تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

سورة البقرة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[مسألة :] فإن قيل : كيف يجوز أن يسمّي الله تعالى السور بهذه الاسماء؟ ولم تجر عادة العرب أن يسمّوا بمثلها ، والقرآن بلغتهم.

قلنا : ليس في الأسماء حطّة ، ولا يجب فيه الاتّباع والاقتداء ، ولهذا جاز أن يحدث أهل كلّ صناعة لما عرفوه من الألات والادوات أسماء ، وإن لم تكن تلك الاسماء في اللغة أسماء لتلك المسمّيات ، وقد يجوز أن يسمّي أحدنا ولده ما لم يسبق إليه ، ولا يكون بذلك معيبا.

فإن قيل : كيف يجوز أن تكون هذه الحروف أسماء للسور مع اشتراك جماعة من السور في بعضها وخلوّ كثير من السور من شيء منها؟

قلنا : أمّا الاشتراك فغير ممتنع أسماء الالقاب ، وان كان الالقاب في الاصل (١) إذا كانت للتميّز ألّا يقع فيها الاشتراك ، ثم عند وقوع الاشتراك فيها فزعوا إلى الصفات ، ولهذا قالوا : زيد الطويل العاقل ، وألحقوا الصفة لمّا وقع الاشتراك في الاسم ، ولو لم يكن في العالم إلّا زيد واحد ، لما احتاجوا إلى الصفة.

وهكذا السور ، لمّا وقع الاشتراك في أسمائها ألحقوا بها ما بيّنه على التمييز ، فقالوا : الدخان والزخرف وما أشبه ذلك ، ولم يحتاجوا إلى ذلك فيما ينفرد بلقبه ، كصاد وقاف وطه وما جرى مجراهنّ.

فأمّا خلو بعض السور من اسم ؛ لأنّ وضع الاسماء في الأصل غير واجب ، وإذا كان جائزا أن يختصّ مسمّى دون غيره.

__________________

(١) كذا والظاهر : وان كان الاصل في الالقاب.

٢٨١

ـ (الم)

فإن قيل : فما الوجه فيما افتتح هذه السورة من قوله : (الم) وهو كلام لا يعرف معناه ولا يعلم فحواه؟ وكيف يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفونه ولا يقولونه؟

الجواب :

قلنا : قد ذكر الناس في معنى الحروف المقطّعة التي افتتحت بها السور وجوها كثيرة ، فبعضها صحيح وبعضها فاسد ، ونحن نذكر الصحيح الذي نختاره وننّبه على ما فيه اختلاف وفساد.

فمن أصحّ ما ذكر في ذلك وأبعده من الفساد أن يكون هذه الحروف أسماء للسور وشعارا لها ، والاسماء إذا كانت على سبيل التلقيب (١) الذي ذكرناه والتمييز (٢) ؛ لأنّ الألقاب جارية مجرى الاشارة ، ولا يفيد في اللقب أكثر من الاشارة إليه ، وإمكان الإخبار عنه عند الغيبة باللقب ، كما أمكنت الاشارة مع الحضور.

ألا ترى أنّ قولنا : «زيد وعمرو» لا يفيدان أكثر من التلقب الذي ذكرناه ، ولا يجريان مجرى طويل وقصير وما أشبهها من الصفات؟ ومن أمارة كون الاسم لقبا أن يجوز تبديله وتغييره واللغة على ما هي عليه ، والإسم المفيد لا يجوز تغييره إلّا بتغير اللغة.

ألا ترى أنّه لو سمّينا رجلا ب «زيد» ثم بدا لنا في ذلك فسمّيناه ب «عمرو» لساغ ذلك واللغة على ما كانت عليه ، وإذا وصفناه بأنّه طويل لم يجز أن نصفه بالقصير ، ونرجع عن وصفه بالطويل إلّا مع تغيّر اللغة وانقلابها.

وهذا الوجه الذي ذكرناه في هذه الفواتح ، قد روي عن الشيوخ الثقات الذين لا أرباب لهم ، وما لا إسم له من السور قد يعرف ويميّز بما يقوم مقام الاسم من الصفات ، كسورة النساء وسورة المائدة وما أشبههما.

__________________

(١) في الهامش : التغليب.

(٢) كذا في المطبوعة.

٢٨٢

وقد طعن أبو مسلم محمد بن بحر الاصبهاني على هذا الجواب وضعّفه وأورد عليه كلاما طويلا جملته أن قال : إنّ الاسم غير المسمّى ، فلو كانت هذه الفواتح أسماء للسور ، لوجب أن تكون غيرها ولا تكون منها.

وقد أجمع المسلمون قرّائهم وغير قرّائهم على أنّ هذه الفواتح من السور ومعدودة في جملة آيها ، وهذا يوجب مع القول بالاسم غير المسمّى ، أنّها ليست بأسماء.

والجواب عن ذلك : أنّ هذه الاسماء ليست غير السور ، وهي منها على وجه ، وإن كانت خارجة من جملتها على وجه آخر ، فهي من حيث كانت أسماء لها وألقابا عليها خارجة عنها ؛ لأنّ الاسم لا بدّ من أن يكون في حكم الغير المسمّى ، وهي من حيث كانت قرآنا منزّلا متعبّدا بتلاوته من جملة السور ؛ لأنّا أمرنا أن نتلوها في جملتها ونبتدىء بها ثم نتبعها بالسورة ، ولا يمتنع في الاسم أن يكون بينه وبين المسمّى مشاركة من وجه ، وإن كان يدخل معه في جهة أخرى.

ألا ترى أنّ هذا الاسم محدث وفعل من الافعال وموجود ومدرك ، وكلّ هذا قائم في المسمّى ، وليس لأحد أن يقول : قد جعلتموه داخلا مع المسمّى وغير متميّز منه ؛ لأنّا لم نفعل ذلك من حيث كان اسما ، وانّما جمعنا بينه وبين المسمى من وجه لم يكن فيه إسما للمسمّى ، فكذلك القول في هذه الفواتح.

ومن عجيب أمر أبي مسلم أنّه أعرض عن هذا الجواب وتغلغل فيه إلى ما حكيناه عنه ، وردّ أيضا غيره من الأجوبة المردودة لعمري في أنفسها ، ثم أختار جوابا ظاهر الضعف ، بيّن الفساد ، ونحن نبتدىء بالكلام عليه قبل غيره ممّا نريد أن نبيّن فساده.

قال أبو مسلم بعد أن اعترض أجوبة غيره في معنى هذه الحروف :

«والذي عندنا في هذه الحروف أنّ حروف المعجم لمّا كانت أصل كلام العرب الذي منها يبنى ويؤلّف ، افتتح الله تعالى السورة بهذه الحروف المقطّعة

٢٨٣

التي هي حروف العرب ، المبني منها كلامه ، أوردها في أوائلها ، تسكينا للعرب بما لزمهم من الحجّة وظهر منهم من المعجز.

كأنّهم خوطبوا فقيل لهم : يا أيها الكافرون بما أنزل على محمّد هذا الذي زعمتم أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... (١) الله كلام بني من حروفكم وكتابكم وبلغتكم المتداولة بينكم لا (٢) ... ومعانيه وطرقه وبيانه معاني كلامكم وطرائقكم ومذاهبكم ، قد دعيتم إلى الاتيان بمثله ومثل أقل سورة منه فعجزتم ، فلو كان كما تزعمون لكنتم قادرين على مثله». وأطنب في هذا الكلام وأسهب وذهب كل مذهب.

وهذا الوجه غير سديد ولا مرضي ؛ لأنّ القوم كانوا يعرفون أنّ القرآن مبني من حروف المعجم ومركّب منها ضرورة عند سماعه وإدراكه ، ولا يحتاجون إلى أن يقدّم لهم في أوائل السور حروف تدلّ على أنّ الكلام الذي أنزله مبني منها.

فإن كان المراد بتقديم هذه الحروف الدلالة على أنّ القرآن مركّب منها ، فذلك مستغنى عنه بما ذكرناه ، وإن كان للتبكيت والتقريع من حيث عجزوا عن الاتيان بمثله وهو مركّب منه ، فهذا التقريع أيضا ليتمّ مع القاء هذه الحروف ؛ لأنّ المعلوم الذي لا اشكال فيه أنّ القرآن من هذه الحروف مركّب ، وأنّهم إذا عجزوا عن معارضته ومقابلته ، فقد عجزوا عن تجانس كلامهم.

وليس ينبغي أن يعتمد على هذا الجواب الذي ذكرناه مستضعفا له.

وممّا قيل في هذه الحروف أنّها منبئة عن أسماء الله تعالى ، فقالوا : «الم» أنا الله ، وفي «الر» أنا الباري ، وفي «المص» أنا الله الصادق ، وفي «كهيعص» الكاف من كريم والعين من عليم والصاد من صادق والهاء من هادي ، وهذا حكي عن جماعة من المفسّرين.

وهو وجه باطل لا خفاء في بطلانه ؛ لأنّه رمز والغاز لا يدلّ ظاهر الكلام

__________________

(١) كذا ، والظاهر : افترى على.

(٢) كذا والظاهر : لا من غيره.

٢٨٤

عليه ، ولو أنّ أحدنا نطق بحرف من هذه الحروف وأراد الاشارة به إلى ... الحروف (١) ، لعذر أمر ملغز ولكان مذموما.

وبعد فليس المناسب للحروف (٢) المخصوص إلى كلمة مخصوصة تشتمل عليه وعلى غيره ، بأولى ممّن نسبه إلى غير تلك الكلمة ممّا يشتمل على تلك الحروف ، وهذا يقتضي أن لا يستقرّ لهذه الحروف معنى من المعاني معقول ، والله تعالى يجلّ من أن يتكلّم بما لا معنى له.

وممّا قيل في ذلك أيضا : أنّ هذه الحروف تقطيع لاسم الله تعالى.

وهذا أيضا باطل ؛ لأنّه لا يخرج عن أن يكون خطابا بما لا يعقل ولا يفهم معانيه.

فأمّا المتشابه فعندنا أنّ الله تعالى وإن علم تأويله والعلماء أيضا يعلمون مثل

ذلك ، والأية التي يتعلّق بها في هذا الباب من قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) (٣) فنحن نبيّن تأويلها عند البلوغ إليها ونذكر أنّ المراد بخلاف ما ظنوه بإذن الله تعالى (٤).

وممّا قيل في ذلك أيضا : أنّ المشركين كانوا تواصوا بأن لا يصغوا إلى القرآن وأن يلغوا فيه ويعرضوا عنه ، فافتتح كلامه جلّ وعزّ بهذه الحروف المنضمّة ليسمعوها فيصغوا إليها ، مستدعين لها متعجبين من ورودها ، فيرد عليهم بعدها من الكلام ما يحتاجون إلى استماعه وفهم معانيه ، حتى يصير ما قدّمه داعيا إلى الاستماع والاصغاء ، داعيين إلى الفهم والقبول.

وهذا ليس بشيء ؛ لأنّ الخطاب والكلام ممّا لا يحسن إلّا للفائدة التي لا تفهم إلّا به ، ولا يجوز أن يقوم فيه الأغراض المختلفة مقام الافادة ، فلا يجوز أن يخاطبهم بما لا فائدة فيه ، حتى يحثهم ذلك إلى استماع الكلام المفهوم ؛ لأنّ الكلام ممّا لا يفيد وجها في قبحه.

__________________

(١) كذا. والظاهر : إلى معاني هذه الحروف.

(٢) كذا والظاهر : للحرف.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٧.

(٤) سيأتي تفسيرها نقلا عن الأمالي.

٢٨٥

ولا يجوز أن يخرجه عن هذا الوجه ممّا فيه من الوجوه المستحسنة ، على أنّه إذا كانوا إنّما يلغون في كلامه ويعرضون عن بيانه عنادا عصبية ، فليس بنافع أن يقوم أمام كلامه هذه الحروف ، إذا أورد عليهم بعدها الكلام المتضمّن للأمر والنهي والإخبار ، عدلوا عن استماعه ولغوا فيه وصار ما أورده من المقدّمة عارا أو نقصا لا يجر نفعا ، ويجعلونه من أو كد الحجّة عليه ؛ لأنّهم كانوا يقولون له : أنت تزعم أنّ الكتاب الذي جئت به بلساننا ولغتنا ، وقد قدّمت فيه ما لا نعرف تألفه ولا نتخاطب بمثله.

وقد قيل أيضا : إنّ معنى تقديم هذه الحروف لافتتاح الكلام وابتدائه ، كقول القائل مبتدءا : ألا ذهب ، وكقوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (١) وكقوله «عزوجل» (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) (٢) وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) (٣) ف «ألا» زائدة بلا اشكال ؛ لأنّها لو حذفت من الكلام لم يتغيّر فائدته ، وقد قال الشاعر :

ألا زعمت بسياسة القوم انّني

كبرت وألّا يشهد اللهو أمثالي

ونظائر ذلك كثيرة.

وهذا ليس بشيء لأن لفظة «ألا» معروفة في لغة العرب ، وإنما هي موضوعة في هذه المواضع للافتتاح ، ولا نعرف أحدا منهم افتتح كلاما بالحروف المقطّعة على وجه من الوجوه.

فكأنّ هذا القائل يقول : إذا كانت لفظة «ألا» وهي كلمة مبنيّة مؤلّفة على بناء سائر الكلام بما جعلوه للافتتاح ، فألّا جاز أن يجعل الحروف المقطوعة التي ليست بهيئة موضوعة هذا الموضع ، ولا شبهة في فساد هذا الضرب من القياس في اللغة ، وأنّه لا يعرف فيها وخروج عن حدّها.

__________________

(١) سورة الشورى الآية : ٥٣.

(٢) سورة فصلت الآية : ٥٤.

(٣) سورة هود الآية : ٥.

٢٨٦

وممّا قيل في ذلك أيضا : إنّ الافتتاح بهذه الحروف يجري مجرى المروي من العرب من قولهم :

جارية وعدتني أن يدهن رأسي

ويعلى اوما ويمسح العنقا حتى بينا (١)

وكقول الآخر :

قلنا لها قفي قالت قاف

لا يحيي انا نسينا الا يخاف (٢)

وكقول الآخر :

بالخير خيرات وانشرافا

ولا أريد الشرارثا (٣)

وهذا أيضا ليس بشيء.

والذي ذكروه من العرب إنّما هو على سبيل الايجاز والاختصار والحذف الذي يغني فيه عن تمام الكلام معروفة القصد والإشارة إليه.

وليس هذا ممّا كنّا فيه بسبيل ؛ لأنّ قول القائل : «وعدتني ارثا» (٤) أي تمسح رأسي.

وأمّا قوله : «قالت قاف» فمعناه وقفت ، كذلك قوله «وانشرافا» أي فتيرا (٥).

وقوله «إلا إن شاء» (٦) فحذف بعض الكلام لدلالة الباقي عليه وعلم المخاطب به وكلّ هذا غير موجود في الحروف المقطّعة ، فكيف تجعل شاهدا عليها.

__________________

(١) كذا في المطبوعة وفي شرح الرضي ، ٤ : ٢٦٦ :

قد وعدتنى أم عمر وأن تا

تدهن رأسي وتلفيني وا

وتمسح القنفا حتّى تنتا

(٢) كذا في المطبوعة وفي شرح الرضي ، ٤ : ٢٦٤ :

قلت لها قفى فقالت قاف

لا تحسبى انا نسينا الإيجاف

(٣) كذا في المطبوعة وفي شرح الرضي ، ٤ : ٢٦٧ :

بالخير خيرات وان شرا فأا

ولا اريد الشر ولا أن تاا

(٤) كذا في المطبوعة والصحيح «وعدتني أن تا» كما في شرح الرضي.

(٥) كذا في المطبوعة والصحيح «وان شرفأا» يريد فشر أو يريد إلّا أن تريد ، كما في شرح الرضي.

(٦) كذا في المطبوعة والصحيح «إلّا ان تاا» كما في شرح الرضي.

٢٨٧

وممّا قيل في ذلك أيضا : إنّ الله تعالى علم أن سيكون في هذه الأمّة مبتدعون يذهبون في القرآن المسموع المقرؤ ، بأنّه ليس بكلام الله تعالى ، وأنّ كلامه على الحقيقة غيره ، فأراد تعالى بذكر هذه الحروف التنبيه على أنّ كلامه هذه الحروف ، وأنّ ما ذهبوا إليه من أنّ كلامه تعالى غير هذا المسموع باطل مضمحل.

وهذا أيضا ليس بشيء ؛ لأنّ من ذهب إلى أنّ كلامه تعالى ليس حقيقة (١) في ذاته بما يسمع ويقرأ ، وجعل هذا القرآن عبارة وعلّة وحكاية على اختلاف عباراتهم لا بحجة (٢) ويبطل قوله أن يورد عليه هذه الحروف المقطّعة ، فانّه إذا جاز أن يقول في المركّب من هذه الحروف أنّه غير المسموع وأنّه في النفس ، جاز أن يقول في المفرد مثل ذلك ، فإنّ الشبهة في الامرين قائمة ، وإنّما يزال إذا أزيلت بغير هذه الطريقة.

وقيل في ذلك : إنّ الله تعالى أقسم بهذه الحروف لعظمتها وجلالتها وكثرة الانتفاع (٣) بها ، وأنّها مباني أسمائه الحسنى ، وبها أنزل تحيّته على أنبيائه ، وعليها تدور اللغات على اختلافها ، فكأنّه تعالى قال : وحروف المعجم فقد بيّن لكم السبل وأنهج الدلالة ، فحذف جواب القسم لعلم المخاطبين به ؛ ولأنّ قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) يدلّ على الجواب ويكفي منه ، ويجري مجرى قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (٤) في أنّ جواب القسم محذوف ، والتأويل والنازعات غرقا لتبعثنّ أو لتعرضنّ على الله ، فحذف الجواب ؛ لأنّ قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (٥) يدلّ عليه ، وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (٦) و (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (٧) ؛ فحذف الجواب إذا كان عليه دالّ سائغ في اللغة.

وإن كان بعض النحويين قد ذهب إلى أنّ جواب (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (قُتِلَ

__________________

(١) في الهامش : حقه.

(٢) ظ : لا يحجه.

(٣) في الهامش : الانقطاع.

(٤) سورة النازعات ، الآية : ١.

(٥) سورة النازعات ، الآية : ١١.

(٦) سورة البروج ، الآية : ١.

(٧) سورة الشمس ، الآية : ١.

٢٨٨

أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (١) ، معناه التقديم ، وهو الجواب على الحقيقة ، التقدير : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج.

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : لا يجوز إضمار اللام في الجواب المتأخّر ؛ لأنّ القائل إذا قال : والله زيد قائم ، لا يجوز أن يقول : والله زيد قائم ... اللام ؛ لأنّه لا دليل عليها.

وهذا الجواب أقرب إلى السداد من الأجوبة المتقدّمة ، وأشبه بأن يكون وجها تاليا للوجه الذي اخترناه قبل. وصلى الله على محمد وآله (٢).

ـ (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

[قال القاضي رادا على أن يكون قول النبيّ في أمير المؤمنين : «إمام المتّقين» نصّا على إمامته : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إمام المتّقين» أراد في التقوى والصلاح ، ولو أراد به الإمامة لم يكن إماما بأن يكون للمتقين بأولى من أن يكون إماما للفاسقين ، وعلى هذا الوجه خبّر جل وعزّ عن الصالحين أنّهم سألوا الله عزوجل في الدعا «واجعلنا للمتّقين إماما» وإنّما أرادوا أن يبلغوا في الصلاح والتقوى المبلغ الذي يتأسّى بهم (٣).

قال السيّد : أما قول أبي عليّ] فتأويل باطل ؛ لأن حمل ذلك على أنه إمام في شيء دون شيء تخصيص ، ومذهبه الأخذ بالعموم إلا أن يقوم دليل ، على انا قد بيّنا فيما مضى إن معنى الإمامة وحقيقة هذه اللفظة والصفة تتضمن الاقتداء بمن كان إماما من حيث قال وفعل ، فإذا ثبت أنه إمام لبعض الأمة في بعض الأمور فلا بدّ من أن يكون مقتدىّ به في ذلك الأمر على الوجه الذي ذكرناه ، وذلك يقتضي عصمته ، وإذا ثبتت عصمته وجبت إمامته ؛ لأن كلّ من أثبت له العصمة وقطع عليها أوجب له الإمامة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

فأما تخصيص المتّقين باللفظ دون الفاسقين فلا يمتنع وإن كان إماما للكلّ ،

__________________

(١) سورة البروج ، الآية : ٤.

(٢) الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ إلى ٣٠٥.

(٣) المغني ، ٢٠ : ١٩١.

٢٨٩

كما قال تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وإن كان هدى للكل ، فإن حمل ذلك على أن المتّقين لما انتفعوا بهدايته ، ولم ينتفع بها الفاسقون جاز هذا القول (١) ، وهذا كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٢) وقوله جلّ وعزّ (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) (٣) [ولي في قصيدة :]

فقلت لهم إنّما يعذل المشي

ب على الغي من يقبل

أي ينتفع بعذله من يقبل ، وجعلت من لم ينتفع بالعذل كانه غير معذول (٤) وكان لنا أن نقول مثل ذلك في قوله : «إمام المتّقين» ولا وجه يذكر في اختصاص لفظ الآية مع عموم معناها إلا وهو قائم في الخبر.

فأمّا دعاء الصالحين بأن يجعلهم الله للمتّقين إماما ، فقد يجوز أن يحمل على أنّهم دعوا بأن يكونوا أئمّة يقتدى بهم الاقتداء الحقيقي الذي بيّناه فهذا غير ممتنع ، ولو صرنا إلى ما يريده من أنّهم دعوا بخلاف ذلك لكنا إنّما صرنا إليه بدلالة ، وإن كانت حقيقة الإمامة تتضمّن ما قدّمناه من معنى الاقتداء المخصوص وليس العدول عن بعض الظواهر لدلالة تقتضي العدول عن كلّ ظاهر بغير دلالة (٥).

ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨].

اعلم أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، ولا اعتبار بما يجري على اللسان ممّن كان عارفا بالله تعالى وبكلّ ما أوجب معرفته مقرّا بذلك مصدّقا فهو مؤمن.

والكفر نقيض ذلك ، وهو الجحود في القلب دون اللسان لما أوجب الله تعالى المعرفة به ، ولا بدّ بدليل شرعي من أن يستحقّ به العقاب الدائم الكبير على ما تقدّم ذكره.

وإلى هذا المذهب ذهبت المرجئة ، وان كان فيهم من ذهب إلى أن الإيمان

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ١١٨.

(٢) سورة النازعات ، الآية : ٤٥.

(٣) سورة يس ، الآية : ١١.

(٤) الرسائل ، ٤ : ٢٢٧ بتصرّف يسير اقتضاه السياق.

(٥) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ١١٨.

٢٩٠

هو التصديق باللسان خاصّة ، وكذلك الكفر هو الجحود باللسان ، والفسق كلّ ما خرج من طاعة الله تعالى إلى مخالفته ، ومنهم من ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا ، وقال في الكفر إنّه الجحود بهما.

وقالت المعتزلة : الإيمان اسم الطاعات ، ثمّ اختلفوا فقال واصل بن عطا وأبو الهذيل العلّاف وأصحابهما : أنه اسم لكلّ طاعة من الفرائض والنوافل ، وقال أبو هاشم وأبو عليّ وأكثر المعتزلة : إنّ الإيمان اسم للواجب من الطاعات دون النفل ، وعندهم أن الإيمان والإسلام والدين واحد متّفق في الفائدة.

والفسق عندهم اسم لما استحقّ به العقاب ، وليس كلّ معصية فسقا ؛ لأن الصغائر المكفّر عقابها لا يسمّونها فسقا ، والكفر عندهم اسم لما استحقّ به عقاب عظيم ، واجريت على فاعله أحكام مخصوصة ، وعندهم أن مرتكب الكبيرة فاسق ليس بمؤمن ولا كافر.

فأمّا الخوارج فإنّهم يقولون في الإيمان بما يضاهي قول المعتزلة ، لكنّهم يقولون : إنّ المعاصي الّتي يفسق فاعلها بفعلها كفر. وفيهم من أطلق على فاعلها أنه مشرك ، والفضيلية منهم تسمّي كلّ من عصى الله تعالى بمعصية كبيرة كانت أو صغيرة كافرا مشركا.

فأمّا الزيديّة فإنّهم يجعلون الكبائر كفر نعمة ، ولا يجعلونها جحودا ولا شركا.

والّذي يدلّ على صحّة ما اخترناه أن الإيمان في اللغة هو التصديق وليس باسم الجوارح. وهذا ممّا لا خلاف فيه ولا شبهة ، وإنّما ادعى قوم في هذه اللفظة النقل.

ويشهد بأن معناها في اللغة ما ذكرناه قولهم : فلان يؤمن بالمعاد وفلان لا يؤمن بكذا ، أي لا يصدّق به ، وقال الله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١). وإذا ثبت ذلك ولم يقم دليل على انتقال هذه اللفظة إلى غير معناها في اللغة ، وجب أن يكون في معناها على مقتضى اللغة.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ١٧.

٢٩١

وان شئت أن تقول : إنّ الله تعالى إنّما خاطب العرب بلغتها ولسانها فقال عزّ من قائل : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (١) ، وقال جلّ اسمه : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢) ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٣) وظاهر هذه الآيات كلّها يقتضي أن اسم الإيمان واقع على ما تعهده العرب وتعرفه اسما له.

فإذا قيل : فقد ثبت بعرف الشرع معاني أسماء لم توضع لها في أصل اللغة.

قلنا : في المرجئة من لا يسلّم ذلك ، ومن سلّمه قال : إنّما علمت ذلك بدليل أخرجته من عموم هذه الآيات ، ولا دليل في الإيمان وما أشبهه ممّا فيه الخلاف.

فإن قيل : هذا يقتضي تسمية كلّ تصديق بأنه إيمان وكلّ مصدّق بأنه مؤمن بلا تقييد ؛ فإنّ اللغة هكذا يقتضي ، وإذا قلتم : إنّ الإيمان إذا أطلق أفاد التصديق بالله تعالى وبما أوجب الاعتراف به ، وامتنعتم من إطلاقه في غير هذا الموضع واستعملتموه فيه مقيّدا فقد خالفتم اللغة ، ولزمكم كلّ ما ألزمتموه مخالفكم من العدول عن ظاهر الآيات الدالّة على أن القرآن عربي ونازل بلغة العرب.

قلنا : عرف الشرع أثر في إطلاق اسم إيمان ومؤمن ، وخصّ هذا العرف هذين الاسمين بتصديق مخصوص ، ولم ينتقل هذان الإسمان عمّا وضعا له في أصل اللغة على ما يذهب إليه مخالفنا ، وإنّما تخصّصا وجرى ذلك مجرى تخصيص العرف لقولنا : «دابّة» وانصرافه إلى بعض ما يدبّ بعد أن كان في أصل الوضع مسمّى به كلّ ما دبّ ، وليس هذا بنقل اللغة وإنّما هو تخصيص.

ولقائل أن يقول : هذا وإن لم يكن نقلا على ما ذكرتم وكان تخصيصا ، فهو خلاف مذهب أهل اللغة ، ومخرج للقرآن من أن يكون عربيا وبلغتهم وعلى طريقتهم ومذاهبهم.

والجواب عن ذلك ـ إذا لم نضايق في أن النقل هو الّذي يخرجه من اللغة

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٢٨.

(٢) سورة الشعراء ، الآية : ١٩٥.

(٣) سورة إبراهيم ، الآية : ٤.

٢٩٢

والتخصيص لا يخرجه منها ـ أن يقول : إنّما خصصنا هذه اللفظة في إطلاقها ببعض ضروب التصديق وجعلناها مقيّدة إذا استعملت في غير ذلك الموضع بدليل ـ وهو العرف الشرعي ـ لامتناع كلّ مسلم من أن يطلق في عابد الوثن بأنه مؤمن ، وفي التصديق بالجبت والطاغوت أنه إيمان ، فمن ادّعى أن الإيمان منقول عن التصديق جملة فعليّة الدلالة.

ووجدت بعض من ينصر خلافنا في هذا الموضع يقول : في استعمال اللفظة في غير ما وضعتها العرب ليس بخروج عن اللغة ، ويراعى في إضافة اللفظه إلى اللغة صيغتها دون المقصود بها.

وبطلان هذا القول لا نحيله على أحد ؛ لأنه لو كان من عبّر ببعض ألفاظ العرب عن غير ما وضعوه له وفيما لم يستملوه فيه لا حقيقة ولا مجازا مخاطبا بلغتهم ، لوجب أن يكون هذه حاله وان فعل ذلك في جميع ألفاظهم حتّى يكون متكلّما بلسانهم ، ومخاطبا بلغتهم وان لم يستعمل شيئا من ألفاظهم فيما وضعوه له ، وبطلان ذلك أظهر من أن يخفى.

على أن اللفظة الواحدة الّتي لها صيغة مخصوصة قد يكون لها معنى في لغة العرب ، ومعنى آخر يخالفه في لغة العجم ، فلو كان المراعى في إضافة الخطاب إلى اللغة مجرد الصيغة لوجب أن يكون المستعمل لهذه اللفظة إذا أراد بها أحدم عنييها ما ليس ، بأن يكون متكلّما باللغة العربية أولى من لغة العجميّة ، وهذا يوجب أن يكون متكلّما باللغتين باللفظة الواحدة في الحقيقة الواحدة.

فإن قيل : ليس يعرف أهل اللغة التصديق إلّا باللسان ، ولا يعرفون تصديقا بالقلب ، وإذا جعلتم لفظة «إيمان» و «مؤمن» يرجع التصديق بالقلب فقد خرجتم عن اللغة كما عبتم على مخالفيكم.

قلنا : التصديق بالقلب واللسان جميعا هو مقتضى اللغة والحقيقة فيها ؛ لأنهم يصفون الأخرس بأنه مصدّق وان كان لا يقدر على الكلام ، والساكت وان كان في الحال غير متكلّم ويقولون : فلان يصدق بكذا ولا يصدق بكذا ولا يؤمن بكذا ، ولا يريدون إلّا ما يرجع إلى قلبه دون لسانه.

٢٩٣

فإن قيل : فلم جعلتم الاعتبار بما في القلب دون اللسان وإن كانا معا تصديقين؟

قلنا : لأنه لو كان هو ما يجري على اللسان لوجب أن يكون الأخرس والساكت في حال سكوته لا يوصفان بالإيمان والتصديق ، وقد علمنا خلاف ذلك ، ولوجب أن يكون من أظهر التصديق بلسانه وفعل كلّ شيء في الكفر ، وعلمنا اعتقاده للجهل بالله تعالى والتكذيب بما أوجب معرفته غير كافر ، وأن يكون المنافقون الّذين كانوا على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمنين غير كفّار وان كانوا مقرّين بألسنتهم وان جحدوا بقلوبهم ، يبيّن ذلك قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) فكذبهم مع إظهارهم الشهادة باللسان من حيث لم يكونوا معتقدين بقلوبهم.

فإن قيل : هذا المذهب يقتضي أن يكون السجود للشمس ليس بكفر ؛ لأنه ليس بجحود ولا تكذيب ، وقد اجتمعت الأمّة على تكفير من سجد للشمس ، ووصف فعله بأنه كفر.

قلنا : لا شبهة في وصف من سجد للشمس بأنه كافر ، والإجماع أن سجوده هو الكفر ، وكيف يدعى الإجماع في موضع فيه خلاف جميع المرجئة ، ونحن نقول فيمن ذكرتموه : إنّه كافر ونقطع على أن معه تكذيبا وجحودا في قلبه ، وأنه لا إيمان ولا تصديق في قلبه ؛ لأنه لو لم يكن بهذه الصفة لما اجتمعت الأمّة على تكفيره ، فنجعل السجود دلالة على ثبوت الجحود والتكذيب في قلبه.

ونظير ذلك رجل شهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه مستحقّ للذمّ والعقاب ، فانا عند معرفتنا بهذه الشهادة نقطع على استحقاقه للذمّ والعقاب ، لا لأن الشهادة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الموجبة لاستحقاقه الذمّ ، لكنّها دلالة على ثبوت ما يقتضي استحقاق الذمّ.

فإن تجوّز بأن يقول : السجود للشمس وما أشبهها بأنه كفر ؛ فإنه سمّى

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ١.

٢٩٤

الدلالة باسم المدلول عليه للتجاوز بينهما ، وقد يتجوّز بأن يقال فيمن شهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقاب : ان الشهادة اقتضت عقابه ، وإنّما هي دلالة على المقتضي للعقاب على الحقيقة ، فأقام الدلالة مقام المدلول ، ولهذه المسألة نظائر يسألوننا عنها.

والجواب عن الجميع واحد لا يختلف ، مثل قولهم : خبرّونا عن رجل صدّق بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأكثر ما نزل من القرآن ، ثمّ كذّب بآية واحدة من جملته ، أليس يجب على قولكم أن يكون مؤمنا بما تقدّم من إيمانه كافرا بردّ الآية ؛ لأن ما تقدّم من الإيمان ليس ينتفي بردّ الآية ، وردّ الآية كفر بالإجماع؟

ومثل قولهم : قد يجوز أن يكون بعض من آمن بعيسى عليه‌السلام يبقى إلى حال بعثة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويجوز أن يكذّبه عليه‌السلام ، وهذا يقتضي أن يكون مؤمنا كافرا.

فإذا قلتم : متى جحد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدّ من أن يكون جاحدا بعيسى عليه‌السلام ، وقيل لكم : ولم يجب ذلك والأدلّة مختلفة ، وقد يجوز أن يستدلّ ببعضها ويعلم به من يشتبه عليه الآخر؟

وجوابنا عن جميع ذلك ما أشرنا إلى الطريقة فيه ؛ لأن الرادّ للآية إذا علمناه كافرا بالإجماع علمنا به أنه لا إيمان معه ، وأن الّذي تقدّم من إظهار ما أظهره ليس بإيمان على الحقيقة ، وكذلك المكذّب بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا علمناه فاعلا للكفر بهذا التكذيب دلّنا ذلك على أن الإيمان لم يقع منه في حال من الأحوال.

وممّا استدلّت به المرجئة متعلّقا على أن الطاعات ليست بإيمان قولهم : لو كانت كلّ طاعة إيمان أو بعض الإيمان لكانت كلّ معصية كفرا أو بعض الكفر ، ولو كان كلّ ما أمر الله تعالى به إيمانا لكان كلّ ما نهى عنه كفرا ، ولو جاز أن يكون من الإيمان ما ليس تركه كفرا لجاز أن يكون من الكفر ما ليس تركه إيمانا.

وقالوا أيضا : لو كانت الطاعات كلّها أيمانا لم يكن لأحد من البشر كامل الإيمان والأنبياء صلوات الله عليهم ؛ لأنهم لم يستكملوا جميع الطاعات ،

٢٩٥

وكذلك لو كانت المفترضات من الطاعات هي الإيمان لوجب أن يكون من فعل من الأنبياء صلوات الله عليهم صغائر المعاصي غير كامل الإيمان ؛ لأنه قد أخلّ بفرض ، وهو الكفّ عن المعصية.

واستدلّوا أيضا على أن المعاصي لا تنافي الإيمان بقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (١) ، وبقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) (٢) فأخبر أنهم مؤمنون وان لم يهاجروا ، وبقوله تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) (٣) ، واشترط مع الإيمان عمل الصالحات ، وهذا يدلّ على أنه قد يكون مؤمنا وان لم يعمل الصالحات ، وقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (٤) ، فسمّاهم في حال البغي والمعصية أخوة المؤمنين ، وبقوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)) (٥) ، فخبّر بكراهية الحق والجدال فيه بعد وضوحه مع تسميتهم بالإيمان.

وقد استدلّت المعتزلة على ما تذهب إليه بأشياء :

منها : أن قولهم : «مؤمن» لو لم يكن منقولا عمّا كان عليه في اللغة وكان على حاله فيها ، لما صحّ أن يسمّى به بعد تقض الفعل الّذي اشتقت منه مقيّدا بالحال ، قد يقال : «هو مؤمن اليوم» كما لا يقال فيمن ضرب أمس : «فهو ضارب اليوم» ولم يوجد في اليوم ضرب.

ومنها : أنهم يزيلون هذا الاسم عن المنافق وان كان مصدّقا بلسانه ، وعلى هذا الظاهر يعلم أنه غير موضوع للتصديق.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية : ٨٢.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٧٢.

(٣) سورة طه ، الآية : ٧٥.

(٤) سورة الحجرات ، الآيتان : ٩ ـ ١٠.

(٥) سورة الأنفال ، الآيتان : ٥ ـ ٦.

٢٩٦

ومنها : أنه كان يجب أن لا يوصف من هو في زمان مهلة النظر بأنه مؤمن ؛ لأنه في تلك الحال غير مصدّق بالله تعالى ولا عارف به.

ومنها : أنه كان يجب أن يوصف المصدّق بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه كامل الإيمان ، وان أخلّ بجميع الواجبات وأقدم على المحرّمات.

ومنها : قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) (١) ، قالوا : قال تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) راجع إلى جميع ما تقدّم ، فيجب أن يكون ذلك كلّه دينا ، والدين هو الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢) والإسلام والإيمان يفيدان فائدة واحدة بدلالة قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (٣) ، فلو كان الإيمان غير الإسلام لكان غير مقبول ممّن ابتغاه دينا ؛ ولأنه تعالى استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)) (٤).

ومنها : قوله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) (٥) ، فدلّ ذلك على أن الفسق لا يصاحب الإيمان.

ومنها : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٦) ، وإنّما عنّي صلاتهم إلى بيت المقدس.

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (٧).

فيقال لهم في الأوّل ممّا اعتمدوا : إنّما أجرى على المؤمنين هذه اللفظة

__________________

(١) سورة البيّنة ، الآية : ٥.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٩.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٨٥.

(٤) سورة الذاريات الآيتان : ٣٥ ـ ٣٦.

(٥) سورة الحجرات ، الآية : ١١.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ١٤٣.

(٧) سورة الأنفال ، الآيات : ٢ ـ ٤.

٢٩٧

مضافا إلى الحال ؛ لأنه فاعل الإيمان الّذي هو التصديق في هذه الحال ، فما خرج عن موجب الاشتقاق ، وإنّما قلنا ذلك ؛ لأن التصديق بالقلب هو المعرفة والعلم ، والصحيح فيه أنه لا يبقى وهو مجدّد له في كلّ حال.

والجواب عن الثاني : أن المنافق ليس بمصدّق لا يجب عليه التصديق به تقليد ، وإنّما يقول ذلك بلسانه ، وقد تقدّم أن المعوّل في ذلك على ما يكون في القلب دون اللسان.

والجواب عن الثالث : أن من هو في مهلة النظر وان لم يكن كونه عارفا بالله تعالى ، فإنّه في هذه الحال إذا كان مصدّقا بقلبه عارفا بما يجب عليه في هذه الحال معرفته من الأحكام العقليّة فهو مؤمن ؛ لأنه عارف لكلّ ما يجب معرفته في هذه الحال.

والجواب عن الرابع : انا نصف من كان مصدّقا بالله تعالى بقلبه عارفا بكلّ شيء يجب عليه معرفته بأنه كامل الإيمان وان فعل القبيح ، وأخلّ بالواجب ، وهل الخلاف منّا إلّا في هذا الموضع.

والجواب عن الخامس : أنا لا نسلّم اقتضاء ظاهر الكلام رجوع لفظه «ذلك» إلى جميع ما تقدّم ، بل رجوعها إلى الكلّ أو البعض ممّا يعلم بدليل ، على أنه لو سلّم رجوعها بالظاهر إلى الكلّ لجاز ترك الظاهر ؛ ليسلم ظاهر قوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١) ، وقوله جلّ اسمه : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٢) وما أشبه ذلك من القرآن ، وليس ترك أحد الظاهرين ليسلم الآخر بأولى من ذلك في صاحبه.

على أنه إذا جاز منه تعالى أن يحدث ما ليس في اللغة فيسمّي بالإيمان ما لا تعرفه العرب أيمانا ، جاز أن يحدث في الردّ ورجوعه إلى كلّ ما تقدّم أو بعضه ما لا يعهد في اللغة ، وأيّ فرق بين الأمرين؟

وبعد ، فإن لفظة «ذلك» عبارة عن الواحد فكيف يكون عبارة عن جميع ما

__________________

(١) سورة الشعراء. الآية : ١٩٥.

(٢) سورة الزخرف ، الآية : ٣.

٢٩٨

تقدّم ، والأولى أن يكون المراد : وذلك الإخلاص دين القيّمة. والعبادات الّتي تقدّم ذكرها إنّما يشار إليها بلفظة «تلك» ، فكان يجب أن يقول وتلك دين القيمة.

فإذا قالوا : أراد بذلك الّذي أمرتم به ، والمعنى الّذي أمرتم به دين القيّمة ، لدلالة لفظة «وما أمروا» على الّذي أمرتم به.

قلنا : إذا أخرجنا عن الظاهر واحتجنا إلى الاضمار ، لم تكونوا باضمار ما ذكرتموه أولى منّا باضمار ما ذكرناه من الإخلاص والتدين ، ويرجّح قولنا على قولكم ؛ لأنا نضمر ما لا يخرج معه لفظ «الإيمان» عن موجب اللغة ، وأنتم بخلاف ذلك.

على أنه قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١) فيجب على ما قلتموه أن يكون عدّة الشهور من الدين.

فإذا قلتم : الدين القيّم يرجع إلى التدين بما ذكره لا إليه نفسه.

قلنا : مثل ذلك فيما تعلقتم به من الآية.

على أن من قال من خصومنا إن الإيمان يختصّ بالمفروض من الطاعات دون النفل يترك ظاهر هذه الآية ؛ لأن قوله تعالى : (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) (٢) يعمّ الفرض والنفل ، فإذا جاز أن ترد لفظة «ذلك» إلى بعض ما تقدّم دون بعض جاز لنا مثل ذلك ، وسقط الاستدلال.

والجواب عن السادس : أن قوله تعالى بعد الإيمان لا يدلّ على بطلان حكم الإيمان وارتفاع التسمية به ، وقد قال الله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٣) ومعلوم أن التفرّق لما حدث بعد البيّنة لم يبطل حكم البيّنة ، بل كانت ثابتة على ما كانت عليه ، وإنّما أراد تعالى بعد مجئ البيّنة ، وقد يقول أحدنا : «عرفت زيدا بعد معرفتي بعمرو» «جاءني فلان بن

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٣٦.

(٢) سورة البيّنة ، الآية : ٥.

(٣) سورة البيّنة ، الآية : ٤.

٢٩٩

فلان» ، ولا يقتضي كلامه أن معرفة زيد دلّت عند معرفة عمرو ، وأنّ مجيء فلان نفي مجيء فلان.

على أن هذا الاستدلال مبنيّ على القول بالعموم ، ونحن نخالف فيه. وإذا جاز أن يكون لفظ «الفسوق» مخصوصا جاز حمله على الفسق الّذي هو الكفر.

وإذا سلّمنا أن لفظة «بعد» تقتضي زوال حكم الأوّل لم يكن أيضا في الآية لهم حجّة ؛ لأنه إذا زال حكم الإيمان واسمه بحدوث الفسق فذلك الفسق كفر وهو بئس الاسم.

والجواب عن السابع : انا لا نسلّم أن المراد بلفظ «إيمانكم» الصلاة إلى بيت المقدس ، وإنّما أراد به التصديق الذي لا يعرف القوم في الإيمان سواه ، والقرآن غير ناطق بأن الإيمان المراد به الصلاة ، ولا معول في مثل ذلك على أخبار آحاد تروى فيه. وإذا صرفنا ذلك للرواية إلى الصلاة إلى بيت المقدس جاز أن يكون المراد التصديق أو التدين بتلك الصلاة.

والجواب عن الثامن : أن الآية لا تقتضي نفي اسم الإيمان عمّن لم يكن بالصفات المذكورة فيها ، وإنّما تقتضي التفصيل والتعظيم ، فكأنه تعالى أراد إنّما أفاضل المؤمنين وخيارهم من فعل كذا وكذا ، كما يقول أحدنا : «إنّما الرجل من يضبط نفسه عند الغضب» ، وان كان من لا يفعل ذلك لا يخرج من أن يكون رجلا ، وان خرج عن الفضل والتقدّم ، وكذلك يقولون : «إنّما المال التبر» و «إنّما الظهر الإبل» ، ويريدون به التفضيل ولا يريدون سواه.

وبعد ، ولو سلّمنا للقوم على غاية اقتراحهم أن اسم «الإيمان» و «مؤمن» يفيدان المدح واستحقاق الثواب ، وانهما منقولان عن وضع اللغة ، لكان لنا أن نقول لهم : يجب أن يجري ذلك على الفاسق الملي ؛ لأنه عندنا مستحقّ المدح والثواب بما معه من الإيمان والمعرفة بالله تعالى والطاعات ، وأنّما بنى خصومنا امتناعهم من وصف الفاسق الملي بالإيمان على مذاهبهم في أنه محبط الثواب والمدح ودائم الذمّ ، وقد بيّنا بطلان التحابط.

فأمّا الكلام على الخوارج في تكفيرهم كلّ عاص. فواضح ، لأن الكفر

٣٠٠