تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (١) ونزلت هذه الآية في قصّة مشهورة ، وان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسر إلى أحد زوجاته سرا ، فأسرّت عليه صاحبة لها من الأزواج أيضا ، واطلع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فعلها فعاتب المظهرة للسرّ ، فأجابت بما هو مذكور في الآية.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) إلى قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢). وقد وردت الرواية بخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خائفا من قريش واستتارة في الغار وأبو بكر معه ، ونهيه له عمّا ظهر منه من الجزع والخوف على ما يطابق من ظاهر القرآن.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣) وعلى ما جاء به القرآن جرت الحال بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين زيد بن حارثة لما حضره مطلقا لزوجته.

ولما ذكرناه من الآيات نظائر كثيرة وردت مطابقة لقصص حادثة ، فدلّ على اختصاص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا القرآن وأنه منزل له ومن أجله ، كمسألتهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الروح ، حتّى نزل من القرآن ما نزل في ذلك ، وكقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)) (٤) وظاهر القرآن مطابق لما التمسوه وطلبوه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لم تخل هذه الأخبار لمطابقة القصص ، والوقائع ، والأفعال ، والأقوال ،

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية : ٣.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٧.

(٤) سورة الإسراء الآيات : ٩٠ ـ ٩٢.

٣٤١

والسؤالات ، والجوابات ، وقد جرى لذلك فيما تقدّم ، بل جرى في هذه الأوقات الّتي وردت الأخبار بوقوعها فيها ، ويكون الأخبار وان كانت بلفظ الماضي اخبارا عمّن يحدث في المستقبل ، فذلك جائز على مذهب أهل اللسان.

والقسم الأوّل يبطل من وجهين :

أحدهما : أن ذلك لو جرى فيما مضى لوجب أن يعلمه كلّ عاقل سمع الأخبار ؛ لأن وجوب استفاضته وانتشاره يقتضي عموم العلم ، وكيف لا نعلم حال نبيّ كثر أعوانه وكان منهم مهاجرون وأنصار ومخلصون ومنافقون ، وحارب في وقعة بعد وقعة أخرى ، وحورب واستفتي في الأحكام ، واقترحت عليه الآيات والمعجزات ، ولكان أعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوافقون على هذه الحال ، ويسارعون إلى الاحتجاج بها.

وإنّما استحقّ هذا السؤال تكلّف الجواب عنه ، لما تضمن أن الكتاب أخذ ممّن لا يعرف له خير ولا وقف له على أثر ولا بعث إلّا إلى الّذي أخذ الكتاب منه ، وإذا ورد مورد آخر يقتضي الظهور والانتشار فالعلم الضروري يبطله.

وأمّا الوجه الثاني في إبطال القسم الأوّل : ان العادات تقتضي باستحالته أن يتّفق بنظائر وأمثال لتلك القصص التي حكيناها حتّى لا نخالفها في شيء ، ولا يغادر منها شيء شيئا ، واستحالة ذلك كاستحالة أن يوافق شاعر شاعرا على سبيل المواردة في جميع شعره ، وفي قصيدة طويلة.

ومن تأمّل هذا حقّ تأمّله علم أن اتّفاق نظير لبعض هذه القصص محال ، فكيف أن يتّفق مثل جميعها.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو أن يكون هذه الأخبار إنّما هي عمّا يحدث مستقبلا في الأوقات الّتي حدثت ـ والّذي يبطله ، إذا تجاوزنا عن المضايقة في أن لفظ الماضي لا يكون للمستقبل : إنّا إذا تأملنا وجدنا جميع الأخبار الّتي تلوناها دالّة على تعظيم من ظهرت مخبراتها على يديه وتصدّق دعوته ونبوّته.

ألا ترى إلى توبيخه تعالى للمولين على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم أحد وحنين ،

٣٤٢

وشهادته بالرسالة في قوله تعالى : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (١) ، وفي قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) (٢) ، وفي قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) (٣) ، وفي قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) (٤) ، فكلّ القصص إذا تؤمّلت على أنها شاهدة بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقه.

وليس لأحد أن يقول : فلعلّ هذه الآيات المقصوصة ليست من جملة الكتاب المعجز فيه ، وإنّما ألحقت به وأضيفت إليه ؛ وذلك أن الّذي يؤمّن من هذا الطعن : أنا قد علمنا أن كلّ آية أو آيات اختصّت بما ذكرناه من القصص والحوادث تزيد على مقدار سورة قصيرة ، وهي الّتي وقع التحدّي بها وتعذرت معارضتها ، فلو تأتي للمحقّ أن يلحق بالقرآن مثل هذه الآيات لكان ذلك من العرب الّذين تحدّوا به أشدّ تأتيا وأقرب تسهلا.

وهذا جواب كاف إن اعتمده من ذهب إلى خرق العادة بفصاحته ، ويعود إلى مذاهب من ذهب في إعجاز القرآن خلاف الصرفة ممّا حكينا مذهبه.

أمّا مذهب من يقول : إنّه خرق العادة بفصاحته. فقد مضى الكلام الطويل في إبطال مذهبه.

وأمّا مذهب البلخي فباطل ؛ لأنه قال : إن نظم القرآن وتأليفه مستحيلان من العباد كاستحالة احداث الأجسام ، وإبراء الاكمه والأبرص ، وإذا كان القرآن لا نظم له على الحقيقة ولا تأليف وإنّما يستعار فيه هذا اللفظ من حيث حدث بعضه في أثر بعض تشبيها بتأليف الجواهر ، فكيف يصحّ أن يقال : تأليف القرآن مستحيل.

وأمّا الحروف فهي كلّها في مقدورنا ، والكلام يتركّب من حروف المعجم الّتي يقدر عليها كلّ قادر على الكلام ، وألفاظ القرآن غير خارجة من حروف المعجم الّتي يقدر عليها كلّ متكلّم.

وليس لهم أن يقولوا : إن مرادي بالنظم والتأليف هو الترتيب والفصاحة

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٢٦.

(٣) سورة المنافقون ، الآية : ٨.

(٤) سورة التحريم ، الآية : ٣.

٣٤٣

اللذان وقع القرآن عليها من غير إشارة إلى تأليف كتأليف الأجسام ، وأن يكون تعذّره كتعذّر الشعر على المفحم والفصاحة على الألكن ، وان كانا قادرين على أجناس الحروف.

وذلك أنه إذا أردنا ما ذكره [و] فسّره فقد عبّر عنه بغير عبارته ؛ لأن الشعر لا يتعذّر على المفحم والفصاحة على الألكن ؛ لأن جنسيهما غير مقدور لهما ، وإنّما يتعذّر ذلك منهما لفقد العلم بكيفيّة تقديم الحروف وتأخيرها كما يتعذّر الكتابة على الأمّي لفقد العلم لا لفقد القدرة ، فقد لحق مذهب أبي القاسم بالمذهب الأوّل الّذي أبطلناه ، وان كان أخطأ في العبارة عنه.

ووجدت له في كتابه الموسوم بعيون المسائل والجوابات ما يدلّ على أنه أراد غير ما دلّ لفظه الّذي حكيناه عليه ؛ لأنه قال : واحتجّ من ذهب إلى أن نظم القرآن ليس بمعجز عنه إلّا أن الله تعالى أعجز عنه ، وأنه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه : بأنه حروف جعل بعضها إلى جنب بعض ، فإذا قدر الإنسان على أن يقول «الحمد» فهو قادر على أن يقول «الحمد لله» ، ثمّ كذلك كلّ حرف ، ثمّ قال بلخي : يقال له وكذلك قول الشاعر :

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل (١)

إنّما هو حروف لا يمتنع على أحد من أهل اللغة أن يأتي بالحرف منها بعد الحرف ، فقد كان يجب أن يكون كلّ من قدر على الحروف لا يمتنع عليه الشعر.

وهذا الكلام يدلّ منه على أن تعذر معارضة القرآن هي جهة تعذّر الشعر على المفحم ، والشعر لا يتعذّر من الفحم ؛ لأنه مستحيل منه ، ولا لفقد قدرته عليه ، وإنّما يتعذّر لفقد علمه بكيفيّة نظمه وترتيبه ، فإن ارتكب أن الشعر مستحيل من المفحم وهو قادر عليه فحش خطاؤه ، وقيل له : قد يعود المفحم شاعرا ، ولو كان الشعر يستحيل منه لما جاز أن يقدر في حال من الأحوال عليه ، وقد

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت ، ديوانه ١ / ٧٤

٣٤٤

بينا أن الشعر ليس بأكثر من حروف تقدّم بعضها على بعض ، وجنس الحروف مقدور لكلّ قادر على الكلام من مفحم وغيره ، فكيف يكون ذلك مستحيلا ، وإنّما أوجب تعذّر الشعر على المفحم فقد العلم بغير شبهة.

أمّا من ذهب في جهة إعجاز القرآن إلى النظم ، فربما فسّر الذاهب إلى هذا المذهب قوله بما يرجع إلى الفصاحة والمعاني دون نفس النظم المخصوص ، ومن فسّر بما يرجع إلى الفصاحة كان قوله داخلا فيما تقدّم فساده.

وإن صرّح بأنه أراد الطريقة والاسلوب فقد بينا أن طريقة النظم لا يقع فيها تزايد ، ولا تفاضل ، ولا يصحّ التحدّي فيها إلّا بالسبق إليها ، وأن السبق لا بدّ فيه من وقوع المشاركة بمجرى العادة ، وأن كلّ نظم من النظوم لا يعجز أحد عن احتذائه ومساواته ، وان كان بكلام قبيح خال من فصاحة ؛ ومضى من هذا ما فيه كفاية.

وأمّا من ذهب في جهة إعجاز القرآن إلى ما تضمنه الإخبار عن الغيوب ، وهذا بلا شكّ وجه من وجوه إعجاز جملة القرآن ، وضروب من آياته ، والأدلّة على أنه من الله تعالى ، وليس بوجه الّذي قصد بالتحدّي وجعل العلم المعجز.

والّذي يبطل هذا : أن كثيرا من القرآن خال من خبر بغيب ، والتحدّي وقع بسورة غير معيّنة ، وأيضا فإنّ الاخبار عن الغيوب في القرآن على ضربين : خبر عن ماض ، وخبر عن مستقبل ، فالأوّل الأخبار عن أحوال الأمم السالفة ، والثاني مثل قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (١) ، وقوله تعالى (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)) (٢) ، وأمثال ذلك من الأخبار الّتي وقعت مخبراتها موافقة للاخبار عنها.

فأمّا القسم الأوّل : فهو خبر عن أمور كائنة ومشهورة شائعة ، وذلك لا يسمّى خبرا عن غيب ، وليس في ذلك إلّا ما يمكن المخالف أن يدّعي أنه مأخوذ من الكتب أو من أفواه الرجال.

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة الروم ، الآيات : ١ ـ ٣.

٣٤٥

فإذا قيل : لو كان ذلك لظهر وانتشر ، قيل : يمكن أن يقع على وجه من الخفاء لا يظهر.

ثمّ أكثر ما يدّعى في وجوب ظهور ذلك لو كان عليه الظنّ ، فأمّا العلم اليقين المقطوع به فلا يجب حصوله.

والقسم الثاني : إنّما يكون دالّا إذا وقع عن مخبر مطابق للخبر وقبل أن يقع ذلك لا فرق في الخبر بين أن يكون صدقا أو كذبا ، ومن المعلوم أن الحجّة بالقرآن كانت لازمة قبل وقوع مخبرات هذه الأخبار.

وأمّا من ذهب في إعجازه إلى زوال الاختلاف عنه والتناقض مع طوله ، وادّعى أن ذلك ممّا لم يجربه العادة في كلام طويل بمثله ، والّذي يبطل قوله : انه لا شبهة في أن ذلك من فضائل القرآن ومن آياته الظاهرة ، لكنّه لا ينتهي إلى أن يدّعى أنه وجه إعجازه ، وأن العادة انخرقت به ؛ لأن الناس يتفاوتون في زوال الاختلاف والتناقض عن كلامهم ، وليس يمتنع أن يزول عن الكلام ذلك كلّه مع التيقظ الشديد. والتحفّظ التام ، فمن أين لمدعي ذلك أن العادة لم تجر بمثله؟

فأمّا قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١) فإنّما هو جهة لعلمنا بالقرآن لو كان من عند غيره لكان فيه اختلاف ، وإنّما رددنا على من قال إنّي أعلم ذلك بذلك قبل العلم بصحّة القرآن ، وجعله وجه إعجازه (٢).

ـ (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)) [البقرة : ٢٦ و ٢٧] (٣).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٨٢.

(٢) الذخيرة : ٣٦٤.

(٣) أخترنا هذه الآية للبحث عن الجبر والقدر تبعا للعلّامة الطباطبائي رحمه‌الله في تفسيره القيّم «الميزان» ولأنّ السيّد رحمه‌الله أيضا استشهد بها في كلامه.

٣٤٦

نبدأ رسالتنا هذه بالحمد لله ربّنا على نعمه الواصلة منه إلينا ، وعلى إحسانه المتقدّم علينا (١) ، إذ أصبحنا بتوحيده وعدله قائمين ولمن جوره في حكمه عائبين ، ولمعاصينا عليه غير حاملين ، وبآثار أئمة الهدى مقتدين ، وبالمحكم من كتابه وآياته متمسّكين.

فالحمد لله الذي اختصّنا بهذه النعمة ، وشرّفنا بهذه الفضيلة ، وصلى الله على محمّد خاتم النبيين ، ورسول ربّ العالمين ، الذي جعله رحمة للعباد أجمعين واستنقذ به من الهلكة ، وهدى به من الضلالة ، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ، فبلغ عن ربّه ، واجتهد في طاعته ، حتى أتاه اليقين ، وعلى آله الطاهرين.

سألت أعزك الله وأرشدك إملاء رسالة في القدر فقد جالت به الفكر وأكثرها عن معرفته قد انحسر ، وذكرت أنّ الذي حداك إلى ذلك ما وجدته ظاهرا في عوام النيل (٢) ومعظم خواصّها من القول المؤدّي إلى الكفر المحض بسبب الجبر وتجويرهم الله في حكمه ، وحملهم معاصيهم عليه ، وإضافتهم القبائح إليه ، وتعلّقهم بأخبار مجهولة منكرة أو متشابهة في اللفظ مجملة ، وحجاجهم بما تشابه من الكتاب لعدم معرفتهم بفائدته ، وقصور أفهامهم عن [الغرض] المقصود به.

واعلم أنّ الكلام في القضاء والقدر قد أعيى أكثر أهل النظر ، وأتعب ذوي الفكر ، والمتكلّم فيه بغير علم على غاية من الخطر. والذي يجب على من أراد معرفة هذا الباب ـ وهو العلم بما يستحقّ الباري سبحانه من الأوصاف الحميدة وما ينفى عنه من ضدّها ـ فإنّه متى علم ذلك أمن من أن يضيف إليه ما ليس من أوصافه أو ينفي عنه ما هو منها ويتبع ذلك من الأبواب ما لا بدّ من الوقوف عليه : نحو المعرفة بأقوال المبطلين ، ومعرفة أقوال المحقّين ، وغير ذلك ممّا سنبيّنه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في بعض النسخ : الينا.

(٢) النيل يطلق على عدة أمكنة لا نعلم أيها قصد السائل : «أحدها» بليدة في سواد الكوفة قرب حلة بنى مزيد يخترقها خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير ، «ثانيها» نهر من انهار الرقة حفره الرشيد على صفة نيل الرقة ، «ثالثها» نيل مصر وهو النهر المشهور (معجم البلدان : ٥ / ٣٣٤).

٣٤٧

حدوث البحث في أفعال العباد

واعلم أنّ أوّل حالة ظهر فيها الكلام وشاع بين الناس في هذه الشريعة ، هو أنّ جماعة ظهر منهم القول بإضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه ، وكان الحسن ابن أبي الحسن البصري (١) ممّن نفى ذلك ، وافقه في زمانه جماعة وخلق كثير من العلماء كلّهم ينكرون أن تكون معاصي العباد من الله ، منهم معبد الجهني (٢) وأبو الأسود الدؤلي (٣) ومطرف بن عبد الله (٤) ووهب بن منبه (٥) وقتادة (٦).

وعمرو بن دينار (٧) ومكحول الشامي (٨) ...

__________________

(١) أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصرى ، مولى زيد بن ثابت الانصارى ، كان الحسن أحد الزهاد الثمانية ، وكان يلقى الناس بما يهوون ويتصنع للرئاسة ، وكان رئيس القدرية ، ولد سنة ٢١ وتوفي في رجب سنة ١١٠ ه‍ (الاعلام للزركلي ، ٢ : ٢٢٦).

(٢) معبد بن عبد الله بن عويم الجهني البصرى ، أول من قال بالقدر في البصرة ، وحضر يوم التحكيم وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهب ، خرج مع ابن الاشعث على الحجاج فجرح فأقام بمكة ، فقتله الحجاج بعد أن عذبه ، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان بدمشق ، وذلك في سنة ٨٠ ه‍) الإعلام للزركلى : ٨ / ١٧٧).

(٣) اسمه ظالم بن عمرو أو ظالم بن ظالم ، كان من السادات التابعين وأعيانهم ومن شعراء الاسلام الفضلاء الفصحاء ، ابتكر النحو باشارة امير المؤمنين عليه‌السلام ، توفى بالطاعون الجارف في البصرة سنة ٦٩ ه‍ (وفيات الاعيان : ٤ / ٢٩٩).

(٤) أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب الحريشي كان من مشاهير الزهاد ، مات سنة ٨٧ أو ٩٥ ه‍ (الكنى والألقاب : ١ ـ / ٧ ـ ١٠).

(٥) ابو عبد الله وهب بن منبه الصنعاني ، كان على قضاء صنعاء ، كتب كتابا في القدر ثم ندم ، وكان كثير النقل من كتب الإسرائيليات ، ولد في آخر خلافة عثمان وتوفى سنة ١١٤ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٥٢).

(٦) ابو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي ، كان ذا علم في القرآن والحديث والفقه ، وكان يقول بشيء من القدر ثم رجع عنه ، وقال : ما نسيت شيئا قط. ثم قال : يا غلام ناولني نعلي ، قال : نعلك في رجلك ، مات بالبصرة سنة ١١٧ ه‍ (معجم الادباء : ١٧ / ـ ٩ ـ ١٠).

(٧) أبو يحيى عمرو بن دينار البصري ، مولى آل الزبير بن شعيب وقال احمد ضعيف وقال البخاري فيه نظر ، وقال ابن معين ذاهب ؛ وقال مرة ليس بشيء ، وقال النسائي ضعيف (ميزان الاعتدال : ٣ / ٢٥٩).

(٨) مكحول الدمشقي : مفتي أهل دمشق وعالمهم ، هو صاحب تدليس ورمى بالقدر ، وكان يقول : ـ

٣٤٨

وغيلان (١) وجماعة كثيرة لا تحصى. ولم يك ما وقع من الخلاف حينئذ يتجاوز باب إضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه عن ذلك ونفيها عنه وغيره من هذا الباب بباب القدرة والمقدور وما أشبهه (٢).

الأقوال في كيفية خلق الأفعال

فأمّا الكلام في خلق أفاعيل العباد وفي الاستطاعة وفيما اتّصل بذلك وشاكله فانّما حدث بعد دهر طويل.

ويقال : إن أوّل من حفظ عنه القول بخلق أفاعيل العباد جهم بن صفوان (٣) ، فانّه زعم أنّ ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحياته ، وأنّه لا فعل للعبد في شيء من ذلك ولا صنع ، والله تعالى صانعه ، وأنّ لله تعالى أن يعذّبه من ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء.

وحكى عنه علماء التوحيد أنّه كان يقول مع ذلك : إنّ الله خلق في العبد قوّة بها كان فعله ، كما خلق له غذاء يكون به قوام بدنه ، ولا يجعل العبد كيف تصرّف حاله فاعلا لشيء على حقيقته ، فاستبشع من قوله أهل العدل وأنكروه مع أشياء أخر حكيت عنه.

ولمّا أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو (٤) بعد

__________________

ـ ما استودعت صدري شيئا الا وجدته حين أريد ، مات سنة ١١٣ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٤ / ١٧٧).

(١) أبو الحارث ذو الرمة غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود ، أحد فحول الشعراء ، قيل : فتح الشعر بامرىء القيس وختم بذي الرمة ، مات سنة ١١٧ ه‍ (الكنى والالقاب : ٢ / ٢٢٧).

(٢) في أ : القدر وما اشبهه.

(٣) أبو محرز جهم بن صفوان السمرقندي ، رأس الجهمية ، وقد زرع شرا عظيما ، كان يقتضي في عسكر الحارث بين سريج الخارج على أمراء خراسان ، فقبض عليه نصر بن سيار وأمر بقتله فقتل سنة ١٢٨ ه‍ (الاعلام للزركلي : ٢ / ٢٢٨).

(٤) ضرار بن عمرو القاضي ، معتزلي جلد ، له مقالات خبيثة. قال أحمد بن حنبل : شهدت على ضرار عند سعيد بن عبد الرحمن القاضي فأمر بضرب عنقه فهرب (ميزان الاعتدال ٢ / ٣٢٨).

٣٤٩

أن كان ضرار يقول بالعدل ، فانتفت عنه المعتزلة وأطرحته ، فخلط عند ذلك تخليطا كثيرا ، وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم وخرج عمّا كان عليه واصل بن عطاء (١) وعمرو بن عبيد (٢) بعد ما كان يعتقد فيهما من العلم وصحّة الرأي ؛ لأنّه كان في الأوّل على رأيهما بل صحبهما وأخذ عنهما.

ثمّ تكلّم الناس بعد ذلك في الاستطاعة ، فيقال : إنّ أوّل من أظهر القول بأنّ الاستطاعة مع الفعل يوسف السمتي (٣) وإنّه استزلّه إلى ذلك بعض الزنادقة فقبله عنه ، ثم قال بذلك حسين النجار (٤) ، وانتصر لهذا القول ووضع فيه الكتب فصارت مذاهب المجبّرة بعد ذلك على ثلاثة أقاويل :

أحدها : إنّ الله تعالى خلق فعل العبد وليس للعبد في ذلك فعل ولا صنع وانّما يضاف إليه أنّه فعله كما يضاف إليه لونه وحياته ، وهو قول جهم.

والثاني : أن الله تعالى خلق فعل العبد وأنّ العبد فعله باستطاعة في العبد متقدّمة ، وهو قول ضرار ومن وافقه.

والثالث : أنّ الله تعالى خلق فعل العبد وأنّ العبد فعله باستطاعة حدثت له في حال الفعل لا يجوز أن تتقدّم الفعل ، وهو قول النجّار وبشر المريسي (٥)

__________________

(١) واصل بن عطاء البصري الغزال المتكلم ، كان يلثغ بالراء فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه ، وكان يتوقف في عدالة اهل الجمل ويقول : احدى الطائفتين فسقت لا بعينها ، فلو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم احكم بشهادتهم. ولد سنة ٨٠ بالمدينة ومات سنة ١٣١ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٢٩).

(٢) أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب التيمي البصري ، شيخ المعتزلة في عصره ومفتيها كان جده من سبي فارس وأبوه نساجا ثم شرطيا للحجاج في البصرة ، وقال يحيى بن معين : كان من الدهرية الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع ، ولد سنة ٨٠ وتوفى سنة ١٤٤ ه‍ الاعلام للزركلي : ٥ / ٢٥٢.

(٣) يوسف بن خالد السمتي الفقيه ، قال أبو حاتم : رأيت له كتابا وضعه في التهجم يتنكر فيه الميزان والقيامه ، مات في رجب سنة ١٨٩ ه‍ (ميزان الاعتدال : ٥ / ٤٦٣).

(٤) أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبد الله النجار الرازي ، رأس الفرقة النجارية من المعتزلة ، وهو من متكلمي المجبرة ، وله مع النظام عدة مناظرات ، توفى نحو سنة ٢٢٠ ه‍ (الاعلام للزركلي : ٢ / ٢٧٦).

(٥) أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمي المريسي الفقيه الحنفي ، اشتغل بالكلام وجرد ـ

٣٥٠

ومحمّد ابن غوث ، ويحيى بن كامل (١) وغيرهم ، من متكلّمي المجبّرة [وعند هذا أكثر متكلمي المجبرة] نحو الاشاعرة وغيرهم.

ثم تكلّم الناس بعد ذلك فيما اتصل بهذا من أبواب الكلام في العدل واختلفوا فيه اختلافا كثيرا ، والكلام في ذلك [من] أوسع أبواب العلم وجوها وأعمقها بحرا ، ونحن نورد لك في هذا المعنى ما يتحصّل به الغرض ، وتنحسم به شبه الخصوم ونجعله ملّخصا وجيزا بلفظ مهذّب وإلى الفهم مقرّب ، ونبتدىء في أوله بوصف دعوة أهل الحقّ في ذلك ونردفها بما يجب ، وقد وسمنا هذه الرسالة ب «إنقاذ البشر من الجبر والقدر» وها نحن مبتدئون بذلك ومستعينون بمن له الحول والقوّة ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فصل

في دعوة أهل الحق وبيانها

قالت عصبة أهل الحقّ : إن الله جل ثناؤه اصطفى الإسلام دينا ورضيه لعباده واختاره لخلقه ، ولم يجعله موكولا إلى رأيهم ، ولا جاريا على مقادير أهوائهم ، دون أن نصب له الأدلّة ، وأقام عليه البراهين ، وأرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حيّ عن بيّنة.

وللاسلام حدود ، للقيام به حقوق ، وليس كلّ من ادّعى ذلك أخذه ، ولا كلّ من انتسب إليه صار من أهله ، وقد علمنا أنّ أهل القبلة قد اختلفوا في أمور صاروا فيها إلى خلل ، فضلّل بعضهم بعضا وكفّر بعضهم بعضا ، وكلّ يدّعي أنّ ما ذهب إليه من ذلك وانتحله هو دين الله ودين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

ـ القول بخلق القرآن وحكى عنه في ذلك اقوال شنيعة ، وكان مرجئا واليه تنسب الطائفة المريسية ، توفى ببغداد سنة ٢١٨ وقيل سنة ٢١٩ ه‍ (وفيات الاعيان : ١ / ٢٥١).

(١) أبو علي يحيى بن كامل بن طليحة الخدري ، كان أولا من اصحاب بشر المريسي ومن المرجئة ثم انتقل إلى مذهب الإباضية. له كتب منها كتاب التوحيد والرد على الغلاة (هامش مط : ٣١).

٣٥١

ومعلوم عند كلّ عاقل أنّ ذلك كلّه على اختلافه لا يجوز أن يكون حقّا لتضادّه واختلافه ، ولا بدّ حينئذ من اعتبار ذلك وتمييزه ليتّبع منه الحقّ ، ويجتنب منه الباطل ، وقد علمنا بالأدلّة الواضحة ، والبراهين الصحيحة ـ التي يوافقنا عليها جميع فرق أهل الملّة بطلان قول كلّ من خالف جملة الإسلام [ممّا] جاء به القرآن وصحّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون كلّ من قال من الأمّة قولا يكون عند الاعتبار والنظر خارجا ممّا يوجبه الإسلام ويشهد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن أو موجبا لأن يكون معتقده ليس من جملة الإسلام على سبيل قوّة واستبصار ، لقوله بما لا يصحّ اعتقاده الإسلام معه ولا يوصل إلى معرفته ثم القول به ، فهو محجوج في مذهبه ، ومبطل في قوله ، ومبتدع في الإسلام بدعة ليست من دين الله ولا من دين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالوا : وقد تدبّرنا ما اختلف فيه أهل القبلة بفطرة عقولنا وعرضنا ذلك على كتاب الله سبحانه وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدنا الحقّ بذلك متميّزا من الباطل تمييزا يدركه كلّ من تدبّر الكتاب والسنّة بفكره ، وتميّز الامور بعقله ، ولم يجعل هواه قائدا له ، ولم يقلّد من لا حجّة في تقليده ، فرأينا من الواجب علينا في الدين أن نبيّن أمر ذلك للناس ولا نكتمه ، وأن ندعوهم إلى الحقّ ونحتجّ له ولا نتشاغل عن ذلك ونعرض عنه ، ونحن نرى ما حدث من البدع ، وخولف من سبيل السلف.

وكيف يجوز الإعراض عن ذلك والله تعالى يقول : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ويقول : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)) (٢).

قالوا : وأيّ منكر أفحش ، وأيّ معصية أعظم من تشبيه الله تعالى بخلقه ، ومن تجويره في حكمه ، ومن سوء الثناء عليه وإضافة الفواحش والقبائح إليه

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٤.

(٢) سورة المائدة ، الآيتان : ٧٨ و ٧٩.

٣٥٢

وكيف لا يكون كذلك وفي القول بالتشبيه والاجبار الانخلاع عن معرفة الله تعالى ومعرفة جميع رسله ، إذ كلّ من شبّه الله بشيء من خلقه لم يتهيّأ له أن يثبت الله قديما وقد أثبت له مثلا محدثا ، وفي ذلك عدم العلم بالصنع والصانع والرسول والمرسل ، وإن من أجاز على الله جلّ وعلا فعل الظلم والكذب وإرادة الفواحش والقبائح لم يمكنه أن يثبت لرسول من رسل الله تعالى معجزة أقامها الله تعالى لهداية الخلق دون إضلالهم ولرشدهم دون إغوائهم ، وفي ذلك سقوط العلم بصدق الرسل فيما دعت إليه ، وذلك يوجب أن لا يكون معتقدا ، ولا لازم الاخبار عن ثقة ويقين من صدق الرسل ، ولا صحة الكتب ، ولا كون الجنة والنار ، وهذا هو الخروج من دين الإسلام ، والانخلاع عن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالوا : ونحن نصف قولنا ونذكر دعوتنا فليتدبّر ذلك السامع منّا ، وليقابل به قول غيرنا ، فانّه سيعلم ـ إن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ـ أيّنا أهدى سبيلا ، وأقوم قيلا ، وأولى بالتمسّك بالكتاب والسنّة ، واتّباع الحجّة ، ومجانبة البدعة.

فأوّل ذلك أن نقول : إنّ الله ربّنا ، ومحمّد نبينا ، والإسلام ديننا ، والقرآن إمامنا ، والكعبة قبلتنا ، والمسلمون إخواننا ، والعترة الطاهرة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته والتابعين لهم بإحسان سلفنا وقادتنا ، والمتمسّكون بهديهم من القرون بعدهم جماعتنا وأولياؤنا ، نحبّ من أحبّ الله ، ونبغض من أبغض الله ، ونوالي من والى الله ، ونعادي من عادى الله ، ونقول فيما اختلف فيه أهل القبلة بأصول نشرحها ونبيّنها : فأوّلها توحيدنا لربّنا ، فانّا نشهد أنّ الله عزوجل واحد ليس كمثله شيء ، وأنّه الاوّل قبل كل شىء ، والباقي بعد فناء كلّ شىء ، والعالم الذي لا يخفى عليه شيء ، والقادر الذي لا يعجزه شىء ، وأنّه الحيّ الذي لا يموت والقيّوم الّذي لا يبيد ، والقديم الذي لم يزل ولا يزال ، حيّا ، سميعا ، بصيرا ، عالما ، قادرا ، غنيا ، غير محتاج إلى مكان ولا زمان ولا اسم ولا صفة ولا شيء من الاشياء على وجه من الوجوه ولا معنى من المعاني ، قد سبق الأشياء كلّها بنفسه ، واستغنى عنها بذاته ، ولا قديم إلّا هو وحده سبحانه وتعالى

٣٥٣

عن صفات المحدثين ، ومعاني المخلوقين ، وجلّ وتقدّس عن الحدود والاقطار ، والجوارح والاعضاء ، وعن مشابهة شيء من الأشياء أو مجانسة جنس من الاجناس أو مماثلة شخص من الاشخاص ، وهو الإله الواحد الذي لا تحيط به العقول ، ولا تتصوّره الأوهام ، ولا تدركه الابصار ، وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير ، الذي يعلم ما يكون ، ويعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون ، قد أحاط بكلّ شيء علما ، وأحصى كلّ شيء عددا ، وعلم الأشياء [كلّها] بنفسه من غير علم أحدثه ، ومن غير معين كان معه ، بل علم ذلك كلّه بذاته التي لم يزل بها قادرا عالما حيا سميعا بصيرا ؛ لأنّه الواحد الذي لم يزل قبل الأشياء كلّها ثم خلق الخلق من غير فقر ولا حاجة ، ولا ضعف ولا استعانة ، من غير أن يلحقه لحدوث ذلك تغيّر ، أو يمسّه لغوب ، أو ينتقل به إلى مكان ، أو يزول به عن مكان ، إذ كان جلّ شأنه لم يزل موجودا قبل كلّ مكان ، ثمّ حدثت الاماكن وهو على ما كان فليس يحويه مكان ، وقد استوى على العرش بالاستيلاء والملك والقدرة والسلطان وهو مع ذلك بكلّ مكان اله عالم ، مدبّر ، قاهر ، سبحانه وتعالى عمّا وصفه به الجاهلون ، من الصفات التي لا تجوز إلّا على الأجسام من الصعود والهبوط ومن القيام والقعود ، ومن تصويرهم له جسدا ، واعتقادهم اياه مشبها للعباد يدركونه بأبصارهم ، ويرونه بعيونهم ، ثم يصفونه بالنواجذ والأضراس ، والأصابع ، والأطراف ، وانّه في صورة شابّ أمرد وشعره جعد قطط ، وأنّه لا يعلم الاشياء بنفسه ، ولا يقدر عليها بذاته ، ولا يوصف بالقدرة على أن يتكلّم ولا يكلّم أحدا من عباده ، فتعالى الله عمّا قالوا ، وسبحانه عمّا وصفوا ، بل هو الإله الواحد الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، العليم القدير ، الذي كلّم موسى تكليما ، وأنزل القرآن تنزيلا ، وجعله ذكرا محدثا من أحسن الحديث ، وقرآنا عربيا من أحسن الكلام ، وكتابا عزيزا من أفضل الكتب ، أنزل بعضه قبل بعض ، وأحدث بعضه بعد بعض ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ، وكلّ ذلك محدث كائن بعد أن لم يكن ، والله قدير قبله لم يزل ، وهو ربّ القرآن وصانعه وفاعله ومدبره ، وربّ كل كتاب أنزله ،

٣٥٤

وفاعل كلّ كلام كلّم به أحدا من عباده ، والقرآن كلام الله ووحيه ، وتنزيله الذي احدثه لرسوله وجعله هدى.

وسمّى نفسه فيه بالاسماء الحسنى ، ووصفها فيه بالصفات المثلى ليسميّه بها العباد ، ويصفوه بها ويسبحوه ويقدسوه ولا إله إلّا الله وحده ، ولا قديم إلّا الله دون غيره من كلّ اسم وصفة ومن كلّ كلام وكتاب ، ومن كلّ شيء جاز أن يذكره ذاكر ، أو يخطره على باله مفكّر. هذا قولنا في توحيد ربّنا.

دعوة أهل الحق في العدل

فأمّا قولنا في عدله ـ وهو المقصود من هذا الكتاب وإنّما أوردنا معه غيره ؛ لأنّا أردنا إيراد جملة الاعتقاد ـ فإنّا نشهد أنّه العدل الذي لا يجوز ، والحكيم الذي لا يظلم ولا يظلم ، وأنّه لا يكلّف عباده ما لا يطيقون ، ولا يأمرهم بما لا يستطيعون ، ولا يتعبّدهم بما ليس لهم إليه سبيل ؛ لأنّه أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين الذي أمرنا بالطاعة ، وقدّم الاستطاعة ، وأزاح العلّة ، ونصب الأدلة ، وأقام الحجّة وأراد اليسر ولم يرد العسر ، فلا يكلّف نفسا إلّا وسعها ، ولا يحملها ما ليس من طاقتها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، ولا يعذّبه على ما ليس من فعله ، ولا يطالبه بغير جنايته وكسبه ، ولا يلومه على ما خلقه فيه ، ولا يستبطئه فيما لم يقدّره عليه ، ولا يعاقبه إلّا باستحقاقه ، ولا يعذّبه إلّا بما جناه على نفسه ، وأقام الحجّة عليه فيه ، المنزّه عن القبائح ، والمبرّأ عن الفواحش ، والمتعالي عن فعل الظلم والعدوان ، وعن قول الزور والبهتان الذي لا يحبّ الفساد ، ولا يريد ظلما للعباد ، ولا يأمر بالفحشاء ، ولا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، وكلّ فعله حسن ، وكلّ صنعه جيّد وكلّ تدبيره حكمة.

سبحانه وتعالى عمّا وصفه به القدرية المجبّرة المفترون الذين أضافوا إليه

٣٥٥

القبائح ، ونسبوه إلى فعل الفواحش ، وزعموا أنّ كلّ ما يحدث في العباد من كفر وضلال ، ومن فسق وفجور ، ومن ظلم وجور ، ومن كذب وشهادة زور ، ومن كلّ نوع من أنواع القبائح ، فالله تعالى فاعل ذلك كلّه ، وخالقه وصانعه ، والمريد له ، والمدخل فيه ، وأنّه يأمر قوما من عباده بما لا يطيقون ويكلّفهم بما لا يستطيعون ، ويخلق فيهم ما لا يتهيّأ لهم الامتناع منه ، ولا يقدرون على دفعه ، مع كونه على خلاف ما أمرهم به ، ثم يعذّبهم على ذلك في جهنّم بين أطباق النيران خالدين فيها أبدا.

ويزعم منهم قوم أنّه يشرك معهم في ذلك العذاب الاطفال الصغار الذين لا ذنب لهم ولا جرم ، ويجيز آخرون [منهم] أنّه يأمر الله تعالى العباد وهم على ما هم عليه من هذا الخلق وهذا التركيب أن يطيروا في جوّ السماء وأن يتناولوا النجوم ، وأن يقتلعوا الجبال ويدكّدكوا الارض ، ويطووا السماوات كطيّ السجلّ ، فإذا لم يفعلوا ذلك لعجزهم عنه وضعف بنيتهم عن احتماله ، عذّبهم في نار جهنّم عذابا دائما ، فتعالى الله عمّا يقولون علوا كبيرا ، وتقدّس عمّا وصفوه به.

بل نقول : إنّه العدل الكريم الرؤف الرحيم ، الذي حسنات العباد منسوبة إليه ، وسيئاتهم منفيّة عنه ؛ لأنّه أمر الحسنة ورضيها ورغب فيها ، وأعان عليها ، ونهي عن السيئة وسخطها ، وزجر عنها ، وكانت طاعات العباد منه بالامر والترغيب ولم تكن معاصيهم منه للنهي والتحذير ، وكان جميع ذلك من فاعليه ومكتسبيه بالفعل والاحداث ، وكانت معاصيهم وسيئاتهم من الشيطان بالدعاء والاغواء.

آراء المخالفين لأهل العدل

فأمّا من يخالفنا فقد افتضحوا حيث قالوا : إنّ من الله جور الجائرين وفساد المعتدين ، فهو عندهم المريد لشتمه ، ولقتال أنبيائه ، ولعن أوليائه ، وأنّه أمر بالإيمان ولم يرده ، ونهى عن الكفر وأراده ، وأنّه قضى بالجور والباطل ثمّ

٣٥٦

أمر عباده بإنكار قضائه وقدره ، وأنّه المفسد للعباد ، والمظهر في الأرض الفساد ، وأنّه صرف أكثر خلقه عن الإيمان والخير ، وأوقعهم في الكفر والشرك ، وأنّ من أنفذ وفعل ما شاء عذّبه ، ومن ردّ قضاءه وأنكر قدره وخالف مشيئته أثابه ونعمه ، وأنّه يعذّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم وأنّه تزر الوازرة عندهم وزر أخرى ، وتكسب النفس على غيرها ، وأنّه خلق أكثر خلقه للنار ، ولم يمكّنهم من طاعته ثم أمرهم بها ، وهو عالم بأنّهم لا يقدرون عليها ، ولا يجدون ، السبيل إليها ، ثم استبطأهم لم لم يفعلوا ما لم يقدروا عليه ولم لم يوجدوا ما لم يمكنهم منه؟ وأنّه صرف أكثر خلقه عن الإيمان ثم قال : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (١).

وأفكهم وقال : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٢) ، وخلق فيهم الكفر ثم قال : (لِمَ تَكْفُرُونَ) (٣) وفعل فيهم لبس الحق بالباطل ثم قال : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (٤) ، وأنه دعى إلى الهدى ثم صدّ عنه وقال : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٥).

وقال خلق كثير منهم : إنّ الله تعالى منع العباد من الإيمان مع قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٦) وأنّه حال بينهم وبين الطاعة ثم قال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٧) ، وأنّه ذهب بهم عن الحقّ ثمّ قال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٨) ، وأنّه لم يمكّنهم من الإيمان ولم يعطهم قوّة السجود ثم قال : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١)) (٩) ، وأنّه فعل بعباده الاعراض عن التذكرة ثمّ قال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١٠) وأنّه يمكر بأوليائه المحسنين ، وينظر لأعدائه المشركين ؛ لأنّ العبد عندهم مجتهد في طاعته ، فبينما هو كذلك وعلى ذلك إذ خلق فيه الكفر ، وأراد له الشرك ، ونقله ممّا يحب إلى

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٣٢.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٩٥.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٧٠.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ٧١.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ٩٩.

(٦) سورة الإسراء ، الآية : ٩٤.

(٧) سورة النساء ، الآية : ٣٩.

(٨) سورة التكوير ، الآية : ٢٦.

(٩) سورة الانشقاق ، الآيتان : ٢٠ ـ ٢١.

(١٠) سورة المدثر ، الآية : ٤٩.

٣٥٧

ما يسخط ، وبينما هو مجتهد في الكفر به ، والتكذيب له ، إذ نقله من الكفر إلى الإيمان ، وهو عندهم لعدوّه أنظر منه لوليّه ، فليس يثق وليه بولايته ، ولا يرهب عدوه من عداوته.

وأنّه يقول للرسل : أهدوا إلى الحقّ من عنه قد أضللت ، وانهوا عبادي عن أن يفعلوا ما شئت وأردت ، وأمروهم أن يرضوا بما قضيت وقدرت ؛ لأنّه عندهم شاء الكفر ، وأراد الفجور ، وقضى الجور ، وقدر الخيانة.

ولو لا كراهة الاكثار لأتينا على وصف مذهبهم ، وفيما ذكرناه كفاية في تقبيح مذهبهم ، والحمد لله على قوة الحقّ وضعف الباطل.

فصل

الخير والشر ومعنى نسبتهما إليه تعالى

إن سأل سائل فقال : أتقولون : إنّ الخير والشر من الله تعالى؟

قيل له : إن أردت أنّ من الله تعالى العافية والبلاء والفقر والغناء ، والصحّة والسقم ، والخصب والجدب ، والشدة والرخاء ، فكلّ هذا من الله تعالى ، وقد تسمّى شدائد الدنيا شرّا وهي في الحقيقة حكمة وصواب وحقّ وعدل. وإن أردت أنّ من الله الفجور والفسوق ، الكذب والغرور والظلم والكفر والفواحش والقبائح فمعاذ الله أن نقول ذلك! بل الظلم من الظالمين والكذب من الكاذبين ، والفجور من الفاجرين ، والشرك من المشركين ، والعدل والانصاف من ربّ العالمين.

وقد أكّد الله تعالى ما قلنا فقال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (١) ولم يقل : من عند خالقهم ، فعلمنا أنّ المعصية من عباده ، وليس هي من قبله.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٠٩.

٣٥٨

وقال عزوجل : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١) فعلمنا أنّ الكذب والكفر ليس من عند الله ، وإذا لم يكن من عند الله فليس من فعله ولا من صنعه.

وقال عزوجل : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) (٢) وما قدّمته [لهم] أنفسهم لم يقدّمه لهم ربّهم.

وقال : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) (٣) ولم يقل حمله على القتل ربّه ، ولا ألجأ إليه خالقه.

وقال : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)) (٤) فأخبر أنّهم جاءوا بالادّ ، ولم يقل أنا جئت به فأدخلته قلوبهم.

وقال : «أن دعوا للرحمن ولدا» فأخبر أنّهم [هم] دعوا الولد ولم يدعه لنفسه.

ثم أخبر جلّ وعزّ عن الأنبياء عليهم‌السلام لمّا عوتبوا على ترك مندوب وما أشبهه إضافة ما ظاهره الاخلال بالافضل من الافعال إلى أنفسها ولم تضفها إلى خالقها ، فقال آدم وحواء عليهما‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥).

وقال يعقوب لبنيه : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) (٦) ولم يقل سوّل لكم ربّكم.

وقال بنو يعقوب : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) (٧) ولم يقولوا : إنّ خطايانا من ربّنا.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٧٨.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٨٠.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٣٠.

(٤) سورة مريم ، الآيات : ٨٨ ـ ٩١.

(٥) سورة الأعراف ،. الآيتان : ٢٣.

(٦) سورة يوسف ، الآيتان : ١٨.

(٧) سورة يوسف ، الآية : ٩٧.

٣٥٩

وقال : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (١) بمعنى أن نضيق عليه كما قال : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٢) يعني يضيق وقال : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (٣) أي ضيق (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٤) فأقرّ على نفسه ولم يضف إلى ربّه.

وقال : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) (٥) من بعد ما قال : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٦) ولم يقل من عمل الرحمن.

وقال يوسف عليه‌السلام : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (٧).

وقال الله تعالى لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)

(٨).

وقال فتى موسى عليه‌السلام : (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) (٩) ولم يقل وما أنسانيه إلّا الرحمن.

فما قالوه موافق لقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)) (١٠) فقال (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)، ولم يقل رجس من عمل الرحمن ، وقال : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فعلمنا أنّ ما أراد الشيطان غير ما أراد الرحمن ، وأخبر أنّ الشيطان يصدّ عن ذكر الله ، ولم يقل الرحمن يصدّ عن ذكر الله.

وقال : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) (١١) ولم يقل من الرحمن.

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٨٧.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٣٠.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ٧.

(٤) سورة الأنبياء ، الآية : ٨٧.

(٥) سورة القصص ، الآية : ١٦.

(٦) سورة القصص ، الآية : ١٥.

(٧) سورة يوسف ، الآية : ١٠٠.

(٨) سورة سبأ ، الآية : ٥٠.

(٩) سورة الكهف ، الآية : ٦٣.

(١٠) سورة المائدة ، الآيتان : ٩١ ـ ٩٠.

(١١) سورة المجادلة ، الآية : ١٠.

٣٦٠