بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

المطلق والمقيّد

والكلام فيهما يقع في فصول :

٤٦١
٤٦٢

الفصل الأول :

في اسم الجنس

وبما أنّ اسم الجنس موضوع لمعنى كلّي ، يلحظ تارة مطلقا ، وأخرى مقيدا ، فقد وقع الكلام ، في أنّ اسم الجنس ، هل هو موضوع للمعنى الكلّي المطلق بالخصوص ، بحيث يكون استعماله في المقيد مجازا ، أم أنّه موضوع للجامع بين المطلق والمقيد ، فيكون استعماله في كلّ منهما حقيقة؟

فعلى الأول ، تكون دلالته على الإطلاق وضعية ، وعلى الثاني ، لا يكون اللفظ بنفسه دالّا على الإطلاق بالوضع ، وإنّما تكون دلالته عليه بواسطة تأسيس قرينة عامة دالّة على الإطلاق تسمّى بمقدمات الحكمة.

ولتوضيح الحال ، ذكر الأصولين مقدمة تمهيدية لذلك تسمّى باعتبارات الماهية ، كي يعرف أنّ أسماء الأجناس على أيّ اعتبار منها مبنية.

فنقول : إنّ الماهية لها اعتبارات ، إذ أنّها تارة تؤخذ على نحو تلحظ بشرط شيء ، وأخرى تلحظ بشرط لا ، وثالثة تلحظ لا بشرط. فمثلا : الإنسان ، إن لوحظ بالنسبة إلى العلم ، فتارة يقيّد به ، وحينئذ ، يكون بشرط شيء ، وأخرى ، يقيد بعدمه ، وحينئذ ، يكون بشرط لا ، وثالثة ، لا يقيّد به ولا بعدمه ، فيكون لا بشرط.

ونحن لو دقّقنا النظر في ذات الملحوظ في هذه الاعتبارات ، بقطع النظر عن تعلّق اللحاظ بذلك الملحوظ ، نجد أنّه لا تقابل ذاتي بينها ، وليس هناك

٤٦٣

أقسام ثلاثة ، بل قسمين فقط ، لأنّ الملحوظ في الاعتبار الثالث محفوظ في كلا ذاتيّ الملحوظين في الاعتبار الأول والثاني ، لأنّ الأول تعلّق بماهية الإنسان العالم ، والثاني تعلّق بماهية الإنسان اللّاعالم ، والثالث تعلّق بذات الإنسان غير الملحوظ معه العلم ولا عدمه ، وذلك لأنّ التقابل يكشف عن أنّ الأقسام عرضية ، بينما نجد هنا أنّ الملحوظ في القسم الثالث ـ لا بشرط ـ محفوظ في ذات الملحوظ الأول وذات الملحوظ الثاني ، وهذا ينتهي بنا إلى القول : بأنّ التقسيم والتخصيص في المقام إنّما هو بلحاظ عالمين ، الأول : لحاظ عالم الخارج ، الثاني : لحاظ عالم الذهن ، فالقسمة حينئذ تكون ثنائية ، لأنّه ليس لدينا سوى حصتين فقط ، «إنسان عالم» ، و «إنسان غير عالم» ، ولا يوجد خارجا ، إنسان لا يتصف بإحدى هاتين الصفتين حيث يكون لا عالم ولا لا عالم ، وذلك لاستحالة ارتفاع النقيضين خارجا ، كما أنّ الجامع بين الإنسان العالم والإنسان اللّاعالم موجود خارجا ضمن أحد هذين القسمين لا بوجود مستقل ، وإلّا لما كان جامعا ، بل كان قسما مقابلا ، وهذا خلف كونه جامعا ، لأنّ الجامع بين فردين ـ بلحاظ أي عالم ـ لا يعقل أن يكون موجودا في ذلك الوعاء الذي يجمع بين أفراده فيه ، إلّا في ضمن تلك الأفراد ، لأنّه لو كان موجودا بوجود مستقل في مقابلها ، لكان مغايرا لها ، ومعه لا يكون جامعا بينها.

والحاصل هو ، إنّه في عالم الخارج ، عندنا قسمان فقط ، فتكون القسمة ثنائيّة لا ثلاثيّة.

وأمّا بلحاظ عالم الذهن ، فالقسمة تكون ثلاثية ، فإنّ الذهن البشري له قدرة على انتزاع مفاهيم من الأمور الخارجية على نحو يناسبها ، ولذا ، فإنّ الذهن في مقام انتزاع تلك المفاهيم ، يمكنه أن ينتزع مفهوم الإنسان العالم ، ومفهوم الإنسان غير العالم ، ومفهوم الإنسان دون تقيده بالعلم أو عدمه ، وهذا القسم الثالث هو ، المسمّى باللّابشرط القسمي ، وهذه المعقولات تسمّى معقولات أوليّة ، لأنّها منتزعة من الخارج مباشرة ، وكل واحد من هذه المعقولات يباين بخصوصيته الآخر ، ومن هنا كانت الأقسام هنا ثلاثة.

ونحن إذا حلّلنا هذه القيود التي تجعل هذه المعقولات متقابلة ،

٤٦٤

وجدناها كلّها خصوصيات ذهنية من شئون اللحاظ والصورة الذهنية للماهيّة ، فإنّ الصورة الذهنية للماهية في عالم الذهن ، تارة ينصب عليها لحاظ العلم ، وأخرى لحاظ عدم العلم ، وثالثة ، لا ينصب عليها أيّ من اللحاظين ، وهذه شئون للصورة ، ولهذا تسمّى هذه القيود بالقيود الثانوية ، لأنّها قيود للمعقول الأول ، بينما نفس العلم واللّاعلم ، معقولات أوليّة لأنّها قيود للخارج.

ونحن حينما نقارن بين القيود الثانوية والأولية ، نجد أنّ القيد الثانوي في القسم الأول ، الذي هو «الماهيّة بشرط شيء» ، يوازيه قيد ومعقول أوّلي هو ، نفس العلم ، ونجد أنّ القيد والمعقول الثانوي في القسم الثاني ، الذي هو «الماهية بشرط لا» ، يوازيه معقول وقيد أوّلي هو ، نفس عدم العلم ، بينما إذا نظرنا إلى القيد والمعقول الثانوي في القسم الثالث الذي هو ، «الماهية لا بشرط» ، وهو عدم لحاظ العلم ولا اللّاعلم ، نرى أنّه لا يوازيه قيد ومعقول أولي ، وذلك ، لعدم وجود قسم ثالث مستقل من هذا القبيل في الخارج ، ومن هنا كان القسم الثالث في القسمة الذهنية ، يشكل جامعا بين القسمين في القسمة الثنائية الخارجية.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ الجامع بين فردين بلحاظ وعاء ، يستحيل أن يكون له وجود مستقل عنهما بلحاظ ذلك الوعاء ، لأنّه خلف كما تقدّم ، لكن يمكن أن يكون له وجود مستقل في وعاء آخر متأخر رتبة عن ذلك الوعاء ، من دون أن يلزم الخلف ، وذلك كما في عالم الذهن ، فإنّه يمكن وجود قسم ثالث مستقل ، وهو «الماهية لا بشرط» ، باعتبار أنّه يمكن لحاظ إنسان غير مقيّد بالعلم ولا بعدمه ، ويكون موجودا بوجود مستقل عن «الإنسان العالم ، والإنسان اللّاعالم» ، لأنّ هذا الوعاء هو وعاء الذهن ، ووعاء جامعيته وعاء الخارج ، فلا يقال : بأنّ وجوده المستقل ينافي جامعيته ، إذن ، فلا يلزم التهافت والخلف من وجوده المستقل.

ثم إنّ هذه الصور الذهنية الثلاث ، إذا لاحظناها بما هي معقولات أولية ، يمكن أن تكون بنفسها موضوعا لتعقلات ثانوية ، وذلك لأنّ الذهن بعد أن ينتزع مفهوما من الخارج ويتعقله ، يمكنه أن يلتفت إلى نفس تعقله

٤٦٥

الأولي ، فينتزع منه مفهوما كما انتزع من الخارج ، نسمّيه بالتعقل الثانوي ، فهنا الذهن بعد أن تصور الإنسان العالم ، والإنسان اللّاعالم ، والإنسان غير المقيّد بأحدهما ، يأتي مرة ثانية إلى نفس تصوراته التي هي تعقلات في مرحلة تعقله الأول ، فينتزع منها ثلاثة مفاهيم نسمّيها بالتعقلات الثانوية ، حيث أنّ الذهن بعد أن تصور الإنسان العالم ، والإنسان اللّاعالم ، والإنسان الخالي عن كلا القيدين ، جاء مرة أخرى إلى نفس تصوراته الأولية هذه ، فانتزع من التصور الأول مفهوم الماهية المقيّدة بلحاظ العلم ، ومن التصور الثاني ، مفهوم الماهيّة المقيّدة بعدم العلم ، ومن التصور الثالث ، مفهوم الماهيّة الخالية من كلا القيدين ، ثم ينتزع الذهن مفهوما رابعا يكون هو المفهوم الجامع بين المفاهيم الثلاثة ، وهذا الجامع هو المسمّى ، «بالماهية اللّابشرط المقسمي» ، وهذا الجامع لم يكن وجوده بنحو مستقل ممكنا في مرحلة التعقل الأولي للذهن ، لنفس السبب الذي ذكرناه في عدم إمكان وجود قسم ثالث في مرحلة الخارج ، بينما كان وجوده كذلك ممكنا في مرحلة التعقل الثانوي للذهن ، لنفس السبب الذي ذكرناه في مقام توجيه قسم ثالث في مرحلة التعقل الأولي للذهن.

إلى هنا ثبت أنّه عندنا صورتان في عالم الخارج ، وفي عالم التعقل الأول للذهن ، عندنا ثلاث صور ، وفي عالم التعقل الثاني للذهن ، عندنا أربع صور ، وهكذا كلّما صعد الذهن في التصور زادت الصور صورة.

ثم إنّه قد يتخيّل ويقال : بأنّ الصورة الثالثة في التعقل الأول للذهن التي سمّيناها «باللّابشرط القسمي» والذي قلنا إنّها عبارة عن لحاظ الماهية مجرّدة عن لحاظ وجود القيد فيها وعدمه ، قد يقال (١) : إنّ هذه الصورة هي عبارة عن لحاظ الماهية مع لحاظ عدم دخل القيد وجودا وعدما كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي (قده).

إلّا انّ هذا التخيل فاسد ، والوجه في ذلك هو ، إنّه إن أريد بلحاظ عدم

__________________

(١) محاضرات فياض ـ ج ٥ ـ ص ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٤٦٦

دخل القيد وهو ، «العلم» في مثالنا ، وجودا وعدما ، يعني عدم دخله في ترتب الحكم على الماهية ، وهي «الإنسان» ، كما لو قيل : «الإنسان يحرم قتله» ، فهنا : لا دخل للعلم وجودا ولا عدما في ترتب الحرمة ، وهو بالتالي أجنبي عن محل الكلام ، لأنّ محل الكلام إنّما هو في اعتبارات الماهية في نفسها التي هي عبارة عن أنحاء النظر التصوري الواقع عليها ، وليس الكلام فيما هو دخيل في حكمها أو غير دخيل ، هذا مضافا إلى أنّه لو كان محلّ الكلام فيما له دخل في الحكم ، فلا معنى للحاظ عدم الدخل في صورة ما إذا كان الحكم مترتبا على موضوعه على نحو الإطلاق ، لأنّ ترتب الحكم حينئذ منوط بواقع عدم الدخل لا بلحاظ عدم الدخل ، وإن شئت قلت : إنّه إن أريد من لحاظ عدم دخل القيد «العلم» عدم دخالته في الحكم المترتب على الماهية ، فمن الواضح حينئذ أنّه أجنبي عن محل الكلام ، لأنّ محل الكلام إنّما هو اعتبارات الماهية في نفسها التي هي عبارة من أنحاء النظر التصوري الواقع عليها وليس الكلام فيما هو دخيل في حكمها وما هو غير دخيل فيه ، لأنّ هذا اللحاظ لحاظ في كيفية ترتب الحكم المحمول على الماهية وليس أحد التصورات النظرية الواقعة عليها ، هذا مضافا إلى أنّ لحاظ عدم الدخل مستدرك حتى في هذا المقام ، «مقام ترتب الحكم على موضوعه» لأنّ ترتب الحكم على موضوعه على الإطلاق من نتائج واقع عدم الدخل ، وليس من نتائج لحاظ عدم الدخل ، لأنّ موضوع القضية إذا لم يؤخذ فيه قيد فإنّه حينئذ يترتب الحكم على الطبيعة المطلقة ، لصدقها على تمام أفرادها حينئذ ، وعليه : فلا يصح أن تكون الطبيعة بنحو اللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ الماهية ولحاظ عدم دخل القيد ، كما ذهب إليه السيد الخوئي (قده).

وإن أريد من لحاظ عدم دخل القيد وجودا وعدما ، هو أنّ الماهية في عالم الذهن وبقطع النظر عن ترتب حكم عليها ، إنّه لوحظ معها عدم دخل القيد وعدم دخل عدمه ، باعتبار أنّ الماهية عند ما تأتي إلى الذهن ولا يكون معها لحاظ العلم مثلا ولا لحاظ عدم العلم ، فإنّها حينئذ تكون متميزة بذلك ، أي متصفة بأنّها وحدها.

٤٦٧

فإن كان هذا هو المراد ، ففيه : إنّ لحاظ الماهية كذلك ، إن أريد به اللحاظ التصديقي لهذه الصفة ، بمعنى التصديق ، بأنّ الصورة الذهنية تجيء إلى الذهن بلا صفة العلم ، وبلا صفة عدم العلم ، فهذا أمر غير معقول ، لأنّ النظر التصديقي لا يعقل أن يكون من أطوار اللحاظ التصوري للماهية ، بل يحتاج إلى إلفات النفس إلفاتا ثانيا إلى تلك الصورة حتى تصدق بحالاتها وشئونها ، فإنّ النفس إذا تصورت صورة «ما» ، فتكون تلك الصورة معلومة لديها بالعلم الحضوري ، فإذا أريد التصديق بتلك الصورة ، فلا بدّ من نظر ثاني إليها ، ليصدق أنّ تلك الصورة حضرت في النفس وحدها أو مع غيرها ، وهذا الالتفات الثاني في طول النظر التصوري ، ومعه ، يستحيل أن يكون من أطواره.

وإن أريد بلحاظ الماهية كذلك ، لحاظ مفهوم الصفة تصورا ، بمعنى أنّه كما نلحظ الإنسان العالم لحاظا تصوريا ، كذلك نلحظ الإنسان الذي لم يؤخذ معه العلم قيدا بالنظر التصوري.

فهذا أيضا غير معقول ، لأنّ دخل القيد وعدم دخله من شئون نفس اللحاظ وليسا من شئون ذات الملحوظ ، لأنّ دخل القيد معناه : أخذ القيد في عالم اللحاظ ، وعدم دخل القيد ، معناه : أخذ عدمه في عالم اللحاظ ، إذن ، دخل القيد وعدم دخله من شئون نفس اللحاظ لا ذات الملحوظ ، وعليه فلا يعقل أن يكون الدخل وعدمه قيدا لنفس الملحوظ.

نعم ، يعقل أن يكون قيدا في تعقل ثاني متأخر رتبة عنه.

والخلاصة : هي أنّ الذهن يتصور الماهية في التعقل الأول ضمن ثلاث صور ذهنية ، ينتزعها الذهن من الخارج مباشرة ، وهي صورة ، «البشرطشيء» ، وصورة «البشرطلا» ، وصورة «اللّابشرط القسمي».

وفي التعقل الثاني ، ينتزع الذهن أربع مفاهيم ، من كل صورة من هذه الصور مفهوما ، ومفهوما رابعا هو الجامع بينها ، يسمّى باللّابشرط المقسمي.

٤٦٨

ثم إنّه قد وقع الخلاف بين علماء الأصول في نقاط ثلاث.

النقطة الأولى : في أنّ الكلّي الطبيعي ، هل هو الماهية الملحوظة بنحو اللابشرط المقسمي ، أم الملحوظة بنحو اللّابشرط القسمي ، أم أنّها شيء ثالث ـ الماهية المهملة ـ؟

النقطة الثانية : في انّ الماهية المهملة ، هل هي الملحوظة بنحو اللّابشرط المقسمي ، أم هي غيرها؟

النقطة الثالثة : في انّه هل يعقل أن تكون الألفاظ موضوعة للماهية لا بشرط قسمي ، أو لا بشرط مقسمي ، أم لا يعقل؟. أمّا النقطة الأولى : فقد ذهب الحكيم السبزواري (١) إلى أنّ الكلّي الطبيعي هو الماهية الملحوظة بنحو اللّابشرط المقسمي ، وذهب صاحب الكفاية (٢) (قده) إلى أنّه هو الماهية الملحوظة بنحو اللابشرط القسمي.

وذهب آخرون إلى انّه الماهية (٣) المهملة.

أمّا ما ذهب إليه الحكيم السبزواري (قده) فقد اتّضح بطلانه ممّا ذكرناه سابقا ، حيث قلنا : إنّ اللّابشرط المقسمي ، هو الصورة الرابعة للتعقل الثانوي للذهن الجامع بين الحصص التي هي من التعقل الأول كما عرفت.

وإن شئت قلت : إنّ الماهية الملحوظة بنحو اللّابشرط المقسمي معقول ثانوي ، هو المفهوم الرابع في التعقل الثاني ، وهو الجامع بين الحصص المعقولة في التعقل الأول ، إذن فهو جامع بين صور ذهنيّة وليس جامعا للأفراد الخارجية.

بينما الكلي الطبيعي ، هو عبارة عن الجامع الموجود في الخارج في

__________________

(١) شرح منظومة سبزواري ـ كتابفروشي مصطفوي ـ ص ١٢ ـ ٢٢.

(٢) كفاية الأصول ـ الآخوند ـ ج ١ ـ ص ٣٧٨.

(٣) القبسات ـ السيد الداماد ـ القبس الخامس ـ ص ١٤٣.

٤٦٩

ضمن أفراده التي انتزع عنها بقطع النظر عن خصوصياتها ، فهو من المعقولات الأوليّة.

ومعه : كيف يكون الكلّي الطبيعي عين اللّابشرط المقسمي.

إذن فهذا التوهم ناشئ من الخلط بين المعقولين ، وعدم إدراك أنّ اللّابشرط المقسمي معقول ثانوي ، وأنّ الكلي الطبيعي معقول أولي.

وعليه فالصحيح : ما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) (قده) ، من أنّ الكلّي الطبيعي ، هو عبارة عن الماهية الملحوظة بنحو اللّابشرط القسمي ، بمعنى أنّ ذات الملحوظ بهذا اللحاظ هو ، الكلّي الطبيعي ، لأنّه جامع صادق على واجد القيد وفاقده ، كالإنسان مثلا ، لا أنّه عين اللحاظ.

وقد استشكل في ذلك السيد الخوئي (٢) (قده) ، حيث ذكر ، أنّ الكلّي الطبيعي هو ما يكون صالحا للانطباق على أفراده خارجا ، بينما الماهيّة اللّابشرط القسمي هو ، ما كان منطبقا بالفعل على أفراده وفانيا فيها ، وعليه ، فلا يكون أحدهما عين الآخر.

إلّا أنّ هذا الاستشكال غير تام ، لأنّه ما ذا يريد من كون الماهية اللّابشرط القسمي أنّها التي تكون منطبقة بالفعل على تمام أفرادها؟

فإن أراد بذلك من الفعلية ، إنّ الأفراد يرون بواسطتها بالنظر التصوري ، بحيث يصير حال الكلي الطبيعي حال العموم الذي ترى بواسطته الأفراد إجمالا ، كما في قولنا : «أكرم كل عالم»؟.

ففيه : انّ هذا خلط بين المطلق والعام ، لأنّ اللّابشرط القسمي ، في باب المطلق ينتج الإطلاق وليس العموم ، فإنّ الفرق بين العام والمطلق ، هو أنّ الأفراد ترى بالعام ، بينما في المطلق لا ترى الأفراد بما هي أفراد بالطبيعة ،

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الآخوند ـ ج ١ ـ ص ٣٧٨.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ص ٥٢٣.

٤٧٠

لأنّ الطبيعة لا ترى إلّا نفسها واللّابشرط القسمي غاية ما ينتج الإطلاق لا العموم.

وإن أراد بكون الماهية اللّابشرط القسمي فانية بالفعل في أفرادها ، إن أراد من الفعليّة في اللّابشرط القسمي ، انّه لو علّق عليها حكم لسرى هذا الحكم إلى تمام أفرادها.

ففيه : إنّ هذا صحيح ، لكنه موجود في الكلي الطبيعي أيضا ولا يحتاج إلى عناية أزيد من تعليق الحكم عليه ليسري إلى أفراده.

وعليه : فالكلّي الطبيعي هو عين الماهية المأخوذة بنحو اللّابشرط القسمي ، لكن لا بمعنى أنّه عين المعقول الثالث بحدّه ، لأنّ حدّه وما هو مميّز له هو ، عدم لحاظ القيد ولا عدمه معه ، بل بمعنى ، أنّه ذات الملحوظ باللحاظ الثالث ، وأمّا حدّ اللحاظ الثالث الذي هو عدم لحاظ القيد ولا عدمه فلا يرى ، لأنّه قيد للحاظ ، لا للملحوظ ، وهذا الحد لا يري الأفراد ، فلا يكون الكلّي الطبيعي عينه ، بل عين الملحوظ بذلك اللحاظ.

ولعلّ مناقشة السيد الخوئي (قده) نشأت من هذا الخلط ، حيث انّه اعتبر هناك خصوصية زائدة على الماهية مأخوذة في الملحوظ باللحاظ الثالث ، وجعل اللّابشرط القسمي عبارة عن تلك الماهيّة مع تلك الخصوصيّة ، وحينئذ ، يتوجه إشكاله المذكور ، من أنّ اللّابشرط القسمي هو غير الكلّي الطبيعي ، لأنّ اللّابشرط القسمي يكون عبارة عن الكلّي الطبيعي مع خصوصية زائدة ، هي خصوصية عدم دخل القيد.

لكن عرفت عدم تمامية ذلك ، لأنّ هذه الخصوصية من شئون اللحاظ الثالث ، لا ذات الملحوظ به.

وأمّا النقطة الثانية : فهي في تحقيق الماهية أو الطبيعة المهملة.

فنقول : إنّ الماهية المهملة اصطلاح نريد به الماهية التي تجمع خاصيتين.

٤٧١

الأولى : أن تكون معقولا أوليّا منتزعا من الخارج.

الثانية : أن يكون منظورا إليها بلا إضافة أيّ حدّ عليها ، حتى حدّ عدم الحدّ ، وقيد عدم القيد ، وهذا معنى قولهم : إنّ النظر مقصور على ذاتها وذاتياتها.

وبعد هذا يقع الكلام ، في أنّ هذه الماهية المهملة التي تكون واجدة لهاتين الخصوصيتين ما هي؟

هل هي الماهية الملحوظة بنحو اللّابشرط القسمي أو المقسمي أو غيرهما اللّابشرط المقسمي وتبين أنّه معقول ثاني وليس معقولا أوليا ، حيث اتّضح الفرق بينه وبين الماهية المهملة ، حيث قلنا سابقا : إنّ الماهية المهملة تتميز بأمرين ، أولهما : كونها معقولا أوليا منتزعا من الخارج ، وثانيهما : أن يكون منظورا إليها بلا إضافة أي حدّ عليها حتى حدّ عدم الحدّ وقيد عدم القيد ، إذن فالماهية المهملة هي غير «اللّابشرط المقسمي» وليست عينه.

وأمّا ما اتّفقوا عليه من ان الماهيّة المهملة ليست هي الماهية «باللّابشرط القسمي» ، فقد استدلّوا عليه بأمرين.

الأمر الأول : هو انّ الماهية الملحوظة بنحو اللّابشرط القسمي أخذ فيها حدّ الإطلاق ، ولذا كانت في مقابل «البشرطشيء» ، أو البشرطلا.

بينما الماهيّة المهملة ـ بناء على ما تقدّم ـ هي عارية عن كلّ قيد ، حتى قيّد لحاظ عدم القيد ، ومعه لا يعقل أن تكون الماهية المهملة هي اللّابشرط القسمي.

وهذا التقريب غير تام ، بناء على المعنى الذي ذكرناه للماهية اللّابشرط القسمي ، من إنّه وإن كان متقوما بحدّ زائد على ذات الماهية ، إلّا أنّ هذا الحدّ من شئون اللحاظ وليس من شئون الملحوظ وبما أنّهم اتفقوا على أنّها ليست باللّابشرط القسمي ، لأنّ اللّابشرط القسمي هو المطلق ، إذن ينحصر الخلاف بين الأخيرين ، وهو انّها اللّابشرط المقسمي ، أو أمر آخر غيره.

٤٧٢

وقد ذهب صاحب الكفاية (١) إلى أنّ الطبيعة المهملة هي عبارة عن الماهية الملحوظة بنحو اللّابشرط المقسمي.

وذهب المحقق الأصفهاني (٢) معترضا على صاحب الكفاية (قده) ، ووافقه السيد الخوئي (٣) في اعتراضه ، إلى أنّها أمر آخر غير اللّابشرط المقسمي ، حيث ذكر أنّ الماهية ، إمّا أن تؤخذ منظورا إلى ذاتها وذاتيّاتها فقط ، وحينئذ ، فلا يصح أن يحكم عليها إلّا بذاتها وذاتياتها ، كالحكم بالناطقية على الإنسان ، وهذه الماهية هي الماهية المهملة.

وإمّا أن تؤخذ الماهية مقيسة لشيء آخر كالعلم ، فتارة تقيّد به ، وأخرى بعدمه ، وثالثة تكون مطلقة من جهته.

والجامع بين هذه الصور الثلاث هو ، المسمّى بالماهية اللّابشرط المقسمي.

والصحيح فيما اختلفوا فيه هو أنّ الماهية المهملة ليست هي الماهية بنحو اللّابشرط المقسمي ، وذلك لأمرين :

الأمر الأول : هو انه بعد أن انكشف لنا حقيقة الماهية الملحوظة ذاتها ، إذ لا يمكن دخوله تحت الرؤية ، وحينئذ لا معنى لأن يقال : بأنّ الماهية المهملة ينظر إليها بنفس اللحاظ الذي نظر به إلى الماهية اللّابشرط القسمي ، نعم بناء على ما ذهب إليه السيد الخوئي (قده) في تفسير اللّابشرط القسمي من أنّه لحاظ الماهية ولحاظ عدم دخل القيد ، حينئذ يكون لحاظ عدم دخل القيد أمر داخل تحت اللحاظ ، وهو أمر زائد على الماهية وحينئذ يتم التباين بين الماهية المهملة ، والماهية لا بشرط قسمي.

الأمر الثاني : هو أنّ الماهية المهملة هي ما قصر النظر فيها على ذاتها وذاتياتها ، وحينئذ لا يمكن أن يحكم عليها إلّا بذاتها وذاتياتها ، ولا يحكم

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٧٦ ـ ٣٧٨.

(٢) نهاية الدراية ـ ج ٢ ـ الأصفهاني ـ ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) أجود التقريرات ، الخوئي ، ج ١ ـ ص ٥٢٣ ـ ٥٢٤ ـ ٥٢٥.

٤٧٣

عليها بشيء خارج عن ذلك ، بينما الماهية لا بشرط قسمي يحكم عليها بأمور كثيرة خارجة عن ذاتها وذاتياتها.

إلّا هذا الكلام غير تام : وذلك لأنّ كل من يريد عقد قضية مركبة من موضوع ومحمول ، لا بدّ له من نظرين :

النظر الأول : هو النظر إلى الموضوع ـ وهو نظر تصوري دائما ـ وهذا النظر التصوري في طرف الموضوع ، دائما يتعلق بذات الموضوع وذاتياته فقط ، سواء كانت جنسا ، أو نوعا ، أو فصلا له ، لأنّ ما يتعلّق به نظره هو الموضوع ، وما ليس بموضوع لا يتعلّق به نظره.

النظر الثاني : هو النظر إلى المحمول ، وحينئذ فهذا النظر الحملي ، تارة ينظر به إلى مرتبة ذات الموضوع ، بمعنى أنّه يريد القول : بأنّ هذا المحمول ثابت للموضوع في مرتبة ذاته ، وفي مثل ذلك ، لا يمكن أن يحمل على هذا الموضوع إلّا جنسه أو نوعه أو فصله ، فينحصر الحمل بذاتيات الموضوع فقط.

وتارة أخرى ، يكون النظر الحملي إلى لوح الواقع الذي هو أوسع من مرتبة الذات ، وفي مثله يصح أن يحمل على الموضوع كل ما هو ثابت له في الواقع.

وبناء عليه يقال : بأنّ النظر الحملي أجنبي عن محل الكلام ، لأنّ محل الكلام هو النظر التصوري الذي يقتصر دائما على الموضوع.

وكون النظر التصوري يقتصر على الموضوع ، أي على ذات الماهية وذاتياتها ، لا يستلزم عدم جواز الحكم عليها بغير ذاتها وذاتياتها.

وما ذكر آنفا ، خلط بين النظر التصوري للماهية ، والنظر الحملي لها ، وإن شئت قلت : إنّ الماهية تارة ينظر إليها بالنظر الحملي ، وهو ملاحظة ثبوت المحمول للموضوع ، وحينئذ ، إذا كان الملاحظ ثبوته لذات الموضوع فلا يصدق الحمل إلّا إذا كان المحمول ذاتيا للموضوع ، وإذا كان الملاحظ ثبوته لواقع الموضوع فلا مانع حينئذ من كون المحمول عرضيا مضافا إلى كونه ذاتيا وذلك لأنّ الموضوع في مرتبة الواقع أوسع منه في مرتبة الذات ، وأخرى ينظر إلى الماهية بالنظر التصوري المحض كما تقدّم.

٤٧٤

ومن هنا : يتضح أنّ ما ذكروه من عدم جواز حمل غير الذاتيات على الماهية إذا كان ملحوظا ذاتها وذاتياتها ، إنّما يتمّ فيما إذا كان منظورا إليها بالنظر الحملي ، وكان الحمل في مرتبة ذات الموضوع.

ومحلّ الكلام ليس هذه الصورة ، بل محل الكلام هو فيما إذا كان منظورا إليها بالنظر التصوري.

إذن ، فلا بأس أن يقصر النظر على ذات الماهية تصورا ، ولا مانع من أن يحمل عليها ما هو خارج عن ذاتها وذاتياتها إذا كان بلحاظ مرتبة واقع الموضوع ، وإنّما الممنوع حمل العرضي بلحاظ مرتبة ذات الموضوع ، وبهذا يتضح أنّ الماهية المهملة هي نفس الماهية لا بشرط القسمي ، بمعنى أنّها ذات الملحوظ بهذا اللحاظ الخاص ، والفرق بينهما هو الفرق بين اللحاظ والملحوظ ، والرؤية والمرئي.

النقطة الثالثة : وهي التي وقع الخلاف فيها ، في معقولية وضع اسم الجنس للمطلق ، كما وقع الخلاف في معقولية وضعه للجامع بين المطلق والمقيد.

وعليه فالكلام هنا يكون في مرحلة الثبوت.

وقد استشكل بعضهم في وضعه للجامع ، وحاصل هذا الإشكال هو :

إنّ وضعه للجامع يستدعي تصوّر ذلك الجامع ـ الموضوع له ـ.

ومن الواضح أنّ الجامع بين المطلق والمقيد لا بدّ أن يوجد في الذهن ، إمّا في ضمن المطلق ، وإمّا في ضمن المقيد ، ولا وجود مستقل له عنهما ، وإذا استحال وجوده بما هو جامع استحال وضع اللفظ له.

وقد أجيب عن ذلك : بأنّ هذا الجامع وإن استحال وجوده مستقلّا في الذهن إلّا في ضمن المطلق أو في ضمن المقيد ، إلّا أنّ هذا الجامع يمكن للذهن أن ينتزع منه مفهوما اسميا ثانويا ، ويكون ذلك المفهوم مشيرا إلى واقع الجامع.

٤٧٥

وعليه : يمكن أن يوضع اسم الجنس لذلك المفهوم ، باعتباره مشيرا إلى واقع الجامع ، وبذلك يكون واقع الجامع قد تصوّره الواضع ، لكن لا بحقيقته ، بل بوجهه وعنوانه ، وهذا التصور يصحح الوضع كما عرفت في بحث الوضع.

ولكن هذا الجواب غير تام : لأنّ نتيجته انقلاب الوضع العام والموضوع له العام ـ كما في أسماء الأجناس ـ إلى الوضع العام والموضوع له خاص ، لأنّ المتصوّر عام وقد وضع اللفظ لأفراده ، فيكون الموضوع له خاصا.

والتحقيق في المقام هو أن يقال : إنّه لا أساس لهذا الاستشكال بناء على ما أوضحناه ، وذلك لأنّ الواضع يمكنه تصوّر الماهية بنحو اللّابشرط المقسمي ، وحينئذ ، فتارة يضع اللفظ لذات المتصوّر ويكون لحاظه وتصوره مجرّد مرآة لذات المتصور من دون أن تؤخذ تلك الصورة وذلك اللحاظ قيدا في الموضوع له ، فيكون تمام الموضوع له هو ، ذو الصورة المهملة التي تأتي ضمن المطلق تارة ، وضمن المقيد أخرى ، وهذا معنى كون اسم الجنس موضوعا للجامع بين المطلق والمقيّد ، وتارة أخرى يضع اللفظ لذات الصورة الملحوظة بذلك اللحاظ والمرئيّة بتلك الصورة التي هي عبارة عن لحاظ الماهيّة بلا قيد ، وبذلك يكون اسم الجنس موضوعا للمطلق ، وبهذا يثبت إمكانية وضع اسم الجنس للجامع بين المطلق والمقيّد ، وللمطلق بخصوصه ، ولا يكون هذا الإشكال واردا حينئذ.

وقد استشكل بعضهم أيضا في معقوليّة وضع اسم الجنس لخصوص المطلق ، كما يظهر من كلمات صاحب الكفاية (١) (قده).

وحاصل هذا الإشكال هو ، انّ الإطلاق ـ على ما تقدّم ـ قيد ثانوي ، فهو من شئون نفس اللحاظ لا الملحوظ ، وحينئذ ، إذا أخذ قيدا في الموضوع له ، إذن ، يكون اللفظ موضوعا لما هو مقيّد بأمر ذهني ، ومثل هذا

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٧٦ ـ ٣٧٨.

٤٧٦

المعنى لا ينطبق على الخارج ، مع أنّ مداليل أسماء الأجناس تنطبق على الخارج ، إذن ، فهذا يدلّ على استحالة وضع اللفظ للمطلق.

وهذا الكلام غير تام ، وذلك : لأنّ الإطلاق وإن كان من القيود الثانوية ومن شئون الصورة واللحاظ لا الملحوظ ، وانّه لو أخذ قيدا في الموضوع له لكان نتيجة ذلك كون اللفظ موضوعا لما هو مقيّد بأمر ذهني.

إلّا أنّه لا محذور في ذلك.

وتوضيح الحال هو ، انّ حقيقة الوضع ـ كما مرّ في محله ـ هي إيجاد الربط بين اللفظ والمعنى في ذهن السامع ، فأحد طرفي هذا الربط هو اللفظ ، والطرف الثاني ليس هو ذات المعنى ، بل هو صورة ذلك المعنى ، لأنّ معنى ذلك الربط هو ، انّ هذا اللفظ سبب في حضور صورة ذلك المعنى في ذهن السامع ، وعليه فلا محذور في أن يجعل الواضع ربطا سببيا بين لفظ إنسان والصورة الذهنية المطلقة لهذه الماهية بحيث متى حضر لفظ إنسان في الذهن حضرت الصورة المطلقة لهذه الماهية في الذهن ، ومعنى انطباق مدلول الكلام على الخارج هو ، انّ اللفظ يوجب حضور صورة ذهنية قابلة للحكاية عن الخارج ، وهذا متحقق في المقام ، لأنّ لفظة «إنسان» توجد صورة في الذهن لماهية الإنسان المطلقة ، أي الماهية «اللابشرط المقسمي» ، وهذه الصورة قابلة للحكاية عن الخارج ، وبذلك تكون قابلة للامتثال فيما إذا وقعت متعلقا للتكليف.

وبهذه اتّضح ، انّ اسم الجنس يمكن وضعه للمطلق بخصوصه ، وبهذا تمّ الكلام ثبوتا ، كما انّه بهذا اتّضح أنّه ثبوتا يمكن وضع اسم الجنس للمطلق بخصوصه ، وللجامع بين المطلق والمقيّد أيضا.

وبعد ذلك ، ننتقل إلى مرحلة الإثبات والاستظهار.

والصحيح في هذه المرحلة هو ، انّ اسم الجنس موضوع للجامع بين المطلق والمقيد ، ويشهد لذلك أنّ استعمال اسم الجنس في موارد المقيّد لا عناية فيه أصلا ، بينما لو كان موضوعا للمطلق خاصة لكان استعماله في المقيّد يحتاج إلى عناية.

٤٧٧

وقد يقال : إنّ العناية هنا ثابتة على كلّ حال ، لأنّه بعد استعمال اللفظ في المقيّد تنثلم مقدمات الحكمة ، وهذا يوجب العناية ، ومعه كيف يستكشف عدم الوضع للمطلق من عدم العناية ، مع أنّ العناية ثابتة على كل حال.

وجواب ذلك : إنّه في موارد عدم تماميّة مقدمات الحكمة ، ـ كما لو كان المتكلّم في مقام الإهمال والإجمال ـ ففي هذه الموارد ، لا نشعر بالعناية في موارد استعمال اسم الجنس مع القيد كما يشهد به الوجدان. وهذا يكشف عن عدم أخذ الإطلاق قيدا في الموضوع له ، أي أنّه لو كان موضوعا للمطلق لكان فيه عناية المجاز.

بقي شيء وهو ، انّه وقع الخلاف بينهم ، في أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين من أيّ أنواع التقابل؟ فذهب بعضهم (١) إلى أنّه من تقابل المتضادين ، وذهب الميرزا (٢) (قده) إلى أنّه من تقابل العدم والملكة ، وذهب ثالث إلى أنّه من تقابل التناقض.

أمّا القول الأول : فهو مبني على أنّ كلّا من الإطلاق والتقييد أمر وجودي ، وأنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد ، وأنّ التقييد عبارة عن لحاظ القيد.

وقد عرفت فيما سبق ، بطلان هذا الكلام ، لأنّ الماهية المطلقة المسمّاة باللابشرط المقسمي ليست لحاظ الماهيّة ولحاظ عدم القيد ، بل هي لحاظ الماهيّة مع عدم لحاظ القيد ، وكم فرق بينهما.

وأمّا القول الثاني : ففيه خلط بين مقام الثبوت ومقام الإثبات ، إذ في مقام الإثبات ودلالة الكلام يقال : إنّ دلالة الكلام على الإطلاق إنّما هو ببركة مقدمات الحكمة ، وهذا يعني ، أنّ المولى لو أراد المقيد لبيّن ، وحيث انّه لم يبيّن ، فهذا معناه ، إنّه يريد المطلق.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٥٢٠.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٥٢٠.

٤٧٨

ومن هنا يعلم أنّ التقييد لا بدّ أن يكون ممكنا له وإلّا لما استفيد الإطلاق من كلامه.

إذن في مرحلة الإثبات يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ، إلّا أنّ محلّ كلامنا هو التقابل في مرحلة الثبوت ، والإطلاق الثبوتي للماهية غير مشروط بكون الماهية قابلة للتقييد ، لأنّ سعة الماهية وانطباقها على تمام أفرادها أمر ذاتي لها.

وعليه فالقول الثاني غير تام أيضا كالأول.

ومن هنا يتعين القول الثالث ، وهو أنّ التقابل بينهما هو تقابل التناقض.

بل لو أردنا أن ندقق النظر ، نرى أنّ القول الثالث غير صحيح أيضا ، لأنّ معنى كون الإطلاق والتقييد متقابلين ، هو ورودهما على موضوع واحد ، وهذا غير متحقق في المقام ، لأنّ انطباق الماهية على تمام أفرادها هو أمر ذاتي لها كما عرفت والذاتي لا يتخلف أصلا ، وهذا معنى الإطلاق ، وأمّا التقييد فهو تحصص في هذا الأمر الذاتي ، وليس تخصيصا ، لأنّ التقييد يصنع لنا مفهوما آخر غير المفهوم الأول ، فمثلا : مفهوم «إنسان» قابل للانطباق على تمام أفراده ، فإذا قيّد «بالعالم» ، فيحدث عندنا مفهوم آخر وهو مفهوم «إنسان عالم» ، وهذا مغاير للمفهوم الأول ، والمفاهيم في عالم الذهن متباينة حتى لو كان بينهما عموم وخصوص مطلق ، إذن فالإطلاق يرد على مفهوم والتقييد يرد على مفهوم آخر ، وعليه فلا تقابل بينهما أصلا ، إلّا أنّه من باب التسهيل في العبارة ، نعبّر عنهما بالمتقابلين تقابل السلب والإيجاب ، أي التناقض.

ثم إنّ هناك ثمرات عملية تظهر بين هذه الأقوال الثلاثة.

منها : إنّه بناء على القول الثالث لا يتصوّر شق ثالث في قبال المطلق والمقيد ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، بينما يتصوّر ذلك بناء على القولين ، الأول والثاني ، حيث يمكن أن يتصوّر شق ثالث لم يلحظ فيه القيد ولا عدمه ، ويسمّى بالماهية المهملة مثلا.

٤٧٩

ومن هنا وقع الكلام بينهم في إمكان الشق الثالث واستحالته ، فذهب بعضهم إلى استحالته ثبوتا ، وذهب آخر إلى إمكانه ، ثم انجرّ الكلام عندهم إلى أنّه ما هي نتيجة هذا الشق الثالث ، فهل هي ثبوت الحكم للمطلق ، أو للمقيد ، فذهب بعضهم إلى أنّ نتيجته الإطلاق ، وسمّاه بالإطلاق الذاتي ، وسمّى المطلق بالمطلق اللحاظي.

ومن جملة الثمرات هي ، انّه إذا فرض استحالة التقييد بما يكون في طول الحكم ـ أي القيود الثانية ـ فبناء على القول الثالث ، يكون الإطلاق ضروريا ، لأنّه إذا استحال أحد النقيضين صار نقيضه الآخر ضروريا ، وأمّا بناء على القول الثاني ، يكون الإطلاق مستحيلا ، لأنّه عليه ، إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، وأمّا بناء على القول الأول فلا يتعيّن كون الإطلاق ضروريّا أو مستحيلا إلّا بقرينة.

هذا حاصل الكلام في أصل المسألة ، وبعد اتّضاح عدم أخذ الإطلاق في المعنى الموضوع له اسم الجنس ، لا تكون الدلالة الوضعية كافية لإثبات الإطلاق ، بل لا بدّ في إثباته من قرينة ، وهي إمّا خاصة ، ويكون أمر تعيينها بيد الفقيه ، وإمّا عامّة ، وتسمّى بمقدمات الحكمة ، والتي هي موضوع كلامنا في الفصل الثاني.

٤٨٠