بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

بين الدليلين أو الكلامين ، وحينئذ ، يتضح بناء على المسلك الثالث ـ انّ ظهور عدم النسخ واصالة عدم النسخ ، ليست من شئون الكلام ، وإنّما هي ظهور حال في الجعل بما هو جعل ، على ما عرفت ، فإنّ النسخ لا يرجع إلى نقص في كاشفيّة الكلام ، لكن الكلام في الجعل ، وأنّه هل كان استطراقيا أو جعل ثابت ، فهنا يدّعى ظهور حال هذا الجعل في أنّه جعل ثابت.

وهذا الظهور ، لا ربط له بعالم الكلام ، بل هو ظهور نفسي ، فلو أردنا أن نحكّم ظهور عدم النسخ في المقام ، إذن فهذا ليس تصرفا في مدلول الكلام ، بل في أمر خارج عن مدلوله ، بينما لو أردنا أن نعمل عناية التخصيص ، فهذا تصرف في مدلول الكلام.

والخلاصة ، هي أنّ الالتزام بالنسخ ليس جمعا عرفيا ، لأنّه ليس تصرفا في مدلول الكلام لحساب الكلام الآخر ، بينما الجمع العرفي عبارة عن التصرف في كلام لحساب كلام آخر.

ومن هنا لو ورد عام وخاص متصلين ، لم يتوهم أحد النسخ ، حتى ممّن يجوز عليه البداء في المخصصات المتصلة ، فلو ورد عام ، مثل : «أكرم كلّ عالم» ، ثم ورد متصلا خاص : «لا تكرم فسّاق العلماء» ، فهنا لا يحمل على النسخ ، لأنّه ليس جمعا عرفيا ، بينما يحمل على التخصيص ، لأنّ الحمل على التخصيص جمع عرفي.

وهذا البيان غير تام أيضا ، فإنّه مبني على المسلك الثالث.

ولكن بناء على المسلك الأول ، يكون النسخ تخصيصا وتصرفا في مدلول الكلام بنحو من الأنحاء ، فإنّ اصالة عدم النسخ ، وإن كانت راجعة إلى ظهور حالي في الجعل ، إلّا انّ هذا الظهور هو ، ظهور لمدلول الكلام حسب نظر العرف ، فيكون التصرف فيه بالحمل على النسخ تصرفا في مدلول الكلام وإن لم يكن تصرفا أولا وبالذات في مدلول الكلام وبذلك يصدق عليه الجمع العرفي ، ولا يكون مختصا بالحمل على التخصيص.

وبعبارة أخرى ، إنّه لم يتمّ دليل على أنّ الجمع العرفي يجب أن يتعامل مع

٤٤١

ظهورين لفظيين ، وإنّما المهم أن نرى بحسب المرتكز العقلائي أنّ أيّهما يناسب أن يكون قرينة على الآخر ، وهنا ، كما يمكن للمولى الاعتماد على الظهورات اللفظية الأولية ، كذلك يمكنه الاعتماد على الظهورات اللفظية الثانوية.

وأمّا قياس ما نحن فيه بالمخصّصات المتصلة ، فهو قياس مع الفارق ، لأنّه في موارد المخصص المتصل لا ينعقد ظهور تصديقي في العموم أصلا ومعه لم يستقر ظهوران لتقع المعارضة بين ظهور العام وظهور الخاص في عدم النسخ وغيره.

هذا حاصل الكلام في الجواب الثالث ، وبه تمّت الأجوبة الثلاثة ، وقد عرفت عدم تماميّة أيّ واحد منها بنحو مطلق ، بل بعضها غير تام أصلا ، وبعضها تام في بعض الموارد فقط.

ثم إنّه قد يشكل على هذا الكلام بما حاصله تعيّن التخصيص وتقديمه على النسخ حيث يقال : إنّ اصالة عدم التخصيص واصالة عدم النسخ تسقطان بالتعارض ، وحينئذ ، يرجع إلى دليل عام آخر ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه ، حرام إلى يوم القيامة» فإنّ هذا الخبر بإطلاقه يقول : إنّ العام مخصّص ، وانّ الخاص غير منسوخ ، إذن ، فهنا ينفى النسخ ، وحينئذ ، يتعيّن التخصيص ، للعلم الإجمالي بثبوت أحدهما.

ويشكل على هذا المدّعى ، بأنّ مقتضى إطلاق دليل العام الوارد بعد الخاص هو ، انّ الخاص منسوخ بالعام ، ومقتضى هذا العام الآخر ـ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الخ ـ هو انّ ذلك العام ليس ناسخا للخاص ، وحينئذ ، يقع التعارض بين هذين العامين.

وقد يجاب عليه : بأنّ عموم هذا اللسان ـ «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. الخ ـ» حاكم بالنظر العقلائي على ذلك العام ، لأنّه ناظر إليه وإلى عموم الأحكام الواردة في الشريعة ، وأنّها ثابتة لا تنسخ ، ولذلك يقدم عموم هذا اللسان على ذلك العام بالحكومة.

٤٤٢

ولكن هذا الجواب غير تام ، لأنّ قوله : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لا يراد به نفي النسخ في أحكام الشريعة من قبل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لتحقق النسخ بالوجدان ، بل يراد به أن يوضح أنّ شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي خاتمة الشرائع ، وأنّها لا تنسخ بشريعة نبيّ آخر ، وإلّا كيف يتمّ ما ذكر ، مع أنّه لا إشكال في وجود النسخ في الأحكام.

وعليه ، فلا يتمّ هذا الجواب ، ويبطل البيان المذكور ، وعليه يتعيّن المصير إلى التقريب الثالث للجواب الثاني ، وقد عرفت انّه يتمّ في الخاص والعام الواردين فيما بعد عصر التشريع وهو عصر النبي كما عرفت ، ومن هنا ، كان المختار في هذه المسألة هو التفصيل بين ما هو وارد في صدر الشريعة وعصر التشريع ، حيث انّه فيه لا نبني على تقديم التخصيص ، لأنّه ليس هنا ما يقتضي تقديمه على النسخ ، بل لا بدّ من قرينة تعيّن أحدهما ، وهذا بخلاف ما إذا كانا واردين فيما بعد عصر التشريع من العصور المتأخرة ، فإنّه فيها يتعيّن تقديم التخصيص.

وأمّا المشهور فلم يفرّقوا بين العصرين ، بل قالوا بتعيّن التخصيص.

وليعلم أنّ هذا التفصيل المختار ليس نظريا فقط ، بل هو عملي أيضا وتترتّب عليه ثمرات عملية عديدة في الفقه.

نكتفي بذكر واحدة منها : جواز نكاح الكتابية ، حيث أنّه قد ورد في القرآن عمومات تقتضي عدم جواز نكاحها ، ولكن ورد فيه خاص يقتضي جواز نكاحها ، كقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ... (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ...) حل لكم ، إذن فقد أحلّ لنا هذا العنوان ، وهو المحصنات ، وهذا خاص.

وحينئذ ، إذا بنينا على مذهب المشهور من تقديم الخاص مطلقا وأنّه يخصص العام دون النسخ أو التفصيل ، فهنا القضية واضحة ، لأنّ تخصيص العموم على مقتضى القاعدة يجوّز لنا نكاح الكتابية دون الكافرة ، وأمّا بناء على التفصيل المختار ، فإنّنا نقع في الإشكال ، إذ لا يمكن الالتزام بالتخصيص ، بل يمكن أن يقال : بأنّه يمكن أن يكون الخاص منسوخا والعام

٤٤٣

ناسخا ، وإنّما يتعيّن التخصيص لو كان الخاص مقارنا أو متأخرا عن العام ، وحيث لم نحرز قرينيّة الخاص هنا على العام ، إذن لا بدّ من إحراز أيّهما المتقدّم على الآخر ، وحينئذ ، فهنا طريقان ، الأول : هو الرجوع إلى تواريخ نزول الآية ، والثاني هو : الرجوع إلى الروايات عن الأئمة عليهم‌السلام الواردة في الآية ، وحينئذ ، إذا رجعنا إلى الأول ، فالظاهر أنّ الخاص متأخر ، لأنّ العام جاء في سورة البقرة والممتحنة وكلتاهما مدنية ، بينما ورد الخاص في سورة المائدة وهي آخر ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبمقتضى هذا الحساب يثبت جواز نكاح الكتابية ، لكن لو لاحظنا الطريق الثاني ، لرأينا أنّ هناك روايات مقيدة تنسب إلى الإمام عليه‌السلام إنّه قال : إنّ آية (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ... (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ...) حل لكم ، هي منسوخة بالعام ، وهذا معناه ، انّ هذه الآية بالخصوص في المائدة ، كانت قد نزلت قبل ذلك ، ومنه يعرف الحال في الشقّ الثاني وهو ، ما إذا كان الخاص متأخّرا ، فإنّه في المورد الذي بنينا فيه على التخصيص هناك ، نبني فيه هنا عليه ، لأنّ الخاص والعام ينظران إلى نقطة زمنية واحدة.

وأمّا لو كان كلّ منهما ناظرا إلى نقطة زمنية خاصة به ، فهل يكون حكم العام ثابتا أمّ لا؟ وهنا جلّ ما تقدم من الوجوه لا يكون مفيدا.

والخلاصة هي : أنّه بناء على مذهب المشهور من تقديم التخصيص مطلقا. فإنّ العام يخصص هنا ، وأمّا بناء على التفصيل المختار ، فحينئذ ، إن كان الخاص مقارنا للعام أو متأخّرا عنه فلا إشكال في الحمل على التخصيص ، وإن كان متقدما عليه ، فحينئذ يدور الأمر بين النسخ والتخصيص ، ولا وجه لتقديم أحدهما إلّا بقرينة لورودهما في زمن التشريع ، هذا تمام الكلام في الحالة الأولى.

وأمّا الحالة الثانية ، وهي دوران الأمر بين كون الدليل مخصصا للآخر أو ناسخا له كما لو ورد عام ثم ورد خاص ، ودار أمر الخاص بين كونه مخصصا أو ناسخا للعام فإنّه حينئذ إن فرض أنّ نظر كل من الدليلين إلى نقطة زمنية واحدة فلا إشكال في كون الخاص مخصصا للعام ، وإن فرض أنّ كلّا

٤٤٤

منهما ينظر إلى نقطة زمنية خاصة به ، فحينئذ ، بعد ورود الخاص يثبت حكمه بدون إشكال في ذلك ، وإنّما الكلام في الفترة الزمنية الكائنة بين العام والخاص ، فهل يكون الثابت فيها حكم العام ثم يرتفع بعد ورود الخاص بالنسخ أو لا؟ وأكثر الوجوه التي ذكرت في الحالة الأولى لبيان تقديم اصالة عدم النسخ لا تأتي هنا ، لأنّ تلك الوجوه كانت تفترض وجود معارضة بين اصالة عدم التخصيص ، واصالة عدم النسخ ، بينما لا موضوع لهذه المعارضة في المقام ، لأنّ الدوران بين النسخ والتخصيص هنا إنّما هو بالنسبة إلى دليل واحد ، وهو دليل الخاص ، ومقتضى القاعدة هي النسخ.

وبهذا تمّ الكلام في هذه المسألة.

٤٤٥

البداء

قد تبين ممّا تقدّم ، انّ النسخ ممّا اتّفق على إمكانه جميع المسلمين (١).

وبمناسبة الكلام على النسخ ، يقع الكلام على البداء. والبداء كمضمون لا يختصّ به الإمامية فقط ، بل أكثر محتملاته ممّا اعترف بها المسلمون ، إلّا أنّ البداء كمصطلح ممّا اختصّ به الإمامية فقد ورد لفظ البداء وما يراد منه من معاني في ضمن عدّة روايات مروية عن أئمة أهل بيت العصمة عليهم‌السلام توحي بالبداء. وهذه الروايات وإن صحّت عن أهل البيت عليهم‌السلام إلّا أنّها ممّا لا دخل لها في الأحكام الشرعية ، وعليه فلا تكون مشمولة لدليل حجية الخبر الواحد. إذ قد أوضحنا في محلّه أنّ دليل حجيّته مختصّ بخصوص الأحكام الفرعية التنجيزية ، ولا يشمل الأخبار الواردة في تقرير المعارف والمفاهيم الإلهية ، فإنّ الخبر الواحد فيها ليس حجة ولكن هذه الروايات المتحدثة عن البداء لفظا وروحا ، هي متواترة إجمالا ، إذ أنّها تزيد على خمسين رواية ، وفيها عشرون رواية تقريبا ، صحيحة سندا.

ومصدر هذه الروايات ، كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (قده) ، والكافي

__________________

(١) أوائل المقالات ـ المفيد ـ ص ٥٣.

تلخيص المحصل ـ الطوسي ـ ص ٣٦٤ ـ ٣٦٧.

أنوار الملكوت في شرح الياقوت ، وإرشاد الطالبين ـ ص ٣١٧ ـ ٣٢١.

كشف المراد ـ الحلي ـ ص ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

تفسير الدر المنثور ـ السيوطي ـ ج ٤ ـ ص ٦٦ ـ ج ٣ ـ ص ٤٦٩ ـ ج ٦ ـ ص ١٤٣.

التاج الجامع للأصول ـ ج ٥ ـ ص ١٠١ ـ ج ٤ ـ ص ١٠٠ ـ ١٩٤.

٤٤٦

للكليني (قده) وبصائر الدرجات للصفار (قده) وهؤلاء الثلاثة ممّن لا يحتمل في شأنهم الكذب (١) ، هذا مضافا إلى ما روي في صحاح أهل السنّة ، فإنّه لا يقلّ عمّا رواه الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك ممّا يعضد تواترها.

إلّا أنّ الخواجة نصير الدين الطوسي (قده) ذهب إلى إنكار البداء ، محتجّا بأنّه منقول بأخبار الآحاد ومثله لا يكون مشمولا لدليل حجية الخبر الواحد ، فضلا عن كون أخبار الآحاد لا تثبت مفهوما من هذا القبيل.

ولكن الصحيح ، هو أنّ أخبار «البداء» ليست أخبار آحاد ليتمّ ما ذكره الطوسي ، وإنّما هي متواترة إجمالا باعتبار كونها مختلفة في بياناتها ومداليلها ، فيكون شأنها شأن الروايات المتواترة إجمالا ، وإن كانت لا تشترك حكما في إعطاء صورة واضحة عن البداء بحيث يكون إجماعا. لما ذكرنا في محله من رجوع الإجماع إلى التواتر صورة. ومن هنا فإنّ ما يمكن إثباته لها بهذا التواتر الإجمالي هو أنّه صدر عن الأئمة عليهم‌السلام شيء عن البداء ، وأمّا ما ذا كانوا يريدون به وأيّ معنى ، فإنّ هذا ليس متواترا قطعا ، إذ لا تواتر لكلّ لسان في تلكم الروايات.

وللبداء على إجماله أصل قرآني (٢) ، إذ فيه بعض الآيات التي يمكن أن تشكّل أصلا للبداء ، وإن كان هذا الأصل على ما يظهر لا ينسجم مع جملة من ألسنة هذه الروايات ، ولكنه ينسجم مع بعض ألسنتها الأخرى.

وكذلك (٣) ، فإنّ للبداء أصل إجمالي في كتب الديانات الأخرى ينسجم مع مفهوم البداء كظاهرة للتغيير.

__________________

(١) الكافي ـ الكليني ـ ج ١ باب البداء ـ ص ١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨ ـ ح ٩ ـ ١٠ ـ ١١. التوحيد ـ الصدوق ـ باب البداء ـ ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ـ ٤٤٣ ، عيون أخبار الرضا ـ ص ١٨١ ، بصائر الدرجات ص ١٠٩ ـ عدة الأصول ج ٢ ص ٢٩ ، الغيبة للطوسي ص ٢٦٢ ـ ٢٦٤ ، راجع هذه الروايات في كتاب البحار للمجلس ج ٤ باب البداء.

(٢) سورة غافر ـ آية ٦٠ ـ سورة البقرة آية ١٨٦ ـ سورة الأنبياء ـ آية ٧٦ ـ ٨٣ ـ ٨٤ ـ ٨٧ ـ ٨٨ ـ ٨٩ ـ ٩٠ ، سورة الرعد آية ٣٩ ـ سورة فاطر آية ١١.

(٣) راجع كتابنا نظرية البداء ـ محاولة جديدة لفهمها ص ـ ٤١ ـ ٤٢ ـ ٤٣. الكتاب المقدس ـ نبوءة

٤٤٧

وأمّا البداء على مستوى إجماع الطائفة ، فالذي يبدو انّ هذا المعنى الإجمالي مقبول لها حيث أنّ جلّ علمائها تكلّموا عنه وحاولوا توجيهه وتصحيحه ما عدا الخواجة نصير الدين الطوسي الذي أنكره محتجّا بما تقدّم وعرفت (١).

إلّا انّ هذا القبول من جلّ علماء الطائفة ، لا يعتبر أكثر من إجماع إجمالي ، لاختلافهم في تفسيره ، فلو فرض انّه تردّد المعنى بين أمور ، بعضها صحيح ، وآخر غير صحيح ، حينئذ ينحل هذا الإجمال ، فالذي هو ثابت بالتواتر ، ثابت بالقرآن وكذلك بالنسبة للعقل.

وقد صار هذا المعنى الإجمالي سببا لإشكال أساسي نشأ من افتراض أصل موضوعي ، وهذا الأصل هو : انّ نسبة البداء إلى الله تعالى يستلزم تغييرا في علم الذات المقدسة بالنسبة لما يحصل لها من بداء ، وهو تعبير آخر عن نسبة الجهل إليه تعالى. فإذا نسب هذا المعنى لله تعالى فيلزم ما ذكر ، ذلك لأنّ البداء ، معناه لغة ، اتّخاذ الرأي على خلاف ما كان سابقا ، إذ انّه مصدر ، بداء ، يبدو ، بدوا ، بداء.

وهذا المصدر معناه ما ذكر ، ولذا اتّخذ هذا التفسير أصلا (٢) موضوعيا في قبح نسبته إلى الله تعالى (٣).

وهذا الإشكال هو الذي حاول العلماء معالجته ، ومن هنا ذكر الميرزا النائيني (قده) في تقريراته ، انّ البداء ثابت إجمالا ، ولكن لا يمكننا إدراك معناه تفصيلا ، ولذا ، فنتعبّد به من دون إدراك حقيقته.

__________________

أشعيا فصل ٣٨ ـ العهد القديم ـ سفر الملوك ، الفصل الأول طوبيا. فصل ٤ التلمود. الفصل الثالث ـ المشنة ـ ١ ـ ١١ ـ ١٣.

(١) لعلّ الوجه في إنكاره هو كون البداء لغة معناه ، التغير والتبدل الكاشف عن الجهل ـ المقرر.

(٢) تفسير الرازي ـ ج ٤ ـ ص ٢١٦ المطبوع في ثمانية مجلدات.

(٣) قد يقال : بأن حمل البداء على الذات كما هو في حمل الصلاة عليها. أو كحمل المكر والكيج ، والخديعة ، والنسيان ، والأسف ، واليد ، والمجيء وغيرها من أشكال المجازات والمشاكلة في كلمات البلغاء والقرآن الكريم. المقرر.

٤٤٨

ولكن هذا الكلام غير تام ، حيث انّ الذي يبدو من الروايات في بابه ، انّ البداء الذي ذكر فيها ، لم يكن شيئا فوق قدرة الإنسان ، كيف ، وقد ثبت عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام أنّهم قالوا : «ما عظّم الله بمثل البداء» ، «وما عبد الله تعالى بمثل البداء» ، وقالوا : «ما تنبّأ نبيّ قطّ ، حتى يقرّ لله تعالى بخمس : بالبداء ، والمشيئة و...» وقالوا : «لو يعلم الناس ما في القول في البداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه» ، وقالوا : «ما بعث الله نبيّا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وانّ الله يقدم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء» وقالوا : «إنّ الله لم يبدو له من جهل» ، وقالوا : «ما بدا لله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له» (١) وهذه الألسنة واضحة في دلالتها على معقوليّة البداء ، لأنّ الحثّ لا يكون إلّا على ما هو مقدور ومعقول.

وقبل الدخول في المحاولات التي ذكرت لحلّ الإشكال المذكور ـ وهو ، نسبة النقص والجهل إلى الله تعالى ـ لا بدّ من ذكر بعض الخصائص التي ذكرها الأئمة عليهم‌السلام للبداء.

فمنها : انّ البداء أسلوب من أساليب تعظيم الله تعالى ، فقد ورد في توحيد الصدوق (قده) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «ما عظّم الله تعالى ، بمثل (البداء)» (٢) ، وعليه ، فلا بدّ من تفسير البداء بما يتلاءم مع تعظيم الله تعالى.

ومن الواضح أنّ تفسير البداء بمعنى تغيير الرأي وتركه إلى رأي آخر تكشّف له ، لا يكون تعظيما لله تعالى ، وإنّما هو انحراف وتصوّر لله على أنّ حاله حال الإنسان الاعتيادي.

ومنها : انّ البداء عبادة لله. فقد نقل الكليني (قده) بسند صحيح إلى زرارة (قده) عن أحدهما عليه‌السلام أنّه قال : «ما عبد الله بشيء مثل البداء» (٣).

__________________

(١) الكافي ـ الكليني ـ ج ١ ـ ص ١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ١٤٨. التوحيد ـ الصدوق ـ باب البداء ص ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ـ ٣٣٤. بصائر الدرجات ـ ص ١٠٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) الكافي ـ الكليني ـ ج ١ ـ باب البداء ـ ص ١٤٦. الوافي ـ ج ١ ـ ص ١١٣.

٤٤٩

إذن فالبداء باب من أبواب العبادة ، وهذا لا يتناسب مع فكرة الندم والجهل كما أشكلوا.

ومنها : إنّ البداء فرض من الأسس والأركان التي أخذ على الأنبياء حينما أرسلوا الالتزام به ، كما يفهم ممّا رواه الكليني (قده) بسند صحيح إلى الريان بن السلط. قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : «ما بعث الله تعالى نبيّا قطّ إلّا بتحريم الخمر ، وأن يقرّ لله تعالى بالبداء» (١). وهذا لا يتناسب أيضا مع ما أشكلوا به.

ومنها : انّ الكلام في البداء والتحدّث به ، فيه أجر كبير كما روى الكليني (قده) بسنده إلى مالك قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لو علم الناس ما في البداء من الأجر ، ما فتروا عن الكلام فيه» (٢) ، وهذا يشعر بأنّ فكرة البداء لها مدلول تربوي في حياة الإنسان. بينما لا يوجد حثّ على النظر في كيفية علم الله تعالى.

ومنها : ما يدلّ على أنّ البداء لا يعني التغيير في علم الله تعالى ، كما فيما روى الكليني (قده) عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما بدا لله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له» (٣).

ومنها : ما يدلّ على أنّ البداء تأكيد لاختيار الله تعالى وسلطانه ، كما في رواية الريّان المتقدمة ، مضافا إليها ـ بعد قوله ، وأن يقرّ لله بالبداء ـ قوله : «وانّ الله يفعل ما يشاء» ، إذن ، ينبغي أن يفسّر البداء على ضوء الاختيار والسعة في المشيئة ، في قبال من يدّعي ضيقا في المشيئة ، لا في قبال من يفسّر البداء بالمعنى اللغوي المتقدّم.

وهذه الخصائص ، خصائص إجمالية وردت كلها في روايات معتبرة.

__________________

(١) للوقوف على هذه الأحاديث راجع البحار ـ ج ١ ـ ح ١٩ ـ ٢٠ ـ ٢١ ـ ٣٢ ـ ٢٤ ـ ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) الكافي ـ ج ١ ـ ص ١٤٨.

(٣) الكافي ـ ج! ـ ص ١٤٨.

٤٥٠

وعليه لا بدّ من حلّ وعلاج الإشكال المتقدّم على ضوئها ، ويمكن تلخيص الحلول المفترضة بما يلي :

الحلّ الأول : يفترض فيه ان في البداء علمين ، لكن ليس أحدهما ناسخا للآخر كي يلزم منه نسبة الجهل إلى الله تعالى ، بل هذان العلمان ثابتان أبدا وأزلا لكن ، أحدهما قضاء على نحو القضية التنجيزية والآخر قضاء على نحو القضية التعليقية ، فيكون الأول رافعا لموضوع الثاني ، فهو حاكم أو وارد عليه. وقد عرفت في محله أنّه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم ، ومن هنا افترضوا في هذه الحالة أنّ لله تعالى قسمان من القضاء ، أحدهما المحتوم ، والآخر المعلّق ، والأول عبارة عن قضاء يكون متعلقه قضية تنجيزية ، وهذا لا يتخلّف ، كما في حالة العلم بأنّ فلانا سوف يموت في الوقت الفلاني ، والآخر قضاء يكون محلّا للبداء ، ومتعلقه قضية شرطية كما إذا قضي بأنّ زيدا سوف يموت يوم السبت لكن مشروطا بأن لا تتعلق مشيئة الله تعالى بأن يزيد في عمره إذا هو تصدّق ، وحينئذ ، إذا فرض أنّ القضاء المحتوم كان قد تعلق بموته يوم الأحد مثلا ، فحينئذ ، هذا القضاء المحتوم لا يعارض القضاء الثاني المشروط ولا يناقضه ، وذلك لأنّ صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، إذن ، فكل من القضاءين لم ينسخ ولم يتغير ، غايته أنّ القضاء الحتمي يكون حاكما وواردا على القضاء المشروط ، ورافعا لموضوعه.

ثم إنّ السيد الخوئي (١) (قده) قد أضاف قضاء ثالثا وسطا ، حيث ذكر أنّ هناك قضاء يكون منه البداء ، وقضاء يكون فيه البداء ، وقضاء وسطا لا يكون منه ولا فيه البداء.

وأمّا صاحب البحار (٢) (قده) ، فقد عبّر عن القضاء الأول ، باللوح المحفوظ ، وعن الثاني ، بلوح المحو والإثبات.

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٣٨٨.

(٢) البحار ـ المجلسي ـ ج ٢ ـ باب البداء والنسخ ـ ص ١٣٦ ـ الوافي ـ ج ١ ـ ص ١١٣.

٤٥١

وروح هذا الجواب يرجع إلى إنكار التغيّر رأسا ، وأنّ كلمة البداء ، هي حكومة علم على علم آخر.

وهذا التفسير لا يبدو مقنعا في فهم المطلب ، وذلك ، لأنّ هذا القضاء الذي يتصور على نحو القضية الشرطية ، لا تنطبق عليه الخصائص المذكورة في روايات الباب ، حيث أنّه لا شأن له بتعظيم الله تعالى وعبادته.

وربّما يقولون : إنّ هذا الحل هو الذي يصحح فكرة الدعاء والذي يمثل أقوى علاقة بين الإنسان وربّه.

ولكن يجاب : بأنّ القضاء إذا كان حتميا ، فلا حاجة للدعاء ، إذن ، فلا بدّ من لوح قضاء وقضايا تعليقية لكي يرغب في الدعاء ، إذن فهذا الحل لا يصحح فكرة الدعاء ، والذي يمثل أقوى علاقة بين الإنسان وربّه باعتبار أنّ القضاء إذا انحصر في القضاء الحتمي لما كانت هناك حاجة للدعاء ، إذن فلا بدّ من لوح قضاء فيه قضايا تعليقية لكي يرغب في الدعاء وتكون له حاجة.

وهذا الحل غير تام ، لعدم تناسبه مع الخصائص المذكورة والمستفادة من الأخبار ، حيث أنّ القضاءات المشروطة لا شأن لها بتعظيم الله وعبادته.

وأمّا ما ذكر من أنّ هذا الحل هو المصحح لفكرة الدعاء ، فهو أيضا غير تام ، لأنّ المفروض أنّ الله تعالى قد اتّخذ قرارا حتميا بشأن هذه القضايا المشروطة ، فقضى أنّ فلانا يموت يوم السبت إذا لم يشأ سبحانه يوم الأحد ، والمفروض أنّ له إشاءة معيّنة ، وحينئذ ، إذا أريد إيجاد أجل بلحاظ كلا القضاءين ، فالإشكال يبقى على حاله.

ثم إنّه لا معنى لتسمية مثل ذلك بداء ، فلو فرض أنّ شخصا عاديا اتخذ قرارا بالسفر يوم السبت إذا لم تتعلّق مشيئته بالسفر يوم الأحد ، فإذا فرض أن تعلقت مشيئته بالسفر يوم الأحد ، فحينئذ ، لا يقال بدا له السفر يوم الأحد ، نعم يمكن تصحيح هذا الحل إذا طعّمناه بإحدى فكرتين إضافيتين بحيث يصبح له مدلولا قابلا لانطباق الخصائص المذكورة عليه وحينئذ قد لا يردّ الإشكال.

٤٥٢

الفكرة الأولى : وتتضح بمقدمة حاصلها : أنّ القضاء الإلهي يتعلق بكل موجودات عالم الإمكان التي يترقب أن تكون صادرة منه تعالى ، إلّا أنّ هذا القضاء الإلهي لا يتعلق بفعل فاعل مختار حتى لو فرض أنّ هذا الفاعل هو الإنسان المخلوق الذي لا يملك شيئا إلّا بعد إفاضته عليه لأنّ معنى اختيار الإنسان هو أنّ الله تعالى تفضّل وأنعم عليه بالسلطنة في ضمن دائرة من الأفعال والتصرفات بحيث إن أراد فعل ، وإن أراد لم يفعل ، وهذه السلطنة تجعل نسبة الفعل الصادر من الإنسان إليه ، نسبة بالإمكان لا بالوجوب. وليس كنسبة كل معلول إلى علّته ، فإنّه خلاف مفهوم السلطنة ، فإنّ الأمر إذا صار واجبا ولازما بحيث يستحيل انفكاكه عن السلطنة ، فإنّه حينئذ لا تكون نسبة السلطنة إلى الفعل والترك على حدّ سواء إذ أنّ هذا خلاف مفهوم السلطنة ، كما برهنا على ذلك في بحث الإرادة والطلب.

وأمّا قاعدة ، انّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فإنّه يجب ترميمها وتعديلها ، فيقال : إنّ الشيء ما لم يجب ، أو ما لم تعمل سلطنة في وجوده لا يوجد.

والحاصل هو ، إنّ كلّ نتائج السلطنة التي هي أفعال للإنسان ، ليست واقعة في تسلسل العلل والمعلولات المنتهية إلى الله تعالى ، وإن كانت نفس السلطنة مخلوقة لله تعالى ، لكن ما ينتج عنها ، ليس مفاضا من قبل الله تعالى ، بل هو من قبل ذي السلطنة ، ومن هنا كانت المسئولية وصحة الثواب والعقاب.

وبهذا يظهر ، أنّ أفعال الإنسان لا تدخل تحت القضاء الإلهي ، بل هي داخلة تحت العلم الرباني.

وعليه : فتمام ما يدخل تحت قضائه ، إنّما هو فعله سبحانه وتعالى.

نعم يمكنه تعالى أن يمنع الفيض فتمتنع السلطنة ومعها نتائجها.

إذن ، فعلم الله تعالى معناه : إنّه محيط بكل لوح الواقع ، وعليه : فكون أنّ الله تعالى يعلم ، هو شيء ، وكونه تعالى يتخذ قرارا ، هو شيء آخر.

٤٥٣

والعلم الذي لا يعزب عنه شيء ، هو الذي يمثل الانكشاف المرآتي.

وهذه النتائج ، مستخلصة من أبحاث السلطنة ، هذا حاصل المقدمة.

وحينئذ نقول : بناء على هذا ، انّ القضاء الرباني ، تارة يفرض انّه يتعلق بقضية لا دخل لتصرف الإنسان فيها بوجه من الوجوه ، كما لو تعلّق قضاؤه بانكساف الشمس في الوقت الفلاني.

وأخرى ، يتعلّق قضاؤه بما يكون لتصرف الإنسان وإعمال السلطنة من قبله دخل فيها.

ففي القسم الأول ، يكون تعلّق القضاء الرباني بنحو القضية التنجيزية ، لأنّ تمام الأسباب تنتهي إليه ، إذن فهي تحت القرار.

وأمّا القسم الثاني ، يكون تعلّق قضائه بنحو القضية الشرطية ، وإلّا ، فلو كان بنحو القضية التنجيزية ، فإمّا أن يفرض أنّه سبحانه ينجز وجوده ، سواء تصرف الإنسان أم لا ، وإمّا أن يفرض أنّه ينجز وجوده وشرطه الذي هو تصرف الإنسان ، وكلا هذين الفرضين باطل.

أمّا الأول : فلأنّه خلف فرض كون القضية تتأثر بتصرف الإنسان.

وأمّا الثاني : فلأنّه جبر وإلغاء للسلطنة ، كما أنّه خلف فرض تأثّر القضية بتصرف الإنسان الاختياري ، إذن ، فلا بدّ وأن يفرض أنّ القضاء الربّاني في هذا القسم يكون بنحو القضية الشرطية ، فيقال : إنّ فلانا سوف يموت غدا إذا لم يدع الله تعالى في كشف ما وقع فيه ، أو إذا لم يتصدّق أو يصل رحمه.

ومن هنا يظهر ، أنّ تصنيف هذا القرار الربّاني إلى قضية تنجيزية وأخرى تعليقية ليس جزافا ، وإنّما هو حقّ المطلب في كلّ من القسمين ، إذ حينما يتّخذ القرار الربّاني بنحو القضية الشرطية ، حينئذ يمكن للإنسان أن يحقق الشرط المذكور ، كما يمكنه أن يعدمه ، فلو فرض أنّ الإنسان حقق الشرط ، وهو الصدقة مثلا ، فإنّه حينئذ يمدّ الله تعالى في عمره ولا يتحقق الموت غدا.

وهذا نحو من البداء مجازا ، بعناية أنّه كان يوجد مؤثّر في الخارج على

٤٥٤

هذا الفاعل ، فإنّ دعاء الإنسان أو تصدّقه هو الذي أوجب تغييرا في النتيجة المترقبة ، وإن كان بحسب الدقة لم يوجد أيّ تغيير في القضاء ، بل هذا إمضاء للقضاء بحسب الحقيقة ، إذن فبتطعيم البيان المذكور بذلك يعرف نكتة تسميته بالبداء ، فإنّه لو لم يترك هذا الباب للإنسان مفتوحا ، لما شعر الإنسان بفاعليته وقدرته على تقرير مصيره ، وعلى تغيير وجه الكون.

وعلى هذا المعنى من البداء تنطبق الخصوصيات المذكورة في روايات استجابة الدعاء ، من أنّ الدعاء يردّ القضاء وأنّ صلة الرحم تطيل العمر ، وأنّ الصدقة تدفع البلاء الخ ...

وبهذا يظهر انطباق الخصائص التي ذكرناها على هذا المعنى وأنّ الله ما عبد وما عظّم بمثل البداء وذلك لأنّ البداء بالمعنى المذكور يكون حافزا للعبادة والدعاء ونحو ذلك من أعمال الخير باعتبار أنّه جعل لتصرّف الإنسان بالصدقة ، وصلة الرحم ، والدعاء ، وإغاثة الملهوف دخل في تنجز القضاء وعدمه.

الفكرة الثانية : هي أن يقال : إنّه لا نتصوّر قضاء شرطيا ، وآخر تنجيزيا بل نتصوّر منه تعالى قضاءين كلاهما تنجيزي إلّا أنّ أحدهما أقوى من الآخر ولكن يميزان وهما بعد كل هذا متعارضان ، وبما أنّهما متعارضان ، فيقدم الأقوى.

وتوضيح ذلك : هو أنّ الله سبحانه وتعالى حينما خلق الكون وضع في طبائعه فاعلية وسببية بحسب قابليات الأشياء إلّا أنّ هذه السببيات ليست عليتها علية لا تقاوم ، بل هي علية يمكن مقاومتها فهو خلق النار وجعل فيها سببية الإحراق ، ولكن يستطيع تجميد هذه السببية ساعة يشاء كما جمّد سببية نار إبراهيم عليه‌السلام في الإحراق وألغى فاعليتها ، وهذا قضاء من الله سبحانه.

وقد يمثل لذلك بما لو فرض أنّ الإنسان صنع أداة معيّنة ، وهي بدورها تصنع نتائج معيّنة ولا يستطيع أن يتحكّم بهذه الأداة بعد صنعها ، وقد يفرض أنه يستطيع أن يتحكم بها ، وهذه الاستطاعة وتصرفه بتجميد هذه الأداة ساعة يشاء هو قضاء أيضا ، يقوم به لتجميد القضاء الآخر ،

٤٥٥

فيعطل الأول بالثاني ، إذن ، فما لا يستطيع التحكّم به هو قضاء ، وما يستطيع التحكم به هو قضاء أيضا.

وحينئذ ، تارة نتصوّر أنّ الله تعالى ضمّن قانون السببية لنظم هذا الكون ، لكن على نحو لا يمكن له أن يعمل السلطنة في إيقاف النتائج كفاعل مختار.

وهناك تصوّر آخر وهو ، انّ هذه الطبائع التي أودعها الله تعالى في الكون تفقد سيطرتها وخاصيتها عند اتّخاذ أيّ قرار آخر من الله تعالى ، إذن ، فالقضية هنا ليست قضية تنجيزيّة أو شرطيّة ، بل قراران أحدهما ضعيف والآخر قوي ، والله سبحانه يعطّل الاقتضاء الضعيف بالقوي ، وهذا وجه من وجوه البداء ، لأنّ فيه تغيير ، ولكن بناء على ما تقدّم ، يكون معنى التغيير في القرار والقضاء ، تجميد القرار الآخر المتمثل فيما أودعه الله تعالى في طبائع الكون من فاعلية ضمن صيغ قانونية حيث يجمد قرارها بقرار أكبر ، وهذا الذي يسمّى بالمعجزة في الشرع ، حيث يكون ذلك لكرامة أو تصديق نبي والانتصار له ونحو ذلك.

وهذا مطلب معقول في نفسه ، ولأجل ذلك فهو يستحق هذه الأوصاف والمدائح المذكورة في روايات الباب ، باعتبار أنّه يشعر الإنسان بأنّ الأمر لا يزال بيد الله تعالى وأنّه على كلّ شيء قدير ، وأنّه يمكنه تعطيل الأسباب ساعة يشاء وهذا ممّا يحثّه على عبادته وتقديره.

وهذا المعنى من البداء ، تنطبق عليه الخصائص المذكورة في بابه.

ومن مجموع هاتين الفكرتين يكون معنى الدعاء واضحا.

وبناء على الفكرة الأولى تكون مسألة البداء علاجا لقضية الجبر الإنساني ، لأنّ أفعاله نتائج للسلطنة (١) التي تكون فيها نسبة الفعل الصادر من الإنسان إليه نسبة بالإمكان لا بالوجوب ، بمعنى أنّ أفعال الإنسان لا تقع في

__________________

(١) الأسفار الأربعة ـ صدر المتألهين الشيرازي ـ ج ٦ ـ ص ٢٧٠.

٤٥٦

تسلسل العلل والمعلولات المنتهية إلى الله تعالى ، ولذلك صحّ التكليف والثواب والعقاب لأنّ الإنسان هو الذي يوجد الفعل وهو الذي يعدمه كما أنّ الفكرة الثانية تكون علاجا لشبهة الجبر الإلهي كما عرفت.

الحل الثاني : وهو مبني على الاعتراف بأنّ البداء يلزم منه التغيير في العلم ، بمعنى أنّه يوجد علمان ، أحدهما ينسخ ويخطّئ الآخر.

إلّا أنّ هذين العلمين ليسا لله تعالى ، بل هما للإنسان ، ومعه لا يلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى.

وهذا الجواب فيه اتجاهان.

الاتجاه الأول : وقد ذكره بعض علماء الإماميّة (١) :

وحاصله : انّ البداء تغيير في علم الإنسان ، فإنّ هناك معتقدات يبني عليها الإنسان ثم يظهر الله تعالى خلافها ويبيّن الحقيقة ، فيبني الإنسان على ما ظهر ، وهذا أمر معقول ، فإنّه قد تتعلّق المصلحة في إخفاء الحكيم للحقيقة في بعض الأزمان ثم يظهرها بعد ذلك.

وهذا المعنى وإن كان معقولا ، إلّا أنّ حمل البداء عليه خلاف الظاهر ، فإنّ الظاهر من أكثر الروايات ، انّ البداء أمر مربوط بالله تعالى ، وليس بالإنسان.

الاتجاه الثاني : وهو ما اختاره صاحب الأسفار (٢) وجملة من الفلاسفة (٣) ، وبنى عليه صاحب الكفاية (٤) كما يظهر من كلماته.

وهذا الاتجاه مبني على أصول فلسفية لا حاجة لذكرها ، وفرّعوا على

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد ـ الشيخ الطوسي عدة الأصول ـ ج ٢ ـ ص ٢٩. الغيبة للشيخ الطوسي ـ ص ٢٦٢ ـ ٢٦٤.

(٢) الأسفار الأربعة ـ الشيرازي ـ ج ١ من السفر الثالث ـ ص ٣٩٥ ـ ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٣) نبراس الضياء ـ محمد باقر الداماد في شرح البداء ـ القبسات ـ ص ١٢٧ ـ ٤٥١ ـ ٤٥٣.

(٤) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٤٥٧

تلك الأصول ، انّ البداء يجعل العلم في مرتبة الخيال من النفس الفلكية ، وهذه النفس تدرك الأسباب ، وحيث أنّ الأسباب غير متناهية ، فهي تدركها بشكل تدريجي ، وحينئذ ، قد تدرك أمورا معيّنة من الأسباب ، فتحكم بمسبباتها قبل إتيان وقتها ، وبعد إتيان وقتها ، يتبيّن لها أنّ المسبّب كان مربوطا بشرط لم يحصل ، فحينئذ ، تتراجع النفس عمّا حكمت به أولا.

وهذا الكلام لا يمكن انطباقه على فكرة البداء ، لأنّه لا ربط لوجود نفس فلكية من هذا القبيل بتعظيم الله تعالى ، وغير ذلك من الخصائص المذكورة للبداء.

الحلّ الثالث : وهو يعترف بأنّ البداء يستلزم التغيير ، لكن في المعلوم وليس في العلم ، وهذا جواب من ذهب إلى أنّ البداء نسخ في التكوينيات ، والنسخ بداء في التشريعيات.

وهذا الحل يستخلص من كلمات الصدوق (١) والمرتضى (٢) ، وقد وافقهم عليه بعض الفلاسفة (٣) ، كما أنّه يصلح جوابا لشبهة اليهود الذي تخيّلوا لزوم التناقض من النسخ والبداء كما ستعرف ، كما انّ هذا المعنى للحل المذكور هو المستفاد من بعض الآيات القرآنية (٤) ، كما في قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) ، فهي تدلّ على أنّه لكلّ أجل كتاب يناسبه.

إذن ، فنسخ الكتاب السابق لمصلحة ، لا يستلزم التناقض كما توهم اليهود ، وذلك لأنّ من شروط التناقض وحدة الزمان ، مع أنّ الزمان هنا غير متّحد ، لأنّ كل كتاب كان في زمان خاص ، إذن ، فالتبديل والتغيير إنّما هو في المعلوم لا في العلم.

__________________

(١) عقائد الصدوق المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر ـ ص ٧٣ ـ توحدي الصدوق ص ١٦٧. عدة الأصول ـ الطوسي ـ ج ٢ ـ ص ٢٩ ـ أوائل المقالات ص ٢١٤.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ـ ج ١ ـ ص ١١٦ ـ ١١٧ ـ ١١٨.

(٣) القبسات ـ الداماد ـ ص ٧٩ ـ ٨٦.

(٤) البقرة ١٠٧ ـ الرعد ٣٩ ـ الرحمن ٢٩ ـ الأعراف ٥٤ ـ النور ٤٣ ـ يونس ٣.

٤٥٨

وكذلك يقال في البداء بالنسبة للتكوينيات ، فتبدل حالة الإنسان إلى حالة أخرى مثلا ليس فيها تناقض ، وذلك لتعدد الزمان.

وهذا الحلّ معقول ، وهناك بعض الروايات صريحة في هذا المعنى.

إلّا انّ هذا الحلّ يفترض وجود تغيير وتبديل في البداء لكن في المعلوم ، وهذا التغيير هو الأصل الموضوعي في اصل الإشكال على البداء ، إلّا أنّ التحقيق هو عدم تمامية هذا الأصل الموضوعي.

حيث أنّه لم يؤخذ في البداء معنى التغيير والتبديل والعدول ، بل أخذ فيه معنى الحدوث ، فحينما يقال مثلا : «أدع بما بدا لك ، أو سل عمّا بدا لك» لا يقصد به الدعاء والسؤال عمّا ظهر له بعد أن كان ثابتا خلافه كما افترض في الأصل الموضوعي للإشكال ، بل معناه أدع بما حدث في نفسك وظهر ، وسلّ عمّا حدث في نفسك.

إذن ، فكلمة «البداء» ، بقطع النظر عن القرائن ، لا تعطي أكثر من معنى الظهور ، وقد جاءت كلمة البداء بهذا المعنى في بعض الروايات الواردة في صحيح مسلم والبخاري ومسند أحمد بن حنبل وصحيح الترمذي. وتفسير الطبري وطبقات ابن سعد والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن والرازي في تفسيره والزمخشري في كشافه والإمام القشيري في لطائف الإشارات وابن عربي في رسائله إلى الرازي والسيوطي في الدر المنثور ، والحاكم في المستدرك ، والتاج (١) ، غاية الأمر أنّه يلزم من ذلك أنّ إرادة الله تعالى حادثة ، وهذا أمر مسلم عند الإمامية. لأنّ الإرادة من صفات الفعل لا الذات ، وقد دلّت على

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٧ ـ ١٨ ص ٦٣ ـ ٨٣ ـ ٣١٨ ـ ٣٢٨. الجامع الصحيح ـ البخاري ـ ج ٤ ص ١١٢ ـ ج ٢ ص ٢٩٥ ـ ٣٣٨ ـ ٢١١ ـ صحيح الترمذي ج ٢ ص ١٣ ، البخاري ج ٢ ص ١٩٤ ـ ١٩٥ ـ تفسير الطبري ج ١٦ ص ٤٧٧ ـ ٤٨١ ، طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٥٧٤ ـ الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي ج ٩ ص ٣٣٩ ، تفسير الرازي ج ١٩ ص ٦٤ ـ ٦٥. الكشاف ـ الزمخشري ج ٣ ص ٥٣٤. لطائف الإشارات ـ القشري ج ٣ ص ٢٣٤ رسائل ابن عربي ص ١٠٠. الدر المنثور ج ٤ ص ٦٦ ـ المستدرك ج ١ ص ٤٩٣ ـ التاج ج ٥ ص ١١١.

٤٥٩

ذلك روايات كثيرة خلافا للفلاسفة القائلين بأنّها من صفات الذات ثم ينتهون بذلك إلى ما يشبه الجبر ، وحينئذ يكون البداء بالمعنى الذي ذكرناه جوابا عن شبهتين ، إحداهما لليهود ، والثانية لبعض الفلاسفة حيث استشكلا في ربط الحادث بالقديم ، فذهب اليهود إلى عدم تأثير القديم بالحادث ، ولهذا قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) كما جاء في القرآن حكاية عنهم (١) ، وذهب بعض الفلاسفة كالنظام إلى أنّ كلّ الأشياء قديمة ولا حادث أصلا (٢).

وكلتا هاتين الشبهتين تندحض بتفسير البداء بالمعنى الذي ذكرناه ، لأنّ إرادة الله تعالى بعد أن كانت حادثة لا يبقى موضوع للشبهتين.

وبخلاصة ما أمكن قوله في مبحث البداء ، يتمّ الكلام في مباحث العام والخاص.

__________________

(١) المائدة آية ٦٤.

(٢) تلخيص المحصل ـ الطوسي ص ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ـ ٢١٠ ـ ٢١١ ـ ١٣١. الشامل في أصول الدين ـ الجويني ص ٢٣٧ ـ ٢٤٢. اللمع أبو الحسن الأشعري ص ٢٤٥ ـ ٢٥١.

٤٦٠