تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

الأفهام المختلفة ، ليأخذ كلّ فهم حصّته ...» (١) ، والعلم بالنظم القرآني هو الّذي «يبرز الأسرار والنكت في أسلوب القرآن ، ويكشف الفروق المعنوية الدقيقة بين خصوصيات التراكيب ، ويربط هذه الخصوصيات بالسياق والغرض العام» (٢). وقد تنبّه علماؤنا القدامي على أهمّيّة السياق في النصّ القرآني ، والفوائد الّتي تجتنى منه في تحديد المراد وتخصيص العامّ وتقييد المطلق ، ولذا قال الزركشي (ت ٧٩٤ ه‍) : «دلالة السياق ، فإنّها ترشد إلى تبيّن المجمل ، والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق وتنوع الدلالة ، وهو من أعظم القرائن الدالّة على مراد المتكلّم» (٣).

فالسياق ـ إذن ـ يؤثّر تأثيرا كبيرا في تحديد المفردات القرآنية ، وذلك لخصوص الاستخدام القرآني لعدد من الألفاظ ، ولا سيّما أنّ النظم القرآني اكتسبت به قسم من الألفاظ ، دلالات خاصّة من معانيها العامّة أو صار لبعضها دلالة جديدة غير معهودة سابقا تطلبها السياق القرآني أو الجو الديني العام ، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته ، فانظر إلى قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤) ، كيف نجد سياقه يدلّ على أنّه الذليل الحقير» (٥).

وقد وقف الشريف المرتضى عند قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٦). ويتوقّع أنّ سائلا يسأل : كيف يطابق وصفهم بالعلم هاهنا لوصفهم بالجهل في قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٧). وفي الجواب يقول : هذه الآية معناها متعلّق بما قبلها ، لأنّه تعالى أمرهم بعبادته ، والاعتراف بنعمته ، ثمّ عدّد عليهم صنوف النعم الّتي ليست إلّا من جهته ، ليستدلوا

__________________

(١) إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز : ٦٢.

(٢) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري : ١٨٩.

(٣) البرهان في علوم القرآن ، ٢ : ٢٠٠.

(٤) سورة الدخان ، الآية : ٤٩.

(٥) بدائع الفوائد ، ٤ ـ ٩ / ١٠.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ٢٢.

(٧) سورة الزمر ، الآية : ٦٤.

٨١

بذلك على وجوب عبادته ، وإن العبادة إنّما تجب لأجل النعم المخصوصة ، فقال جل من قائل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) (١) إلى آخر الآية ، ونبه في آخرها على وجوب توحيده ، والإخلاص له وألّا يشرك به شيء ، بقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢).

فالسياق ـ هنا ـ هو الّذي حدد المعنى ، وخرج بهذه اللفظة «تعلمون» عن معنى العلم المطلق إلى العلم بأمور وأشياء مخصوصة ، فالدلالة المعجمية ـ هنا ـ ليست فيصلا في تحديد المعنى المراد ، لأنّها لن تحدد لنا تحديدا واضحا المعنى الصحيح. ولا شكّ في أنّ المعنى ـ أحيانا ـ لا يمكن الوصول إليه إلّا بعد تفكير وتأمّل دقيقين ، فقد وردت في القرآن الكريم ألفاظ تطلب السياق توجيه معناها بخلاف الظاهر السابق إلى الفهم ، لأنّ القرآن يحمل بين ألفاظه وجوها دلالية كثيرة يظهرها التأويل والاستنباط (٣).

ويقف المرتضى عند قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (٤). وفي كشفه عن دلالة المفردات في هذه الآيات يلاحظ المرتضى الترابط القائم بين الألفاظ وأثر ذلك في توجيه المعنى ، فيقول : فأمّا «مقربة» فمعناه يتيما ذا قربى ؛ من قرابة النسب والرّحم ، وهذا حضّ على تقديم ذي النسب ، والقربى المحتاجين على الأجانب في الإفضال.

والمسكين : الفقير الشديد الفقر والمتربة : مفعلة ، من التراب ، أي هو لاصق بالأرض من ضرّه وحاجته ... وقد يمكن في «مقربة» أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى ؛ بل هو من القرب ، الّذي هو من الخاصرة ، فكأن المعنى أنه يطعم من انطوت خاصرته ولصقت من شدّة الجوع والضر ؛ وهذا أعمّ في المعنى

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيتان : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) أمالي المرتضى ، ٢ : ١٨٧.

(٣) ينظر ظاهرة التأويل وصلتها باللغة : ٨٤ وما بعدها.

(٤) سورة البلد ، الآيات : ١١ ـ ١٦.

٨٢

من الأوّل وأشبه بقوله : (ذا مَتْرَبَةٍ) لأنّ كلّ ذلك مبالغة في وصفه بالضرّ ، وليس من المبالغة في الوصف بالضرّ أن يكون قريب النسب. والله أعلم بمراده (١).

فالمرتضى ـ هنا ـ يؤكد أهمّيّة دلالة اللفظة المقصودة ومناسبتها لسابقاتها ولاحقاتها ، وهو يرجح دلالة على دلالة أخرى لأنّه يرى في الدلالة الراجحة أكثر ملاءمة للسياق ، وأدلّ على المعنى ، وبعبارة أخرى ، فهو يجعل السياق مدخلا لفهم المعنى «لأنّه يكشف عن نسق المعاني ويحدد أجزاءها ويربط جملة بجملة ، ثمّ يربط الجملتين أو الجمل بما قبلها» (٢) ، والسيّد المرتضى ـ كما هو واضح ـ يحاول أن يضع يده على جمالية النظم القرآني وسرّ كماله ، من خلال الوقوف على سياق الآيات وما تؤشر من أفكار ، وتومىء إليه من معان.

ويتّضح هذا الفهم لأثر السياق في تفسيره لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) (٣). إذ نراه يقول : أمّا قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) فالمراد : ألم تعلم ؛ وإن كان هذا اللفظ مشتركا بين الإدراك والعلم ؛ وإنّما اختصّ هنا بالعلم دون الإدراك ، لأنّ إضافة إزجاء السحاب وتأليفه وجميع ما ذكر في الآية إلى الله تعالى ممّا لا يستفاد بالإدراك ، وإنّما يعلم بالأدلّة» (٤).

فالمرتضى ـ هنا ـ يؤكد أنّ السياق يخلص الألفاظ من اشتراك الدلالات وهذا هو الصحيح ، فالألفاظ المشتركة لا يمكن تحديد دلالاتها ما لم تتشح بوشاح السياق.

ويلحظ ـ هنا أنّ القرآن الكريم استعمل في مواضع متعدّدة الفعل «رأى» بصيغة المضارع للتدليل على الرؤية الفكرية لا الحسّيّة ، أو كما يعبر عنها ب «الرؤية العقلية» ، كما في الآية السابقة كما في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ

__________________

(١) أما لي المرتضى ، ٢ : ٢٩١.

(٢) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري : ٢٠٧.

(٣) سورة النور ، الآية : ٤٣.

(٤) أما لي المرتضى ، ٢ : ٢٠٣ ، وينظر الأشباه والنظائر : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٨٣

مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) (١). والشريف المرتضى يؤكّد مجيء فعل الرؤية بمعنى العلم والإدراك ، وإنّما اختصّ هنا بالعلم دون الإدراك ، لأن إزجاء السحاب وتأليفه وأحوال الرعد والبرق لا تدرك إنّما تعرف ، وهذا يعني ضرورة ملاءمة المعنى للسياق ، أي إن معنى اللفظ يتحدّد وفقا للسياق اللغوي الّذي يردفيه اللفظ بحيث يكون معنى اللفظ جزءا من معنى السياق ككلّ.

والشريف المرتضى في بيانه لدلالة الألفاظ القرآنية يؤكّد أنّ اللفظ القرآني يتمتّع بكثير من الخصائص الممتازة ، ومن هذه الخصائص حسن انتقاء اللفظة ، واستعمال ما هو أحقّ بالمعنى ، وقد تغيب بعض الفروق الدقيقة بين الألفاظ عن العامّة وأكثر الخاصّة ، وربّما طعن في الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام. وهو حين يقف عند قوله تعالى حاكيا عن عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) يقول : فإن قيل : فلم لم يقل وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم ، فهو أليق في الكلام ومعناه من العزيز الحكيم (٣)؟ وفي الجواب يقول : قلنا : هذا سؤال من لم يعرف معنى الآية ، لأنّ الكلام لم يخرج مخرج مسألة غفران فيليق بما ذكر في السؤال ، وإنّما ورد على معنى تسليم الأمر إلى مالكه. فلو قيل : فإنّك أنت الغفور الرحيم ، لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة ، ولم يقصد ذلك بالكلام ، على أنّ قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أبلغ في المعنى وأشدّ استيفاء من الغفور الرحيم ، وذلك أنّ الغفران والرحمة قد يكونان حكمة وصوابا ، ويكونان بخلاف ذلك ، فهما بالإطلاق لا يدلّان على الحكمة والحسن ، والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة ... ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة ، لأنّ العزيز هو المنيع القادر الّذي لا يذلّ ولا يضام ، وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم البتّة ، وأمّا الحكيم فهو الّذي يضع الأشياء مواضعها ويصيب بها أعراضها ولا يفعل إلّا الحسن الجميل ، فالمغفرة والرحمة إذا اقتضتهما الحكمة دخلتا في

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٤٥.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٨.

(٣) ينظر تنزيه الأنبياء : ١٣٣.

٨٤

قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وزاد معنى هذه اللفظة عليهما من حيث اقتضاء وصفه بالحكمة في سائر أفعاله وإنّما طعن بهذا الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام ، وإلّا فبين ما تضمنه القرآن من اللفظة وبين ما ذكروه فرق ظاهر في البلاغة واستيفاء المعاني والاشتمال عليها» (١).

فالشريف المرتضى ينبّه على أنّ التقاط المعنى محتاج إلى نظر في السياق ، وتأمّل في أعطافه ، والسياق ـ هنا ـ تطلب هذا اللفظ (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) دون سواه ؛ لأنّ المعنى هو تفويض الأمر إلى مالكه وتسليمه إلى مدبّره والتبرّي من أن يكون إليه شيء من أمور قومه (٢) وهذا يدلّ على دقّة القرآن الكريم في اختيار ألفاظه ، وأنّك لو غيّرت كلمة ووضعتها مكان أخرى منه لشعرت بخلل في النظم (٣) ، فالأداء القرآني يمتاز «بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض ، وذلك بأوسع مدلول وأدقّ تعبير مع التناسق العجيب بين العبارة والمدلول» (٤). وقد تنبّه القدماء على هذا الشيء ، وذكروا أنّ ألفاظ القرآن صارت بطريقة استعمالها ووجه تركيبها كأنّها فوق اللغة ، فإنّ أحدا من البلغاء لا تمتنع عليه متى أرادها ، ولكن لا تقع له بمثل ما جاء في القرآن الكريم (٥).

ويلاحظ على المرتضى ـ أحيانا ـ أنّه يستعين بالدلالة السياقية والدلالة العقليّة معا في توجيهه لدلالة النصّ القرآني ، وبخاصّة في الآيات الّتي يصطدم ظاهرها مع مبادئه العقليّة ويتّضح هذا في تفسيره لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)) (٦).

__________________

(١) نفسه : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) ينظر تنزيه الأنبياء : ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٣) ينظر دور الصوت في إعجاز القرآن : ١٤٥.

(٤) صفاء الكلمة : ٦.

(٥) ينظر تأويل مشكل القرآن : ٢١.

(٦) سورة الأعراف ، الآيتان : ١٨٩ ـ ١٩٠.

٨٥

إنّ ظاهر الآيتين يشعر بوقوع المعصية من آدم عليه‌السلام ، وهذا ما لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام ، ولذا فإنّ المرتضى يقدم أولا الدليل العقلي فيقول : قد علمنا أنّ الدلالة العقليّة الّتي قدمناها في باب أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يجوز عليهم الكفر والمعاصي غير محتملة ، ولا يصحّ دخول المجاز فيها ، والكلام في الجملة يصحّ فيه الاحتمال وضروب المجاز ، فلا بدّ من بناء المحتمل على ما لا يحتمل» (١). وبعد أن يفرغ من الدليل يلتفت إلى السياق اللفظي ، ليرى فيه دلالة أخرى تؤيد صحّة فهمه ، فيقول : «إنّ الكناية في قوله سبحانه : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) غير راجعة إلى آدم عليه‌السلام وحوّاء ، بل إلى الذكور والإناث من أولادهما أو إلى جنسين ممّن أشرك من نسلهما ، وإن كانت الكناية الأولى تتعلّق بهما ، ويكون تقدير الكلام : فلما أتى الله آدم وحوّاء الولد الصالح الّذي تمنياه وطلباه جعل كفّار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى ، ويقوّي هذا التأويل قوله سبحانه : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، وهذا ينبىء على أنّ المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين ، وليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدّمة راجعة إلى آدم عليه‌السلام وحوّاء أن يكون جميع ما في الكلام راجعا إليهما ؛ لأن الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره. ومن كنايه إلى خلافها ، قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (٢) فانصرف من مخاطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مخاطبة المرسل إليهم ، ثمّ قال : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (٣) يعني الرسول ، ثمّ قال : (وَتُسَبِّحُوهُ) (٤) يعني مرسل الرسول ، فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والكناية مختلفة كما ترى (٥).

فالمرتضى ـ هنا ـ يحتجّ بسياق الآية ويعدّ قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، قرينة دلالية متّصلة تشهد بصحّة رأيه. ثمّ يلاحظ المرتضى ما في الكلام من الانتقال من خطاب إلى غيره ومن كناية عن مذكور إلى مذكور سواه ،

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ١٦ ـ ١٧.

(٢) سورة الفتح ، الآيتان : ٨ ـ ٩.

(٣) سورة الفتح ، الآية : ٩.

(٤) سورة الفتح ، الآية : ٩.

(٥) تنزيه الأنبياء : ١٧.

٨٦

ويعدّ ذلك من فصيح الكلام ، لأنّ الفصيح ـ كما يقول ـ ينتقل من خطاب مخاطب إلى غيره ، فالكلام واحد متّصل بعضه ببعض والخطاب منتقل من واحد إلى غيره. وهذا الّذي ذكره المرتضى هو ما عرف في الدراسات البلاغية المتأخّرة «بالالتفات» ، ويعنون به : «العدول عن الغيبة إلى الخطاب أو على العكس» (١) ، وهذا ـ كما يرى الزمخشري ـ يجري على عادة افتتان العرب في الكلام ، وتصرّفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من إسلوب إلى إسلوب «كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على اسلوب واحد» (٢).

ولم يكتف المرتضى بهذا الرأي الّذي يرجحه العقل ويؤيّده السياق ، ولكنّه ـ وربّما بدافع الحرص على تنزيه الأنبياء ـ يتكلّف من الآراء ما يأباه السياق وتتابع الآيات ، فيقول في توجيه الآية السابقة : منها أن تكون الهاء في قوله تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) راجعة إلى الولد لا إلى الله تعالى ، ويكون المعنى : إنّهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطلبتين ، ويجري هذا القول مجرى قول القائل : طلبت منّي درهما فلمّا أعطيتك شركته بآخر ، أي طلبت آخر مضافا إليه ، فعلى هذا الوجه لا يمتنع أن تكون الكناية من أوّل الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحوّاء عليهما‌السلام» (٣).

وهذا الرأي لا يرجحه السياق ، فقد جاء بعد الآية السابقة مباشرة قوله تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٤) ، وفي هذا دلالة على أنّ المراد في الآية الأولى هو الإشراك بالله تعالى دون الإشراك في الطلب ، والله أعلم بمراده.

سياق الحال :

ويراد به الأحوال والظروف والملابسات الّتي تصاحب النصّ وتحيط به ، أو قل هو «كلّ ما يحيط باللفظه من ظروف تتّصل بالمكان أو المتكلّم أو

__________________

(١) نهاية الإيجاز : ١١٢.

(٢) الكشّاف ، ١ : ٦٤.

(٣) تنزيه الأنبياء : ١٩.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٩١.

٨٧

المخاطب ، في أثناء التفوّه ، فتعطيها هذه الظروف دلالتها الّتي يولدها هذا النوع من السياق» (١) ، ذلك أنّ «المعنى المعجمي ليس كلّ شيء في إدراك معنى الكلام. فثمة عناصر غير لغوية ذات دخل كبير في تحديد المعنى ، بل هي جزء من أجزاء معنى الكلام من ملابسات وظروف ذات صلة» (٢). وقد يكون ما يصاحب اللفظ ويساعد على توضيحه ورود الكلمة أو اللفظة في استعمال معيّن ، وقد يكون ما يصاحب اللفظ من غير الكلام مفسّرا للكلام (٣).

وأوّل من استعمله من المحدّثين عالم المجتمعات البشرية «الانثروبولوجي» : مالينوفسكي ، وقد أخذ منه اللغوي الانكليزي فيرث «سياق الحال» مطلقا عليه اسم Contex of stuation الّذي ترجمه الباحثون العرب المعاصرون ب «سياق الحال» و «الماجرى» و «المقام» و «الموقف» و «السياق الاجتماعي» (٤).

وتجب الإشارة هنا إلى أنّ العلماء العرب القدامي من لغويين وبلاغيين ومفسّرين قد تنبّهوا على هذا النوع من الدلالة لكنّهم اكتفوا في كثير من الأحيان بوصفه عن تسميته (٥). ولعلّ سيبويه (ت ١٨٠ ه‍) أقدم من نبّه عليه ، فقد أشار إلى الفارق الدلالي بين قولين وحالين يقال فيهما : «القرطاس والله» ، الأوّل يقوله شخص رأى رجلا يسدّد سهما قبل القرطاس ، فيقول هذا الكلام ، ويقصد به : إنّ هذا الرجل يصيب القرطاس. والثاني يقوله بعد وقع السّهم في القرطاس ، ويقصد : إنّه أصاب القرطاس (٦). وقد تنبّه الجاحظ (ت ٢٤٤ ه‍) على هذا الشيء ، وعقد في كتابه البيان والتبيين مبحثا عن سياق المقام (٧).

__________________

(١) منهج الخليل في دراسة الدلالة القرآنية : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) علم اللغة : ٢٨٨.

(٣) ينظر المعاجم اللغوية في ضوء علم اللغة الحديث : ١١٦.

(٤) علم اللغة : ٣٣٩.

(٥) ينظر الدلالة في البيّنة العربية : ١٢٦.

(٦) ينظر الكتاب ، ١ : ٢٥٧ ، والخصائص ، ٢ : ٣٦٠.

(٧) ينظر البيان والتبيين ، ١ : ١٣٦.

٨٨

وقد اقترنت الآيات القرآنية بدواع وأسباب في شأن نزولها. ويراد بأسباب النزول «ما نزلت الآية أو الآيات متحدّثة عنه أو مبيّنة لحكمه أيّام وقوعه» (١). فسبب نزول الآية ـ إذن ـ يعدّ قرينة دلالية تحيط بالنصّ من الخارج ، يستعان بها في فهم المعنى وتوجيهه ، وهي «طريق قوي في فهم معاني القرآن» (٢). ويذهب بعض المفسّرين إلى «امتناع معرفة تفسير الآية ، وقصد سبيلها من دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها» (٣).

وتعدّ أسباب النزول من القرائن الدلالية الّتي اعتمد عليها الشريف المرتضى في بيانه لدلالة النصّ القرآني ، فهو حين يقف عند قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٤). يقول : «المراد بالسيّئة هاهنا الأمراض والمصائب والقحط ، لأنّ قريشا كانت إذا نزل بها خصب وخفض قالوا : هذا من عند الله ، وإذا نزل بهم شدّة ومجاعة قالوا : هذا شؤم محمّد ـ حاشا له من ذلك ـ فيبيّن تعالى أنّ ذلك كلّه من الله تعالى» (٥).

فالشريف المرتضى يصرف دلالة اللفظة «السيّئة» عن معنى الذنب أو الخطيئة إلى معنى المصائب والأمراض ، ويتّخذ من سبب النزول دليلا يعضد به رأيه ، ذلك لأنّ المجبرة اتّخذوا من هذه الآية دليلا على أنّه سبحانه وتعالى خالق لأفعال العباد ، وهو ما يرفضه المرتضى الّذي يقول بمبدأ العدل.

وقد عدّ الشيخ الطوسي رحمه‌الله هذه الآية من المتشابه ، وردّها إلى آية أخرى محكمة هي قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٦) ، الّتي وجد فيها «دلالة على أنّ المعاصي ليست من عند الله ، بخلاف ما تقوله المجبّرة ، ولا من فعله. لأنّها لو كانت من فعله لكانت من عنده ...» (٧).

__________________

(١) مناهل العرفان في علوم القرآن : ٩٩.

(٢) لباب النقول في أسباب النزول : ٥.

(٣) أسباب النزول : ٤.

(٤) سورة النساء ، الآية : ٧٨.

(٥) رسائل الشريف المرتضى ، ٣ : ١٩٤ ، (مسألة في خلق الأفعال) ، وينظر معاني القرآن ، ٢ : ٧٩.

(٦) سورة آل عمران : الآية : ٧٨.

(٧) التبيان في تفسير القرآن ، ٢ : ٥٠٩.

٨٩

وما قاله الشيخ الطوسي رحمه‌الله من أنّ قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) من المتشابه غير صحيح ، فالآية نزلت ردّا على اليهود أو قريش ـ على خلاف في الرواية ـ كما ذكر السيّد المرتضى ، وبيّنه الطوسي نفسه (٢) ، وسبقهم إلى ذلك القاضي عبد الجبّار في كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» (٣) فلا تعلّق للآية بأفعال العباد ، وإنّما هي مخصوصة بما يقدّره الله تعالى عليهم من الخير والضرّ. وهي محكمة وليست متشابهة. وللقاضي عبد الجبّار ملاحظة ذكية تؤكّد هذا المعنى. وهي أنّ قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)، لو كان متعلّقا بخلق أفعال العباد ، لادعت العرب بتناقض القرآن ، لأنّ الله تعالى يقول في آية أخرى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٤). وإنّما عدلوا عن ذلك ، لأنّ المراد بالأوّل المصائب والأمراض ، وبالثاني المعاصي (٥).

ويقف السيّد المرتضى عند قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (٦). وفي كشفه عن دلالة لفظة «القريب» يقول : «أنّه تعالى لم يرد بقوله : «قريب» من قرب المسافة ؛ بل أراد أنني قريب بإجابتي ومعونتي ونعمتي ، أو بعلمي بما يأتي العبد ويذر ، وما يسرّ ويجهر ، تشبيها بقرب المسافة ؛ لأنّ من قرب من غيره عرف أحواله ولم تخف عليه ... وقد روى أنّ قوما سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له : أربّنا قريب فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (٧). وفي موضع آخر يقول : «والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة ؛ فيقولون : فلان أقرب إلى قلبي من فلان ، وزيد منّي قريب ، وعمرو منّي بعيد ؛ ولا يريدون المسافة» (٨).

وهكذا يتّضح لنا أنّ الاكتفاء بظاهر اللفظ وما يحمله من دلالات بمعزل عن

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٧٨.

(٢) ينظر التبيان ، ٣ : ٢٦٤ ، ومنهج الطوسي في تفسير القرآن : ٢١٠.

(٣) ينظر تنزيه القرآن عن المطاعن : ٩٤.

(٤) سورة النساء ، الآية : ٧٩.

(٥) ينظر تنزيه القرآن عن المطاعن : ٩٤.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ١٨٦.

(٧) أمالي المرتضى ، ١ : ٦٠٣.

(٨) نفسه : ١ : ٥٢٧.

٩٠

المقام قد لا يصل بنا إلى فهم النصوص فهما صحيحا ، ومن هنا كانت عناية العرب بأسباب النزول للإحاطة بما يرافق النصّ القرآني الكريم من ظروف وأحداث كي يصل المفسّر لآيات الله الكريمات إلى فهم صحيح. فهذه الأسباب قرائن للكشف والتفسير ، إذ تتضافر مع القرائن الأخرى ، أي إنّ «القرآن وهو أسميّ نصّ عربي يرصد القرائن الحالية الّتي تتمثّل في أسباب النزول ، ومن القرائن المقالية الّتي تتمثّل في تراكيب النصّ ، وفي الآيات الّتي تفسر آيات أخرى ما يحول بين اللبس وسياقه الكريم» (١).

ومن سياق الحال ما يعرف بالسياق الاجتماعي ، ونعني به ظرف النصّ الاجتماعي أو الموقف الاجتماعي الّذي يكتنف المقال في أثناء الحدث الكلامي ، فاللغة ظاهرة اجتماعية لا يمكن فصلها عن المجتمع والسياق الاجتماعي ، وهي نشاط اجتماعي من حيث إنّها استجابة ضرورية لحاجة الاتّصال بين الناس جميعا (٢).

ومال بعض الباحثين إلى التفريق بين المصطلحين «سياق الحال» و «السياق الاجتماعي» على أساس أنّ «سياق الحال» موقف مؤقّت يتّصف بالآنية عند النطق بالكلام أو كتابته ، في حين أنّ «السياق الاجتماعي» يتّصف بالثبات والدوام تقريبا ، فهو سياق سائد (٣). ومع ذلك فهو لا يخرج عن سياق الحال ، لأنّه لا يخرج عن مجمل الظروف والملابسات الّتي تحيط بالنصّ من الخارج.

والشريف المرتضى يعتمد هذا النوع من السياق في تفسيره للنصّ القرآني ، ويعدّه عنصرا دلاليا وقرينة لفهم الكلام. فهو حين يقف عند قوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) (٤). نراه يتساءل فيقول : هل المراد بذلك البيوت المسكونة على الحقيقة ،

أو كنّى بهذه اللفظة عن غيرها؟ ثمّ يرجح المرتضى الدلالة الحقيقية للفظة

__________________

(١) اللغة والنقد الأدبي ، (بحث) : ١٢٢.

(٢) ينظر المدخل إلى علم اللغة : ١٢٨.

(٣) ينظر الدولة في البنية العربية : ١٢٦.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٨٩.

٩١

«البيوت» ذلك «أنّ الرجل من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تقض له ، ولم ينجح رجع فدخل من مؤخّر البيت ، ولم يدخل من بابه تطيّرا. فدلّهم الله تعالى على أن هذا من فعلهم لا برّ فيه ، وأمرهم من التقى بما ينفعهم ويقربهم إليه» (١). وفي تفسيره لقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)) (٢) ، يقول : فأمّا الموءودة فهي المقتولة صغيرة ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهن أحياء ... ويقال : إنّهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين : أحدهما أنهم كانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات بالله ، فهو أحقّ بها منّا. والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهنّ خشية الإملاق ، قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (٣) (٤).

فالسيّد المرتضى ـ هنا ـ يربط النصّ بسياقه الاجتماعي ، ويلاحظ عادات العرب وتقاليدها في عصر النزول ، وهو أمر اهتمت به الدراسات اللغوية الحديثة ، فاللغة نشاط اجتماعي بازر ، وهي تتأثر بكلّ الظواهر الاجتماعية تأثّرا كبيرا (٥).

الاحتجاج بالقراءات

القرآن : «هو الوحي المنزل للإعجاز والبيان ، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف ، أو كيفيّتها من تخفيف وتشديد وغيرهما» (٦).

والقراءات القرآنية مصدر مهمّ من مصادر دراسة اللغة العربية ، وهي بلا شكّ تعد ثروة أغنت الدرس اللغوي بظواهر لغوية متعدّدة ، ولا سيّما ما يتعلّق منها بالأصوات والصرف والنحو والدلالة ، لذلك عني بها أصحاب المعاني والمفسّرون واللغويّون سواء أكانت هذه القراءات مشهورة أم غير مشهورة.

وقد اختلف العلماء في القراءات القرآنية من حيث التواتر وعدمه ، فالجمهور

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ١ : ٣٧٧.

(٢) سورة التكوير ، الآيتان : ٨ ـ ٩.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٥١.

(٤) أمالي المرتضى ، ٢ : ـ ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، وينظر معاني القرآن ، ٥ : ٢٩٠.

(٥) ينظر اللغة العربية معناها ومبناها : ٣٤٢.

(٦) اتحاف فضلاء البشر ، الدمياطي : ٥.

٩٢

من علماء أهل السنّة اتّفقوا على تواتر القراءات السبع (١) ، واختلفوا في قراءة الثلاثة الزوائد على السبعة ، وهم : أبو جعفر ويعقوب ، وخلف في اختياره (٢) ، واتّفقوا على شذوذ قراءة من زاد على العشرة (٣) ويفهم من كلام بعض علماء أهل السنّة عدم التواتر سواء أكانت القراءة من السبعة أم عمن هو أكبر منهم ، قال ابن الجزري (ت ٨٣٣ ه‍) : كلّ قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا ، وصحّ سندها فهي القراءة الصحيحة الّتي لا يجوز ردّها ، ولا يحلّ إنكارها بل هي من الأحرف السبعة الّتي نزل بها القرآن ، ووجب على الناس قبولها سواء أكانت عن الأئمّة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمّة المقبولين ، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة اطلق عليها ضعيفة ، أو شاذّة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم» (٤).

__________________

(١) القراء السبعة هم :

ـ ابن عامر ، أبو عمران عبد الله بن عامر ، إمام أهل الشام (ت ١١٨ ه‍).

ـ ابن كثير ، عبد الله بن عمرو بن عبد الله ، من قراء مكّة (ت ١٢٠ ه‍).

ـ عاصم ، أبو بكر بن أبي النجود ، (ت ١٢٧ ه‍) على الأرجح.

ـ أبو عمرو بن العلاء ، زبان بن العلاء بن عمّار ، كان إمام البصرة (ت ١٥٤ ه‍).

ـ حمزة ، حمزة بن حبيب الزيّات ، يكنّى بأبي عمارة (ت ١٥٦ ه‍).

ـ نافع ، نافع بن أبي النعيم المدني ، انتهت إليه رياسة القراءة بالمدينة (ت ١٦٩ ه‍).

ـ الكسائي ، عليّ بن حمزة بن عبد الله ، انتهت إليه رياسة الاقراء بالكوفة بعد حمزة الزيّات (ت ١٨٩ ه‍).

ينظر الغاية في طبقات القرّاء ، ١ : ٤٢٤ ، ١ : ٤٤٣ ، ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ، ١ : ٢٦٣ و ٣٣٠ ، ١٥ : ٥٣٥ ، ولطائف الإشارات ، ١ ـ ٩٨ : ٩٩ ، وكتاب السبعة في القراءات : ٥٣ ، وما بعدها ، ومعجم القراءات القرآنية ، ١ ـ ٨١ : ٨٩.

(٢) أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي تابعي مشهور (ت ١٣٠ ه‍) على الأصح.

أبو محمّد يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري إمام اهل البصرة (ت ٢٠٥ ه‍).

أبو محمّد خلف بن هشام (ت ٢٢٩ ه‍).

ينظر الغاية في طبقات القرّاء ، ٢ : ٢٨٢ ، ٢ : ٣٨٦ ، ١ : ٢٧٦ ولطائف الإشارات ، ١ ـ ٩٧ : ٩٨ ، ومعجم القراءات القرآنية ، ١ ـ ٩٢ : ٩٣.

(٣) اتحاف فضلاء البشر : ٩.

(٤) النشر في القراءات العشر ، ١ : ٩.

٩٣

فهذا النصّ لا يوجب اختصاص التواتر والصحّة بالسبعة أو العشرة دون غيرهما. ومعنى قوله : «وافقت العربية ...» أي موافقة القراءات للقواعد النحوية المستقاة من النطق العربي الفصيح ، ولا يرى بعض اللغويين ضرورة لهذا الشرط لأنه أمر متحقّق لا محالة حين يتحقّق شرط الرواية أو صحّة السند (١).

أما الإمامية فقد قالوا بعدم تواتر القراءات ، وتمسّكوا بالقول الّذي يروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد» (٢) ، وأشار الشيخ الطوسي رحمه‌الله إلى هذا المعنى بقوله : «اعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا والشائع من أخبارهم ورواياتهم أن القرآن ، نزل بحرف واحد على نبيّ واحد. غير أنهم اجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القرّاء ، وأن الإنسان مخيّر بأيّ قراءة شاء قرأ» (٣).

ولذا فلا حجّة عندهم للقراءات في الاستدلال على الحكم الشرعي ولكنّهم لم يغفلوا العناية بها وتوجيهها والاحتجاج بها في ترجيح المعاني القرآنية. وتبدو عناية المرتضى بالقراءات القرآنية واضحة في بحثه التفسيري ، فهو يحتجّ بها في بيانه لدلالة النصّ القرآني ، ويرجح قراءة على أخرى ، ويشير إلى اختلاف القراءات ومن قرأ بها وعلاقتها باللغة والنحو ، ذاكرا ما يترتّب على اختلاف القراءة على المعنى. ويمكن لنا بيان ذلك من خلال الآتي :

وقف المرتضى عند قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٤) ، ونراه يتسائل : كيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل والقاتل واحد؟ وفي الجواب يذكر المرتضى أن اسلوب إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء بخطاب الآباء والأجداد ، «فيقول أحدهم : فعلت بنو تميم كذا ، وقتل بنو فلان فلانا ،

__________________

(١) ينظر البحث اللغوي عند العرب : ٢٣.

(٢) أصول الكافي ، كتاب فصل القرآن ، باب النوادر ، الرواية : ١٢ ، وينظر البيان في تفسير القرآن ، آية الله العظمى السيّد أبو القاسم الخوئي : ١٩٣.

(٣) التبيان في تفسير القرآن ، ١ : ٧.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٧٢.

٩٤

وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة ، ومنه من قرأ : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (١) بتقديم المفعولين على الفاعلين ، وهو اختيار الكسائي ، وأبي العبّاس ثعلب ، فيقتل بعضهم ويقتلون ، وهو أبلغ في وصفهم وأمدح لهم ، لأنهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن قتل بعضهم كان ذلك أدل على شجاعتهم» (٢).

وقد قرأ كلّ من حمزة والكسائي وخلف : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)، بضمّ الياء وفتح التاء في الحرف الأوّل ، وفتح الياء وضمّ التاء في الحرف الثاني ، أي ببناء الأوّل للمفعول والثاني للفاعل. والباقون : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)، بفتح الياء وضمّ التاء في الحرف الأوّل ، وضمّ الياء وفتح التاء في الحرف الثاني ، أي ببناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول ، لأن القتال قبل القتل (٣). وقد علل الدمياطي (ت ١١١٧ ه‍) قراءة حمزة والكسائي بقوله : «أما لأن الواو لا تفيد الترتيب أو يحمل ذلك على التوزيع ، أي منهم من قتل ومنهم من قاتل» (٤). والقول الثاني غير بعيد عن قول الشريف المرتضى.

ومن مواطن احتجاجه بالقراءات هو ما أشار إليه في بيانه لدلالة قوله تعالى : (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (٥) ، فقد ذكر قول بعض المفسّرين : إنّ الهاء في قوله تعالى : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) راجعة إلى السؤال ، والمعنى أن سؤالك إيّاي ما ليس لك به علم عمل غير صالح ؛ لأنه قد وقع من نوح عليه‌السلام السؤال والرغبة في قوله : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) (٦) ، ولكن الشريف المرتضى الّذي يقول بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام يرفض هذا القول ، ويرى أن الهاء في الآية لا يجب أن تكون راجعة إلى السؤال ، بل إلى الابن ، «ويكون تقدير

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١١١.

(٢) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٢٤.

(٣) ينظر الروضة في القراءات الإحدى عشرة : ٥٦٧ ، والنشر في القراءات العشر ، ٢ : ٢٤٦ ، واتحاف فضلاء البشر : ١٨٤ و ٢٤٥.

(٤) اتحاف فضلاء البشر : ١٨٤.

(٥) سورة هود ، الآية : ٤٦.

(٦) سورة هود ، الآية : ٤٥.

٩٥

الكلام : إنّ ابنك ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه» (١).

ويحتجّ المرتضى لهذا التوجيه بقراءة : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) بكسر الميم وفتح اللام ونصب غير ، فيقول : وقد قرأت هذه الآية بنصب اللام وكسر الميم ونصب غير ، ومع هذا القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام إلى الابن دون سؤال نوح عليه‌السلام (٢). ويذكر المرتضى أن هناك من ضعف هذه القراءة وقال : «كان يجب أن يقول أنه عمل عملا غير صالح ، لأن العرب لا تكاد تقول : هو يعمل غير حسن ، حتّى يقولوا : عملا غير حسن» (٣) ، ويرفض المرتضى هذا الرأي ويرده بقوله : «وليس هذا الوجه بضعيف ، لأن من مذهبهم الظاهر إقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس ، فيقول القائل : قد فعلت صوابا وقلت حسنا ، بمعنى فعلت فعلا صوابا ... وقال عمر بن أبي ربيعة» (٤).

أيّها القائل غير الصواب

أخر النصح وأقلل عتابي (٥)

وقد قرأ الكسائي ويعقوب بكسر الميم وفتح اللام ، ونصب غير مفعولا به أو نعتا لمصدر محذوف ، أي عملا غير [صالح] ، والباقون بفتح الميم ورفع اللام منونة «إنّه عمل غير صالح» ، على أنه خبران ، وغير بالرفع صفة على معنى ذو عمل (٦).

أما من جعل الضمير عائدا إلى السؤال المفهوم من النداء ، فإنّه يحمل الكلام على أن نوحا عليه‌السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ، وهذا لا يجوز

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٢٣.

(٢) تنزيه الأنبياء : ٢٤.

(٣) نفسه : ٢٣.

(٤) ديوانه : ٣١ ، والرواية فيه :

أيّها القائل غير الصواب

أخر النصح وأقلل عتابي

(٥) تنزيه الأنبياء : ٢٣.

(٦) ينظر اتحاف فضلاء البشر : ٢٥٧ ـ ٢٥٦ ، والحجّة في القراءات : ١٨٧ ، والروضة في القراءات الاحدى عشرة : ٥٧٩ ، والنشر في القراءات العشر ، ٢ : ٢٨٩.

٩٦

في حقّ الأنبياء عليهم‌السلام ، «وفيه خطر عظيم ينبغي تنزيه الرسل عنه (١). ولذا رفضه الشريف المرتضى وضعفه الزمخشري ، إذ قال : «قيل الضمير لنداء نوح : أي نداؤك هذا عمل غير صالح ، وليس بذاك» (٢).

ولا يكتفي المرتضى بالاحتجاج بالقراءات بل إنّه ـ وفي أغلب الأحيان ـ يتوسّع في القراءة ويذكر اختلاف القراء وحجّة كلّ قراءة ، وعني خاصّة بتوجيه القراءات المشهورة (السبع) وبيان حججها وعللها وذكر طرفها ، ففي قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (٣) ، يشير السيّد المرتضى إلى اختلاف القرّاء السبعة في رفع الراء ونصبها في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ)، فقال : قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص : (لَيْسَ الْبِرَّ) بنصب الراء ، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يقرأ بالنصب والرفع ، وقرأ الباقون بالرفع ، والوجهان جميعا حسنان ؛ لأن كلّ واحد من الاسمين : اسم ليس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في جواز كون أحدهما اسما والآخر خبرا (٤). ثمّ ذكر المرتضى حجّة كلّ فريق فقال : «وحجّة من رفع «البرّ» أنه : لأن يكون «البرّ» الفاعل أولى ، لأنه «ليس» يشبه الفعل ، وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده ... وحجّة من نصب «البرّ» أن يقول : كون الاسم أن وصلتها أولى لشبهها بالمضمر ... فكأنّه اجتمع مضمر ومظهر ، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر» (٥).

ولم يرجح المرتضى ـ هنا ـ احدى القراءتين ، وهذا هو شأنه حين يجد لكلّ قراءة ما يقويها من الناحية اللغوية والدلالية. وكان مكّي القيسي (ت ٤٣٧

__________________

(١) اتحاف فضلاء البشر : ٢٥٧.

(٢) الكشّاف ، ٢ : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٧٧.

(٤) أمالي المرتضى ٢ ـ ٢٠٦ : ٢٠٧ ، وينظر كتاب السبعة في القراءات : ١٧٥ ، والكشف عن وجوه القراءات ، ١ ـ ٢٨٠ : ٢٨١ ، والروضة في القراءات الاحدى عشر : ٤٥٢ ، والنشر في القراءات العشر ، ٢ : ٢٢٦ ، واتحاف فضلاء البشر : ١٥٣.

(٥) أمالي المرتضى ، ١ : ٢٠٧.

٩٧

ه) يرجح قراءة الرفع ويحتجّ لها بقوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) (١) ، وفي هذا يقول : «ويقوى رفعه ، رفع «البرّ» الثاني ، الّذي معه الباء إجماعا في قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا) ولا يجوز فيه إلّا رفع «البرّ» فحمل الأوّل على الثاني أولى من مخالفته» (٢).

ووقف المرتضى عند قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣) ، وفي بيانه لدلالة الآية يذكر المرتضى أن الله سبحانه وتعالى إنّما أراد نفي تكذيبهم بقلوبهم تدينا واعتقادا ، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب ، لأنه قد كان في المخالفين له عليه‌السلام من يعلم صدقه ، وهو مع ذلك معاند ، فيظهر خلاف ما يبطن (٤). ثمّ يشير إلى قراءة الكسائي بقوله : وكان الكسائي يقرأ : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بالتخفيف ونافع من بين سائر السبعة ، والباقون على التشديد ؛ ويزعم أن بين أكذبه وكذبه فرقا ، وأن معنى أكذب الرجل ، أنه جاء بكذب ، ومعنى كذبته أنه كذّاب في كلّ حديثه ، وهذا غلط ، وليس بين «فعلت» و «أفعلت» في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر ممّا ذكرناه من أن التشديد يقتضي التكرار والتأكيد ...» (٥).

فالمرتضى ـ هنا ـ لا يرد قراءة (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بالتخفيف ، أي سكون الكاف وتخفيف الذال ، ولكنّه يرفض توجيه الكسائي لها ، ولا يرى فرقا بين القراءتين أكثر من كون قراءة التشديد (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بفتح الكاف وتشديد الذال ، تقتضي التكرار والتأكيد. ولعلّ قول الكسائي أن بين أكذبه وكذبه فرقا هو الأقرب إلى الواقع اللغوي ، لأنّه لو لم يختلف المعنى لم تختلف الصيغة ، إذ كلّ عدول عن صيغة إلى أخرى لا بدّ أن يصحبه عدول عن معنى إلى آخر إلّا إذا كان

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٩.

(٢) الكشف عن وجوه القراءات ، ١ : ٢٨١ ، وينظر التبيان في إعراب القرآن ، ١ : ١٤٣.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٣٣.

(٤) ينظر أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٦٤.

(٥) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٦٧ ، وينظر الروضة في القراءات الاحدى عشرة : ٥٢١ ، والكشّاف ، ٢ : ١٤ ، والنشر في القراءات العشر ، ٢ : ـ ٢٥٧ : ٢٥٨ واتحاف فضلاء البشر : ٢٠٧.

٩٨

ذلك لغة» (١). وقد فرق الراغب بين الصيغتين ، فوجه الّتي بالتخفيف للدلالة على وجود الشيء ، وبين أن معناه : «لا يجدونك كاذبا» ، ووجه الّتي بالتشديد للدلالة على النسبة إلى الشيء ، أي لا يستطيعون أن ينسبوك إلى الكذب ، وعبّر عن هذا المعنى بقوله : «لا يستطيعون أن يثبتوا كذبك» (٢).

ونجد الشريف المرتضى في بعض المواضع يرجح قراءة على أخرى ، ويبدو أن شهرة القراءة من الأسباب الّتي تدعوه لترجيح قراءة على أخرى ، وإن لم يلتزم ذلك. ففي قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٣) ، ذكر في معنى الآية وجوها منها : «أنّه أراد وجدك ضالّا عن النبوّة فهداك إليها ، أو عن شريعة الإسلام الّتي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق» (٤). ثمّ ذكر قراءة من قرأ بالرفع «ووجدك ضالّ فهدى» ، على أن اليتيم وجده وكذلك الضال (٥) ، لكنّه ردّ هذا الوجه بقوله : «وهذا الوجه ضعيف ، لأنّ القراءة غير معروفة ، ولأنّ هذا الكلام يسمج ويفسد أكثر معانيه» (٦).

وقد جاء في تفسير القرطبي : «وفي قراءة الحسن «ووجدك ضالّ فهدى» ، أي وجدك الضالّ فاهتدى بك ؛ وهذه قراءة على التفسير» (٧).

ووقف المرتضى عند قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (٨).

ويتساءل : ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالّة على أنه تعالى جعل الكافر كافرا ؛ لأنه أخبر بأنه جعل منهم من عبد الطاغوت ؛ كما جعل القرده والخنازير؟ لكنّه يرفض هذا القول ويصرح بأنه ليس في ظاهر الآية ما ظنّوه ، وأكثر ما

__________________

(١) معاني الابنية في اللغة العربية : ٧.

(٢) المفردات : ٤٤٤ (كذب) ، وينظر معاني القرآن ، ١ : ٣٣١ ، ومشكل إعراب القرآن ، ١ : ٢٥١.

(٣) سورة الضحى ، الآية : ٧.

(٤) تنزيه الأنبياء : ١٣٤.

(٥) نفسه : ١٣٥.

(٦) نفسه : ١٣٧.

(٧) تفسير القرطبي (جامع الأحكام) ، ٢٠ : ٩٩ ، وينظر معجم القراءات القرآنية ، ٨ : ١٨٢.

(٨) سورة المائدة ، الآية : ٦٠.

٩٩

تضمّنته الأخبار بأنه خلق وجعل من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير ؛ ولا شبهة في أنه تعالى هو خلق الكافر ، غير أن ذلك لا يوجب أنه خلق كفره وجعله كافرا (١). ثمّ يذكر قولا يرجحه ويقويه وهو : «يجوز أن يعطف «عبد الطاغوت» على الهاء والميم في «منهم» ، فكأنّه جعل منهم ، وممّن عبد الطاغوت القردة والخنازير ؛ وقد يحذف «من» في الكلام ؛ قال الشاعر :

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه ، وينصره سواء

أراد : ومن يمدحه وينصره» (٢).

وعلى طريقته في المحاجّة والمجادلة يقول : «فإن قيل : فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح ، أين أنتم عن قراءة من قرأ «وعبد» بفتح العين وضمّ الياء ، وكسر التاء من «الطاغوت» ، ومن قرأ «عبد الطاغوت» بضمّ العين والباء» (٣).

ويرد الشريف المرتضى هذا القول بحجّة أن المختار من هذه القراءة «عند أهل العربية كلّهم القراءة بالفتح ، وعليها جميع القرّاء السبعة إلّا حمزة فإنّه قرأ : «عبد» بفتح العين وضمّ الباء ، وباقي القراءات شاذّة غير مأخوذ بها» (٤).

وهذا يعني أن شهرة القراءة من الأسباب الّتي تدعوه إلى ترجيح قراءة على أخرى ، ولكنّه لم يلتزم بهذا النهج ، ولم تكن القراءات المشهورة كلّها عنده

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ٢ : ـ ١٨٠ : ١٨١.

(٢) نفسه ، ٢ : ١٨٢ ، والبيت لحسان بن ثابت ، ينظر ديوانه : ٩.

(٣) أمالي المرتضى ، ٢ : ١٨٢ ، وقد جاء في اتحاف فضلاء البشر ، للدمياطي : ٢١٠ ، واختلف في «عبد الطغوت» ، فحمزة بضمّ الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت ... وعن الحسن فتح العين والدال وسكون الباء وخفض الطاغوت ، وعن الشنبوذي ضمّ العين وفتح الدالّ وخفضّ الطاغوت (جمع عبيد) ، والياقوت بفتح العين والباء على أنه فعل ماض ونصب الطاغوت مفعولا به. وينظر النشر في القراءات العشر ، ٢ : ٢٥٥.

(٤) أمالي المرتضى ، ٢ : ١٨٢. وقد أوصل ابن جنّي القراءات في هذه الآية إلى عشر قراءات ، ينظر المحتسب ، ١ : ـ ٢١٤ : ٢١٥ ، والتبيان في تفسير القرآن ، ٣ ـ ٥٧٣ : ٥٧٤ ، والكشّاف ، ١ ـ ٦٢٥ : ٦٢٦.

١٠٠