكم ، معناه ، أخذ الوجود الناعت ، فيكون المأخوذ في الموضوع ، طرز من الوجود يسمّى بالوجود الناعت.

٢ ـ المقدمة الثانية : هي أنّ الوجود والعدم متقابلان تقابل التناقض ، والمتقابلان بما هما متقابلان لا يعرض أحدهما على الآخر ، بل يتبادلان على محل واحد ، وهو الماهية ، فالوجود لا يكون معدوما ، وكذلك العكس ، ومثل ذلك ، السواد والبياض ، المتقابلان تقابل التضاد ، فالسواد لا يكون أبيضا ، وكذلك العكس ، وإنما يعرضان على محل واحد على سبيل التبادل ، فكذلك الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهية ، فالذي يوصف بالعدم هو الماهية ، وأمّا نفس الوجود فإنه لا يوصف بأنه كان معدوما.

ومن مجموع هاتين المقدمتين يستنتج عدم جريان استصحاب العدم المحمولي الأزلي لنفي حكم الخاص ، وذلك لأنّ القرشيّة مثلا مأخوذة في الموضوع على نحو النعتية ، فبقانون المقدمة الأولى يكون المأخوذ هو طور من الوجود للمرأة ، لأنّ النعتية من شئون وجود العرض لا ماهيته ، ومعنى هذا ، إن المأخوذ جزء في موضوع الحكم هو ، طور من وجود القرشية ،

٢٧٤

وعليه : فالمأخوذ في موضوع الحكم هو الوجود الخاص للعرض وهو الوجود النعتي للقرشيّة ، لا ماهيّة القرشيّة.

وحينئذ ، فإذا أريد استصحاب العدم ، فإن كان المقصود استصحاب عدم هذا الوجود الخاص ، فهذا باطل بحكم المقدمة الثانية ، لأنّ الوجود والعدم لا يعرض أحدهما على الآخر ، ويكون الاستصحاب حينئذ ، من قبيل استصحاب بياض السواد ، وهو واضح البطلان.

وإن كان المقصود استصحاب عدم ذات ماهية القرشية ، فمن الواضح انّ ماهية القرشية لها طوران من الوجود ، أحدهما ، الوجود النعتي بما هو نعت ، والثاني ، الوجود الاستقلالي بحياله.

وفي قبال كل من هذين الوجودين عدم ، فإن أريد استصحاب العدم النعتي للماهية ، فهذا باطل ، لأنه ليس له حالة سابقة لتستصحب ، إذ الماهية قبل وجودها لا وصف لها أصلا ، وإن أريد استصحاب العدم المحمولي لماهية القرشية ، فهو معقول في نفسه ، إلّا انه غير مجد ، لأنّ موضوع الحكم هو الوجود النعتي للقرشيّة ، واستصحاب العدم المحمولي لها لا ينفي الحكم الشرعي المترتب على الوجود النعتي لها ، بل ينفي الحكم الشرعي المترتب على الوجود المحمولي لها إن وجد.

وبهذا اتضح عدم إمكان جريان استصحاب العدم الأزلي.

والحاصل هو انّ خلاصة ما أفاده الميرزا (قده) (١) هي ، إنّا نستصحب ما ذا؟

فإن كان عدم الوجود النعتي فهو غير معقول ، لأنّ الوجود النعتي هذا لا يقبل طروّ مقابله عليه ، وإن كان استصحاب الماهية ، فالماهية لها طوران من الوجود ، فهل نستصحب العدم المحمولي أو النعتي لها؟ أمّا استصحاب العدم النعتي لها ، فليس له حال سابقة ، لأنّ عدمها فرع وجودها ، وإن أردنا استصحاب العدم المحمولي لها فهو محرز ، لكنه لا يقابل الوجود النعتي.

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٧٥

وإن شئت قلت : إنه بحكم المقدمة الأولى ، يثبت ان القرشية لمّا كانت مأخوذة في الموضوع على نحو النعتية ، فالمأخوذ في الحقيقة طور من الوجود للمرأة ، لأنّ النعتية من شئون الوجود لا من شئون الماهية ، وعليه : فالمأخوذ في موضوع الحكم هو وجود العرض الخاص لا الماهية ، وحينئذ ، فإن أردنا استصحاب عدم هذا الوجود الخاص فهو باطل بالمقدمة الثانية ، لأنّ الوجود مع العدم متقابلان ، وأحدهما لا يوصف بعدم الآخر ، وإن أردنا استصحاب عدم ذات ماهية القرشية ، فحينئذ ، الماهية لها طوران من الوجود ، وبحيال كلّ طور عدم ، وحينئذ ، استصحاب العدم النعتي للماهية لا يمكن ، لأنه ليس له حالة سابقة لتستصحب ، واستصحاب العدم المحمولي ، فهو وإن كان معقولا ، لكنه ليس مقابلا لما هو مأخوذ في موضوع الحكم الشرعي ، لأن الوجود النعتي للماهية ، «المرأة القرشية» ، وليس للمحمولي.

وهذا الكلام الثاني للميرزا (قده) غير تام ، ويرد عليه إيرادان.

١ ـ الإيراد الأول : هو انّ هذا البيان فيه ضرب من المغالطة ، وذلك ، لأنّ الوجود النعتي الذي أخذ في موضوع الحكم الشرعي ، وإن كان طورا من أطوار الوجود ، لكن ليس معنى هذا ، انّ الوجود النعتي الخارجي قد أخذ موضوعا أو جزء موضوع لجعل الحكم الشرعي عليه ، إذ من الواضح انّ الحاكم في مقام جعل الحكم ، لا يجرّ الخارج ويدخله في الماهية ليحكم عليه ، سواء كان هذا الخارج هو الوجود المحمولي كوجود الجوهر ، أو الوجود الربطي كوجود العرض ، بل الحاكم يستعين بمفاهيم وماهيات قابلة للتواجد في الذهن ويجعلها موضوعا لحكمه بما هي مرآة للخارج وفانية فيه على أنحاء الفناء ، سواء كان نعتيا أو ربطيا بحسب سنخ الفاني.

ومحط القيد والاستصحاب إنّما هو هذا المفهوم الذي أخذه الحاكم موضوعا لحكمه بما هو فان في الخارج.

وعليه : ففي المقام إذا فرض انّ حاق مقصود المولى قائم بالوجود النعتي للقرشية ، أو البياض ، إذن فسوف يؤخذ في موضوع الحكم مفهوم

٢٧٦

وماهية فانية في الوجود النعتي بما هو وجود نعتي ، وهذا لا يكون إلّا أن تكون النعتية داخلة في قوام هذه الماهية التي تؤخذ فانية ، إذ لو لم تكن داخلة في قوامها لا يمكن أن يرى بها الوجود النعتي بما هو وجود نعتي.

والحاصل هو ، انه لا بدّ من تحصيل ماهية أو مفهوم قابل للدخول في ذهن الحاكم ، ويكون هذا المفهوم حاك عن الوجود النعتي بما هو نعتي ، وبالتالي يكون هذا المفهوم هو موضوع الحكم الشرعي ، وهذا ما يسمّى بمفهوم الحصة الخاصة ، فإنّ مفهوم البياض أو القرشية على الإطلاق ، لو فرض انّه كما يقول الميرزا (قده) انه من القسم الثالث ، أي تكون النعتية داخلة في قوام وجودها لا في قوام ماهيتها ، لكن هذا بخلاف مفهوم الحصة الخاصة ، «كبياض الجسم ، وقرشيّة هذه المرأة» ، فإنه مفهوم إفرادي.

وهذا المفهوم ، الربطية والنعتية ، داخلة في قوامه ذاتا وماهية ، ولهذا قلنا في بحث المعاني الحرفية ، انّ هذا المفهوم ، ينحلّ إلى مفهوم اسمي ومعنى حرفي ، وهو النسبة الناقصة التقيديّة القائمة بين العرض ومحله ، وهذا الانحلال معناه ، إن الربطية والنعتية داخل في قوام ماهية الحصة الخاصة ، وحينئذ ، المولى يستعمل هذا المفهوم ـ وهو مفهوم الحصة الخاصة ـ بما هو مرآة للوجود النعتي ، وهذا المفهوم يصلح بجزأيه التحليليّين أن يكون مرآة للوجود النعتي الخارجي بما هو وجود نعتي ، بخلاف مفهوم البياض دون تحصيص ، فإنه لا يصلح أن يستعمل فانيا ، إذن فالمولى يستعمل مفهوم الحصة الخاصة فانيا في الوجود النعتي ، ويعلق الحكم الشرعي عليه ، ويكون هذا المفهوم هو محط الاستصحاب ثبوتا وعدما ، وحينئذ ، نستصحب العدم المحمولي لهذا المفهوم ، دون إشكال ، فإنّه ليس عين الوجود النعتي الخارجي ليقال : إنه لا يقبل أن يكون معدوما.

٢ ـ الإيراد الثاني : هو انه لو فرض إنّا لم نصل إلى نكتة دفع المغالطة في الإيراد الأول ، وفرضنا انّ موضوع الحكم كان طورا من الوجود النعتي على ما ذكره (قده).

٢٧٧

حينئذ نقول : بأنّ استصحاب عدم هذا الوجود النعتي غير معقول ، لما ذكر من أنّ المقابل لا يعرضه المقابل ، لكن لا بأس باستصحاب العدم المحمولي للماهية.

وقولكم بأنّ العدم المحمولي عدم للقرشيّة ، وهذا لا يقابل ما هو موضوع الحكم ، لأنّ موضوعه هو الوجود الربطي النعتي للماهية ـ القرشيّة ـ والعدم المحمولي لا يسانخ الوجود النعتي ، فهو كلام غير تام ، وذلك لأنكم إن أردتم انه ليس علاقة هذا العدم مع الماهية من سنخ علاقة ذلك الوجود مع الماهية ، فهذا صحيح ، لأنّ ذلك الوجود الذي أخذ موضوعا ، لوحظ بما هو نعت ، وأمّا هذا العدم الذي يراد استصحابه لم يلحظ بما هو نعت للماهية ، فهو صحيح أيضا ، لكن من قال لكم انه يجب أن تكون علاقة كل منهما مع الماهية على نحو واحد ، وإنّما المهم في المقام هو ، أن نرفع الحكم بالتعبد بنقيض ذاك الحكم ، ومن الواضح انّ العدم المحمولي كذلك ، فلا حاجة في مقام نفي الحكم ، إلى إثبات خصوصيّة كون العدم نعتيا.

والشاهد عليه هو انه لو فرض محالا تحقق العدم المحمولي ، ولم تتحقق النعتية في العدم ، يعني كان عدم قرشية هذه المرأة ، عدما محموليا ، لكن لم يلحظ هذا العدم بما هو نعتا للمرأة ، فهل كان يثبت حكم القرشيّة على هذه المرأة؟ طبعا لا يثبت.

إذن فلم يدل دليل على أنّ الاستصحاب يجب أن يكون جاريا في عدم يكون مسانخا للوجود العارض على الماهية ، وإنّما المهم أن يكون الاستصحاب جاريا لإثبات نقيض الحكم المساوق لرفع الحكم ، وهذا محفوظ في المقام ، فإنّ مجرد العدم المحمولي للماهية الذي وقع بوجوده النعتي موضوعا ، يكفي لرفع ذلك الحكم.

وعليه فما أفاده الميرزا (قده) غير تام ، وبذلك يتضح ان كلا الكلامين للميرزا (قده) لا يمكن الالتزام بهما.

٢ ـ القول الثاني : وهو للمحقق العراقي (قده) وفيه تفصيل في جريان

٢٧٨

استصحاب العدم الأزلي ، وقد سجّل هذا الكلام في رسالة له في اللباس المشكوك ، ثم أفرد هذا الكلام في رسالة له في استصحاب العدم الأزلي خاصة.

وقد اختلف كلامه في الموضعين ، حيث انّه ، تارة يقول باستصحاب العدم الأزلي ، وأخرى ينكره في الموضع الثاني ببيان لا يخلو من دقة حيث يقول :

قد يقال : بأنّ قرشيّة المرأة باعتبارها من عوارض المرأة ، فهي متأخرة رتبة عن المرأة تأخر العارض عن معروضه ، أو باعتبار أنّ نقيض كل شيء هو في رتبة ذلك الشيء ، لأنه يحل محله ، فإذا كانت قرشيّة المرأة في طول المرأة ، إذن فنقيض القرشيّة ، أي عدمها هو ، أيضا في نفس المرتبة ، فنقيض القرشية هو العدم الواقع في مرتبة ما بعد المرأة.

وحينئذ ، من الواضح ، إنّ هذه المرأة المشكوكة القرشيّة يتعذّر إجراء الاستصحاب فيها ، لأنه إن أريد استصحاب العدم الذي هو في طول المرأة ، أو العدم الأزلي الذي هو قبلها ، فإنّ الثاني ليس نقيضا للقرشيّة ، لأنّ نقيض كل شيء في رتبته ، وهذا العدم ليس في رتبة القرشيّة ، وإن أريد استصحاب العدم الأول ، الذي هو في رتبة القرشية ، فمتى فرغنا من امرأة غير قرشية ، لنجري استصحاب عدم قرشيّتها.

وهذا البيان : وإن كان لا يفي بمقصوده ، ولكنّه يمهد لذلك ، لأنّ هذا البيان ينتج انّ استصحاب العدم الأزلي لا يجري مطلقا.

بينما هو بصدد التفصيل ، وهذه الطرحة بهذا المقدار صحيحة من دون اعتبار التفصيل ، لأنّه (قده) يقول : بأنّ كل شيئين بينهما نسبة من حيث الرتبة في الخارج فقد يكون أحدهما متأخر رتبة عن الآخر «كقرشية المرأة» مع المرأة ، وقد يكون أحدهما في عرض الآخر كقرشيتها مع بياضها ، هذا في عالم الخارج.

٢٧٩

لكن هناك تقدّم وتأخر رتبي بحسب مراكز هذه الأجزاء من موضوع الحكم الشرعي وبحسب جعل الجاعل الشرعي ، فإنّ الحاكم حين يرتب موضوع حكمه ، فقد يجمع أجزاء هذا الموضوع من أجزاء غير متطابقة في الخارج ، ومثاله : «القرشية مع المرأة» ، فهي بحسب الوضع الخارجي ، القرشية متأخرة رتبة عن المرأة ، لأنها من عوارضها ، والمولى يريد أن يحكم على موضوع مركب من جزءين ، أحدهما المرأة ، والآخر ، القرشية.

ففي عالم الجعل ، تارة يأخذ الجزءين مترتبين حسب ترتبهما الخارجي ، فيقول : إذا وجدت امرأة قرشية فحكمها كذا ، فالشرط الأول والثاني عرضيان ، فلم يلحظ ترتبا بينهما ، فإذا قيل : إذا وجدت امرأة وكانت قرشية ، فهنا لوحظ الترتب ، لأن الشرط الأول هو ، ان توجد ، والثاني ، أن تكون قرشية ، فنفس هذا الترتب الخارجي انعكس على نظّارة المولى.

وتارة أخرى ، يفرض اختلاف نظره ، ونظارته مع الخارج ، وذلك ، بأن يأخذ الجزءين عرضيّين ، وهنا غالبا تستعمل النسبة الناقصة فيقول : «إذا وجدت امرأة قرشية» فيقيّد المرأة بالقرشية ، بالمرتبة السابقة على عروض الحكم بالوجوب عليها ، فيكون هذا الوجود وجودا للمرأة ، ووجودا للقرشية بنظر واحد ، وإن كانا في الخارج طوليين ، فاختلف هنا نظر الجاعل عن الخارج.

وهنا يقول المحقق العراقي (قده) ، إن المولى ، إذا جعل الحكم على موضوع ، على النحو الأول ، بحيث يتطابق نظره مع الخارج ، فلا يجري استصحاب العدم الأزلي حينئذ ، لأنّ القرشية متأخرة رتبة عن المرأة بحسب مركزها في جعل الجاعل لا بحسب وجودها الخارجي ، ونقيضها ـ عدم القرشية ـ في هذه المرتبة ، وهذا العدم ليس له حالة سابقة ، إذن فلا يمكن استصحابه ، لأنه لا شيء نستصحبه.

وأمّا إذا أخذ الحاكم القرشية والمرأة في عرض واحد ـ أي على النحو الثاني ـ وقال : «إذا وجدت امرأة قرشية» فحكمها كذا ، بحيث كانا في عالم

٢٨٠