تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

وممّا يسقط التعلّق بالآية أيضا أن قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ) يقتضي حصول كلّ واحد منهم بهذه الصفة ؛ لأنّ ما جرى هذا المجرى من الأوصاف لا بدّ أن يكون حال الواحد فيه كحال الجماعة ، ألا ترى أنّه لا يسوغ أن يقال في جماعة : إنّهم مؤمنون إلّا وكلّ واحد منهم مؤمن؟ ، فكذلك لا يسوغ أن يقال : انّهم شهداء إلّا وكلّ واحد منهم شهيد ؛ لأنّ شهداء جمع شهيد ، كما أنّ مؤمنين جمع مؤمن ، وهذا يوجب أن يكون كلّ واحد منهم ـ أعني من الأمّة ـ حجّة مقطوعا على صواب فعله وقوله ، وإذا لم يكن هذا مذهبا لأحد ، وكان استدلال الخصوم بالآية يوجبه فسد قولهم ، ووجب صرف الآية إلى جماعة يكون كلّ واحد منهم شهيدا وحجّة ، وهم الأئمّة عليهم‌السلام الّذين ثبتت عصمتهم وطهارتهم.

على أنّ الآية لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه فيها لا يقتضي كون جميع أقوال الأمة وأفعالها حجّة ؛ لأنها غير مانعة من وقوع الصغائر التي لا تسقط العدالة منهم ، فإن أمكن تمييز الصغائر من غيرها كانوا حجّة فيما قطع عليه ، وإن لم يمكن علم في الجملة أنّ الخطأ الذي يكون كثيرا ويؤثر في العدالة مأمون منهم ، وغير واقع من جهتهم ، وإن ما عداه يجوز عليهم ، فيسقط مع ما ذكرناه تعلّق المخالفين بالآية في نصرة الاجماع.

فأمّا قوله في نصرة هذه الطريقة : «أن كونهم عدولا كالعلّة والسبب في كونهم شهداء ، وأنّه قد صحّ في التعبّد أنّه لا يجوز أن ينصب للشهادة إلّا من تعلم عدالته ، أو يعرف بالأمارات التي يقتضي غالب الظنّ ، وصحّ أن من ننصبه بغالب (١) الظن إذا تولّى الله تعالى نصبه يجب أن يعلم من حاله ما نظنّه ، فإذا ثبت ذلك لم يخل من أن يكونوا حجّة فيما يشهدون أو لا يكونوا ، فإن لم يكونوا حجّة بطلت شهادتهم ؛ لأنّ من حقّ الشاهد إذا أخبر عمّا يشهد به أن يكون خبره حقّا ، وإن لم يجر مجرى الشهادة فلا بدّ من أن يكون قولهم وفعلهم صحيحا ، ولا يكون كذلك إلّا وهم حجّة ، وليس بعض أقوالهم وأفعالهم بذلك أولى من

__________________

(١) خ «لغالب».

٤٦١

بعض» (١) ، فلو سلم له جميع ما ذكره لم يلزم الاحتجاج به ، ولا أن يكونوا حجّة في جميع أقوالهم وأفعالهم ؛ لأن أكثر ما تدلّ عليه الآية فيهم أن يكونوا عدولا رشّحوا للشهادة ، فالواجب أن ينفى عنهم ما جرى شهادتهم ، وأثّر في عدالتهم ، دون ما لم يكن بهذه المنزلة.

وإذا كانت الصغائر على مذهب صاحب الكتاب غير مخرجة (٢) عن العدالة لم يجب بمقتضى الآية نفيها عنهم ، وبطل قوله : انّه ليس بعض أقوالهم وأفعالهم أولى من بعض» لأنّا قد بيّنا فرق ما بين الأفعال المسقطة للعدالة والأفعال التي لا تسقطها.

فأما قوله : «ويخالف حالهم حال الرسول عليه‌السلام لأنّ ما يجوز (٣) عليه من الصغائر لا يخرج ما يؤديه عن الله تعالى مما هو الحجّة فيه من أن يكون متميّزا ، فيصحّ كونه حجّة ، وليس كذلك لو جوّزنا على الأمة الخطأ في بعض ما تقوله وتفعله ؛ لأنّ ذلك يوجب خروج كلّ ما تجتمع عليه من أن يكون حجّة ؛ لأنّ الطريقة في الجميع واحدة» (٤) فيسقط بما ذكرناه ؛ لأنّه إذا كان تجويز الصغائر على الرسول لا يخرجه فيما يؤديه من أن يكون حجّة ، ويتميّز ذلك للمكلّف ، فكذلك إذا كانت الآية إنّما تقتضي كون الأمة عدولا فيجب نفي ما أثر في عدالتهم ، والقطع بانتفاء الكبير من المعاصي عنهم وتجويز ما عداها عليهم ، ولا يخرجهم هذا التجويز من أن يكونوا حجّة فيما لو كان خطأ لكان كبيرا ، وقد يصحّ تمييز ذلك على وجه ؛ فإنّ في المعاصي (٥) ما نقطع على كونها كبائر ، ولو لم يكن إلى تمييزه سبيل لصحّ الكلام أيضا من حيث كان الواجب علينا اعتقاد نفي الكبائر عنهم ، وتجويز الصغائر ، وإنّ شهادتهم بما لو لم يكن حقّا لكانت الشهادة به كبيرة لا تقع منهم وإن جاز وقوع ما لم يبلغ هذه المنزلة ، ويكون هذا الاعتقاد ممّا يجب علينا على سبيل الجملة ، وإن تعذر علينا تفصيل أعمالهم

__________________

(١) المغني ١٧ : ١٧٨ مع اختلاف يسير.

(٢) خ «غير مقتضية الخروج».

(٣) في المغني «لان ما نجوزه».

(٤) المغني ١٧ : ١٧٨.

(٥) خ «من المعاصي».

٤٦٢

وأحوالهم (١) التي يكونون فيها حجّة ممّا خالفهم لا سيّما وشهادتهم ليست عندنا فيجب علينا تمييز خطأهم من صوابهم ، وإنّما هي عند الله تعالى ، وإذا كانت عنده جاز أن يكون الواجب علينا هو الاعتقاد الذي ذكرناه.

فأمّا قوله : «وقد قيل (٢) : إنّ المراد بالآية ليس هو الشهادة في الآخرة ، وإنّما هو القول بالحقّ ، والإخبار بالصدق ، لقوله تعالى (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) (٣) وكلّ من قال حقّا فهو شاهد به ، وليس هذا من باب الشهادة التي تؤدى أو تتحمل بسبيل ، وإن كانوا مع شهادتهم بالحقّ يشهدون في الآخرة بأعمال العباد ، فيجب في كل ما أجمعوا عليه قولا واحدا أن يكون حقّا ، وفعلهم يقوم مقام قولهم فيجب أن يكون هذا حاله ؛ لأنّه إذا أجمعوا على الشيء فعلا وأظهروه إظهار ما يعتقد أنّه حقّ حلّ محل الخبر ، وهذا يوجب أنه لا فرق بين الكبير والصغير في هذا الباب (٤) فغير مؤثر فيما قدحنا به في الاستدلال بالآية بأنّ التعلّق من الآية إنما هو بكونهم عدولا لا بلفظ الشهادة ؛ لأنّ التعلّق لو كان بالشهادة لم يكن في الكلام شبهة من حيث كانت الشهادة لا تدلّ نفسها على كونها حجّة ، كما تدلّ العدالة. ولو تعلّق متعلّق بكونهم شهودا ويذكر شهادتهم لم نجد بدّا من اعتبار العدالة والرجوع إليها ، وإذا كانت الصغائر لا تؤثر في العدالة ولا يمتنع وقوعها على مذهب صاحب الكتاب وأهل مقالته من العدل المقبول الشهادة فما الموجب من الآية نفيها عن الأمّة ، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكونوا شهداء في الدنيا والآخرة معا وبين أن يكونوا شهداء في الآخرة دون الدنيا ، فما نراه زادنا في الكلام الذي عدل إليه شيئا ينتفع به (٥) (٦).

__________________

(١) خ «واقوالهم».

(٢) في المغني «وقد قيل : إن قوله جلّ وعزّ «لتكونوا شهداء على الناس» ليس المراد بذلك أداء الشهادة» الخ.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨.

(٤) المغني ١٧ : ١٨٠.

(٥) المغني ١٧ : ١٨٠.

(٦) الشافي في الإمامة وابطال حجج العامّة ؛ ١ : ٢٢٩.

٤٦٣

ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٣].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤].

[قال الناصر رحمه‌الله :] «من أخطأ القبلة وعلم به قبل مضيّ وقت الصلاة فعليه إعادتها ، فإن علم بعد مضيّ وقتها فلا إعادة عليه».

هذا صحيح ، وعندنا أنّه إذا تحرّى في القبلة فأخطأ ثمّ تبين له الخطأ ، أنّه يعيد ما دام في الوقت ولا إعادة عليه بعد خروج الوقت.

وقد روي : أنّه إن كان خطاؤه يمينا أو شمالا أعاد ما دام الوقت باقيا ، فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه ، فإن استدبر القبلة أعاد على كلّ حال.

والأوّل هو المعوّل عليه ، ووافقنا في ما ذهبنا إليه مالك (١).

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنّ صلاته ماضية ولا إعادة عليه على كلّ حال (٢).

وقال الشافعي في الجديد : إنّ من أخطأ القبلة ثمّ تبيّن له خطاؤه لزمه إعادة الصلاة (٣).

وقوله في القديم مثل قول أبي حنيفة (٤).

ودليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المقدم ذكره قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فأوجب التوجّه على كلّ مصلّ إلى شطر البيت ، فإذا لم يفعل ذلك كان الأمر عليه باقيا ، فيلزمه الإعادة.

فإن قيل : الآية تقتضي وجوب التوجّه على كلّ مصلّ ، وليس فيها دلالة على أنّه إذا لم يفعل لزمه الإعادة.

__________________

(١) المدوّنة الكبرى ، ١ : ٩٢ ، ٩٣.

(٢) المجموع ، ٣ : ٢٤٣.

(٣) الام ، ١ : ١١٤.

(٤) المجموع ، ٣ : ٢٢٥.

٤٦٤

قلنا : لم نحتجّ بالآية على وجوب القضاء ، وإنّما بيّنا بالآية وجوب التوجّه على كلّ مصلّ ، فإذا لم يأت بالمأمور به فهو باق في ذمّته فيلزمه فعله.

وليس لأحد أن يقول : هذه الآية إنّما يصحّ أن يحتجّ بها الشافعي ، لأنّه يوجب الإعادة على كلّ حال ، في الوقت وبعد خروج الوقت ، وأنتم تفصلون بين الأمرين ، وظاهر الآية يقتضي ألّا فصل بينهما ، فلا دليل لكم على مذهبكم في الآية.

قلنا : إنّما أمر الله تعالى كلّ مصلّ للظّهر ـ مثلا ـ بالتوجه إلى شطر البيت ما دام في الوقت ، ولم يأمره بالتوجّه بعد خروج الوقت ، لأنّه إنّما أمر بأداء الصلاة لا بقضائها ، والأداء ما كان في الوقت ، والقضاء ما خرج عن الوقت ، فهو إذا تحرّى القبلة وصلّى إلى جهة ، ثمّ تبيّن له الخطأ ، وتيقّن أنّه صلّى إلى غير القبلة وهو في الوقت لم يخرج عنه ، فحكم الأمر باق عليه ، ووجوب الصلاة متوجّها إلى القبلة باق في ذمّته ، وما فعله غير مأمور به ، ولا يسقط عنه الفرض ، فيجب أن يصلّي مادام في الوقت الصلاة المأمور بها ، وهي التي تكون إلى جهة الكعبة ، لأنّه قادر عليها ومتمكّن منها ، وبعد خروج الوقت لا يقدر على فعل المأمور به بعينه ، لأنّه قد فات بخروج الوقت ، والقضاء في الموضع الذي يجب فيه إنّما يعلمه بدليل غير دليل وجوب الأداء ، وهذا الموضع قد بيّناه في مسائل أصول الفقه (١).

وليس لأحد أن يقول : إنّ المصلّي في حال اشتباه القبلة عليه لا يقدر على التوجه إلى القبلة ، فالآية مصروفة إلى من يقدر على ذلك ؛ لأنّ هذا القول تخصيص لعموم الآية بغير دليل ، ولأنّه إذا تبيّن له الخطأ في الوقت فقد زال الاشتباه ، فيجب أن تكون الآية متناولة له ، ويجب أن تفعل الصلاة إلى جهة القبلة.

فإن تعلّقوا بما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «رفع عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه» (٢).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ١١٦ ، ١٢٠.

(٢) عوالي اللآلي ، ١ : ٢٣٢.

٤٦٥

والجواب عن ذلك : أنّا نقول إنّ خطأه مرفوع ، وإنّه غير مؤاخذ به ، وإنّما تجب عليه الصلاة بالأمر الأوّل ؛ لأنّه لم يأت بالمأمور به.

فإن تعلّقوا بما روي : من أن قوما أشكلت عليهم القبلة لظلمة عرضت فصلّى بعضهم إلى جهة وبعضهم إلى غيرها ، وعلموا ذلك ، فلمّا أصبحوا ورأوا تلك الخطوط إلى غير القبلة وقدموا من سفرهم سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فسكت ، ونزل قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١).

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجزتكم صلاتكم» (٢).

والجواب عن ذلك : أنّا نحمل هذا الخبر على أنّهم سألوه عليه‌السلام عن ذلك بعد خروج الوقت ، وهذا صريح في الخبر ، لأنّه كان سؤالهم بعد قدومهم من السفر ، فلم يأمرهم عليه‌السلام بالإعادة ، لأنّ الإعادة على مذهبنا لا تلزم بعد خروج الوقت.

وأصحاب الشافعي يتأوّلون الخبر على أنّه كان في صلاة التّطوع (٣) ، ويروون عن ابن عمر أنّه قال : نزلت هذه الآية في التّطوع خاصّة (٤).

والتأويل الّذي ذكرناه يغني عن هذا (٥).

ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦].

أنظر الأنعام : ٣٣ من الأمالي ، ٢ : ٢٢٨.

ـ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [البقرة : ١٤٨].

أنظر آل عمران : ١٣٣ من الذريعة ، ١ : ١٤٠.

ـ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٥١].

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١١٥.

(٢) سنن البيهقي ، ١٠ : ٢ وفيه «أجزأت».

(٣) المجموع ، ٣ : ٢٤٣ ، ٢٤٤.

(٤) أحكام القرآن (للقرطبي) ، ٢ : ٨٠.

(٥) الناصريات : ٢٠٢.

٤٦٦

أنظر البقرة : ٥٣ من الأمالي ، ٢ : ٢٢٣.

ـ (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٥٨].

ويوصف تعالى بأنه «شاكر» و «شكور» عرفا ، وقد نطق القرآن به ، والمعنى أن «الشكر» كما كان معناه الجزاء على الفعل والمقابل له وكان الله تعالى يجازي على الطاعات يسمّى شاكرا.

وأيضا قد تسمّي العرب الشيء باسم جزائه ، كما قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) وهو تعالى مجاز لنا على شكرنا له ، فسمّى الجزاء على الشكر باسم الشكر. وأمّا شكور فهو مبالغة في فعل ما يسمّى شكرا (٢).

ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) [البقرة : ١٥٩].

أنظر المقدّمة الخامسة ، الأمر التاسع.

ـ (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٦٣].

فيها أمران :

الأوّل : ويوصف تعالى بأنه «إله» ، بمعنى أن العبادة تحقّ له ، وإنّما يحق له العبادة لأنه تعالى خلق الأجسام واحيائها والأنعام عليها بالنعم الّتي يستحقّ بها العبادة ، وهو تعالى كذلك فيما لم يزل فوجب أن يكون إلها فيما لم يزل.

ولا يجوز أن يكون تعالى إلها للأعراض ، ولا للجوهر الواحد ، لاستحالة أن ينعم عليهما بما يستحقّ به العبادة ، وإنّما هو إله للأجسام الحيوان منها والجماد ، لأنه تعالى قادر على أن ينعم على كلّ جسم بما معه يستحقّ العبادة.

وفي الناس من منع من أن يكون إلها للجماد ، لأن الجماد في الحال لا يجوز أن يستحقّ عليه العبادة وهو جماد.

وهذا غلط ، لأن معنى إله ليس هو من يستحقّ العبادة ، لأنه لو كان كذلك لم يكن إلها فيما لم يزل ولا نعمة له فيما لم يزل ، وإنّما معناه أن العبادة تحق

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية : ٤٠.

(٢) الذخيرة : ٥٩٨.

٤٦٧

له ، ومعنى ذلك أنه قادر على الانعام بالنعم المخصوصة. فاذا هذا هو معنى إله ، والحيوان والجماد فيه سواء.

وأمّا وصفه تعالى «بالله» ففيه وجهان : أحدهما : أن أصله لاه والله هو إلاله ، فإذا دخلت الألف واللام على لاه فصار الله. والوجه الآخر : أن الألف واللام أدخلتا على إله [فصار] الإله وخففت الهمزة وأدغمت احدى اللامين في الأخرى ، فصار الله (١).

[الثاني :] يوصف تعالى بأنه «واحد» على أحد معنيين : أحدهما أنه لا يتبعّض ولا يتجزّى ، وان لم يكن هذا الوصف إذا أريد به هذا الوجه من أسماء التعظيم والمدح. والمعنى الآخر أن نصفه تعالى بأنه واحد بأنه منفرد بصفات نفسه ليست لغيره ، وهذا الوصف يقتضي المدح والتعظيم (٢).

ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١].

[إن سأل سائل] فقال : أيّ وجه لتشبيه الذين كفروا بالصائح بالغنم ، والكلام يدلّ على ذمّهم ووصفهم بالغفلة وقلّة التأمّل والتمييز ، والنّاعق بالغنم قد يكون مميّزا متأمّلا محصّلا؟

يقال له في هذه الآية خمسة أجوبة :

أولها : أن يكون المعنى : مثل واعظ الذين كفروا والداعي لهم إلى الإيمان والطاعة كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وهي لا تعقل معنى دعائه ، وإنّما تسمع صوته ولا تفهم غرضه ؛ والذين كفروا بهذه الصّفة لأنّهم يسمعون وعظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعاءه وإنذاره فينصرفون عن قبول ذلك ، ويعرضون عن تأمّله ، فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه ؛ لاشتراكهما في عدم الانتفاع به. وجائز أن يقوم قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) مقام الواعظ والداعي لهم ؛ كما تقول العرب :

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٠.

(٢) الذخيرة : ٥٨٦.

٤٦٨

فلان يخافك خوف الأسد ؛ والمعنى كخوفه من الأسد ، فأضاف الخوف إلى الأسد وهو في المعنى مضاف إلى الرجل ، قال الشاعر :

فلست مسلّما ما دمت حيّا

على زيد بتسليم الأمير

أراد بتسليمي على الأمير ، ونظائر ذلك كثيرة.

والجواب الثاني : أن يكون المعنى : ومثل الذين كفروا كمثل الغنم التي لا تفهم نداء الناعق ، فأضاف الله تعالى المثل الثاني إلى الناعق ؛ وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به ، على مذهب العرب في قولها : طلعت الشّعرى ، وانتصب العود على الحرباء (١) ، والمعنى وانتصب الحرباء على العود ؛ وجاز التقديم والتأخير لوضوح المعنى ؛ وأنشد الفرّاء :

إنّ سراجا لكريم مفخره

تجلّى به العين إذا ما تجهره (٢)

معناه يحلى بالعين ؛ فقدّم وأخّر. وأنشد الفرّاء أيضا :

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزّناء فريضة الرّجم

المعنى كما كان الرّجم فريضة الزنا ، وأنشد أيضا :

وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل (٣)

أراد ما تزيد مخافة وعل على مخافتي ، ومثله :

__________________

(١) الحرباء : حيوان كالعظاءة ؛ يدور مع الشمس.

(٢) يقال حلي فلان بعيني وفي عيني إذا أعجبك ؛ والبيتان في اللسان (حلا).

(٣) في حاشية بعض النسخ : «مقرر في الصناعة أن يكون المبتدأ والخبر هو هو ؛ أو ما يقوم مقام ذلك ويجري مجراه ؛ وهو احتراز من قولك مثلا : أبو يوسف أبو حنيفة ؛ يعنى يقوم مقامه ؛ فإذا كان كذلك فالواجب أن يكون الجزءان من المبتدأ والخبر جثتين أو حدثين ؛ حتى لا ينخرم هذا الأصل الذى أصلوه ؛ فأذا وجدت شيئا من ذلك قد اختل فإنما هو على ضرب من الاحتمال والمجاز ؛ كقولك : الهلال الليلة ؛ لأن التقدير حدوث الهلال الليلة ؛ كأن التقدير : حدوث الهلال وقع الليلة ؛ فالواقع هو الحدوث ، والحدوث هو الواقع. والبيت المستشهد به ، التقدير به : لعمرك ما فتوة الفتيان ، فحذف المضاف وأقام المضاف مقامه ، والتقدير : ما فتوة الفتيان نبتة اللحى».

٤٦٩

كأنّ لون أرضه سماؤه (١)

أراد كأنّ لون سمائه أرضه ، ومثله :

ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه

وسائره باد إلى الشّمس أجمع (٢)

أراد مدخل رأسه الظلّ ، وقال الراعي :

فصبّحته كلاب الغوث يؤسدها

مستوضحون يرون العين كالأثر (٣)

يريد أنهم يرون الأثر كالعين ؛ وقال أبو النجم :

قبل دنوّ الأفق من جوزائه

فقلب ، وقال العباس بن مرادس :

فديت بنفسه نفسي ومالي

ولا آلوه إلّا ما يطيق

أراد فديت بنفسي نفسه ، وقال ابن مقبل :

ولا تهيّبني الموماة أركبها

إذا تجاوبت الأصداء بالسّحر (٤)

أراد لا أتهيّب الموماة ؛ وهذا كثير جدّا (٥).

__________________

(١) الرجز لروبة ، وقبله :

ومهمه مغبرة أرجاؤه

(٢) البيت من شواهد (الكتاب : ٩٢ / ١) ؛ قال الأعلم : «الشاهد فيه إضافة مدخل إلى الظلّ ، ونصب الرأس به على الاتساع والقلب ، وكان الوجه أن يقول : مدخل رأسه الظل ؛ لأن الرأس هو الداخل في الظل ، والظل المدخل فيه ؛ وهو وصف هاجرة يد ألجأت الثيران إلى كنسها ، فترى الثور مدخلا لرأسه في ظل كناسه لما يجد من شدة الحجر ، وسائره بارز للشمس».

(٣) يذكر ثورا ، والغوث : قبيلة من طيىء ، ويوسدها : يغريها ومستوضحون : صيادون ينظرون : هل يرون شيئا ؛ يقال استوضح الرجل ، إذ نظر ليرى شبحا أو أثرا ، يريد أن أثر الصيد عندهم إذا رآه يكون بمنزلة الصيد بنفسه لا يخفى عليهم. (وانظر معاني الشعر لابن قتيبة ٧٤٢ ، ١١٩٣).

(٤) معاني ابن قتيبة ١٢٦٤ ، واللسان ـ هيب ؛ يقال : تهيبني الشيء بمعنى تهيبته أنا ؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والموماة : المفازة ؛ والأصداء : جمع صدى ؛ وهو البوم.

(٥) حاشية بعض النسخ : «ومن المقلوب قوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص : ٧٦] ، وإنّما هو : تنوء العصبة بها ، وقوله سبحانه : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [إبراهيم : ٤٧] ، يريد مخلف رسله وعده ؛ وإنّما جرى القلب في كلام العرب اتساعا في الظاهر ؛ لأن المعنى فيه لا يشكل».

٤٧٠

والجواب الثالث : أن يكون المعنى : ومثل الذين كفروا ومثلنا ، أو مثلهم ومثلك يا محمد كمثل الذي ينعق ؛ أي مثلهم في الإعراض ومثلك في الدعاء والتنبيه والإرشاد كمثل الناعق بالغنم ، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول ؛ ومثله قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١) ، أراد الحرّ والبرد ، فاكتفى بذكر الحرّ من البرد ، وقال أبو ذؤيب :

عصيت إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها (٢)

أراد أرشد أم غيّ ، فاكتفي بذكر الرشد لوضوح الأمر.

والجواب الرابع : أن يكون المراد : ومثل الذين كفروا في دعائهم للأصنام التي يعبدونها من دون الله وهي لا تعقل ولا تفهم ، ولا تضرّ ولا تنفع كمثل الذي ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة ، والدعاء والنداء ينتصبان على هذا الجواب ب «ينعق» ، وإلّا توكيد للكلام ؛ ومعناها الإلغاء ؛ قال الفرزدق :

هم القوم إلّا حيث سلّوا سيوفهم

وضحّوا بلحم من محلّ ومحرم (٣)

والمعنى : هم القوم حيث سلّوا سيوفهم.

والجواب الخامس : أن يكون المعنى : ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إيّاها كمثل الرّاعي الذي ينعق بالغنم ويناديها ؛ فهي تسمع دعاءه ونداءه ولا تفهم معنى كلامه ، فشبّه من يدعوه الكفّار من المعبودات دون الله جلّ اسمه بالغنم ، من حيث لا تعقل الخطاب ولا تفهمه ، ولا نفع عندها فيه ولا مضرّة.

وهذا الجواب يقارب الذي قبله ، وإن كانت بينهما مزيّة ظاهرة ؛ لأنّ الأوّل يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء ، ولا النداء جملة ، ويجب أن يكون

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٨١.

(٢) ديوان الهذليين : ٧١ / ١ ؛ والرواية فيه :

عصاني إليها القلب إنّى لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها

(٣) ديوانه : ٢ / ٧٦٠. ونظير هذا في مورد «إلّا» للتوكيد دون الاستثناء قولهم «أسألك إلّا غفرت لي».

٤٧١

مصروفا إلى غير الغنم وما أشبهها ممّا يسمع وان لم يفهم. وهذا الجواب يقتضي ضرب المثل بما يسمع الدعاء والنداء وإن لم يفهمهما ، والأصنام من حيث كانت لا تسمع النداء جملة يجب أن يكون داعيها ومناديها أسوأ حالا من منادي الغنم. ويصحّ أن يصرف إلى الغنم وما أشبهها ممّا يشارك في السماع ، ويخالف في الفهم والتمييز.

وقد اختلف الناس في «ينعق» فقال أكثرهم : لا يقال نعق ينعق إلّا في الصّياح بالغنم وحدها ؛ وقال بعضهم نعق ينعق بالغنم والإبل والبقر ؛ والأوّل أظهر في كلام العرب ؛ قال الأخطل :

فانعق بضأنك يا جرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا (١)

ويقال أيضا : نعق الغراب ونغق ؛ بالغين المعجمة ؛ إذا صاح من غير أن يمدّ عنقه ويحركها ؛ فإذا مدّها وحرّكها ثمّ صاح قيل : نعب ، ويقال أيضا : نعب الفرس ينعب وينعب نعبا ونعيبا ونعبانا ، وهو صوته ؛ ويقال : فرس منعب ، أي جواد ، وناقة نعابة ؛ إذا كانت سريعة (٢).

ـ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧].

[إن سأل سائل] فقال : كيف ينفي كون تولية الوجوه إلى الجهات من البرّ ، وإنّما يفعل ذلك في الصلاة ، وهي برّ لا محالة؟ وكيف خبّر عن البرّ «بمن» والبرّ كالمصدر ، و «من» اسم محض؟ وعن أيّ شيء كنّى بالهاء في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ)؟ وما المخصوص بأنّها كناية عنه وقد تقدّمت أشياء كثيرة؟ وعلى أيّ شيء ارتفع (وَالْمُوفُونَ)؟ وكيف نصب (وَالصَّابِرِينَ)، وهم معطوفون على

__________________

(١) ديوانه : ٥٠.

(٢) الأمالي ، ١ : ٢٢١.

٤٧٢

الموفين؟ وكيف وحدّ الكناية في مواضع وجمعها في آخر؟ فقال : (مَنْ آمَنَ) و (وَآتَى الْمالَ) و (وَأَقامَ الصَّلاةَ)، ثمّ قال : (وَالْمُوفُونَ) و (وَالصَّابِرِينَ.

يقال له : فيما ذكرته أوّلا جوابان :

أحدهما : أنّه أراد تعالى : ليس الصّلاة هي البرّ كلّه ؛ لكنّه ما عدّد في الآية من ضروب الطاعات وصنوف الواجبات ، فلا تظنّوا أنّكم إذا توجّهتم إلى الجهات بصلاتكم ، فقد أحرزتم البرّ بأسره ، وحزتموه بكماله ، بل يبقى عليكم بعد ذلك معظمه وأكثره.

والجواب الثاني : أنّ النّصارى لمّا توجّهوا إلى المشرق ، واليهود إلى بيت المقدس ، واتّخذوا هاتين الجهتين قبلتين ، واعتقدوا في الصلاة إليها أنّهما برّ وطاعة خلافا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكذبهم الله تعالى في ذلك ، وبيّن أنّ ذلك ليس من البرّ ، إذ كان منسوخا بشريعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي تلزم الأسود والأبيض ، والعربي والعجميّ ، وأنّ البرّ هو ما تضمّنته الآية.

فأمّا إخباره «بمن» ففيه وجوه ثلاثة :

أوّلها : أن يكون معنى «البرّ» ههنا البارّ أو ذا البرّ ، وجعل أحدهما في مكان الآخر ؛ والتقدير : ولكنّ البار من آمن بالله ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (١) ، يريد غائرا ، ومثل قول الشاعر :

ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار (٢)

أراد أنّها مقبلة مدبرة ، ومثله :

تظلّ جيادهم نوحا عليهم

مقلّدة أعنّتها صفونا (٣)

__________________

(١) سورة الملك ، الآية : ٣٠.

(٢) البيت للخنساء ؛ ديوانها : ٧٨ ، والكامل بشرح المرصفي : ٨ / ١٧٦ ، واللسان : ١٩ / ١٣٥ ، وتاج العروس : ٧٣ / ٨ ، وخزانة الأدب : ١٣٨ / ١ ، وهو في وصف بقرة وحشية ، وقبله :

فما عجول على بوّ تطيف به

لها حنينان إصغار وإكبار

(٣) البيت لعمرو بن كلثوم ؛ من المعلقة ـ بشرح التبريزي : ٢١٧.

٤٧٣

أراد نائحة عليهم ، ومثله قول الشاعر :

هريقى من دموعهم سجاما

ضباع (١) وجاوبي نوحا قياما

والوجه الثاني : أنّ العرب قد تخبر عن الاسم بالمصدر والفعل ، وعن المصدر بالاسم ، فأمّا إخبارهم عن المصدر بالاسم فقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ)، وقول العرب : إنّما البرّ الذي يصل الرحم ويفعل كذا وكذا ، وأمّا إخبارهم عن الاسم بالمصدر والفعل فمثل قول الشاعر :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى

ولكنّما الفتيان كلّ فتى ند (٢)

فجعل «أن تنبت» وهو مصدر خبرا عن الفتيان.

والوجه الثالث : أن يكون المعنى : ولكن البرّ برّ من آمن ؛ فحذف البرّ الثاني ، وأقام «من» مقامه ؛ كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (٣) ، أراد : حبّ العجل ، قال الشاعر :

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (٤)

أراد : كخلالة أبي مرحب ؛ وقال النابغة :

وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل (٥)

أراد على مخافة وعل. وتقول العرب : بنو فلان يطؤهم الطريق ، أي أهل

__________________

(١) ضباع : اسم امرأة ؛ وأصله : «ضباعة».

(٢) البيت للنابغة ، وقد مر ذكره في تفسير الآية ١٧٧ من هذه السورة ، وانظر ما سبق في تفسيره.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٩٣.

(٤) خلالته : مودته ، وأبو مرحب كناية عن الظل ، والبيت للنابغة الجعدي ، وقبله :

وبعض الأخلّاء عند البلا

ء والرّزء أزوغ من ثعلب

وانظر اللسان (رحب).

(٥) ديوانه : ٦٤ ، ومعجم البلدان : ٤ / ٨٤. وذو المطارة : اسم جبل ؛ وعاقل : متحصنو ، وفي حواشي بعض النسخ : «يمكن أن تجعل «ما» في البيت زيادة ، والتقدير : حتى تزيد : ويمكن أن يكون على القلب ؛ أي ما تزيد مخافة وعل على مخافتي ؛ وهو كثير ، والوعل : الضأن الوحشي».

٤٧٤

الطريق. وحكى عن بعضهم : أطيب النّاس الزّبد ، أي أطيب ما يأكل الناس الزّبد ، وكذلك قولهم : حسبت صباحى زيدا ، أي صباح زيد ، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) (١) ، أي ليس على من أكل مع الأعمى حرج ، وفي قوله تعالى : (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٢) ، وذكروا أنّه كان راعيا تبعهم.

فأمّا ما كنّى عنه بالهاء في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) ففيه وجوه أربعة :

أوّلها : أن تكون الهاء راجعة على المال الذي تقدّم ذكره ، ويكون المعنى : وآتى المال على حبّ المال ، وأضيف الحبّ إلى المفعول ، ولم يذكر الفاعل : كما يقول القائل : اشتريت طعامي كاشتراء طعامك ، والمعنى كاشترائك طعامك.

والوجه الثاني : أن تكون الهاء راجعه إلى «من آمن بالله» ، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، ولم يذكر المفعول لظهور المعني ووضوحه.

والوجه الثالث : أن ترجع الهاء إلى الإيتاء الذي دلّ «وآتى» عليه ، والمعنى : وأعطي المال على حبّ الإعطاء ، ويجري ذلك مجرى قول القطاميّ :

هم الملوك وأبناء الملوك لهم

والآخذون به والسّاسة الأول (٣)

فكنّي بالهاء عن الملك ، لدلالة قوله : «الملوك» عليه ، ومثله قول الشاعر :

إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف

أراد : جرى إلى السّفه الذي دلّ ذكر السفيه عليه.

والوجه الرابع : أن تكون الهاء راجعة إلى الله تعالى ؛ لأنّ ذكره تعالى قد تقدّم ، فيكون المعني : وآتى المال على حبّ الله ذوي القربى واليتامى.

فإن قيل : فأيّ فائدة في ذلك ، وقد علمنا الفائدة في إيتاء المال مع محبّته

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٦١.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٢٢.

(٣) جمهرة الأشعار : ٣١٦ ؛ وهو آخر قصيدته التي مطلعها :

إنا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل

وإن بليت وإن طالت بك الطّول

٤٧٥

والضّنّ به ، وأنّ العطيّة تكون أشرف وأمدح ، فما الفائدة فيما ذكرتموه؟ وما معنى محبّة الله ، والمحبّة عندكم هي الإرادة ، والقديم تعالى لا يصحّ أن يراد؟

قلنا : أمّا المحبّة عندنا فهي الإرادة ، إلّا أنهم يستعملونها كثيرا مع حذف متعلّقها مجازا وتوسعا ، فيقولون : فلان يحب زيدا ، إذا أراد منافعه ، ولا يقولون : زيد يريد عمرا ؛ بمعنى أنّه يريد منافعة ، لأنّ التعارف جرى في استعمال الحذف والاختصار في المحبّة دون الإرادة ، وإن كان المعنى واحدا.

وقد ذكر أنّ لقولهم : زيد يحب عمرا مزية على قولهم : يريد منافعه ، لأنّ اللفظ الأوّل ينبىء عن أنّه لا يريد إلّا منافعه ، وأنّه لا يريد شيئا من مضارّه ، والثاني لا يدلّ على ذلك ، فجعلت له مزية ؛ وعلى هذا المعنى نصف الله بأنّه يحب أولياءه المؤمنين من عباده ؛ والمعنى فيه أنّه يريد لهم ضروب الخير ، من التعظيم والإجلال والنعم ؛ فأمّا وصف أحدنا بأنّه يحبّ الله فالمعنى فيه أنّه يريد تعظيمه وعبادته والقيام بطاعته ، ولا يصحّ المعنى الذي ذكرناه في محبّة بعضهم بعضا ؛ لاستحالة المنافع عليه. ومن جوّز عليه تعالى الانتفاع لا يصحّ أيضا أن يكون محبّا له على هذا المعنى ، لأنّه باعتقاده ذلك فيه قد خرج من أن يكون عارفا به ، فمحبّته في الحقيقة لا تتعلّق به ولا تتوجّه إليه ؛ كما تقول في أصحاب التشبيه : إنّهم إذا عبدوا من اعتقدوه إلها فقد عبدوا غيره الله تعالى.

فأمّا الفائدة في إعطاء المال مع محبّة الله فهي ظاهرة ؛ لأنّ إعطاء المال متى قارنته إرادة وجه الله وعبادته وطاعته استحقّ به الثواب ، ومتى لم يقترن به ذلك لم يستحقّ الفاعل به ثوابا ، وكان ضائعا. وتأثير ما ذكرناه أبلغ من تأثير حبّ المال والضّنّ به ؛ لأنّ المحبّ للمال الضنين به متى بذله وأعطاه ، ولم يقصد به الطاعة والعبادة والقربة لم يستحقّ به شيئا من الثواب ؛ وإنّما يؤثّر حبّه للمال في زيادة الثواب ، متى حصل ما ذكرناه من قصد القربة والعبادة ، ولو تقرّب بالعطية ، وهو غير ضنين بالمال ، ولا محبّ له لاستحقّ الثواب. وهذا الوجه لم نسبق إليه في هذه الآية ، وهو أحسن ما قيل فيها.

٤٧٦

وقد ذكر وجه آخر ؛ وهو أن يكون الهاء راجعة إلى «من آمن» أيضا ، وينتصب ذوي القربى بالحبّ ، ولا يجعل «لآتي» منصوبا لوضوح المعنى ، ويكون تقدير الكلام : وأعطى المال في حال حبّه ذوي القربى واليتامى ، على محبّته إيّاهم : وهذا الوجه ليس فيه مزية في باب رجوع الهاء التي وقع عليها السؤال ، وإنّما يتبيّن ممّا تقدّم بتقدير انتصاب ذوي القربى بالحبّ ، وذلك غير ما وقع السؤال عنه ؛ والأجوبة الأول أقوى وأولى.

فأمّا قوله : (وَالْمُوفُونَ)، ففي رفعه وجهان :

أحدهما : أن يكون مرفوعا على المدح ؛ لأنّ النعت إذا طال وكثر رفع بعضه ، ونصب بعضه على المدح ؛ ويكون المعنى : وهم الموفون بعهدهم ، قال الزجّاج : هذا أجود الوجهين.

والوجه الآخر : أن يكون معطوفا على «من آمن» ويكون المعنى : ولكنّ ذا البرّ وذوي البرّ المؤمنون والموفون بعدهم.

فأمّا نصب «والصّابرين» ففيه وجهان :

أحدهما : المدح ، لأنّ مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينهما بالمدح أو الذمّ ، ليميّزوا الممدوح أو المذموم ويفرّدوه ، فيكون غير متّبع لأوّل الكلام ؛ من ذلك قول الخرنق بنت بدر بن هفّان :

لا يبعدن قومي الّذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبين معاقد الأزر (١)

فنصبت ذلك على المدح ، وربّما رفعوهما جميعا ، على أن يتبع آخر الكلام أوّله ؛ ومنهم من ينصب «النازلين» ويرفع «الطيبين» وآخرون يرفعون «النازلين» وينصبون «الطيبين» والوجه في النصب والرفع ما ذكرناه ، ومن ذلك قول الشاعر ، أنشده الفراء :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

__________________

(١) ديوانها : ١٢ ، واللآلىء : ٥٤٨ ، ونوادر أبي زيد ١٠٨ ، والكامل ـ بشرح المرصفي : ٦ / ١٥٨.

٤٧٧

وذا الرّأي حين تغمّ الأمور

بذات الصّليل وذات اللّجم

فنصب «ليث الكتيبة وذا الرأي» على المدح. وأنشد الفرّاء أيضا :

فليت التي فيها النّجوم تواضعت

علي كلّ غثّ منهم وسمين

غيوث الحيا في كلّ محل ولزبة

أسود الشّرى يحمين كلّ عربن (١)

وممّا نصب على الذمّ قوله :

سقوني الخمر ثمّ تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور

والوجه الآخر : في نصب : (وَالصَّابِرِينَ) أن يكون معطوفا على ذوي القربى ، ويكون المعنى : وآتى المال على حبّه ذوي القربى والصابرين ؛ قال الزّجاج : وهذا لا يصلح إلّا أن يكون «والموفون» رفع على المدح للمضمرين ، لأنّ ما في الصلة لا يعطف عليه بعد العطف على الموصول ، وكان يقوي الوجه الأول.

وأمّا توحيد الذكر في موضع وجمعه في آخر ؛ فلأنّ «من آمن» لفظه لفظ الوحدة ، وإن كان في المعنى للجمع فالذّكر الذي أتى بعده موحّدا أجرى على اللفظ ، وما جاء من الوصف بعد ذلك على سبيل الجمع مثل قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ) و (وَالصَّابِرِينَ) فعلى المعنى.

وقد اختلفت قراءة القرّاء السبعة في رفع الراء ونصبها من قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ)، فقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «لّيس البرّ» بنصب الراء ، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنّه كان يقرأ بالنصب والرفع ، وقرأ الباقون البرّ بالرفع ، والوجهان جميعا حسنان ، لأنّ كلّ واحد من الاسمين : إسم ليس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافأ في جواز كون أحدهما إسما والآخر خبرا ؛ كما تتكافأ النكرات.

وحجّة من رفع «البرّ» أنه : لإن يكون «البرّ» الفاعل أولى ؛ لأنّه ليس يشبه

__________________

(١) اللزبة : الشدة ، والشرى : مأسدة بناحية الفرات.

٤٧٨

الفعل ، وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده ؛ ألا ترى أنّك إذا قلت : قام زيد ، فإنّ الاسم يلي الفعل. وتقول : ضرب غلامه زيد ، فيكون التقدير في الغلام التأخير ، فلولا أنّ الفاعل أخصّ بهذا الموضع لم يجز هذا ؛ كما لم يجز في الفاعل : ضرب غلامه زيدا ، حيث لم يجز في الفاعل تقدير التأخير ؛ كما جاز في المفعول به ، لوقوع الفاعل موقعه المختصّ به.

وحجة من نصب «البرّ» أن يقول : كون الاسم أن وصلتها أولى تشبيها بالمضمر في أنّها لا توصف ، كما لا يوصف المضمر ؛ فكأنّه اجتمع مضمر ومظهر ؛ والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر (١).

ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٩].

[فيها أمران :

الأوّل : إن سأل سائل فقال :] إذا كان جواز بقاء المقتول ظلما حيّا لو لم يقتل وجواز موته في الحال بدلا من قتله في العقول على سواء ، فهل يدلّ قول الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) على أنّ المقتول ظلما كان لو لم يقتل يبقى حيّا يكون ذلك إخبارا منه عن إقامة الحدود على القاتلين ، يبقي تعالى به الحياة على آخرين ، وإخباره تعالى لا يكون إلّا حقّا وصدقا ؛ لاستحالة الجهل والكذب عليه تعالى ، ولأنّ ذلك يدلّ على أنّ بتعطيل الحدود يقدم كثير من المكلّفين على القتل ، ولو لا ذلك لما أقدم القاتل عليه ، ولبقي المقتول حيّا بدلالة هذا السمع.

الجواب :

إعلم أنّ المقتول كان يجوز أن يعيش لولا القتل ، بخلاف قول من قطع على موته لا محالة لو لا القتل ، وكان يجوز أن يميته الله تعالى لو لا القتل ، بخلاف قول من ذهب إلى أنّه لو لا القتل كان يجب بقاؤه حيّا لا محالة.

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٢٠٧.

٤٧٩

وقد دللنا على ذلك في كتبنا وأمالينا وبيناه في كتاب «الذخيرة» وانتهينا إلى غايته.

وأقوى ما دلّ على صحّة هذه الجملة أنّ الله تعالى قادر على تبقيته حيا وعلى إماتته معا ، وبوقوع القتل لا يتغيّر القدرة على ذلك ، فيجب أن يكون الحال بعد القتل كهي قبله.

فأمّا قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) فالمعنى فيه أنّ من خاف أن يقتل على قتل يقلّ إقدامه على القتل ، ويصرفه هذا النقل (١) عن قتل يؤدّي إلى ذهاب نفسه وتلفها ، وإذا قلّ القتل استمرّت الحياة.

فإذا قيل : أليس قد جوّزتم أن يموت المقتول لو لم يقتل ، فكيف يستمرّ حياته لولا القتل ، وأنّكم قد جوّزتم هذا؟

قلنا : المقتول على ضربين :

أحدهما : المقتول الذي معلوم أنّ تبقيته مصلحة ، فلو لا القتل لبقي حيا.

والضرب الآخر : معلوم أنّ تبقيته مفسدة ، فلو لا القتل لا ميت ، وإذا كان القصاص ـ على ما ذكرناه ـ صادقا على القتل بغير حقّ بقي حياة كل مقتول علم الله تعالى أنّ تبقيته حيّا مصلحة. ولو لا القصاص لم يكن ذلك ، فبان وجه قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٢).

الثاني : وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الاثنين أو ما زاد عليهما من العدد إذا قتلوا واحدا ، فإن أولياء الدمّ مخيرون بين أمور ثلاثة :

أحدها : أن يقتلوا القاتلين كلّهم ويؤدوا فضل ما بين دياتهم ودية المقتول إلى أولياء المقتولين.

والأمر الثاني : أن يتخيروا واحدا منهم فيقتلوه ويؤدي المستبقون ديته إلى أولياء صاحبهم بحساب أقساطهم من الدية.

فإن اختار أولياء المقتول أخذ الدية كانت على القاتلين بحسب عددهم.

__________________

(١) كذا والظاهر «القتل».

(٢) الرسائل ، ١ : ٤١٨.

٤٨٠