بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

الفصل الثاني :

في مقدمات الحكمة

بعد ان عرفت ان اسم الجنس غير موضوع للماهية المطلقة ، وهذا معناه انّ الإطلاق ليس مدلولا وضعيا للفظ.

وقد قلنا : إنّ اسم الجنس موضوع للجامع بين المطلق والمقيد ، ولكن مع هذا ، لا إشكال في استفادة الإطلاق منه ولو في الجملة وضمن شروط معينة.

ومن هنا وضع أساس لهذه المفارقة ، حيث قيل : إنّ دلالته على المطلق بخصوصه يمكن أن يكون بواسطة قرينة خاصة يشخصها الفقيه ، أو قرينة عامة تقتضي الإطلاق ، وهذه القرينة العامة هي التي تسمّى بمقدمات الحكمة.

ولتحقيق الحال في كيفية استفادة الإطلاق من اللفظ بواسطة هذه القرينة ، يمكن افتراض مسلكين مع ترجيح أحدهما على الآخر.

١ ـ المسلك الأول : هو أن يقال : بأنّ الإطلاق وإن لم يكن مدلولا للفظ وضعا كما في اسم الجنس ـ «أحلّ الله البيع» ـ. إلّا أنّه مدلول لظهور حالي سياقي في الكلام ، وهو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، وهذا ظهور حالي سياقي ينعقد لكلام المتكلّم عادة.

وهذا الظهور يدلّ بالالتزام الفعلي أو العرفي على أنّ تمام مرام هذا

٤٨١

المتكلّم هو المطلق لا المقيّد ، وذلك لأنّ المتكلّم لو كان مرامه من قوله «أحلّ الله البيع» هو المقيّد ، فحينئذ ، لا يكون قد بيّن تمام مرامه ، لأنّ مرامه حينئذ هو البيع مع القيد ، مع أنّ كلامه لم يتضمن ما يشير إلى هذا القيد.

وهذا بخلاف ما لو كان مرامه هو المطلق ، فإنّه يكون قد بيّن أنّ تمام مرامه هو ذات الماهية من دون أن يكون لخصوصيات اللفظ أو ماضويته وغيرها مثلا دخل في مرامه ، وبهذا يتطابق المرام مع الكلام.

وهذا معناه : إنّ الظهور الحالي السياقي المذكور يدلّ بالالتزام على أنّ مرامه هو المطلق ، إذ لو كان مرامه هو المقيّد للزم خلف هذا الظهور المذكور ، وهذا روح مقدمات الحكمة.

وهنا يتبادر إلى الذهن اعتراض ، حاصله : هو أنّ الخلف لازم على كلا التقديرين ، سواء أكان مرام المتكلّم هو المطلق ، أو المقيّد ، إذ لو كان مرامه هو المقيّد ، فلزوم الخلف واضح ، وأمّا لو كان مرامه هو المطلق ، فكذلك يلزم الخلف ، وذلك : لأنّه لم يبيّن الإطلاق بالكلام ، بل بيّن بالكلام ذات الماهية ، وقد قلنا سابقا : إنّ اسم الجنس وضع للماهية المهملة الجامعة بين المطلق والمقيد ، إذن فلا الإطلاق مدلول لكلامه ، ولا التقييد أيضا ، في حين أنّه لا إشكال في أنّ مرامه هو أحد هذين الأمرين ، إذن ، فعلى كلا التقديرين يكون مرامه زائدا على مدلول كلامه ، ومن هنا قلنا : بأنّه يلزم الخلف على كلا التقديرين.

وجواب هذا الاعتراض يكون بأحد أجوبة ثلاثة مترتبة.

الجواب الأول : هو أن يقال : بأنّ الظهور الحالي السياقي لقوله ـ «أحلّ الله البيع» ـ الذي تمسكنا بدلالته الالتزامية ، مفاده ، أنّ ظاهر حال المتكلّم ، انّه في مقام بيان تمام مرامه وتمام ملحوظه ، فإن كان مرامه وملحوظه هو المقيّد ، إذن فينبغي أن يقع تحت لحاظه حينئذ شيئان ، هما : الماهية ، والقيد ، وإن كان مرامه المطلق ، فينبغي أن يقع تحت لحاظه ، ذات الماهية فقط ـ بناء على تفسير المطلق بأنّه عبارة عن «لحاظ الماهية ، وعدم لحاظ القيد» ـ حيث

٤٨٢

لا يكون تحت اللحاظ إلّا ذات الماهية بدون زيادة خصوصية ذات القيد.

وحينئذ ، إذا لاحظنا ما تحت اللحاظ ، يكون الأمر دائرا بين الأقل والأكثر ، بخلاف المطلق فإنّه ليس تحت اللحاظ إلّا ذات الماهية ، دون خصوصيّة الإطلاق ، فإنّها من شئون نفس اللحاظ وقائمة فيه.

وعلى هذا الأساس ، يصح القول حينئذ : بأنّه لو كان مرامه وملحوظه هو المقيّد ، فهو إذن لم يبرز كل ملحوظه ومرامه بكلامه ، لأنّه لم يبرز القيد ، وحينئذ ، يلزم الخلف للظهور الحالي السياقي ـ كما ذكر ـ ، وأمّا إذا كان مرامه وملحوظه هو المطلق ، فإنّ كلامه يكون وافيا بتمام ملحوظه ومرامه ، لأنّه ليس تحت لحاظه إلّا الماهية فقط ، وحينئذ ، لا يلزم الخلف ، ومن هنا يكون هذا الظهور الحالي السياقي دالّا بالالتزام على أنّ مرامه هو المطلق لا المقيد.

الجواب الثاني : هو أن يقال : إنّنا لو تنزلنا عن الجواب الأول وافترضنا أنّ الماهيّة المطلقة معناها : «لحاظ الماهية ، مع لحاظ عدم القيد» ، كما ذهب إليه السيد الخوئي (قده) فحينئذ الجواب الأول لا يتم ، لأنّه يكون تحت اللحاظ شيئان في كل من المطلق والمقيد ، حيث يكون في المطلق ، لحاظ الماهية مع لحاظ عدم دخل القيد ، ويكون في المقيّد ، لحاظ الماهية مع لحاظ دخل القيد ، وحينئذ ، يكون ما تحت اللحاظ أكثر ممّا يدلّ عليه الكلام.

لكن يمكن أن نجري تعديلا على هذا الجواب ، فيتمّ حينئذ.

وحاصل هذا التعديل هو ، إنّ الظهور الحالي المذكور ناظر إلى عالم موضوع الحكم لا إلى عالم موضوع اللحاظ.

إذن ، فهنا عالمان : أحدهما : عالم اللحاظات الاستعماليّة التصوريّة ، والثاني : هو عالم المدلول التصديقي للمعنى الذي هو وعاء جعل الحكم ـ بمعنى أنّ المتكلّم حينما يقول : «البيع حلال» ـ. فهنا بحسب مرحلة

٤٨٣

المدلول التصديقي ، يوجد حكم جعل على عنوان البيع ، إذن فهنا بيع وقع تحت التصوّر ، وبيع وقع موضوعا للحكم بالحلية ، ومقصودنا من «المرام» في قولنا : إنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، هو أنّ المرام هو ، المدلول الجدّي التصديقي ، الذي هو عبارة عن مرحلة جعل الحكم ، لا المدلول التصوري.

وحينئذ ، وبعد هذا التعديل ، فإنّنا إذا لاحظنا موضوع الحكم ، فإن كان هو المقيّد ، إذن ، فهو الماهيّة مع القيد ، وإن كان هو المطلق ، فهو الماهيّة بلا زيادة ، لأنّ عدم لحاظ القيد ليس دخيلا في موضوع الحكم ، بل هو من شئون التصور الذي استعمله الشارع في مقام جعل الحكم ، لأنّ موضوع الحليّة هو واقع البيع ، وليس هو البيع الذي ليس معه قيد ، إذ لا وجود لهذا إلّا في تصوّر المولى.

الجواب الثالث : هو أنّه لو تنزلنا عن هذا أيضا وفرضنا أنّ موضوع الحكم يدور أمره بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر ، فإنّه حينئذ يقال : إنّ الخلف وإن كان لازما على كل حال ، لكن حيث أنّ زياديّة الإطلاق على أصل الطبيعة ـ بحسب العرف ـ أقلّ من زيادية القيد على اصل الطبيعة ـ أي أنّ مئونة الإطلاق أخفّ من مئونة التقييد ـ فحينئذ ، باصالة عدم المئونة الزائدة بعد ضمها إلى ما تقدّم ، يتعيّن المطلق في مقابل المقيّد.

وعليه : فهذا الاعتراض غير تام ، وهو مدفوع بكلّ جواب من هذه الأجوبة الثلاثة.

وعليه ، يكون هذا المسلك تاما وصحيحا ، وهو كون الإطلاق مدلولا التزاميا لظهور حالي سياقي في كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، ومن هنا يظهر أنّ الإطلاق مدلول تصديقي للكلام لا تصوري ، لأنّه مدلول التزامي لهذا الظهور ، وكونه سياقي حالي فهو ناظر إلى عالم الواقع والجد ، أي عالم المدلول التصديقي ، فالمدلول الالتزامي له ، هو من شئون مرحلة المدلول التصديقي ، بخلاف ما لو قلنا : إنّ الإطلاق مأخوذ في المعنى

٤٨٤

الموضوع له اللفظ فإنّه يكون حينئذ مأخوذا في مرحلة المدلول التصوري ، وهذا هو سرّ ما كنّا نقوله سابقا من أنّ الإطلاق مدلول تصديقي للكلام لا تصوري.

وأمّا بناء على مستوى المدلول التصوري ، فقد عرفت أنّ الإطلاق ليس مدلولا تصوريا للفظ ، لأنّ اللفظ بالدلالة التصورية إنّما يدلّ على المعنى الذي وضع له ، وقد عرفت بما تقدّم ، أنّ المعنى الموضوع له اللفظ إنّما هو الطبيعة المهملة العارية عن الإطلاق والتقييد ، إذن فلا يدخل الإطلاق في نطاق المدلول التصوري للفظ.

وهنا قد يقال : بأنّ الوجدان قاض بثبوت الإطلاق في مرحلة المدلول التصوري للفظ ، لأنّه إذا سمعنا جملة «أحلّ الله البيع» ، أو «البيع حلال» ثم حسبنا حساب الصورة الذهنية التصورية التي ترد إلى الذهن بسبب هذا اللفظ ، نجد أنّها صورة للماهية بلا لحاظ أيّ قيد زائد عليها ، والمفروض أنّه ليس معنى الإطلاق إلّا هذا ، ومن هنا يكون الإطلاق محفوظا ـ بهذا المعنى ـ في الصورة الذهنية التصورية ، حتى لو سمعنا هذا الكلام «أحلّ الله البيع» ، من الحجر ، أو لافظ بلا شعور ولا اختيار.

وهذا الكلام فيه من الخطأ ما لا يخفى ، إذن فلا بدّ من توضيح الخطأ فيه.

وحاصله : هو أنّه لا إشكال في ثبوت الإطلاق في الصورة الذهنية الحاضرة في ذهن السامع تصورا عند سماعه هذا الكلام ـ بناء على أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد ـ لكن هذا الإطلاق لم ينشأ في الذهن من دلالة اللفظ عليه ، بل نشأ من عدم دلالة اللفظ على القيد ، وكم فرق بين المنشأين ، ففي مثل «أحلّ الله البيع» تنتقش في الذهن طبيعة وماهيّة البيع بلا قيد.

إذن فهنا أمران : الأول منهما وجودي ، وهو تصوّر ماهية البيع ، والثاني منهما عدمي ، وهو عدم تصوّر القيد ، ومحتوى الأمر الوجودي هو مدلول للفظ ، وأمّا الأمر العدمي ، وهو عدم تصوّر المعاطاتية ، أو العقديّة ، فهو لم

٤٨٥

ينشأ من اللفظ ، بل من عدم علّة هذا التصور وهو عدم الإتيان بلفظ يدلّ على تصوّر القيديّة ، إذ أنّ عدم المعلول معلول لعدم العلة ، فتصور الخصوصية والقيديّة علته الإتيان بلفظ يدلّ على القيد ، إذن ، فمجرّد عدم الإتيان بلفظ يدلّ على القيد يكفي لعدم تصوّر القيد.

وحينئذ ، فالإطلاق على مستوى الصورة الذهنية التصورية وإن كان ثابتا في ذهن السامع ، لكن هذا ليس داخلا في المدلول التصوري للكلام ، بمعنى أنّه لم ينشأ من دلالة اللفظ عليه ، بل نشأ من عدم وجود كلام آخر لو أضيف لهذا اللفظ لانتقش في الذهن صورة القيد.

وبهذا يتّضح ، أنّ كون الإطلاق ثابتا في الصورة الذهنية المتكونة في ذهن السامع صحيح.

إلّا انّ هذا شيء ، وكون الإطلاق داخلا في المدلول التصوري للكلام شيء آخر ، وثبوت الأول لا يقتضي ثبوت الثاني.

هذا كله بناء على ما هو الصحيح من انّ الإطلاق هو «عدم لحاظ القيد».

وأمّا بناء على أنّ الإطلاق هو «لحاظ عدم القيد» ، فالإطلاق حينئذ ، لا يكون ثابتا في الصورة الذهنية ، لا بملاك كونه مدلولا للكلام ، ولا بملاك قانون «أنّ عدم المعلول يكفي في عدمه عدم العلّة» ، لأنّ لحاظ عدم القيد أمر وجودي ، ولا مبرر لتكونه وحضوره في الذهن إلّا وجود لفظ دالّ عليه ، والمفروض عدم وجود هذا اللفظ.

وبهذا يتّضح أنّ الإطلاق كمدلول للكلام لا يكون مدلولا إلّا في مرحلة المدلول التصديقي ، وأمّا في مرحلة المدلول التصوري فهو ليس مدلولا للكلام ، نعم هو أمر واقعى في الصورة الذهنية ، وهو صحيح بناء على مختارنا ، من أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد ، وغير صحيح بناء على مسلك من يقول بأنّ الإطلاق هو لحاظ عدم القيد.

٤٨٦

وقد يقال : بأنّه ما الفرق بحسب النتيجة بين كون الإطلاق ثابتا في الصورة الذهنية ، وبين كونه مدلولا للكلام؟.

فنقول : الفرق هو ، انّ الإطلاق إذا كان مدلولا للكلام فإنّه حينئذ يصحّ أن يؤخذ المتكلّم به ويدان به ، لأنّه يصبح مدلولا تصوريّا لكلامه ، وباصالة التطابق بين المدلول التصوري والتصديقي ، نثبت أنّ المتكلم أراد الإطلاق تصديقا فيدان به حينئذ.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الإطلاق ليس داخلا في مدلول كلامه ، وإنّما هو صفة واقعة وثابتة في ذهن السامع فقط ، فمن الواضح حينئذ ، انّ هذه الصفة ليس لها أيّ كشف عن مراد المتكلم ، لأنّ ما له الكشف عن المراد هو ما يكون داخلا في مدلول كلامه التصوري ، بعد ضمّ اصالة التطابق إليه ، والإطلاق المذكور ، لا دخل له في كلامه ، وأمّا إذا كان تابعا لقانون فلسفي ، فأيّ ربط له بذهنيّة المتكلم؟.

وهذا المسلك هو روح المقدمات التي رتّبوها وسمّوها «مقدمات الحكمة» ، حيث أنّ مرجع المقدمة الأولى منها إلى ذلك الظهور الحالي السياقي الذي هو أساس الدلالة ، وهي «كون المتكلم في مقام البيان» ويكون مرجع المقدمة الثانية منها ـ وهي «عدم نصب القرينة على التقييد» ـ إلى تتميم الدلالة الالتزامية ، لأنّه من الواضح أنّ المتكلم لو كان قد نصب قرينة على التقييد لما لزم الخلف من إرادة المقيّد ، وإنّما يلزم الخلف لو لم ينصبها عليه ، ومع هذا أراده.

إذن فالمقدمة الثانية دخيلة في تكوين الدلالة الالتزامية.

٢ ـ المسلك الثاني : هو أن يقال : إنّ عدم ذكر القيد بنفسه يدلّ بالمطابقة على الإطلاق ، دون أن نسند الإطلاق إلى الظهور الحالي السياقي الذي يدلّ عليه بالالتزام ، ولهذا تقريبان.

١ ـ التقريب الأول : هو أن يلتزم بأنّ اسم الجنس له وضعان :

٤٨٧

الوضع الأول : وضعه للماهية المهملة ، بدليل أنّها لو كانت موضوعة للماهية المطلقة لكان استعمالها في المقيّد بالقيد المتصل مجازا ، مع أنّ استعمالها كذلك حقيقي بلا إشكال حيث أنّ لفظة «البيع» موضوعة للطبيعة المهملة الملاءمة مع المطلق والمقيد.

الوضع الثاني : هو انّ اسم الجنس المقيّد بعدم انضمام قيد إليه وموضوع للمطلق دون أن يلزم من استعمال اسم الجنس في المقيّد تجوز ، لأنّه عند ما يقول المتكلم : «أحلّ الله البيع العقدي» ، يكون لفظ «البيع» قد استعمل في معناه بالوضع الأول ، ولفظ «البيع» المجرّد عن القيد غير موجود اصلا حينئذ ليقال انّه استعمل في غير ما وضع له ، ليكون مجازا.

وكأنّ هذا شيء وسط بين مسلك الوضع ، ومسلك مقدمات الحكمة.

وهذا التقريب معقول في نفسه. إلّا أنّه خلاف الاستظهار العرفي الخارجي ، وذلك لأنّه لو كان اسم الجنس موضوعا كما ذكر بوضعين ، للزم أن تكون الدلالة على الإطلاق محفوظة في موارد الإجمال والإهمال ، أي في موارد سقوط الظهور التصديقي ، وهي كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بكلامه إذ في مثله لو بقينا نحن واللفظ لما استفدنا الإطلاق من اللفظ ، مع أنّه بناء على هذا التقريب يلزم استفادة الإطلاق من اللفظ ، وهذا منبه وجداني على عدم صحة هذا المسلك.

٢ ـ التقريب الثاني : هو أن يقال : إنّ العقلاء تعهدوا بكاشفيّة عدم التقييد عن الإطلاق ، بمعنى أنّهم تبانوا على أنّه متى لم يذكر القيد يراد الإطلاق.

وهذا بحسب الحقيقة وضع بحسب مذاق أصحاب مسلك التعهد في باب الوضع ـ حيث يرون أنّ الوضع عبارة عن التعهد بإرادة المعنى عند المجيء باللفظ ، ولكن عند من يرى أنّ الوضع هو القرن بين التصورين كما هو الصحيح ـ فلا يكون هذا وضعا ، بل هو التزام مخصوص ينتج كاشفية تصديقية.

٤٨٨

وجواب هذا التقريب ـ مضافا إلى الإشكال في اصل كبرى التعهد في الوضع كما تقدم مفصلا في باب الوضع ـ هو نفس ما تقدّم في ردّ التقريب الأول ، حيث أنّا نلاحظ أنّ الدلالة على الإطلاق مرتبطة إثباتا ونفيا بذلك الظهور السياقي التصديقي ، حيث أنّه كلّما أجمل هذا الظهور ، نجد أنّه لا دلالة في الكلام على الإطلاق.

وهذا دليل على أنّ الإطلاق من شئون الدلالة الالتزامية لذلك الظهور وليس ناشئا من ملاك مستقل سواء كان هذا بالوضع أو بالتعهد ، لأنّه لو كان ملاكا مستقلا لما ارتبط بذلك الظهور وجودا وعدما.

وبهذا يتّضح ، أنّ الصحيح في تقريب إثبات الإطلاق بمقدمات الحكمة هو ، المسلك الأول ، المعتمد على ذلك الظهور السياقي التصديقي الحالي في الكلام ، فإنّ كون المتكلم أنّه في مقام بيان مرامه بكلامه يستلزم عقلا وعرفا أن لا يزيد كلامه على مرامه ولا مرامه على مدلول كلامه ، ومن هنا قلنا : إنّ الإطلاق داخل في مرحلة المدلول التصديقي للكلام.

وبعد أن اتّضح ارتباط استفادة الإطلاق بهذا الظهور الحالي السياقي ، يوجد هنا خلافان في هذا ، وكلّ منهما مرجعه في الحقيقة إلى الاختلاف في تحديد وكشف ذلك الظهور الحالي السياقي الذي هو المنشأ لهذه الدلالة.

١ ـ الخلاف الأول : هو انه بعد اتفاقهم على أنّ المقيد المتصل يوجب هدم اصل الظهور حيث لا يبقى معه ظهور للكلام في الإطلاق ، حينئذ اختلفوا في أنّ المقيد المنفصل ، هل يوجب هدم أصل الظهور ، فيكون كالمتصل ، أم أنّه يوجب هدم حجية الظهور فقط؟

ذهب صاحب الكفاية (١) (قده) إلى الثاني ، أي أنّ المقيد المنفصل يهدم حجية الظهور فقط ويبقى اصل الظهور على حاله.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٨٥ ـ ٣٨٧.

٤٨٩

وذهب المحقق النائيني (١) (قده). إلى الأول ، أي أنّ المقيد المنفصل يهدم اصل الظهور فيكون كالمتصل.

والذي ينبغي أن يكون منشأ لهذا الخلاف هو ، الاختلاف في كيفيّة صياغة ذلك الظهور الحالي السياقي الذي هو الدالّ بالالتزام على الإطلاق.

وقد ذهب صاحب الكفاية (قده) إلى أنّ هذا الظهور مفاده هو ، أنّ المتكلم بصدد بيان تمام مرامه بشخص كلامه.

وذهب المحقق النائيني (قده) إلى أنّ مفاد هذا الظهور هو ، أنّ المتكلم بصدد بيان تمام مرامه بمجموع كلامه.

والأول : يلزم منه ، انّه إذا انتهى شخص هذا الكلام بسكتة طويلة فاصلة عرفا ولم يذكر قيدا ، فإنّه تتم حينئذ دلالة كلامه على الإطلاق ، لأنّ الظهور السياقي لكلامه يدلّ بالالتزام حينئذ على انّه لو كان مرام المتكلم هو المقيد لوجب أن يبينه بشخص هذا الكلام ، وحيث أنّه لم يذكر القيد بشخص كلامه ، إذن يتعيّن أن يكون تمام مرامه هو ، الإطلاق ، حتى لو جاء بعده ببيان منفصل ، إذ مجيء القيد المنفصل بعد ذلك ، يكون تكذيبا لهذا الظهور وموجبا لرفع اليد عن حجيته ، لا أنّه يوجب زواله موضوعا.

وأمّا بناء على التقدير الثاني ، فإنّه يلزم منه أنّه لو تكلم بكلام مطلق ثم بعد مدة طويلة جاء بالقيد وكان مراده من الأول ، المقيّد ، فإنّه حينئذ ، لا يلزم من ذلك مناقضة بين ظاهر كلامه الأول ، وبين ما أراده من التقييد ، لأنّه يصدق أنّه قد بيّن القيد بمجموع كلامه الأول والثاني ، إذن فلا معيّن للمطلق في الكلام الأول في مقابل المقيد ، وحينئذ ، لا يبقى بعد مجيء القيد المنفصل ظهور في الإطلاق.

وعليه ، فمن يبني على أنّ إحدى مقدمات الحكمة هي ، عدم مجيء

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ج ١ ـ ص ٣٦٤.

أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٥٢٩.

٤٩٠

قرينة متصلة بالخصوص ، فهو يبني على الأول ، ومن يبني على أنّ إحدى مقدمات الحكمة هي عدم مجيئها ولو منفصلة ، فإنّه يبني على الثاني.

ولا إشكال في أنّ الحق مع صاحب الكفاية (قده) ، فإنّ ظاهر حال المتكلم حينما يتصدّى لإبراز معنى بكلام ، ظاهر حاله ، أن يكون في مقام بيان تمام مرامه بشخص ذلك الكلام.

بينما يلزم من التقدير الثاني نقض ولازم باطل ، وهذا اللازم ، يكشف ببطلانه عن بطلان ملزومه ، وذلك لأنّ هذا الظهور الحالي لو كان مفاده أنّ المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بمجموع كلامه ، للزم أنّه لا يجوز التمسك باصالة الإطلاق في كلّ مورد احتملنا فيه صدور مقيد من المولى في المستقبل ، لأنّ هذا الظهور السياقي المذكور ، مفاده أنّ تمام مرام المتكلم مبيّن بمجموع الكلام ، ـ ما أتى به المتكلم فعلا ، وما سوف يأتي به بعد ذلك ـ وحينئذ ، يحتمل أن يأتي بالقيد في كلام آخر ، وعليه فحمل كلامه حينئذ على المقيد لا يلزم منه الخلف ، وما دام لا يعلم بلزوم الخلف من الحمل على المقيد ، إذن فلا معيّن للحمل على الإطلاق ، وبناء على هذا كلّه ، يكون احتمال المقيد المنفصل كاحتمال المقيد المتصل ، مانعا من حمل الكلام على الإطلاق.

وهذا في الحقيقة تعطيل لاصالة الإطلاق في كلّ ما يحتمل فيه التقييد بالمنفصل.

ولا يتوهم أنّه يمكن نفي احتمال القرينة المنفصلة باصالة عدم القرينة ، وذلك لأنّ اصالة عدم القرينة ، إن أريد بها الأصل العقلائي ، فمن الواضح أنّ الأصل العقلائي الذي يقتضي نفي احتمال القرينة المنفصلة ، إنّما يقتضي نفي احتمالها في مقابل ظهور فعلي مستقرّ ، باعتبار أنّ وجودها يكون تكذيبا لذلك الظهور ، بينما هنا في المقام ، لا ظهور للكلام في الإطلاق مع احتمال القرينة ، لأنّ هذا الظهور إنّما ينشأ من مقدمات الحكمة ولو في المستقبل ، والمفروض إنّ إحدى مقدمات الحكمة ، هي عدم القرينة ولو في المستقبل ،

٤٩١

إذن فاحتمال القرينة موجود قبل وجود الظهور في الإطلاق ، فيكون مانعا منه ، وحينئذ لا معنى لإجراء اصالة عدم القرينة ، لأنّ اصالة عدم القرينة العقلائي إنّما يتعبّد به العقلاء في طول ظهور عرفي منجز على خلافه ، إذ تعبّدات العقلاء في مقام الأخذ بالظهورات ليست جزافا ، وهنا الظهور فرع القرينة ، فكيف ينفى بعدمها؟.

وإن أريد باصالة عدم القرينة الاستصحاب الشرعي ، يكون مثبتا حينئذ ، لأنّه تتميم للدلالة الالتزامية لذلك الظهور السياقي بالاستصحاب ، وهو من أوضح أنحاء الاصل المثبت.

وهنا قد يتخيّل كما ذكر الميرزا (قده) ـ أنّه يمكن التخلص من هذا المأزق بحلّ حاصله : هو أن يقال : بأنّ التقدير الثاني ـ وهو أن تكون مقدمات الحكمة منوطة بعدم مجيء القرينة ولو منفصلة ، ـ له صورتان.

١ ـ الصورة الأولى : وهي التي يرد عليها (١) النقض ـ هي أن يقال : بأنّ دلالة الكلام على الإطلاق لو كانت مشروطة بعدم مجيء القرينة في المستقبل على نحو الشرط المتأخر ، بحيث أنّه لو جاءت القرينة بعد سنة لكشفت أنّه لا إطلاق من أول الأمر ، لتمّ هذا النقض ، إذ يكون إحراز حدوث الإطلاق فرع إحراز الشرط المتأخر ، فمع الشك في مجيء القرينة في الظرف المتأخر نشك حينئذ في تكوين الإطلاق فعلا ، وحينئذ يكون النقض لازم.

٢ ـ الصورة الثانية : هي أن تكون دلالة الكلام على الإطلاق مشروطة بعدم مجيء القرينة بنحو الشرط المقارن ، بمعنى أنّ الإطلاق مستمر في كل زمان لم ترد فيه القرينة ، فلو قال المتكلّم يوم السبت : «أحلّ الله البيع» ، هنا نقول : إنّ الإطلاق يوم السبت مشروط بعدم القرينة يوم السبت ، واستمرار الإطلاق إلى يوم الأحد ، منوط بعدم مجيء القرينة في يوم الأحد ، وهكذا ، وليس المراد بأنّ الإطلاق يوم السبت منوط بعدم القرينة في يوم الاثنين ، وبناء عليه ، لا يرد النقض المذكور على

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ج ١ ـ ص ٥٣٠.

٤٩٢

الميرزا (قده) لأنّه حينما نسمع من المتكلم ، أحلّ الله البيع في يوم السبت ، ونعلم أنّه في يوم السبت لا يوجد قرينة ، ولكن نحتمل ورودها يوم الأحد إذن يكون الإطلاق يوم السبت ثابتا موجودا إلى يوم الأحد فإن جاءت القرينة في يوم الأحد يتوقف الإطلاق من يوم الأحد ، وإلّا يبقى ساريا حتى في يوم الأحد وهكذا.

وهذا ينتج مقصود الميرزا (قده) وهو أنّه متى جاءت القرينة في المستقبل ، ينهدم الإطلاق ذاتا من حينها ، أو أنّها تميته عند مجيئها ، عندئذ لا إطلاق ، وبهذا يمكن التخلص من المأزق مع الإصرار على المبنى.

وهذا الكلام غير صحيح وذلك أولا : لأنّه غير معقول ، فإنّ الإطلاق بمعنى الظهور ودلالة الكلام ليس له حدوث وبقاء ، وإنّما الذي له حدوث وبقاء هو الحجية التي هي حكم شرعي ، حيث أنّه يمكن أن يكون شيئا حجة يوم السبت ، وليس حجة يوم الأحد ، وأمّا الظهور فهو إمّا أن يوجد وإمّا أن لا يوجد ، لأنّ الكلام إن دلّ على معنى فهو ظاهر فيه ولا يمكن أن ينقلب عمّا ظهر ووقع عليه بعد ذلك ، وإن لم يدلّ على معنى ، فلا ظهور حينئذ أصلا ، إذن ، فمعنى الكلام يدور بين الوجود والعدم ، فما ذكر هو خلط بين اصل الدلالة كأمر واقعي لا ينقلب عمّا وقع عليه ، وبين الحجية كأمر شرعي قابل للحدوث والثبوت ، والنقض والارتفاع.

وثانيا : لو سلّمنا ، فأيضا يلزم النقض ، وذلك لأنّه لو صدر هذا المطلق وشككنا الآن في أنّه صدرت قرينة من المولى على التقييد أم لا ، فما ذا نصنع؟ وحينئذ ، بناء على هذا المبنى ، لا يمكن التمسك بالإطلاق ، لأنّ الإطلاق له حدوث وبقاء ، وبقاؤه مشروط بعدم القرينة على التقييد إلى هذا الحين ، ونحن لا نحرز هذا الشرط ، إذن فبقاء الإطلاق إلى هذا الحين غير محرز ، ومعه لا يمكن التمسك به.

وأمّا ما يتوهم من التمسك بالإطلاق باعتبار الاستصحاب في صحيحة زرارة (قده) ، فهو غير تام ، لأنّه من الواضح أنّ الإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة غير متوقفة على حجية الاستصحاب إذ أنّها غير منوط التمسك بها بصحيحة زرارة (رض) الدالّة على الاستصحاب.

٤٩٣

وهذا دليل ، على أنّه يجب أن نصوغ نظرية الإطلاق بنحو يصحح التمسك بالإطلاقات مباشرة في موارد احتمال القرينة المنفصلة ، مع العلم ـ كما سبق ـ أنّ اصالة عدم القرينة المنفصلة ، غير جارية في المقام اصلا.

٢ ـ الخلاف الثاني : وهو يدور حول نقطة حاصلها هو ، أنّ المطلق ، تارة : لا يكون بعض حصصه أولى من بعض بثبوت الحكم له ، بحيث أنّه ليس له قدر متيقن اصلا ، وثانية : يفرض أنّ بعض حصصه أولى من بعض بثبوت الحكم لها ، لكنها أولويّة ثابتة من خارج الكلام ، كما في «ثمن العذرة سحت» ، فإنّ المتيقن من الخارج هو ، «عذرة الإنسان ، والحيوان غير مأكول اللحم» ، وثالثة يفرض أنّ القدر المتيقن ثابت ، وأنّ بعضها أولى من بعض بلحاظ نفس الكلام ومقام التخاطب ، كما لو فرض أنّ هذه الحصة الأولى كانت هي مورد السؤال ، بحيث كان الكلام بما هو كلام دالّا عليها بنحو آكد.

والصورة الأولى : لا إشكال في تماميّة الإطلاق فيها بالنحو المتقدم.

والصورة الثانية : أيضا لم يستشكل في إجراء الإطلاق فيها ، وإنّما استشكلوا واختلفوا في الصورة الثالثة في تمامية الإطلاق وعدمه فيها.

وهذا الخلاف أيضا ينبغي ربطه بمقدار دلالة ذلك الظهور الحالي السياقي الذي كان هو الأساس في دلالة الكلام على الإطلاق ، إذ كنّا نقول هناك : إنّ ظاهر حال المتكلم أنّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، وحينئذ ، إذا كان مرامه هو المقيّد ، فيلزم الخلف من ناحية هذا الظهور بأحد التقريبات الثلاثة المتقدمة ، وأمّا إذا كان مرامه المطلق ، إذن ، لا يلزم الخلف بأحد التقريبات الثلاثة المتقدمة أيضا ، إذن ، فيتعيّن الثاني ويكون مدلولا التزاميا لذلك الظهور الحالي.

وهنا ، نريد أن نعرف أنّه في موارد وجود قدر متيقن في مقام التخاطب ، هل يلزم الخلف لو كان مراده خصوص هذا المتيقن ، أو أنّه لا يلزم؟

فإن فرض لزوم الخلف لو أريد المقيّد الذي هو المتيقن في مقام

٤٩٤

التخاطب ، إذن ، فمقتضى الظهور الحالي تعيين الطرف الآخر الذي لا يلزم منه الخلف.

وأمّا إذا فرض أنّ المتيقن الخطابي يقتضي أن لا يلزم الخلف لو كان هو المراد ، فحينئذ ، سوف يتعطل الدليل ، وتكون نسبة الشقين إلى الظهور الحالي على حدّ واحد ، وحينئذ ، لا معيّن للمطلق في قبال المقيد.

وحينئذ تأتي الشبهة فتقول : إنّه هنا لا يجري الإطلاق ، لأنّه لا يلزم الخلف لو كان مرام المتكلم هو المقيد ، لأنّ هذا المقيد باعتبار كونه متيقنا في مقام التخاطب ، فيكون هذا بمثابة البيان له ، إذن فهو مبين بهذا الكلام ، فيكون المولى قد بيّن مرامه بشخص كلامه ، لأنّ شخص هذا الكلام صريح بالنسبة إلى هذه الحصة لتيقنها في مقام التخاطب ، ومن هنا يفرّق بين كون المتيقن من نفس الخطاب أو من خارجه ، فإن كان من نفس الكلام والخطاب ، حينئذ ، صاحب الشبهة يقول : إنّه لا يتمّ الإطلاق ، إذ لا يلزم الخلف من إرادة المقيد ، وأمّا إذا كان المتيقن متيقنا من خارج الكلام والخطاب فإنّه يلزم الخلف لو أراد المقيد ، لأنّ مرامه لا يفي به كلامه ، لا أنّه يكون مرامه هو المقيد ، وذلك لأننا علمنا هذا من الخارج ، وهذا غير ظهوره الحالي السياقي ، وهذا هو سرّ التفرقة بين كون المتيقن متيقنا من داخل الكلام ونفس الخطاب ، وبين كونه متيقنا من خارج الكلام.

وإن شئت قلت : لا إشكال في تماميّة الإطلاق فيما إذا لم يكن هناك قدر متيقن أصلا ، بحيث تكون بعض حصص المطلق أولى في ثبوت الحكم لها من البعض الآخر ، أو كان هناك قدر متيقن لكنها أولويّة من خارج الكلام ، وإنّما الإشكال بينهم فيما لو كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب ، أي أنّ القدر المتيقن منشؤه كان نفس الكلام كما لو كان الكلام دالّا على بعض الحصص بنحو آكد ، فحينئذ ، اختلفوا في تمامية الإطلاق وعدمه.

وهذا الخلاف ينبغي ربطه بذلك الظهور الحالي السياقي الذي كان هو الأساس في دلالة الكلام على الإطلاق ، لنرى بعد الرجوع إليه أنّه هل يلزم

٤٩٥

الخلف لو أراد المتكلّم المقيّد الذي هو القدر المتيقن في مقام التخاطب فيتعيّن دلالة الكلام على الإطلاق ، أم أنّه لا يلزم من إرادته له الخلف ، بل تكون نسبة كل من الإطلاق والتقييد إلى ذلك الظهور الحالي على حدّ سواء ، ولا معيّن حينئذ للمطلق في مقابل المقيد؟.

وهنا : تأتي الشبهة وتقول : إنّه عند وجود قدر متيقن في مقام التخاطب لا يجري الإطلاق ، لأنّه حينئذ لا يلزم الخلف لو كان مرام المتكلم هو المقيد ، وذلك ، لأنّ المقيّد باعتبار كونه متيقنا في مقام التخاطب يكون بمثابة بيان القيد ، ويصدق حينئذ ، إن المتكلم بيّن تمام مرامه بشخص كلامه ، لأنّ شخص هذا الكلام صريح بالنسبة إلى هذه الحصة لتيقنها في مقام التخاطب.

ومن هنا يظهر الفرق بين القدر المتيقن في مقام التخاطب ومن نفس الكلام ، وبين القدر المتيقن من خارج الكلام والخطاب ، حيث أنّ الأول لا يلزم فيه الخلف من إرادة المقيّد ، ولذا لا يتمّ الإطلاق ، بينما الثاني يلزم فيه الخلف لو أراد المقيّد ، لأنّ مرامه لا يفي به كلامه.

وقد يجاب عن هذه الشبهة : بأنّ تحقيق حال تمامية الإطلاق في مقام التيقن وأنّه يلزم الخلف أم لا ، يرجع إلى تحليل ذلك الظهور الحالي السياقي وأنّه ما هو مفاده.

فإن كان هذا الظهور مفاده ، بمعنى أنّ المتكلم ظاهر حاله أنّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، إذن ، تكون الشبهة واردة ، والإطلاق لا يجري في مورد وجود قدر متيقن في مقام التخاطب ، لعدم لزوم الخلف فيما لو أراد المقيد ، حيث يكون بإرادته المقيد ، قد بيّن تمام مرامه بشخص كلامه ، لأنّ كلامه واف بالمقيّد ، وحينئذ ، تكون نسبة الظهور الحالي إلى المطلق والمقيد على حدّ سواء ، ومعه فلا معيّن للإطلاق.

وإن كان مفاد هذا الظهور ، بمعنى أنّ ظاهر حال المتكلم أمران.

الأول : هو أنّه في مقام بيان تمام المرام بشخص الكلام.

٤٩٦

الثاني : هو أنّه في مقام بيان أنّه التمام ، فحينئذ ، الشبهة لا ترد ، لأنّه لو كان مريدا بكلامه خصوص المقيد المتيقن التخاطبي إذن يكون قد بيّن الأمر الأول من هذين الأمرين ، وهو كونه في مقام بيان تمام المرام ، لكنه حينئذ لم يبيّن الأمر الثاني ، وهو أنّه في مقام بيان أنّه التمام ، إذ لعلّه ليس هو التمام ، لأنّ العبارة بنفسها قابلة لأن يراد بها المقيّد ، ولأن يراد بها المطلق ، ويصدق أنّه بين تمام المرام لكنه لم يبين أنّه هو التمام وحينئذ ، يلزم الخلف فيما لو أراد المقيّد ، ومعه يتعيّن المطلق.

والصحيح هو ، أنّ كلّا من أصل الشبهة ، والجواب عليها غير صحيح ، ويتوضح ذلك من خلال ذكر اعتراضين على هذا الجواب المقترح.

الاعتراض الأول : هو انّ هذا الجواب اعتراف بورود الشبهة على التفسير الأول للظهور الحالي السياقي ، ونحن نقول : إنّها لا ترد على كلا التقديرين ، فإنّ التقدير الأول ـ وهو كون ظاهر حاله أنّه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه بقطع النظر عن الأمر الثاني ـ يقول : لو كان مرامه هو المقيّد ، وهو القدر المتيقن ، فإنّه لا يلزم الخلف ، لأنّه قد بيّن هذا بشخص كلامه.

ونحن هنا نسأل : إنّه ما ذا بيّن بشخص كلامه ، هل المقصود أنّه بيّن ما هو موضوع الحكم ، وهو المقيد ، بناء على كون مرامه ، موضوعه المقيّد؟

فهذا واضح البطلان ، لأنّ هذا الخطاب ـ «أكرم العالم» ـ لم يبيّن فيه تعلق الحكم بالمقيّد ، وإنّما بيّن فيه ثبوت الحكم لذات العالم الفقيه ، لأنّه القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهو مورد السؤال ، لكن ليس بما هو مقيّد ، لأنّه لم تؤخذ الفقاهة في موضوع الحكم لفظا.

وإن كان المقصود ، أنّ شخص الكلام واف بثبوت الحكم لذات المقيّد ، أي بتمام المرام ، ولو لم يكن بما هو مقيد ، فنقول إنّ هذا محفوظ حتى في موارد وجود القدر المتيقن من الخارج ، فلما ذا لا تلتزمون فيه بعدم جريان الإطلاق.

٤٩٧

وهذا منبه وجداني إلى أنّ معنى وفاء الكلام بتمام المرام ، يعني وفاؤه بما هو تمام موضوع الحكم بتمام عناصره وشئونه.

وبهذا يتضح أنّه بناء على التقدير الأول ، الشبهة غير واردة والإطلاق تام.

وهذا هو الذي ينقدح منه حلّ الشبهة أيضا ، فإنّ حلّها هو أنّ الخلف لازم على كل حال ، ومجرّد كونه قدرا متيقنا في مقام التخاطب لا يستوجب عدم الخلف لو كان مرامه المقيد ، لأنّه على تقدير أن يكون مرامه المقيّد ، فكلامه غير واف بمرامه ، لأنّ المقصود من الوفاء ، هو أن يكون الكلام مبرزا لما هو موضوع الحكم في المرام وهذا لم يتحقق في المقام.

٢ ـ الاعتراض الثاني : هو أنّه لو أغمضنا النظر في التفسير الأول ، وقلنا : إنّه بناء عليه لا يلزم الخلف لو كان المراد هو المقيّد ، فحينئذ يقال : إنّه لا يلزم الخلف أيضا بناء على التفسير الثاني ، وتفصيل المجيب بين المعنيين بلا موجب ، فإنّه إن تمّ كلامه في الأول فيسري إلى الثاني ، لأنّه في التفسير الثاني ، افترض أنّ الظهور الحالي مفاده أمران ، أحدهما ، أن يكون الكلام وافيا بتمام المرام ، والثاني ، أن يكون الكلام لبيان أنّه التمام ، وهذا معناه : دعوى وجود ظهورين سياقيين حاليين.

وحينئذ ، نقول ـ بقطع النظر عن الظهور الثاني ـ لو أخذنا بالأول منهما ، وهو أنّه في مقام بيان تمام مراده ، نقول : لو أنّه كان مراده المقيّد فلا يلزم الخلف ، لأنّا تنزلنا عن بطلان الشق الأول من الجواب القائل بعدم لزوم الخلف ، وهذا معناه أنّه لا ينعقد الإطلاق ، وحينئذ يصبح الكلام مجملا ، وحينئذ ، لن يكون الكلام وافيا بإرادة ما زاد على المقيّد ، بعد فرض عدم انعقاد الإطلاق فيه.

وحيث أنّ المولى في مقام بيان تمام المراد ، فنثبت ببرهان هذا الظهور ، أنّ ما زاد على المقيّد ليس بمراد ، لأنّ هذا الكلام لا يصلح أن يكون بيانا لما زاد على المقيّد ، إذ لو كان هذا الزائد من مرامه لكان معناه ، أنّ جزء مرامه لم

٤٩٨

يبيّن بشخص كلامه ، وهذا خلف الظهور الأول ، وإذا كان خلفه ، فيتعيّن ببرهان الظهور الأول انّ تمام مرامه هو المقيّد ، وبهذا نحفظ الظهور الثاني أيضا.

وكل هذا إلزام لصاحب الجواب ، وانّ معنى كون وفاء الكلام بتمام المرام هو ، إبراز تمام موضوع الحكم في المرام بالكلام ، وهذا لا يتحقق بناء على إرادة المقيّد ، حتى لو كان المقيّد قدرا متيقنا في مقام التخاطب.

فالصحيح هو ، انّ الإطلاق الحكمي يجري في موارد القدر المتيقن التخاطبي فضلا عن موارد القدر المتيقن من الخارج.

ومما ذكرناه ، يتضح وجه النظر فيما أفاده المحقق الخراساني ، حيث جعل المقدمة الثالثة من مقدمات الحكمة هو عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب (١).

ونحن في مقام المقارنة بين طرز تفكيرنا وطرز تفكيره ، والمقارنة بين المطلق والمقيّد ، نقول : لو ورد عندنا خطاب ـ «أكرم العالم» ـ وكان يوجد «مائة عالم» ، منهم خمسون هاشميون ، وخمسون غير هاشميين ، وتردّد الأمر بين ثبوت الحكم للمطلق أو للمقيد ، إذ قد يكون وجوب الإكرام ثابتا لمطلق العالم ، وقد يكون ثابتا للمقيد ، أي لخصوص «العالم الهاشمي» ، وفي مقام ملاحظة النسبة بين المطلق والمقيد ، يوجد تصوران.

التصور الأول : هو أن نقارن بينهما بملاحظة الأفراد التي يثبت لها الحكم في الخارج ، لنرى أنّ أيّهما أزيد بلحاظ الأفراد.

فنقول : لو كان الحكم ثابتا للمطلق ، إذن يجب إكرام كل المائة ، ولو كان الحكم ثابتا للمقيّد ، إذن ، يجب إكرام خصوص الخمسين الهاشميين ، وهنا : المطلق أزيد من المقيد.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني ـ ج ١ ـ ص ٣٨٤.

٤٩٩

التصور الثاني : هو أن نقارن بينهما بأن نلحظ المطلق والمقيّد بلحاظ العنوان الكلي الواقع موضوعا للحكم في عالم الجعل ، وهنا تنقلب النتيجة ، فإنّه إن كان وجوب الإكرام ثابتا للعالم على الإطلاق ، إذن ، فموضوع الحكم هو ذات العالم ، وإن كان وجوب الإكرام ثابتا للعالم المقيّد بالهاشمي ، إذن ، فموضوعه يكون مركبا من علم ، وهاشمي ، وحينئذ ، يصير المقيّد أزيد من المطلق.

والمحقق الخراساني (قده) ، روح كلامه مبني على التصور الأول ، حيث أنّه يقول : إنّه في موارد القدر المتيقن في مقام التخاطب ، لا ينعقد الإطلاق ، لأنّ مرام المتكلم لو كان هو المقيّد ، فقد بيّنه ، لأنّ تمام مرامه بلحاظ الأفراد هو الخمسون ، والمفروض أنّهم قدر متيقن في مقام التخاطب ، إذن فلا يلزم الخلف لو أراد المقيّد ، وحينئذ لا تتم مقدمات الحكمة ، لأنّ مرجعها إلى لزوم الخلف كما عرفت.

ونحن لنا كلامان مع المحقق الخراساني (قده) :

١ ـ الكلام الأول : هو أن نقول : إنّه في مقام تشخيص تمام المرام وبعض المرام ، لا نأخذ بالتصوّر الأول ، بل نأخذ بالتصوّر الثاني في مقام المقارنة بين المطلق والمقيد ، وبناء عليه نقول : إنّه لو أراد المقيّد الذي هو الهاشميين فقط ، إذن فهو لم يبيّن تمام مرامه ، لأنّ تمام مرامه نريد به تمام الموضوع الكلي الذي انصبّ عليه الحكم في مقام الجعل ، ومن الواضح أنّ الموضوع الكلي الذي هو تمام المرام ، بناء على التقييد ، مركب من جزءين ، العلم ، والهاشمية ، والمولى لم يذكر الهاشمية في خطابه ، إذن فهو لم يبين تمام عناصر الموضوع ، فلو أراد ما لم يبيّنه يلزم الخلف حينئذ.

٢ ـ الكلام الثاني : هو أنّه لو تنزلنا عن التصوّر الثاني ، وبنينا على التصوّر الأول ، حينئذ يلزم عدّة محاذير.

١ ـ المحذور الأول : هو أنّه يلزم أن لا يتمّ الإطلاق في موارد وجود قدر متيقن في مقام التخاطب حتى لو كان ظاهر حال المولى أنّه في مقام بيان

٥٠٠