تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

وأيضا : فان مقادير الأزمنة للعبادات لا تعلم إلّا بالنصّ وطريقة العلم ، وما تقوله الإمامية من الزمان مستند إلى ما هذه صفته ، وما يقول مخالفها يستند إلى طريقة الظنّ ، والظنّ لا مجال له فيما جرى هذا المجرى ، فتعلّق مالك بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعتكف في العشر الأواخر (١) ليس بشيء ؛ لأنّ اعتكافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة أيام لا يدلّ على أنّه لا يجزي أقلّ منها ، وتعلّق من حدّه بيوم واحد أو أقلّ من ذلك بقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) وان الظاهر يتناول الزمان الطويل والقصير غير صحيح ؛ لأنّ الاعتكاف إسم شرعي ، ومن ذهب إلى أنّه ما انتقل في الشرع ، وأنّه اسم للبث المقصود بالعبادة يجعل له شروطا شرعية تراعى في إجراء الاسم عليه ، فلا بد من الرجوع إلى الشرع في الاسم أو في شروطه ، والله تعالى نهى عن المباشرة مع الاعتكاف ، فمن أين لهم أنّه ما يكون في أقلّ من ثلاثة أيام يتناوله هذا الاسم وتحصل له الشروط الشرعية فلا دلالة إذا في هذا الظاهر (٢).

ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة : ١٨٩].

[فيها أمور :

الأوّل : استدلّ السيّد بهذه الآية على اعتبار الاهلة في المواقيت دون العدد ، قال :] وهذا نصّ صريح كما ترى بأنّ الأهلة هي المعتبرة في المواقيت والدالّة على الشهور ؛ لأنّه علّق بها التوقيت.

فلو كان العدد هو الذي يعرف به التوقيت ، محض العدد بالتوقيت دون رؤية الأهلة ، إذ لا معتبر برؤية الأهلة في المواقيت على قول أصحاب العدد (٣).

[ثمّ نقل رحمه‌الله كلاما عن صاحب الكتاب (٤) يناقش فيه القول باعتبار الرؤية وأجاب عنه ، وهو كما يلي :]

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٣ : ٦٢.

(٢) الانتصار : ٧٣.

(٣) الرسائل ، ٢ : ٢٠.

(٤) أي الّذي كتب السيّد هذه الرسالة ردّا عليه.

٥٠١

ثمّ قال صاحب الكتاب : مسألة أخرى لهم وجوابها ثمّ قال : وسئلوا عن قول الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).

وأجمع الكافة على أنّها شهور قمرية ، قالوا : فما الذي أجاز لكم الاعتبار بغير القمر ، وهل انصرافكم إلى العدد إلّا خلاف الإجماع.

ثم قال : الجواب يقال لهم : ما ورد به النصّ وتقرّر عليه الاجماع ، فهو مسلّم على كلّ حال ، لكن وجود الاتفاق على أنّ الهلال ميقات لا يحيل الاختلاف فيما يعرف به الميقات ، وحصول الموافقة على أنّها شهور قمرية لا تضادّ الممانعة في الاستدلال عليها بالرؤية.

إذ ليس من شرط المواقيت اختصاص العلم من جهة مشاهدتها ، ولا لأنّ الشهور العربية قمرية ، وجب الاستدلال لأوائلها برؤية أهلّتها. ولو كان ذلك واجبا لدلّت العقول عليه وشهدت بقبح الاختلاف فيه.

وبعد فلا يخلو الطريق إلى معرفة هذا الميقات من أن تكون المشاهدة له والعيان ، أو العدد الدالّ عليه ، والحساب.

ومحال أن تكون الرؤية هي أولى بالاستدلال لما يقع فيها من الاختلاف والشكّ ، وذلك أنّ رؤية الهلال لو كانت تفيد معرفة له من الليالي والأيام ، لم يختلف فيه عند رؤيته اثنان.

وفي إمكان وجود الاختلاف في حال ظهوره ، دلالة على أنّ الرؤية لا يصحّ بها الاستدلال ، وأنّ العدد هو الدالّ على الميقات ، لسلامته ممّا يلحق الرؤية من الاختلاف.

يقال له : هذه الآية التي ذكرتها دليل واضح على صحّة القول بالرؤية وبطلان العدد ، وقد بيّنا في صدر كتابنا هذا كيفية الاستدلال بها ، وأنّ تعليق المواقيت بالأهلّة دليل على أنّها لا تتعلّق بالعدد ولا بغير الأهلّة.

وقوله : «إنّ وجود الاتفاق على أنّ الأهلة ميقات لا يحيل الاختلاف ممّا يعرف به الميقات».

٥٠٢

ليس بالصحيح ؛ لأنّ المواقيت إذا توقّف على الأهلّة فمعلوم أنّ الهلال لا طريق إلى معرفته وطلوعه أو عدم طلوعه إلّا الرؤية في النفي والاثبات ، فيعلم من رأى طلوعه بالمشاهدة ، أو بالخبر المبني على المشاهدة ، ويعلم أنّه ما طلع بفقد المشاهدة وفقده الخبر عنها.

ولا يخفى على محصّل أنّ إثبات الأهلّة في طلوع أو أفول ، مبني على المشاهدات ووصف ، ولو كانت عددية لأضيفت إلى العدد لا القمر وكيف يكون قمرية؟ ولا اعتبار بالقمر فيها ولا له حظّ في تميزها وتعيينها.

فأمّا قوله : «ومحال أن يكون الرؤية هي أولى بالاستدلال لما يقع فيها من الشكّ والاختلاف».

فقد بيّنا أنّه لا شك في ذلك ولا إشكال ، وأنّ التكليف صحيح مع القول بالرؤية غير مشتبه ولا متناقض ، وأنّ من ظنّ خلاف ذلك فهو قليل التأمّل ، وفيما ذكرناه كفاية (١).

[الثاني :] ان سأل سائل عن شعبان وشهر رمضان هل تلحقها الزيادة والنقصان ، فيكون أحدهما تارة ثلاثين وتارة تسعة وعشرين؟

الجواب وبالله التوفيق :

انّ الصحيح من المذهب اعتبار الرؤية في الشهور كلّها دون العدد ، وأنّ شهر رمضان كغيره من الشهور في أنّه يجوز أن يكون تامّا وناقصا.

ولم يقل بخلاف ذلك من أصحابنا إلّا شذاذ خالفوا الأصول ، وقلّدوا قوما من الغلاة ، تمسّكوا بأخبار رويت عن أئمتنا عليهم‌السلام غير صحيحة. ولا معتمدة ، ولا ثابتة ، ولأكثرها ـ إن صحّ ـ وجه يمكن تخرّجه عليه.

والذي يبيّن عمّا ذكرناه ويوضّحه : أنّه لا خلاف بين المسلمين في أنّ رؤية الأهلّة معتبرة ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطلب الأهلّة ، وأنّ المسلمين في ابتداء الإسلام إلى وقتنا هذا يطلبون رؤية الهلال ويعتمدونها ، ولو كان العدد معتبرا

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ٤٧.

٥٠٣

معتمدا ، لكان هذا من فعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعل المؤمنين عبثا لا طائل فيه ولا حكم يتعلّق به.

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عدّة طرق ما هو شائع ذائع : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين يوما» (١).

فجعل الرؤية المقدّمة ، وجعل العدد مرجوعا بعد تعذّر الرؤية. وهذا تصريح بخلاف من يذهب على العدد ولا يعتبر الرؤية.

وقال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) وليس يكون ميقاتا الّا بأن تكون الرؤية معتبرة ، ولو كان مذهب أهل العدد صحيحا لسقط حكم المواقيت بالاهلة.

وروى الحلبي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا رأيت الهلال فصم ، فإذا رأيته فأفطره» (٢).

وروى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إذا رأيتم الهلال فصوموا فإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالظن ولا بالظن» (٣).

وروى الفضيل بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «ليس على أهل القبلة إلّا الرؤية ، وليس على المسلمين إلّا الرؤية» (٤).

وكتب أصحابنا وأصولهم مشحونة بالأخبار الدالة على اعتبار الرؤية دون غيرها.

فأمّا تعلّق المخالف في هذا الباب بما يروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام من أنّه : «ما تمّ شعبان قطّ ولا نقص رمضان قطّ» (٥). وهذا شاذ ضعيف لا يلتفت إلى مثله.

ويمكن إن ـ صحّ ـ أن يكون له وجه يطابق الحقّ : وهو أن يكون المراد بنفي النقصان عن شهر رمضان نقصان الفضيلة والكمال وثواب الأعمال الصالحة فيه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ / ١٨٥.

(٢) وسائل الشيعة ٧ / ١٨٢ ح ١.

(٣) وسائل الشيعة ٧ / ١٨٢ ح ٢ وفيه : ليس بالرأى ولا بالتظنى ولكن بالرؤية.

(٤) وسائل الشيعة ٧ / ١٨٤ ح ١٢.

(٥) وسائل الشيعة ٧ / ٩٥.

٥٠٤

ومعلوم أنّه أفضل الشهور وأشرفها ، وأنّ الأعمال فيه أكثر ثوابا وأجمل موقعا.

ونفي التمام عن شعبان أيضا يكون محمولا على هذا المعنى ؛ لأنّه بالاضافة إلى شهر رمضان أنقص وأخفض بالتفسير الذي قدّمناه (١).

[الثالث : إن سأل سائل] فقال : أيّ معنى لذكر البيوت وظهورها وأبوابها؟ وهل المراد بذلك البيوت المسكونة على الحقيقة ، أو كنّى بهذه اللفظة عن غيرها؟ فإن كان الأوّل فما الفائدة في إتيانها من أبوابها دون ظهورها؟ وإن كانت كناية فبيّنوا وجهها ومعناها.

الجواب : قيل له في الآية وجوه :

أوّلها : ما ذكر من أنّ الرجل من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تقض له ، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخّر البيت ، ولم يدخل من بابه تطيّرا ، فدلّهم الله تعالى على أنّ هذا من فعلهم لا برّ فيه ، وأمرهم من التّقى بما ينفعهم ويقرّبهم إليه ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التطيّر وقال : «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» ؛ أي لا يعدي شيء شيئا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يورد ذو عاهة على مصحّ» ؛ ومعنى هذا الكلام أنّ من لحقت إبله آفة أو مرض فلا ينبغي أن يوردها على إبل لغيره صحاح ، لأنّه متى لحق الصّحاح مثل هذه العاهة إتّفاقا ، لا لأجل العدوي ولم يؤمن من صاحب الصّحاح أن يقول إنّما لحق إبلي هذه الآفة من تلك الإبل ، وهي أعدت إبلي ، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا ، ليزول المأثم بين الفريقين والظّنّ القبيح.

وثانيها : أنّ العرب إلّا قريشا ومن ولدته قريش كانوا إذا أحرموا في غير الأشهر الحرم لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ، ودخلوها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر ، وإذا كانوا من أهل المدر نقبوا في بيوتهم ما يدخلون ويخرجون منه ، ولم يدخلوا ولم يخرجوا من أبواب البيوت ؛ فنهاهم الله تعالى ، عن ذلك وأعلمهم أنّه لا معنى له ، وأنّه ليس من البرّ وأن البرّ غيره.

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ١٥٧.

٥٠٥

وثالثها : ـ وهو جواب أبي عبيدة معمّر بن المثنّى ـ أنّ المعنى ليس البرّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله ، وتلتمسوه من غير بابه (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)، معناه : واطلبوا الخير من وجهه ، ومن عند أهله.

ورابعها : ـ وهو جواب أبي عليّ الجبّائيّ ـ أن تكون الفائدة في هذا الكلام ضرب المثل ، وأراد : ليس البرّ أن يأتي الرجل الشيء من خلاف جهته ؛ لأنّ إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن حدّ الصواب والبرّ إلى الإثم والخطأ ، وبيّن البرّ والتقوى ، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها ، وأن تفعل على الوجوه التي لها وجبت وحسنت ، وجعل تعالى ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلا ؛ لأنّ العادل في الأمر عن وجهه كالعادل في البيت عن بابه.

وخامسها : أن تكون البيوت كناية عن النساء ، ويكون المعنى : وأتوا النساء من حيث أمركم الله ، والعرب تسمّي المرأة بيتا ؛ قال الشاعر :

ما لي إذا أنزعها صأيت

أكبر غيّرني أم بيت (١)

أراد بالبيت : المرأة.

وممّا يمكن أن يكون شاهدا للجواب الذي حكيناه عن أبي عليّ الجبائيّ ، والجواب عن أبي عبيدة أيضا ما أخبرنا به أبو القاسم عبيد الله بن يحيى قال : أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن أحمد الحكيميّ قال : أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحويّ قال : أنشدنا ابن الأعرابي (٢) :

إنّي عجبت لأمّ العمر إذ هزئت

من شيب رأسي وما بالشّيب من عار

ما شقوة المرء بالإقتار يقتره

ولا سعادته يوما بإكثار

إنّ الشّقيّ الذي في النّار منزله

والفوز فوز الذي ينجو من النّار

__________________

(١) البيتان في اللسان (صأى) وفي حاشية بعض النسخ : «هذا مستق يستقى الماء من البئر وينزع الدلو». والهاء في قوله : «أنزعها» راجعة إلى الدلو ؛ وقيل الضمير للقوس ؛ يقال : «صأى يصأى ، مثل صعى يصعى ؛ إذا صوت».

(٢) أبيات منها في الكامل : ٢ / ٥١ ـ ٥٢ ؛ بشرح المرصفي ؛ عن ابن الأعرابيّ ، ونسبها إلى أحد ابني حبناء ، قال : «وأحسبه صخرا».

٥٠٦

أعوذ بالله من أمر يزيّن لي

شتم العشيرة أو يدني من العار

وخير دنيا ينسّي أمر آخرة

وسوف يبدي لي الجبّار أسراري

لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره

ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري

فقوله :

لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره

يحتمل أن يريد به : إنّني لا آتي الأمور من غير وجهها ، على أحد الأجوبة في الآية ، ويحتمل أيضا أنّي لا أطلب الخير إلّا من أهله على جواب أبي عبيدة ، ويحتمل وجها آخر : وهو أن يريد أنّني لا أقصد البيت للرّيبة والفساد ، لأنّ من شأن من يسعي إلى إفساد الحرم ، ويقصد البيوت للريبة أن يعدل عن أبوابها طلبا لإخفاء أمره ، فكأنّه نفى عن نفسه بهذا القول القبيح ، وتنزّه عنه ؛ كما تنزّه بقوله :

ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري

عن مثله ، وأراد أنه لا يندى ابن العمّ مني السوء ، ولا يتألّم بشيء من جهتي ، فأكون كأنّني قد جرحته بأظفاري ، وكسرتها في لحمه ؛ وهذه كنايات بليغة مشهورة للعرب (١).

ـ (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤].

أنظر البقرة : ١٥ من الأمالي ، ٢ : ١٢٦ والبقرة : ١٧٩ من الانتصار : ٢٦٥.

ـ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة : ١٩٦].

[فيها أمور :]

[الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «والعمرة واجبة من جهة الاستطاعة كالحجّ.

الصحيح عندنا : أنّ العمرة إنّما تجب في العمر مرّة واحدة ، وما زاد على ذلك فهو فضل ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المذكور ، قوله

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٦٣.

٥٠٧

تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، والأمر بالإتمام يقتضي الأمر بالابتداء.

وروي عن عائشة أنّها قالت : يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال : «نعم» ، فقلت : فما ذلك الجهاد؟ قال : (الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) (١) (٢).

[الثاني :] وممّا إنفردت به الإمامية القول : بأن الاحرام قبل الميقات لا ينعقد ...

دليلنا ـ بعد الاجماع الذي مضى ـ أنّ معنى ميقات في الشريعة ، هو الذي يتعيّن ولا يجوز التقدّم عليه ، مثل مواقيت الصلاة ، فتجويز التقدّم على الميقات يبطل معنى هذا الاسم.

وأيضا فلا خلاف في أنّه إذا أحرم من الميقات إنعقد حجّه ، وليس كذلك إذا أحرم قبله ، وينبغي أن يكون من إنعقاد إحرامه على يقين ، فإن عارض المخالف بما يروونه عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) إنّ إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك (٣).

فالجواب أنّ هذا خبر واحد ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا توجب عملا ، كما لا توجب علما ، ثمّ ذلك محمول على من منزله دون الميقات ، فعندنا أنّ كلّ من كان كذلك فميقاته منزله ، فان اعترضوا بما يروونه عن أمّ سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : من أحرم من بيت المقدس غفر الله له ذنبه (٤).

وفي خبر آخر من أهلّ بعمرة أو حجّة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وجبت له الجنّة (٥).

فالجواب عنه ـ بعد أنّه خبر واحد ـ حمله على أنّ من عزم على ذلك ونواه

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، ٢ : ٩٦٨.

(٢) الناصريات : ٣٠٦.

(٣) المغني (لابن قدامة) ، ٣ : ٢١٥.

(٤) سنن ابن ماجة ، ٢ : ٩٩٩.

(٥) سنن البيهقي ، ٥ : ٣٠.

٥٠٨

وقصد من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله له ، وقد يسمّى القاصد إلى الأمر باسم الفاعل له والداخل فيه ، وهذا أكثر في اللسان العربي من أن يحصى (١).

[الثالث :] وممّا إنفردت به الإمامية القول : بأنّ التمتع بالعمرة إلى الحج هو فرض الله تعالى على كلّ من نأى عن المسجد الحرام لا يجزيه مع التمكّن سواه ، وصفته أن يحرم من الميقات بالعمرة ، فإذا وصل إلى مكة طاف بالبيت سبعا وسعى بين الصفا والمروة سبعا ، ثم أحلّ من كلّ شيء أحرم منه ، فإذا كان يوم التروية عند زوال الشمس أحرم بالحج من المسجد الحرام وعليه دم المتعة ، فان عدم الهدي وكان واجدا لثمنه تركه عند من يثق به من أهل مكّة حتّى يذبح عنه طول ذي الحجة ، فان لم يتمكّن من ذلك أخّره إلى أيام النحر من العام القابل ، ومن لم يجد الهدي ولا ثمنه كان عليه صوم عشرة أيام قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة ، فمن فاته ذلك صام ثلاثة أيام من أيام التشريق ، وباقي العشرة إذا عاد إلى أهله ...

دليلنا الاجماع المتردد ، ويمكن أن يستدلّ أيضا على وجوب التمتّع بأن الدليل قد دلّ على وجوب الوقوف بالمشعر ، وأنّه مجزى في تمام الحجّ عن الوقوف بعرفة إذا فات ، وكلّ من قال بذلك أوجب التمتّع بالعمرة إلى الحج فالقول بوجوب أحدهما دون الآخر خروج عن إجماع المسلمين ، ويمكن أن يستدلّ على ذلك بقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٢) وأمره تعالى على الوجوب والفور ، فلا يخلو من أن يأتي بهما على الفور بأن يبدء بالحج ويثني بالعمرة أو يبدء بالعمرة ويثني بالحج أو يحرم بالحج والعمرة معا ، والأول يفسد بأنّ أحدا من الأمة لا يوجب على من أحرم بالحج مفردا أن يأتي عقيبه بلا فصل بالعمرة ، والقسم الأخير باطل عندنا ؛ لأنّه لا يجوز أن يجمع في إحرام واحد بين الحجّ والعمرة كما لا يجمع في إحرام واحد بين حجتين أو عمرتين ، فلم يبق

__________________

(١) الانتصار : ٩١.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٩٦.

٥٠٩

إلّا وجوب القسم الأخير وهو التمتع الذي ذهبنا إليه ، فإن قيل : قد نهى عن هذه المتعة مع متعة النساء عمر بن الخطاب وأمسكت الأمة عنه راضية بقوله (١).

قلنا : نهي من ليس بمعصوم عن الفعل لا يدلّ على قبحه ، والامساك عن النكير لا يدلّ عند أحد من العلماء على الرضا إلّا بعد أن يعلم أنّه لا وجه له إلّا الرضا ، وقد بيّنا ذلك وبسطناه في كثير من كتبنا.

وبعد فان الفقهاء والمحصّلين من مخالفينا حملوا نهي عمر عن هذه المتعة على وجه الاستحباب لا على الحظر ، وقالوا في كتبهم المعروفة المخصوصة بأحكام القرآن : إنّ نهي عمر يحتمل أن يكون لوجوه : منها : أنّه أراد أن يكون الحج في أشهر المخصوصة به والعمرة في غير تلك الشهور. ومنها : أنّه أحب عمارة البيت وأن يكثر زوّاره في غير الموسم. ومنها : أنّه أراد إدخال المرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم.

ورووا في تقوية هذه المعاني أخبارا موجودة في كتبهم لا معنى للتطويل بذكرها ، وفيهم من حمل نهي عمر عن المتعة على فسخ الحج إذا طاف له قبل يوم النحر.

وقد روي عن ابن عباس رحمه‌الله عليه أنّه كان يذهب إلى جواز ذلك (٢) وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمر أصحابه في حجّة الوداع بفسخ الحج من كان منهم لم يسق هديا ولم يحل هو عليه‌السلام ؛ لأنّه كان ساق الهدي (٣) ، وزعموا أنّ ذلك منسوخ بقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وهذا التأويل الثاني بعيد من الصواب ؛ لأنّ فسخ الحجّ لا يسمّى متعة ، وقد صارت هذه اللفظة بعرف الشرع مخصوصة بمن ذكرنا حاله وصفته.

وأمّا التأويل الأوّل فيبطله قوله : أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، وتشدده في ذلك وتوعّده يقتضي أن لا يكون القول خرج مخرج الاستحباب ، على أنّ

__________________

(١) موطأ مالك ، ١ : ٣٤٤.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ٧ : ٥٧٢.

(٣) صحيح البخاري ، ٢ : ١٧٧.

٥١٠

نهيه عن متعة النساء كان مقرونا بنهيه عن متعة الحج ، فان كان النهي عن متعة الحج إستحبابا فالمتعة الأخرى كذلك (١).

[الرابع :] وممّا ظنّ إنفراد الإمامية به ، أنّ المحرم إذا اشترط فقال عند دخوله في الاحرام : «فإن عرض لي عارض يحبسني فحلّني حيث حبستني» جاز له أن يتحلّل عند العوايق من مرض وغيره بغير دم ، وهذا أحد قولي الشافعي (٢) ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وباقي الفقهاء إلى أنّ وجود هذا الشرط كعدمه (٣). دليلنا الاجماع المتقدّم ، ويعارضون بما يروونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لضباعة بنت الزبير : حجّي واشترطي وقولي : «اللهم فحلّني حيث حبستني» ولا فائدة لهذا الشرط إلّا التأثير في ما ذكرناه من الحكم ، فان احتجّوا بعموم قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قلنا : نحمل ذلك على من لم يشترط (٤).

[الخامس :] وحلق الرأس ههنا نسك وليس بمباح صرف [فلا يرد ما ذكره قوم بأنهم] لم يجدوا في الكتاب أمرا واردا بعد الحظر إلّا ويقتضى الاباحة المحضة مع أن الوجود إذا صحّ ليس بدلالة ؛ لأنّه يمكن خلاف ما استمرّ عليه الوجود (٥).

[السادس : انظر المقدّمة الثانية ، الأمر الثاني.]

ـ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧].

[فيها أمور :

الأوّل :] وممّا إنفردت به الإمامية به القول : بأنّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وتسع من ذي الحجة ، لم ينعقد إحرامه

__________________

(١) الانتصار : ٩٣.

(٢) المغني (لابن قدامة) ٣ : ٢٤٣.

(٣) نفس المصدر ، ٣ : ٢٤٤.

(٤) الانتصار : ١٠٤.

(٥) الذريعة ، ١ : ٧٤ مع تقديم وتأخير.

٥١١

والشافعي يوافق الإمامية ، في أنّ إحرامه بالحج لا ينعقد ، لكنّه يذهب إلى أنّه ينعقد له عمرة (١).

وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وابن حي : إنّه إذا أحرم بالحجّ قبل أشهر الحجّ إنعقد إحرامه ولزمه (٢) ؛ وقد روى عن أبي حنيفة مع ذلك كراهيته (٣) ، والحجة لنا إجماع الطائفة وأيضا قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ومعنى ذلك وقت الحج أشهر معلومات ؛ لأنّ الحج نفسه لا يكون أشهرا ، والتوقيت في الشريعة يدلّ على إختصاص الموقت بذلك الوقت وأنّه لا يجزي في غيره.

وأيضا فقد ثبت أنّ من أحرم في أشهر الحج انعقد إحرامه بالحجّ بلا خلاف ، وليس كذلك من أحرم قبل ذلك ، فالواجب إيقاع الإحرام في الزمان الذي يحصل العلم بانعقاده فيه ، فان تعلّق المخالف بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) (٤) فظاهر ذلك يقتضي أنّ الشهور كلّها متساوية في جواز الاحرام فيها.

والجواب أنّ هذه آية عامة تخصصها بقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وبحمل لفظة الأهلة على أشهر الحجّ خاصة ، على أنّ أبا حنيفة لا يمكنه التعلّق بهذه الآية ؛ لأنّ الله تعالى قال : (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) والاحرام عنده ليس من الحجّ ، وبعد فتوقيت العبادة يقتضي جواز فعلها بغير كراهية ، وعند أبي حنيفة وأصحابه أنّه مكروه تقديم الاحرام على أشهر الحج ، وقد أجاب بعض الشافعية عن التعلّق بهذه الآية بأنّ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) أي لمنافعهم وتجاراتهم ، ثم قال : (وَالْحَجِ) فاقتضى ذلك أن يكون بعضها لهذا وبعضها لهذا ، وهكذا نقول ، ويجري ذلك مجرى قوله : هذا المال لزيد وعمر وأنّ الظاهر يقتضي إشتراكهما فيه ، وهذا ليس بمعتمد ؛ لأنّ الظاهر من قوله تعالى : (لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) يقتضي أن يكون جميع الأهلة على العموم لكلّ واحد

__________________

(١) المغني (لابن قدامة) ، ٣ : ٢٢٤.

(٢) نفس المصدر.

(٣) مجمع الانهر ، ١ : ٢٦٤.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٨٩.

٥١٢

من الأمرين ، وليس كذلك قولهم : المال لزيد وعمر ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون جميع المال لكلّ واحد منهما ، فوجب الاشتراك لهذه العلة ، وجرت الآية مجرى أن يقول : هذا الشهر أجل لدين فلان ودين فلان ، في أنّه يقتضي كون الشهر كلّه أجلا للدينين جميعا ، ولا ينقسم كانقسام المال فوجب الاشتراك لهذه العلة (١).

[الثاني :] وممّا إنفردت به الإمامية القول : بأنّ الجدال الذي منع منه المحرم بقوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) هو الحلف بالله صادقا أو كاذبا وأنّه إن جادل وهو محرم صادقا مرة أو مرتين فليس عليه كفّارة وليستغفر الله تعالى ، فإن جادل ثلاث مرات صادقا فما زاد فعليه دم شاة ، فان جادل مرة واحدة كاذبا فعليه دم شاة ، وإن جادل مرتين كاذبا فدم بقرة ، فإن جادل ثلاث مرات كاذبا فعليه دم بدنة ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك. والحجّة لنا إجماع الطائفة عليه ، ولأنّ اليقين ببراءة الذمة في قولنا دون قولهم ، فإن قيل : ليس في لغة العرب ، أن الجدال هو الحلف.

قلنا : ليس ينكر أن يقتضي عرف الشريعة ما ليس في وضع اللغة ، على أنّ الجدال إذا كان الخصومة والمراء والمنازعة ، وهذه أمور تستعمل للدفع والمنع والقسم بالله تعالى قد يفعل لذلك ففيه معنى المنازعة والخصومة (٢).

[الثالث : انظر البقرة : ٢٧٨ من الرسائل ، ١ : ١٨١].

ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة : ١٩٨].

وممّا إنفردت به الإمامية القول بوجوب الوقوف بالمشعر الحرام ، وأنّه ركن من أركان الحج ، جار مجرى الوقوف بعرفة في الوجوب ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبه واحد منهم (٣).

__________________

(١) الانتصار : ٩١.

(٢) الانتصار : ٩٥.

(٣) المغني (لابن قدامة) ، ٣ : ٤٤١.

٥١٣

دليلنا ـ بعد الاجماع المتردد ـ قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) والأمر على الوجوب ، ولا يجوز أن يوجب ذكر الله تعالى فيه إلّا وقد أوجب الكون فيه ؛ ولأنّ كل من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف ، فان قالوا : نحمل ذلك على الندب ، قلنا : هو خلاف الظاهر ويحتاج إلى دلالة.

وأيضا ؛ فانّ من وقف في المشعر ، وأدّى سائر أركان الحج سقط الحج عن ذمّته بلا خلاف ، وليس كذلك إذا لم يقف به ، فان قيل : هذه الآية تدلّ على وجوب الذكر وأنتم لا توجبونه ، وإنّما توجبون الوقوف مثل عرفة ، قلنا : لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية.

وبعد فانّ الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص والذكر جميعا وإذا دلّ الدليل على أنّ الذكر مستحب غير واجب أخرجناه من الظاهر وبقي الآخر يتناوله الظاهر ؛ وتقدير الكلام ؛ فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله تعالى فيه.

فإن قيل : الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو إستحباب ؛ لأنّه إنّما يراد له من أجله ؛ فإذا ثبت أنّ الذكر مستحب ، فكذلك الكون.

قلنا : لا نسلّم أنّ الكون في ذلك المكان تابع للذكر ؛ لأنّ الكون عبادة مفردة عن الذكر ، والذكر عبادة أخرى ، وإحداهما لا تتبع الأخرى ، كما لم يتبع الذكر لله تعالى في عرفات الكون في ذلك المكان والوقوف به ؛ لأنّ الذكر مستحب ، والوقوف بعرفات واجب بلا خلاف ، على أنّ الذكر إن لم يكن واجبا فشكرا لله تعالى على نعمه واجب على كلّ حال ، وقد أمر الله عزوجل بأن نشكره عند المشعر الحرام ، فيجب أن يكون الكون بالمشعر واجبا ، كما أنّ الفعل الذي أمرنا بايقاعه عنده واجب.

فإن قيل : ما أنكرتم من أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر ، وإن كان محلا للذكر وإن عطف الشكر على الذكر.

٥١٤

قلنا : الظاهر بخلاف ذلك ؛ لأنّ عطف الشكر على الذكر يقتضي تساوي حكمهما في المحل وغيره ، وجرى ذلك مجرى قول القائل : اضرب زيدا في الدار وقيّده ، في أنّ الدار محل للفعلين معا (١).

ـ (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [البقرة : ٢٠٢].

[إن سأل سائل] فقال : أيّ تمدّح في سرعة الحساب ، وليس بظاهر وجه المدحة فيه؟

الجواب : قلنا في ذلك وجوه :

أوّلها : أن يكون المعني أنّه سريع المجازاة للعباد على أعمالهم ، وأنّ وقت الجزاء قريب وإن تأخّر ، ويجري مجرى قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (٢).

وإنّما جاز أن يعبّر عن المجازاة أو الجزاء بالحساب ؛ لأنّ ما يجازى به العبد هو كفء لفعله ولمقداره ، فهو حساب له إذا كان مماثلا مكافئا.

وممّا يشهد بأنّ في الحساب معنى الكفاية والمكافأة قوله تعالى : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (٣) ، أي عطاء كافيا ، ويقال : أحسبني الطعام يحسبني إحسابا إذا كفاني ، قال الشاعر :

وإذ لا ترى في النّاس حسنا يفوتها

وفي النّاس حسن لو تأمّلت محسب (٤)

معناه كاف.

وثانيها : أن يكون المراد أنّه عزوجل يحاسب الخلق جميعا في أوقات يسيرة ، ويقال : إنّ مقدار ذلك حلب شاة ؛ لأنّه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره ، بل يكلّمهم جميعا ويحاسبهم كلّهم على أعمالهم في وقت واحد ؛

__________________

(١) الانتصار : ٨٩.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٧٧.

(٣) سورة النبأ ، الآية : ٣٦.

(٤) في حاشية بعض النسخ : «يصف امرأة بالحسن ويبالغ في وصفها ؛ يقول : ما رأينا حسنا فات هذه المرأة وتعداها مع أن ما في الناس كفاية حسن».

٥١٥

وهذا أحد ما يدلّ على أنّه تعالى ليس بجسم ، وأنّه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة ؛ لأنّه لو كان بهذه الصفات ـ تعالى عنها ـ لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين ؛ ولكان خطاب بعض الناس يشغله عن خطاب غيره ، ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة ؛ كما أن جميع ذلك واجب في المحدثين الذين يفتقرون في الكلام إلى الآلات.

وثالثها : ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بالآية أنّه سريع العلم بكل محسوب ، وأنّه لما كانت عادة بني الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء في أكثر أمورهم ؛ أعلمهم الله تعالى أنّه يعلم ما يحسبون بغير حساب ؛ وإنّما سمّى العلم حسابا لأنّ الحساب إنّما يراد به العلم ؛ وهذا جواب ضعيف ؛ لأنّ العلم بالحساب أو المحسوب لا يسمّى حسابا ، ولو سمّى بذلك لما جاز أيضا أن يقال إنّه سريع العلم بكذا ؛ لأنّ علمه بالأشياء ممّا لا يتجدّد فيوصف بالسرعة.

ورابعها : أنّ الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ؛ وذلك أنّه يسأل في وقت واحد سؤالات مختلفة من أمور الدنيا والآخرة ، فيجزى كلّ عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته ، فيوصل إليه عند دعائه ومسألته ما يستوجبه بحدّ ومقدار ؛ فلو كان الأمر على ما يتعارفه الناس لطال العدد واتصل الحساب ، فأعلمنا تعالى أنّه سريع الحساب ، أي سريع القبول للدعاء بغير احساس وبحث عن المقدار الذي يستحقّه الداعي ؛ كما يبحث المخلوقون للحساب والإحصاء ، وهذا جواب مبنيّ أيضا على دعوى أنّ قبول الدعاء لا يسمّى حسابا في لغة ولا عرف ولا شرع. وقد كان يجب على من أجاب بهذا الجواب أن يستشهد على ذلك بما يكون حجّة فيه ، وإلّا فلا طائل فيما ذكره.

ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة وموافقتهم عليها ، وتكون الفائدة في الإخبار بسرعته الإخبار عن قرب الساعة ؛ كما قال تعالى : (سَرِيعُ الْعِقابِ).

وليس لأحد أن يقول : فهذا هو الجواب الأوّل الذي حكيتموه ؛ وذلك أنّ

٥١٦

بينهما فرقا ؛ لأنّ الأول مبنيّ على أنّ الحساب في الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال ، وفي هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة ، والمقابلة بالأعمال وترجيحها ، وذلك غير الجزاء الذي يفضي الحساب إليه.

وقد طعن بعضهم في الجواب الثاني معترضا على أبي عليّ الجبّائيّ في اعتماده إياه [بأن قال] : مخرج الكلام في الآية على وجه الوعيد ، وليس في خفّة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضى زجرا ، ولا هو ممّا يتوعّد بمثله ؛ فيجب أن يكون المراد الإخبار عن قرب أمر الآخرة والمجازاة على الأعمال.

وهذا الجواب ليس أبو عليّ المبتدىء به ، بل قد حكي عن الحسن البصريّ ، واعتمده أيضا قطرب بن المستنير النحويّ : وذكره المفضّل بن سلمة ، وليس الطّعن الذي حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له ، لأنّه اعتمد على أنّ مخرج الآية مخرج الوعيد ، وليس كذلك ، لأنّه تعالى قال : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)) (١) ، فالأشبه بالظاهر أن يكون الكلام وعدا بالثواب ، وراجعا إلى الذين يقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)، أو يكون راجعا إلى الجميع ، فيكون المعنى : إنّ للجميع نصيبا ممّا كسبوا ، فلا يكون وعيدا خالصا ؛ بل إمّا أن يكون وعدا خالصا أو وعدا ووعيدا ، على أنّه لو كان وعيدا خالصا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)، على تأويل من أراد قصر الزمان ، وسرعة الموافقة وجه وتعلّق بالوعد والوعيد ؛ لأنّ الكلام على كلّ حال متضمّن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد ، والإحاطة بخيرها وشرّها ؛ وإن وصف الحساب مع ذلك بالسرعة ؛

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

٥١٧

وفي هذا ترغيب وترهيب لا محال ، لأن من علم بأنّه يحاسب بأعماله ، ويواقف على جميلها وقبيحها انزجر عن القبيح ورغب في فعل الواجب.

فبهذا ينصر الجواب ، وإن كنّا لا ندفع أنّ في حمل الحساب على قرب المجازاة ، أو قرب المحاسبة على الأعمال ترغيبا في الطاعات وزجرا عن المقبّحات ؛ فالتأويل الأوّل أشبه بالظاهر ونسق الآية ، إلّا أن التأويل الآخر غير مدفوع أيضا ولا مرذول (١).

ـ (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣].

أنظر البقرة : ١٨٣ من الرسائل ، ٢ : ١٢.

ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) [البقرة : ٢٠٤].

... وأما اللّدد ؛ فقيل : هو الخصومات ، وقال ثعلب : يقال رجل ألّد ، وقوم لدّ إذا كانوا شديدي الخصومة ؛ ومنه قول الله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ).

وقال الأمويّ : اللدد : الاعوجاج ، والألدّ في الخصومة : الذي ليس بمستقيم ، أي هو أعوج الخصومة ؛ يميل فلا يقوى عليه ولا يستمكن منه ، ومن ذلك قولهم : لدّ الصّبيّ ، وإنّما يلدّ في شقّ فيه ؛ وليس «يلدّ» مستقيما ؛ فهو يرجع إلى معنى الميل والاعوجاج. وقال : فسّر لنا الحكم بن ظهير ، فقال : ألدّ الخصام ، أي أعوج الخصام ، وأنشد أبو السمح لابن مقبل :

لقد طال عن دهماء لدّي وعذرتي

وكتمانها أكني بأمّ فلان

جعلت لجهّال الرّجال مخاضة

ولو شئت قد بيّنتها بلساني

اللّد : الجدال والخصومة.

وقال أبو عمرو : الألدّ : الذي لا يقبل الحقّ ، ويطلب الظلم (٢).

ـ (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠].

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٧٤.

(٢) الأمالي ، ٢ : ١٥٠.

٥١٨

[إن سأل سائل] فقال : كيف يصحّ القول بأنّها رجعت وهي لم تخرج عن يده؟

الجواب : قلنا قد ذكر في ذلك وجوه :

أوّلها : أنّ الناس في دار المحنة والتكليف قد يغترّ بعضهم ببعض ، ويعتقدون فيهم أنّهم يملكون جرّ المنافع إليهم وصرف المضارّ عنهم ، وقد تدخل عليهم الشّبه لتقصيرهم في النظر ، وعدو لهم عن وجهه وطريقه ، فيعبد قوم الأصنام وغيرها من المعبودات الجامدة الهامدة التي لا تسمع ولا تبصر ، ويعبد آخرون البشر ، ويجعلونهم شركاء لله تعالى في استحقاق العبادة ؛ ويضيف كلّ هؤلاء أفعال الله عزوجل فيهم إلى غيره ، فإذا جاءت الآخرة ، وانكشف الغطاء واضطرّوا إلى المعارف زال ما كانوا عليه في الدنيا من الضلال واعتقاد الباطل ، وأيقن الكلّ أنّه لا خالق ولا رزاق ولا ضارّ ولا نافع غير الله فردوا إليه أمورهم ، وانقطعت آمالهم من غيره ، وعلموا أنّ الذي كانوا عليه من عبادة غيره ، وتأميله للضّرّ والنفع غرور وزور ، فقال الله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لهذا المعنى.

والوجه الثاني : أن يكون معنى الآية في الأمور أنّ الأمور كلّها لله تعالى ، وفي يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقيّ ؛ وقد تقول العرب : «قد رجع عليّ من فلان مكروه» بمعنى صار إليّ منه ؛ ولم يكن سبق إليّ قبل هذا الوقت ، وكذلك يقولون : «قد عاد عليّ من زيد كذا وكذا» وإن وقع منه على سبيل الابتداء ، قال الشاعر :

وإن تكن الأيّام أحسنّ مرّة

إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

أي صارت لها ذنوب لم تكن من قبل ؛ بل كان قبلها إحسان فحمل الآية على هذا المعنى شائع جائز تشهد له اللغة.

والوجه الثالث : أنّا قد علمنا أنّ الله تعالى قد ملّك العباد في دار التكليف أمورا تنقطع بانقطاع التكليف ، وإفضاء الأمر إلى الدار الآخرة ، مثل ما ملّكه الموالي من العبيد ، وما ملّكه الحكام من الحكم وغير ذلك ؛ فيجوز أن يريد الله تعالى برجوع الأمر إليه انتهاء ما ذكرناه من الأمور التي يملكها غيره بتمليكه إلى أن يكون هو وحده مالكها ومدبّرها.

٥١٩

ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يكون المراد بها أنّ الأمر ينتهي إلى ألّا يكون موجود قادر غيره ، ويفضي الأمر في الانتهاء إلى ما كان عليه في الابتداء ، لأنّ قبل إنشاء الخلق هكذا كانت الصورة ، وبعد إفنائهم هكذا يصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى ، وهو رجوع حقيقيّ ، لأنّه عاد إلى ما كان عليه متقدّما.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بذلك أنّ إلى قدرته تعود المقدورات ، لأنّ ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والأعراض ترجع إلى قدرته ، ويصحّ منه تعالى إيجاده لعوده إلى ما كان عليه ، وإن كان ذلك لا يصحّ في مقدورات البشر وإن كانت باقية ؛ لما دلّ عليه الدليل من اختصاص مقدور القدر باستحالة العود إليها ، من حيث لم يجز فيها التقديم والتأخير ، وهذا أيضا حكم ، هو تعالى المتفرّد به دون غيره من سائر القادرين ، والله أعلم بما أراد (١).

ـ (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [البقرة : ٢١٢].

[إن سأل سائل] فقال : أيّ تمدّح في الإعطاء بغير حساب ، وقد يكون المعطي بحساب أجزل عطية من المعطى بغير حساب؟

الجواب : قلنا في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن تكون الفائدة أنّه تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق ولا احتساب منه ، فالحساب ههنا راجع إلى المرزوق لا إليه تعالى : كما يقول القائل : «ما كان كذا وكذا في حسابي» أي لم أؤمله ولم أقدّر أنّه يكون ؛ وهذا وصف للرزق بأحسن الأوصاف ؛ لأنّ الرزق إذا لم يكن محتسبا كان أهنأ له وأحلا ؛ وقد روى عن ابن عباس «رضي الله عنه» في تفسير هذه الآية أنّه قال : عنى بها أموال بني قريظة والنضير ، وإنّها تصير إليكم بغير حساب ولا قتال ، على أسهل الأمور وأقربها وأيسرها.

وثانيها : انّه تعالى يرزق من يشاء رزقا غير مضيّق ولا مقترّ بل يزيد في السعة

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٦٢.

٥٢٠