تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

وقال إبراهيم محتّجا عليهم في قولهم : إنّ الله خلق أعمالهم فلم ما قالوا : يا إبراهيم إن كان الله خلق فينا الكفر ولا يمكننا أن نردّ ما خلق الله فينا ولو قدرنا لفعلنا ، وأنت تأمرنا بأمر لا يكون خلق الله فينا ، فإنّما تأمرنا بأن لا يخلق الله خلقه حاشا الله ، بل قالوا ذلك لتبيّن إبراهيم عليه‌السلام أنّ كفرهم غير خلق الله ، ولو كان خلق الله ما عذّبوا عليه ولا نهوا عنه ، وقد قال الله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (١) فلو كان خلق الله ما بدّل وما عذّبوا إلّا على كفرهم الذي هو غير خلق الله وانّ خلق الله حكمة وصواب ، والكفر سفه وخطأ ، فثبت أنّ الحكمة غير السفه ، والخطأ غير الصواب.

ولو لا كراهة طول الكتاب وخوف ملال القارىء لأتينا على كلّ شيء ممّا يسألون عنه من المتشابه في تصحيح مذهبهم. وفيما ذكرناه كفاية ودلالة على ما لم نذكره ، على أنّا قد أودعنا كتابنا صفوة النظر من ذلك ما فيه بلاغ. والحمد لله ربّ العالمين.

فصل

معنى الهدى في المؤمن والكافر

إن سأل سائل فقال : أتقولون : إنّ الله هدى الكافر؟

قيل له : إنّ الهدى على وجهين : هدى هو دليل وبيان ، فقد هدى الله بهذا الهدى كلّ مكلّف بالغ الكافر منهم والمؤمن ، وهدى هو الثواب والنجاة فلا يفعل الله هذا الهدى إلّا بالمؤمنين المطيعين القائلين عن الله ورسوله.

فإن قال : فما الدليل على أنّ الهدى ما تقولون؟

قيل : الدليل على أنّ الهدى قد يكون بمعنى الدليل قوله تعالى في كتابه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٣٠.

٣٨١

يَكْسِبُونَ (١٧)) (١) فقد خبّر الله تعالى أنّه هدى ثمود الكفّار فلم يهتدوا فأخذتهم الصاعقة بكفرهم.

وقال الله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢) يعني الدلالة والبيان.

وقال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٣) يعني الدلالة والبيان.

وقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) (٤) يعني دلّلناه على الطريق.

وقال تعالى : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٥) فخبروا في الآخرة أنّ الهدى اتى من الله للكفار فلم يهتدوا ، وإنّما هدى الله هدى الدليل.

وقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦) يعني تدلّ وتبيّن ، وما أشبه ما ذكرناه أكثر من أن نأتي عليه.

وأمّا ما يدلّ على ذلك من اللغة : فإنّ كلّ من دلّ على شيء فقد هدى إليه ، فلمّا كان الله تعالى قد دلّ الكفّار على الإيمان ثبت أنّه قد هداهم إلى الإيمان.

فأمّا هدى الثواب الذي لا يفعله الله بالكافرين فمنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)) (٧) وإنّما يهديهم بعد القتل بأن ينجيهم ويثيبهم.

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) (٨) إنّما يهديهم بإيمانهم بأن ينجيهم ويثيبهم.

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١٧.

(٢) سورة النجم ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ٩٤.

(٤) سورة الانسان ، الآية : ٣.

(٥) سورة سبأ ، الآية : ٣٢.

(٦) سورة الشورى ، الآية : ٥٢.

(٧) سورة محمّد ، الآيتان : ٤ ـ ٥.

(٨) سورة يونس ، الآية : ٩.

٣٨٢

وقال : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (١) وقال : (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢) يعني من تاب.

فهذا الهدى وما أشبهه لا يفعله الله إلّا بالمؤمنين القائلين بالحقّ ، فأمّا قرين الدليل فقد هدى الله الخلق أجمعين. وكلّما سئلت عن آية من الهدى من الله تعالى فردّها إلى هذين الأصلين ؛ فانّه لا يخلو من أن يكون على ما ذكرناه ، ولو لا كراهة التطويل لسألنا أنفسنا عن آية آية ممّا يحتاج إلى البيان ، وفي هذه الجملة دليل على ما نسأل عنه.

فصل

حقيقة الاضلال منه سبحانه

فإن قيل : أفتقولون انّ الله تعالى أضلّ الكافرين؟ قيل له : نقول : إنّ الله أضلّهم بأن عاقبهم وأهلكهم عقوبة لهم على كفرهم ، ولم يضلّهم عن الحقّ ولا أضلّهم بأن أفسدهم ، جلّ وعزّ عن ذلك.

فإن قالوا : لم زعمتم أنّ الضلال قد يكون عقابا؟ قيل لهم : قد قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٣) يعني في هلاك ، وسعر يعني سعر النار فيهم ، إذ ليس في ضلال هو كفر أو فسق ، لأنّ التكليف زائل في الاخرة ، وقد بيّن الله تعالى من يضلّ فقال : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) (٤) وقال : (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٥) وقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٦) وقال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٧).

ثمّ أوضح الأمر وخبّر أنّه لا يضلّ إلّا بعد إقامة الحجّة ، فقال : (وَما

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ١٦.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ٢٧.

(٣) سورة القمر ، الآية : ٤٧.

(٤) سورة إبراهيم ، الآية : ٢٧.

(٥) سورة غافر ، الآية : ٧٤.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ٢٦.

(٧) سورة غافر ، الآية : ٣٤.

٣٨٣

كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١) فأخبر أنّه لا يضلّ أحدا حتى يقيم الحجّة عليه ، فإذا ضلّ عن الحقّ بعد البيان والهدى والدلالة أضلّه الله حينئذ ، بأن اهلكه وعاقبه.

وأمّا الإضلال الذي ننفيه عن ربّنا تعالى فهو ما أضافه الله إلى غيره فقال : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٢) يقول : أضلّهم بأن دعاهم إلى عبادة العجل.

وقال : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٣) يريد أضلّهم بأن قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٤) وأمرهم بالكفر ودعى إليه ، والله لا يأمر بعبادة غيره ولا يفسد عباده.

وقال : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (٥).

وقال : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦) يريد أنّه أفسد وغرّ وخدع ، والله لا يغرّ العباد ولا يظهر في الارض الفساد.

وقال يخبر عن أهل النار : إنّهم يقولون : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (٧) يريد ما أفسدنا ولا غيّرنا ولا بيّن الكفر والمعاصي إلّا المجرمون ، ولم يقولوا ما أضلّنا إلّا ربّ العالمين ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا!

وكلّ اضلال أضلّ الله به العباد فإنّما هو عقوبة لهم على كفرهم وفسقهم.

وأمّا من خالفنا زعموا أنّ الله تعالى يبتدىء كثيرا من عباده بالإضلال عن الحقّ ابتداءا من غير عمل ، وأنّ قولهم : إنّ عبدا مجتهدا في طاعة الله قد عبده مائة عام ثمّ لا يأمنه أن يضلّه عمّا هو عليه من طاعة فيخلق فيه من الكفر ، ويزين عنده الباطل ، وأن يعبد غيره مائة عام ويكفر به ثمّ لا يأمن أن يخلق في قلبه الإيمان فينقله عمّا هو عليه ، فليس يثق وليه بولايته ، ولا يرهب عدوّه من عداوته.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١١٥.

(٢) سورة طه ، الآية : ٨٥.

(٣) سورة طه ، الآية : ٧٩.

(٤) سورة النازعات ، الآية : ٢٤.

(٥) سورة القصص ، الآية : ١٥.

(٦) سورة يس ، الآية : ٦٢.

(٧) سورة الشعراء ، الآية : ٩٩.

٣٨٤

فصل

عود على بدء في معنى الهدى

فإن سأل سائل فقال : ما معنى قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١).

قيل له : معنى ذلك إنّك لا تنجي من العذاب من أحببت ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حريصا على نجاة أقاربه بل كلّ من دعاه.

فإن قيل : فلم زعمتم أنّ هذا هو تأويل الآية؟ قيل له : لمّا كان الله قد هداهم بأن دلّهم على الإيمان ، علمنا أنّه لم يهدهم بهدى الثواب ، وقد بيّن الله تعالى أنّ الهدى بمعنى الدليل قد هداهم به ، فقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢) يعني الدلالة والبيان.

فإن قيل : فما معنى قوله (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)؟ (٣) قيل له : إنّما أراد به ليس عليك نجاتهم ، ما عليك إلّا البلاغ ولكن الله ينجي من يشاء.

فإن قيل : فلم قلتم هذا؟ قيل له : لمّا أخبر الله تعالى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هدى الكافر فقال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) وإنّما يريد إنّك تدلّ ، فلمّا كان قد دلّ المؤمن والكافر كان قد هدى الكافر والمؤمن ، فعلمنا أنّه أراد بهذه الآية هدى الثواب والنجاة ، فقس على ما ذكرناه جميع ما يسأل عنه من أمثال هذه الآية.

باب

الكلام في الارادة وحقيقتها

فإن سأل سائل فقال : أتقولون : إنّ الله تعالى أراد الإيمان من جميع الخلق المأمورين والمنهيين أو أراد ذلك من بعضهم دون بعض؟ قيل له : بل أراد ذلك

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة النجم ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٢.

(٤) سورة الشورى ، الآية : ٥٢.

٣٨٥

من جميع الخلق إرادة بلوى واختبار ، ولم يرد إرادة إجبار واضطرار ، وقد قال الله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (١) وقال : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢) فأراد أن يجعلهم هو قردة ، إرادة إجبار واضطرار فكانوا كلّهم كذلك ، وأراد أن يقوموا بالقسط إرادة بلوى واختيار ، فلو أراد أن يكونوا قوّامين بالقسط كما أراد أن يكونوا قردة خاسئين ، لكانوا كلّهم قوّامين شاؤا أو أبوا ، ولكن لو فعل ذلك ما استحقّوا حمدا لا أجرا.

وممّا يدلّ من القرآن على أنّ الله أراد بخلقه الخير والصلاح ولم يرد بهم الكفر والضلال قوله سبحانه : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (٣) فأخبر أنّ ما أراد غير ما أرادوا.

وقال : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (٤) فأخبر أنّ إرادته في خلقه الهداية والتوبة والبيان ، ثمّ قال : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (٥) فأخبر أنّ ما أراد الله منهم غير ما أراد غيره من الميل العظيم.

وقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (٦) فأخبر أنّه إنّما يأبى ما أراده العباد من إطفاء نوره.

وقال : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٧) وقال : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (٨) فأخبر أنّه تعالى لا يريد الظلم بوجه من الوجوه ، كما أنّه لمّا قال : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٩) لم يجز أن يرضى به بوجه من الوجوه.

وكذلك لمّا قال : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٠) لم يجز أن يأمر بالفحشاء بوجه من الوجوه ، ولو جاز أن يريد الظلم وهو يقول

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٣٥.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٦٥.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٦٧.

(٤) سورة النساء ، الآية : ٢٦.

(٥) سورة النساء ، الآية : ٢٧.

(٦) سورة التوبة ، الآية : ٣٢.

(٧) سورة غافر ، الآية : ٣١.

(٨) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٨.

(٩) سورة الزمر ، الآية : ٧.

(١٠) سورة الأعراف ، الآية : ٢٨.

٣٨٦

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) لجاز أن يرضى بالكفر ويحبّ الفساد ويأمر بالفحشاء مع هذه الايات ، فلمّا لم يجز ذلك لم يجز أن يريد الظلم.

وممّا يدل على أنّ الله تعالى لم يرد الكفر والفجور : أنّا وجدنا المريد لشتم نفسه سفيها غير حكيم ، فلمّا كان الله أحكم الحاكمين علمنا أنّه لا يريد شتمه ولا سوء الثناء عليه.

وأيضا فإنّ الكفّار إذا فعلوا ما أراد من الكفر كانوا محسنين ؛ لأنّ من فعل ما أراد الله تعالى فقد أحسن ، فلمّا لم يجز أن يكون الكافر محسنا في شتمه الله ومعصيته له علمنا أنّه لم يفعل ما أراد الله.

وأيضا فإنّه لو جاز أن يريد الكفر به ويكون بذلك ممدوحا لجاز أن يحبّ الكفر ويرضى به ، ويكون بذلك حكيما ممدوحا ، فلمّا لم يجز أن يرضى بالكفر ولا يحبّه لم يجز أن يريده.

وأيضا فإن من أمر العباد بما لا يريده فهو جاهل ، فلمّا كان ربّنا أحكم الحاكمين علمنا أنّه لم يأمر بشيء لا يريده ؛ لأنّ من أمر بمدحه ولم يرد أن يفعله ونهى عن شتمه وأراد أن يفعل فهو جاهل ناقص ، فلمّا كان الله أحكم الحاكمين علمنا أنّه لا يريد أن يشتم ولا يثني عليه بسوء الثناء ، تعالى الله عن قولهم علّوا كبيرا.

فصل

في شبهة لهم في الارادة

قالوا : لو أراد الله سبحانه من زيد الإيمان فوقع خلافه ـ وهو مراد الشيطان والعبد ـ لكانا قد عجزا الله ووجب أن يكونا أقدر منه.

والجواب عن ذلك : أنّه يقال لهم : لم قلتم ذلك؟ فإن قالوا : لأنّا نعلم أنّ جند السلطان لو فعلوا ما لا يريده لدلّ على عجزه وعدم قدرته.

قيل لهم : إنّما صحّ ذلك ؛ لأنّ السلطان لم يكن ممّن يصحّ منه التكليف أو

٣٨٧

ممّن له قدرة على الانتصاف منهم في أيّ وقت أراد ولا يخاف الفوت ، ولم يكن أيضا ممّن يعلم مقدار الحسنة والجزاء عليها والسيئة والأخذ بها.

وأيضا ؛ فإنّ السلطان يتألم إذا لم يقع مراده ويسرّ بوقوعه ، وكلّ هذه الاوصاف منتفية عن القديم تعالى ، ففرق بين الأمرين ، ولم يكن للقياس الذي اعتمدوا عليه معنى في هذا الموضع ، وإنّما يجب أن يجمع بين المتساويين بعلّة والامر هاهنا بخلاف ذلك.

ثم يقال لهم : إنّما كان يجب أن يكون عاجزا لو أراد منهم الطاعة إرادة اضطرار وإجبار ثم لم تقع ، فأمّا إذا أراد إرادة البلوى والاختبار فهذا ما لا يغبى إلّا على المسكين ، وإذا كان ذلك كلّه فلا يكون منّا التعجيز لله تعالى ، إذ فعل العباد ما لا يريده من الكفر ولم يفعلوا ما أراده من الإيمان ؛ لأنّه لم يرد أن يحملهم عليه حملا ويلجئهم إليه الجاء ، فيكون منهم على غير سبيل التطوّع.

وقد بيّن الله ذلك في كتابه فقال : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (١) فأخبر أنّه لو شاء لأحدث آية يخضع عندها الخلق ، ولكنّه لو فعل ذلك ما استحقّوا حمدا ولا جزاء ولا كرامة ولا مدحا ؛ لأنّ الملجأ لا يستحقّ حمدا ولا جزاء ، وإنّما يستحقّ ذلك المختار المستطيع وقد بيّن الله ذلك فقال : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٢) وقال الله عزوجل : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (٣) فأخبر أنّه لا ينفع الإيمان إذا كان العذاب والإلجاء.

وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٤) فأخبر أنّه لا ينفع الإيمان في حال الالجاء.

وقال «عزوجل» : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٥) ، وقال الله تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية : ٤.

(٢) سورة غافر ، الآية : ٨٤.

(٣) سورة غافر ، الآية : ٨٥.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٥٨.

(٥) سورة يونس ، الآية : ٩٠.

٣٨٨

قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١) فأخبر أنّه لا ينفعه الإيمان في وقت الالجاء والاكراه.

وقال «عزوجل» : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)) (٢) فأخبر أنّه لا تنفع التوبة في حال المعاينة ، وما أشبه ما ذكرناه كثير.

ثم يقال لهم : فإذا كان العبد بفعله ما لم يرد الله قد أعجزه فيجب أن يكون بفعله ما يريده قد أقدره ، ومن انتهى قوله إلى هذا الحدّ فقد استغني عن جداله وربحت مؤنته.

فصل

الإيمان وحقيقة المشيئة

فإن سألوا عن معنى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣).

قيل لهم : معنى ذلك لو شاء ربّك لألجأهم إلى الإيمان ، لكنّه لو فعل ذلك لزال التكليف ، فلم يشأ ذلك بل شاء أن يطيعوا على وجه التطوّع والايثار لا على وجه الإجبار والاضطرار ، وقد بيّن الله ذلك فقال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يريد أنّي أنا أقدر على الاكراه منك ولكنّه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (٤) وكذلك الجواب في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) (٥) ، (وَلَوْ شاءَ

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٩١.

(٢) سورة النساء ، الآيتان : ١٧ ـ ١٨.

(٣) سورة يونس ، الآية : ٩٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٥٦.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١١٢.

٣٨٩

لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١) وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) (٢) ولو شاء لحال بينهم وبين ذلك ، ولو فعل ذلك لزال التكليف عن العباد ؛ لأنّه لا يكون الأمر والنهي إلّا مع الاختيار لامع الالجاء والاضطرار.

وقد بيّن الله ذلك بما ذكرنا من قوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٣) فأخبر أنّه لو شاء لأكرههم على الإيمان.

وقد بيّن ذلك ما ذكرناه من قصّة فرعون وغيره أنّه لم ينفعهم الإيمان في وقت الاكراه.

وقد بيّن الله في كتابه العزيز أنّه لم يشأ الشرك ، وكذّب الذين أضافوا إليه ذلك ، فقال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (٤) فأخبروا أنّهم إنّما أشركوا بمشيئة الله تعالى فلذلك كذّبهم ، ولو كانوا أرادوا أنّه لو شاء الله لحال بيننا وبين الإيمان لما كذّبهم الله ، قال الله تكذيبا لهم : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) ـ يعني عذابنا ـ (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) ـ يعني هل عندكم من علم أن الله يشاء الشرك ثم قال ـ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (٥) يعني تكذبون كقوله : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (٦).

وقال «عزوجل» : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٧) يعني يكذبون.

وقال «عزوجل» : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٨) خبّر أنّ الرسل قد دعت إلى الإيمان ، فلو كان الله

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٥٣.

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ٤.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٨.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) سورة الذاريات ، الآية : ١٠.

(٧) سورة الزخرف ، الآية : ٢٠.

(٨) سورة النحل ، الآية : ٣٥.

٣٩٠

تعالى شاء الشرك لكانت الرسل قد دعت خلاف ما شاء الله ، فعلمنا أنّ الله لم يشأ الشرك.

فإن قال بعض الاغبياء : فهل يشاء العبد شيئا أو هل تكون للعبد إرادة؟

قيل له : نعم قد شاء ما أمكنه الله من مشيئته ويريد ما أمره الله بإرادته ، فالقوّة على الارادة فعل الله والإرادة فعل العبد.

والدليل على ذلك قول الله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (١).

وقال تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢) وقال : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣) وقال : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) (٤).

وقال : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) (٥).

وقال : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) (٦).

وقال : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٧).

وقال : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٨).

وقال فيما بيّن أنّ العبد قد يريد ما يكره الله من إرادته فقال : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (٩).

وقال : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (١٠).

وقال : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) (١١) فأخبر أنّهم لو أرادوا لفعلوا كما فعل من أراد الخروج.

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة المزمل ، الآية : ١٩.

(٣) سورة النبأ ، الآية : ٣٩.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٥١.

(٥) سورة يوسف ، الآية : ٥٦.

(٦) سورة الأعراف ، الآية : ١٩.

(٧) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٣.

(٨) سورة الكهف ، الآية : ٧٧.

(٩) سورة الأنفال ، الآية : ٦٧.

(١٠) سورة النساء ، الآية : ٢٧.

(١١) سورة التوبة ، الآية : ٤٦.

٣٩١

وقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) (١).

وقال : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٢).

وقال : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) (٣). وما أشبه ما ذكرنا أكثر من أن نأتي عليه في هذا الموضع.

فإن قال : فما معنى قوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

قيل له : إنّ الله ذكر هذا المعنى في موضعين ، وقد بيّنهما ودلّ عليهما بأوضح دليل وأشفى برهان على أنّها مشيئته في الطاعة ، فقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٤) فهو «عزوجل» شاء الاستقامة ولم يشأ الاعوجاج ولا الفكر ، وقال في موضع آخر (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٥) فالله قد شاء اتّخاذ السبيل ولم يشأ العباد ذلك إلّا وقد شاء الله لهم ، فأمّا الصدّ عن السبيل وصرف العباد عن الطاعة فلم يشأ «عزوجل».

ويقال لهم : أليس المريد لشتمه غير حكيم؟ فمن قولهم : نعم ، قيل لهم : أو ليس المخبر بالكذب كاذبا؟ فمن قولهم : نعم ، قيل لهم : وقد زعمتم أنّ الله يريد شتمه ويكون حكيما فلا بدّ من الاقرار بذلك أو يتركوا قولهم.

ويقال لهم : فما أنكرتم أن يخبر بالكذب ولا يكون كاذبا؟ فإن منعوا من ذلك قيل لهم : ولا يجب أن يكون حكيما بإرادة السفه وإرادة شتم نفسه ، ولا يجدون إلى الفصل سبيلا. فإن أجازوا على الله أن يخبر بالكذب لم يأمنوا بعد إخباره عن البعث والنشور والجنّة والنار أنّها كلّها كذب ويكون بذلك صادقا ، ولا يجدون من الخروج عن هذا الكلام سبيلا.

ويقال لهم : فما تريدون أنتم من الكفّار؟ فإن قالوا : نريد من الكفّار الكفر ،

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية : ١٥.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٦٠.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٩١.

(٤) سورة التكوير ، الآية : ٢٩.

(٥) سورة الإنسان ، الآيتان : ٢٩ ـ ٣٠.

٣٩٢

فقد أقروا على أنفسهم بأن يريدوا أن يكفر بالله ويجب عليهم أن يجيزوا ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يكون مريدا للكفر بالله تعالى ، وهذا غاية سوء الثناء عليه.

وإن قالوا : إنّ الذي نريده من الكفّار الإيمان. قيل لهم : فأيّما أفضل ما أردتم من الإيمان أو ما أراد الله من الكفر؟ فإن قالوا : ما أراد الله خير ممّا أردنا من الإيمان ، فقد زعموا أنّ الكفر خير من الإيمان. وإن قالوا : إنّ ما أردنا من الإيمان خير ممّا أراده الله من الكفر ، فقد زعموا أنّهم أولى بالخير والفضل من الله ، وكفاهم بذلك خزيا.

فيقال لهم : فما يجب على العباد يجب عليهم أن يفعلوا ما تريدون أنتم أو ما يريد الله؟ فإن قالوا : ما يريد الله ، فقد زعموا أنّ على أكثر العباد أن يكفروا ، إذ كان الله يريد لهم الكفر. وإن قالوا : إنّه يجب على العباد أن يفعلوا ما نريد من الإيمان ولا يفعلوا ما يريد الله من الكفر ، فقد زعموا أنّ اتباع ما أرادوا هم أوجب على الخلق من اتّباع ما أراد الله ، وكفاهم بهذا قبحا.

ولو لا كراهة طول الكتاب لسألناهم في قولهم : إنّ الله تعالى أراد المعاصي عن مسائل كثيرة يتبيّن فيها فساد قولهم ، وفيما ذكرناه كفاية ، والحمد لله ربّ العالمين.

فصل

الاخبار المسددة لمذهب العدلية

وممّا جاء من الحديث ما يصحّح مذهبنا في القضاء والمشيئة وغير ذلك ممّا ذكرنا ، فمن ذلك ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يؤمن أحدكم حتى يرضى بقدر الله تعالى». وهذا مصحّح لقولنا ؛ لأنّا بقدر الله راضون وبالكفر غير راضين.

وروي عن عبد الله بن شداد (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول في دعائه : «اللهم

__________________

(١) عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي عربي كوفي من خواص أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان من كبار ـ

٣٩٣

رضّني بقضائك ، وبارك لي في قدرك ، حتى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت ، ولا تأخير ما عجّلت» والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز أن يرضى بالكفر ولا بالظلم.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «سيكون في آخر هذه الأمّة قوم يعملون بالمعاصي حتى يقولون هي من الله قضاء وقدر ، فإذا لقيتموهم فأعلموهم أنّي منهم بريء».

وروي عنه أنّه قال له رجل : بأبي أنت وأمّي متى يرحم الله عباده ومتى يعذّب الله عباده؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرحم الله عباده إذا عملوا بالمعاصي فقالوا هي منا ، ويعذّب الله عباده إذا عملوا بالمعاصي فقالوا هي من الله قضاء وقدر».

وقد روي عن عمر بن الخطاب أنّه أتي بسارق فقال : «ما حملك على هذا؟ فقال قضى الله وقدره ، فضربه عمر ثلاثين سوطا ثم قطع يده فقال : قطعت يدك بسرقتك وضربتك بكذبك على الله تعالى». وهذا خبر قد روته جميع الحشوية ومعظم رواة العامة ، ونقله أحمد بن حنبل (١) وغيره من الرواة.

وروي عن الاصبغ بن نباتة (٢) قال : لمّا رجع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام من صفين قام إليه شيخ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟ فقال عليه‌السلام له : والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلّا بقضاء وقدر. فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ، والله ما إن أرى لي من الاجر شيئا. فقال عليه‌السلام له : بلى أيّها الشيخ لقد عظّم الله أجركم بمسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين.

__________________

ـ التابعين وثقاتهم ، وقال لما منع بنو أمية عن التحدث بفضائل علي عليه‌السلام : وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب عليه‌السلام وان عنقي ضرب بالسيف ، قتل سنة ٨٢ ه‍ (منتهى المقال : ١٨٦).

(١) أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني الوائلي ، إمام المذهب الحنبلي وصاحب المسند المشهور ، ولد ببغداد سنة ١٦٤ ه‍ وتوفى سنة ٢٤١ ه‍ (الاعلام للزركلي : ١ / ١٩٢).

(٢) كان الأصبغ من خاصة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعمر بعده ، وروى عهد مالك الاشتر الذي عهده اليه أمير المؤمنين عليه‌السلام لما ولاده مصر ، وروى وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى ابنه محمّد بن الحنفية (فهرست الطوسي : ٣٧).

٣٩٤

فقال : وكيف لم نكن مضطرين والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا ومنصرفنا؟ فقال عليه‌السلام له : ويحك لعلّك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والأمر من الله والنهي ، ولم تكن تأتي لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذمّ من المحسن ، تلك مقالة عبدة الاوثان ، وجند الشيطان ، وخصماء الرحمن ، وشهود الزور والبهتان ، وأهل العمى عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأمّة ومجوسها ، إنّ الله أمر تخييرا ، ونهي تحذيرا ، وكلّف يسيرا ، ولم يكلّف عسيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الرسل لعبا ، ولم ينزل الكتب للعباد عبثا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (١). فقال الشيخ : فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلّا بهما؟ فقال عليه‌السلام : ذلك الأمر من الله والحكم ، ثم تلا هذه الاية (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٢) فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :

أنت الامام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربّك بالإحسان إحسانا

وروي عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ثمّ يقولون : الله قدّرها علينا ، الرادّ عليهم يومئذ كالشاهر سيفه في سبيل الله».

وروي أنّ رجلا جاء إلى الحسن البصري فقال : يا أبا سعيد إنّي طلّقت امرأتي ثلاثا فهل لي من مخرج؟ فقال : ويحك ما حملك على ذلك. قال : القضاء.

فقال له الحسن : كذبت على ربّك وبانت منك امرأتك.

وروي أنّ الحسن البصري مرّ على فضيل بن برجان وهو مصلوب فقال : ما

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٢٣.

٣٩٥

حملك على السرقة؟ قال : قضاء الله وقدره. قال : كذبت يا لكع أيقضي عليك أن تسرق ثمّ يقضي عليك أن تصلب؟

وروي أنّ ابن سيرين سمع رجلا وهو يسأل عن رجل آخر فقال : ما فعل فلان؟ فقال : هو كما شاء الله. فقال ابن سيرين : لا تقل كما شاء الله ولكن قل هو كما يعلم الله ، ولو كان كما شاء الله كان رجلا صالحا.

وما أشبه هذا أكثر من أن يحصى ، ولو لم يكن ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآثار ما نعلم به بطلان مذهب القدرية والجبرية إلّا الخبر المشهور الذي تلقته الأمّة بالقبول ، وهو ما رواه شداد بن أوس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من قال حين يصبح أو حين يمسي : «اللهم أنت ربي لا إله إلّا أنت ، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شرّ ما صنعت وأقرّ لك بالنعمة وأقرّ على نفسي بالذنب ، فاغفر لي ؛ فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت».

وقال ابن سيرين لرجل له مملوك : لا تكلّفه ما لا يستطيع ، فان كرهته فبعه.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة عليها‌السلام حين أخدمها غلاما : «لا تكلفيه ما لا يطيق».

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «استغفروا عن الشرك ما استطعتم» ، وهذه الاخبار ممّا يستدلّ بها على بطلان قولهم في الاستطاعة وتصحيح قولنا : إنّ الانسان مستطيع ، وأن الله لا يكلّف عباده ما لا يطيقون ، وإنّما أوردناها لتكون رسالتنا هذه غير محتاجة إلى غيرها في هذا المعنى.

ومن ذلك أيضا ما روي عن بنت رقيقة (١) قالت : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نسوة فأخذ علينا ما في آية السرقة والزنا (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) (٢) ـ الخ ، ثمّ قال : فيما استطعتن وأطقتن. قالت : قلنا الله ورسوله ارحم بنا من أنفسنا.

__________________

(١) كذا في نسخة ، وفي أخرى «بنت رفيعة» وهو وهم ، وهى اميمة بنت رقيقة واسم أبيها عبد بن بجار بن عمير ، كانت من المبايعات (اسد الغابة : ٥ / ٤٠٣).

(٢) سورة الممتحنة ، الآية : ١٢.

٣٩٦

وذكر قتادة قال : بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه على السمع والطاعة فيما استطاعوا.

وهذا يدلّ كلّ منصف على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتباعه لم يلزموا العباد الطاعة إلّا فيما استطاعوا ، وكيف يجوز على أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين أن يكلّف عباده ما لا يطيقون ، وأن يلزمهم ما لا يجدون.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أول ما تبيّن من ابن آدم بطنه ، فمن استطاع أن لا يدخل بطنه إلّا طيبا فليفعل».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» فلم يوجب على أحد شيئا إلّا بعد الاستطاعة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استطاع منكم أن يقي وجهه حرّ النار ولو بشقّ تمرة فليفعل». فلم يرغبهم إلّا فيما يستطيعون.

وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أنبّئكم بأعزّ الناس؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : الذي يعفو إذا قدر ؛ فبيّن أنّه إنّما يكون العفو إذا قدر العبد وإذا لم يقدر فلا يكون العفو وقد قال الله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) (١) وقال : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) (٢) وقال : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (٣) فعلمنا أنّه كان يقدر على أن يعاقب ، فأمره الله لذلك بالعفو ، ولا يجوز أن يعفو عمّا لا يقدر له على مضرّة ولا على منفعة.

وروي عنه أنّه قال : «من كظم غيظا وهو قادر على إمضائه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضى».

وروي عن ابن عباس في قوله : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) (٤) قال : وهم مستطيعون في دار الدنيا.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «يسّروا ولا تعسّروا وأسكنوا ولا تنفّروا ، خير

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٠٩.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١٣.

(٣) سورة الاعراف ، الآية : ١٩٩.

(٤) سورة القلم ، الآية : ٤٣.

٣٩٧

دينكم اليسر ، وبذلك اتاكم كتاب الله ، قال الله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٢) واعلموا رحمكم الله أنّه لو كان كلّف خلقه ما لا يستطيعون كان غير مريد بهم اليسر ، وغير مريد للتخفيف عنهم ؛ لأنّه لا يكون اليسر والتخفيف في تكليف ما لا يطاق».

وروي عن سعيد بن عامر بن حذيم (٣) لما استعمله عمر بن الخطاب على بعض كور الشام خرج معه يوصيه ، فلمّا انتهى إلى المكان قال له سعيد : وأنت فاتّق الله وخف الله في الناس ، ولا تخف الناس في الله ، وأحبّ لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحبّه لنفسك وأهل بيتك ، وأقم وجهك تعبّدا لله ، ولا تقض بقضاء مختلف عليك أمره ، وتنزع إلى غير الحقّ ، وخض الغمرات إلى الحقّ ، ولا تخف في الله لومة لائم ، فأخذ عمر بيده فأقعده ثم قال : ويحك من يطيق هذا؟

فانظر كيف وصاه وأمره بأن يفعل الخير ويجتهد في تحصيله ، وما أشبه هذا من الحديث أكثر من أن يحصى ، والحمد لله والصلاة على آل الله (٤).

ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)) [البقرة : ٣١].

[إن سأل سائل] فقال : كيف يأمرهم أن يخبروا بما لا يعلمون ، أو ليس أقبح من تكليف ما لا يطاق ؛ الذي تأبونه ؛ والذي جوّز أن يكلّف تعالى مع ارتفاع القدرة لا يجوّزه.

الجواب : قلنا : قد ذكر في هذه الآية وجهان :

أحدهما : أنّ ظاهر هذه الآية إن كان أمرا يقتضى التّعلّق بشرط ، وهو كونهم

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٥.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٢٨.

(٣) كذا في نسخة ، وفي أخرى «بن حذلم» ، يقال ان سعيد هذا اسلم قبل فتح خيبر وشهد المشاهد بعدها ، وكان خيرا فاضلا ، وولاه عمر بعض شجناد الشام ، واختلف في سنة وفاته : فقيل سنة ١٩ ، وقيل سنة ٢٠ ، وقيل سنة ٢١ (الاصابة ٢ / ٦٢٤).

(٤) الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

٣٩٨

صادقين عالمين بأنّهم إذا أخبروا عن ذلك صدقوا ـ فكأنّه قال لهم : خبّروا بذلك إن علمتموه ؛ ومتى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا ، فلا تكليف عليهم. وهذا بمنزلة أن يقول القائل لغيره : خبّرني بكذا وكذا إن كنت تعلمه ، وإن كنت تعلم أنّك صادق فيما تخبر به عنه.

فإن قيل : أليس قد قال المفسّرون في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّ المراد به : إن كنتم تعلمون بالعلّة التي من أجلها جعلت في الأرض خليفة ، أو إن كنتم صادقين في اعتقادهم أنّكم تقومون بما أنصب الخليفة له ، وتضطلعون به ، وتصلحون له؟.

قلنا : قد قيل كلّ ذلك ، وقيل أيضا ما ذكرناه ؛ وإذا كان القول محتملا للأمرين جاز أن يبنى الكلام على كلّ واحد منهما ؛ وهذا الجواب لا يتمّ لمن يذهب إلى أن الله تعالى لا يصحّ أن يأمر العبد بشرط قد علم أنّه لا يحصل ، ولا يحسن أن يريد منه الفعل على هذا الوجه ؛ ومن ذهب إلى جواز ذلك صحّ منه أن يعتمد على هذا الجواب.

فإن قيل : فأيّ فائدة في أن يأمرهم بأن يخبروا عن ذلك بشرط أن يكونوا صادقين ، وهو عالم بأنّهم لا يتمكّنون من ذلك لفقد علمهم به؟.

قلنا : لمن ذهب إلى الأصل الذي ذكرناه أن يقول : لا يمتنع أن يكون الغرض في ذلك هو أن ينكشف بإقرارهم وامتناعهم من الإخبار بالأسماء ما أراد تعالى بيانه من استئثاره بعلم الغيب ، وانفراده بالاطّلاع على وجوه المصالح في الدين.

فإن قيل : فهذا يرجع إلى الجواب الذي تذكرونه من بعد؟

قلنا : هو وإن رجع إلى هذا المعنى فبينهما فرق من حيث كان هذا الجواب على تسليم أنّ الآية تضمّنت الأمر والتكليف الحقيقيين.

والجواب الثاني : لا نسلّم فيه أنّ القول أمر على الحقيقة ، فمن هاهنا افترقا.

٣٩٩

والوجه الثاني : أن يكون الأمر وإن كان ظاهره ظاهر أمر ، فغير أمر على الحقيقة ؛ بل المراد به التقرير والتنبيه على مكان الحجّة ؛ وقد يرد بصورة الأمر ما ليس بأمر ، والقرآن والشعر [وكلام العرب مملوء بذلك].

وتلخيص هذا الجواب أنّ الله تعالى لمّا قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) ؛ أي مطلّع من مصالحكم ، وما هو أنفع لكم في دينكم على ما لا تطلّعون عليه. ثمّ أراد التنبيه على أنّه لا يمتنع أن يكون غير الملائكة ـ مع أنّها تسبّح وتقدّس وتطيع ولا تعصي ـ أولى بالاستخلاف في الأرض ؛ وإن كان في ذرّيّته من يفسد ويفسك الدماء. فعلّم آدم عليه‌السلام أسماء جميع الأجناس ، أو أكثرها ، وقيل أسماء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من ولده ، وفيه أحاديث مروية ، ثمّ قال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) مقرّرا لهم ومنبّها على ما ذكرناه ، ودالّا على اختصاص آدم بما لم يخصّوا به وفلمّا أجابوه بالاعتراف والتسليم إليه علم الغيب الذي لا يعلمونه ، فقال تعالى لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٢) منبّها على أنّه تعالى هو المتفرّد بعلم المصالح في الدين ، وأنّ الواجب على كلّ مكلّف أن يسلم لأمره ، ويعلم أنّه لا يختار لعباده إلّا ما هو أصلح لهم في دينهم ؛ علموا وجه ذلك أم جهلوه.

وعلى هذا الجواب يكون قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محمولا على كونهم صادقين في العلم بوجه المصلحة في نصب الخليفة ، أو في ظنّهم أنّهم يقومون بما يقوم به هذا الخليفة ويكملون له ؛ فلولا أنّ الأمر على ما ذكرناه ، وأنّ القول لا يقتضي التكليف لم يكن لقوله تعالى بعد اعترافهم وإقرارهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) معنى ، لأنّ التكليف الأوّل لا يتغير حاله بأن يخبرهم آدم عليه‌السلام بالأسماء ، ولا يكون قوله :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٣.

٤٠٠