تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

التنصيب المباشر للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كانوا يعتقدون أن من يخلف المعصوم لا بدّ وأن يكون معصوما ؛ ومن هذا المنطلق فإنّ فترة منهجيّة التفسير المعصوم لم تنته برحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل تدخل عهدا جديدا بعد وفاته.

واستمرّ هذا المنحى في أفكار القائلين بنظريّة الانتصاب إلى فترة إمامة الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه فمع بداية غيبته الكبرى بدأت مرحلة تفسير العلماء الدينيّين للقرآن الكريم.

إنّ ما هو مهم في هذا الرأي هو التوجّه للملاحظة التالية وهي أنّ منهجية تفسير القرآن من قبل علماء الدين هي نتاج للتعاليم الّتي أسّس لها الأئمّة المعصومون بالذات أثناء حياتهم ووصايتهم وعلموها أصحابهم.

وكانت هذه التعاليم تمثّل الخطوط الرئيسية (الكلّيّات) الّتي تعصم العالم الديني عند السير وفقها من أن يفسّر برأيه كما يكون بإمكانه الحصول على معلومات جديدة.

٢ ـ إنّ المنهجية الكلّيّة الّتي كانت تنتهجها المدرسة البغدادية في علم التفسير هي المنهجيّة العقليّة ، وهذه المنهجية تمثل تراثا للأئمّة المعصومين عليهم‌السلام على ما نعتقده ولم تكن منحصرة بالشيعة وحسب بل كان قد انتهجها المعتزلة بواسطة عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلّا انّ اتّكالهم على مستنتجاتهم الفكريّة كان السبب في أن يقعوا في المهالك.

لقد كانت المدرسة البغدادية تمثّل الفكر الإماميّ الإثني عشري الّذي يتوافق مع أسّس الفرقة المذكورة ومن أهمّها قبول حجّيّة حكم العقل لكن هذا لم يمنع من أن تقف المدرسة البغداديّة بوجه تلك الفرقة وكان من أبرز جوانب الخلاف بينهما البحث التفسيري.

فرغم أنّ المعتزلة لا يوجد لها اتباع اليوم وأنّ أكثر تراثها ضاع واندثر لكن منهجيّة التفكير العقلاني لم تمت إلى يومنا هذا وها هي الكثير من شبهاتهم تطرح حديثا ، لكن بأنماط وأشكال أخرى.

٦١

وعلى كلّ حال كانت رسالة المدرسة البغداديّة الدفاع مقابل الهجمات والشبهات الّتي كانت تطرحها هذه الفئة وبعض الفئات الأخرى. وكانت هذه بالذات السبب في أن تكون أكثر المصادر التفسيريّة الّتي وصلتنا عن كبار علماء الإماميّة في ذلك العصر بصدد الإجابة على ذلك الصنّف من الآيات الّتي يصطلح عليا المتشابهة والّتي كانت السبب في تشويه وقلب المفاهيم القرآنية من قبل المعتزلة وغيرهم وذلك استنادا لهذا النمط من الآيات.

وقد ساهم هذا الأمر في أن يصب كلّ مفسّر وحتّى الأكابر منهم اهتمام الرئيسي بالبحث في الآيات المتشابهة أو المبهمة لعامّة الناس ، وهذا ما يمكن الاستشهاد عليه بوضوح بما ورد في مقدّمة «رسالة في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن» تأليف السيّد المرتضى ، وكتاب «حقائق التأويل» للسيّد الرضي أيضا.

لكن ينبغي أن لا ننسى الجوانب الفقهيّة ، وشأن النزول والعلوم الأدبية المتبقيّة ضمن آثارهم.

٣ ـ تفسير بعض الاصطلاحات اللازمة للبحث من منظار السيّد المرتضى :

«النصّ : هو كلّ خطاب أمكن معرفة المراد به.

وقد ذهب قوم إلى أنّ النصّ ما لا تعترض الشبهة في المراد به. ومنهم من قال كلّما تناول الحكم بالاسم ، فهو نصّ. ولا يجعل المجمل نصّا.

وما قلناه في حدّ النصّ أولى ؛ لأنّه لا خلاف بين الأمّة في أنّ الله ـ تعالى ـ قد نصّ على الصلاة والزكاة مع حاجتهما إلى البيان. ويسمون اللّفظ نصّا. وإن كان فيه احتمال واشتباه.

المفسّر : فهو الّذي يمكن معرفة المراد به.

المجمل : في عرف الفقهاء ، فهو كلّ خطاب يحتاج إلى بيان ، لكنّهم لا يستعملون هذه اللفظة إلّا فيما يدلّ على الأحكام. والمتكلّمون يستعملون فيما يكون له هذا المعنى لفظ المتشابه ، ولا يكادون يستعملون لفظ المجمل في المتشابه.

٦٢

الظاهر : الأولى أن يكون عبارة عمّا أمكن أن يعرف المراد به ، ولا معنى لاشتراط الاحتمال أو التقارب على ما اشترطه قوم ، فقد يطلق هذا الاسم مع فقد الاحتمال».

وبعد هذا التمهيد سنعمد إلى بحث إجمالي في المنهج التفسيري للسيّد المرتضى.

المنهج التفسيري للسيّد المرتضى

سنشير في هذا الفصل إلى خمسة خصائص لمنهجه وهذه الخصائص هي كالتالي :

١ ـ التفسير العقلي ؛

٢ ـ تفسير القرآن بالقرآن ؛

٣ ـ الدلالة السياقيّة ؛

٤ ـ الاحتجاج بالقراءات ؛

٥ ـ الشاهد الشعري ؛

فباستثناء البحث الأوّل (التفسير العقليّ) فقد تمّ نقل البحوث المذكورة من كتاب قيّم هو : «الدلالة القرآنية عند الشريف المرتضى وهو من تأليف الأستاذ الدكتور حامد كاظم عبّاس».

والملاحظة الّتي ينبغي ذكرها هنا هي أن البحث في التفسير الروائي قد ادخل ضمن بحث التفسير العقلي وتفسير القرآن بالقرآن ؛ لارتباطه الوثيق معهما.

١ ـ التفسير العقلي

لقد ذكرنا في ما مضى عبارات أوردها السيّد المرتضى وهي تدلّ على اهتمام المدرسة البغدادية بالمصادر المؤدية إلى العلم في المباحث العلميّة ، ولأنّ حكم العقل من منظار المدرسة يمثل الحجر الأساس للمصادر الأخرى (١) ، وقد أولته اهتماما بالغا.

__________________

(١) قد يتمسّك بكلام الشيخ المفيد في أوائل المقالات لردّ ما قلناه : قال الشيخ المفيد : «القول في أن العقل لا ينفكّ عن سمع وأن التكليف لا يصحّ إلّا بالرسل عليه‌السلام.

واتّفقت الإماميّة على أن العقل محتاج في عمله ونتائجه إلى السمع وأنه غير منفكّ عن سمع ينبه ـ

٦٣

ومن الخصائص المهمّة للعقل ما يلي :

١ ـ «لا يدخله الاحتمال والحقيقة والمجاز» (١) وقد أدّت هذه الخصيصة إلى أن يقدّم حكم العقل عند التعارض مع الآيات الّتي يفهم منها مفهوما متشابها. يقول السيّد المرتضى في هذه الشأن :

«إعلم أنّ الأدلّة العقليّة إذا كانت دالّة على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يجوز أن يواقعوا شيئا من الذنوب صغيرا وكبيرا ، فالواجب القطع على ذلك ، ولا يرجع عنه بظواهر الكتاب» (٢).

٢ ـ أن يكون بالإمكان تخصيص عموم الكتاب به : «اعلم أنّ تخصيص العموم بكلّ دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنّة مقطوع عليها وإجماع لا شبهة فيه ولا خلاف من محقّق في مثله ؛ لأنّ الدليل القاطع إذا دلّ على ضدّ حكم العام لم يجز تناقض الأدلّة ، فلا بدّ من سلامة الدليلين ، ولا يسلمان إلّا بتخصيص ظاهر العموم» (٣).

٣ ـ أن يكون بالإمكان نسخ الحكم به وإن لم يطلق عليه النسخ : «وأمّا

__________________

ـ العاقل على كيفيّة الاستدلال وأنه لا بد في أوّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيديّة على خلاف ذلك وزعموا أن العقول تعمل بمجرّدها من السمع والتوقيف إلّا أن البغداديين من المعتزلة خاصّة يوجبون الرسالة في أوّل التكليف ويخالفون الإمامية في علّتهم لذلك ويثبتون عللا يصححها الإماميّة ويضيفونها إلى علّتهم فيما وصفناه».

أوائل المقالات : ٤٤ و ٤٥.

لكن ومن خلال التدقيق في العبارة المذكورة يتّضح أنّ مراد الشيخ المفيد من استمداد العقل من الوحي ، كان في بداية العالم ونشوء الخلق وكان البشر بحاجة إلى أن يذكر بكلّيات أحكام العقل ، ولعلّ هذا معنى كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فبعث فيهم رسله وواثر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول» نهج البلاغة الخطبة ١ ، لكن وبعد تذكّر تلك الكلّيّات صار العقل قادرا على الفهم ، وقد ذكرنا سلفا أنّ حجّيّة قول الرسول هي بحكم العقل أيضا ، لكن هذا وبطبيعة الحال لا يعني استقلال العقل ؛ لأنّ العقل لدرك الجزئيّات وبعض الكلّيّات بحاجة إلى الوحي وإرشاد الرسل.

(١) الذريعة ، ١ : ٢٢٧.

(٢) الرسائل ١ : ١٢١.

(٣) الذريعة ، ١ : ٢٢٧.

٦٤

النسخ بدليل العقل فغير ممتنع في المعنى ؛ لأنّ سقوط فرض القيام في الصلاة بالزمانة كسقوطه بالنهي ، فمعني النسخ حاصل وإن لم يطلق الإسم» (١).

وهناك خصائص أخرى أيضا ...

إنّ الباحث يجد نماذج كثيرة لهذا النوع من التفسير في تراث السيّد المرتضى التفسيري وقد أشرنا فيما مضى إلى نموذج منه وهنا نذكر نموذجا آخر حيث طبق فيه بعض خواصّ أدلّة العقول الّتي تمّ الإشارة إليها.

فقد سأل سائل ضمن سياق الآية ٣٧ من سورة الأحزاب عن تعارض معاتبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عصمته فأجاب السيّد المرتضى عن هذا السؤال بما يلي : «إنّه إذا ثبت بالدليل عصمة الأنبياء عليهم‌السلام فكلّ ما ورد في القرآن ممّا له ظاهر ينافي العصمة ، ويقتضي وقوع الخطأ منهم ؛ فلا بدّ من صرف الكلام عن ظاهره ، وحمله على ما يليق بأدلّة العقول ؛ لأنّ الكلام يدخله الحقيقة والمجاز ، ويعدل المتكلّم به عن ظاهره وأدلّة العقول لا يصحّ فيها ذلك ، ألا ترى أنّ القران قد ورد بما لا يجوز على الله تعالى من الحركة والانتقال ، كقوله تعالى (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢) وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (٣) ولا بدّ ـ مع وضوح الأدلّة على أنّ الله تعالى ليس بجسم ، واستحالة الانتقال عليه ، الّذي لا يجوز إلّا على الأجسام ـ من تأوّل هذه الظواهر والعدول عمّا يقتضيه صريح الفاظها ؛ قرب التأويل أو بعد.

ولو جهلنا العلم بالتأويل جملة لم يضرّ ذلك مع التمسّك بالأدلة ؛ غاية ما فيه ألّا نعلم قصد المتكلّم بما أطلقه من كلامه ؛ ونعلم إذا كان حكيما أنّ له غرضا صحيحا» (٤).

وبملاحظة المسائل المذكورة يمكن الوصول إلى منهجة الروائي مع ملاحظة دليل العقل ؛ فمثلا في الآية «٢١ ـ ٢٤ من سورة ص» وخلال الاختلاف الّذي

__________________

(١) الرسائل ١ : ١٢١.

(٢) سورة الفجر ، الآية : ٢٢.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢١٠.

(٤) الأمالي ، ٢ : ٣٣٠.

٦٥

وقع بين الخصمين الّذين حضرا عند النبي داود عليه‌السلام وما ورد من روايات تدلّ على وقوع المعصية من قبل داود يعلق السيّد المرتضى على ذلك بقوله : «نحن نجيب بمقتضى الآية ونبيّن أنّه لا دلالة في شيء منها على وقوع الخطأ من داود عليه‌السلام ، فهو الّذي يحتاج إليه ، فأمّا الرواية المدعاة ، فساقطة مردودة ، لتضمّنها خلاف ما يقتضيه العقول في الأنبياء عليهم‌السلام ، قد طعن في رواتها بما هو معروف ، فلا حاجة بنا إلى ما ذكره» (١).

وإذا كان الاقتباس الأوّل ينافي أدلّة العقول فإنّه يعمد إلى انتهاج التأويل (٢) ، ويستعين في هذا الإطار بالشواهد الشعرية واللغوية (٣).

ومن هذا المنطلق فإن وجد روايات مؤيّدة فإنّه يشير إليها ؛ فمثلا في «الآية ٦٩ من سورة الأحزاب» يقول في ردّ الزعم الّذي أوردته بعض الإسرائيليّات من أنّ النبيّ موسى عليه‌السلام كان قد كشف عورته يجيب قائلا : «والّذي روي في ذلك من الصحيح معروف ، وهو أنّ بني إسرائيل لما مات هارون عليه‌السلام قذفوه بأنّه قتله ؛ لأنّهم كانوا إلى هارون عليه‌السلام أميل ، فبرّأه الله تعالى من ذلك بأنّ أمر الملائكة بأن تحمل هارون ميّتا ، فمرّت به على محافل بني إسرائيل ناطقة بموته ومبرئة لموسى عليه‌السلام من قتله. وهذا الوجه يروى عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وروي أيضا أن موسى عليه‌السلام نادى أخاه هارون عليه‌السلام فخرج من قبره فسأله هل قتله قال لا؟ ثمّ عاد إلى قبره. وكلّ هذا جائز والّذي ذكره الجهّال غير جائز» (٤).

وإن كانت هناك روايات تخالف الظهورات القرآنية أو أدلّة العقول فإنّه يرفضها وقد أوردنا لذلك أمثلة. وإن أمكن فإنّه يؤوله ؛ وعلى سبيل المثال يورد على رواية أبي هريرة الّذي يتّهم فيها إبراهيم بالكذب ثلاث مرّات : «ويحتمل ـ

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ١٢٧.

(٢) راجع الأعراف : ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٣) راجع ص : ٢١ ـ ٢٤.

(٤) تنزيه الأنبياء : ١٢٥.

٦٦

إن كان صحيحا ـ أن يريد : ما أخبر بما ظاهره الكذب إلّا ثلاث دفعات ، فأطلق عليه اسم الكذب لأجل الظاهر ، وإن لم يكن على الحقيقة كذلك» (١).

تفسير القرآن بالقرآن

يعدّ النصّ القرآني أفضل نصّ عربي فصاحة وبيانا وأوثق ما عرفته العربية من فنون القول ، ولذلك كان في مقدّمة النصوص الّتي يحتجّ بها ، سواء أتعلق الاستشهاد القرآني بالدراسات الإسلامية أم اللغوية أم غيرهما ، فالشاهد إذا كان كلام الله تعالى ، فهو خير شاهد ، ودونه كلّ الشواهد.

إنّ هذا الأسلوب ـ أعني تفسير القرآن بالقرآن ـ يجعل بعض آي القرآن شاهدا لبعضها الآخر ، فهو يستنطق القرآن في تبيين ما استغلق منه ، وإزالة إشكال ما أشكل أو تخصيص عمومه ، أو التوفيق بين الآيات الّتي يوهم ظاهرها بالتناقض والاختلاف ، مع أنها ليست كذلك (٢).

ولا بدّ لمن يتعرّض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن الكريم أوّلا ، «فيجمع ما تكرّر منه في موضع واحد ، ويقابل الآيات بعضها ببعض ، ليستعين بما جاء مسهبا على معرفة ما جاء موجزا ، وبما جاء مبينا على فهم ما جاء مجملا ، وليحمل المطلق على المقيّد ، والعام على الخاص ، وبهذا يكون قد فسّر القرآن بالقرآن ... وهذه مرحلة لا يجوز لأحد مهما كان أن يعرض عنها ، ويتخطأها إلى مرحلة أخرى (٣).

ويبدو أن علماء التفسير في عهودهم المبكرة التفتوا إلى هذا الأسلوب في في التفسير ، ولعلّ كتاب الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ ه‍) يعدّ من أوائل الكتب الّتي وظفت أسلوب تفسير القرآن بالقرآن على نطاق واسع وبمنهجية متميّزة ، فهو حين يعرض لتفسير لفظة «الهدى» في القرآن الكريم ، يذكر لها سبعة

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٤٥.

(٢) ينظر تفسير القرآن بالقرآن ، ٢٨٥.

(٣) التفسير والمفسّرون ، ٢ : ٤٠.

٦٧

عشر وجها ، ونراه ـ مثلا ـ في الوجه الخامس يقول : والوجه الخامس «هدى» يعني معرفة ، فذلك قوله في النحل : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١) ... نظيرها في الأنبياء : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٢) ، يعني يعرفون الطرق» (٣).

وهكذا يستشهد لكلّ معنى بآية سواء أكانت في السورة نفسها أم في السور الأخرى ، فالقرآن يفسّر بعضه بعضا ، وأن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ ، موافقته لما سبق له من القول ، واتّفاقه مع جملة المعنى ، وائتلافه مع القصد الّذي جاء له الكتاب بجملته (٤).

ومع أنّ طرق التفسير اختلفت ، وأساليبه تعدّدت وتباينت ، إلّا أنّ التفسير بالقرآن ظلّ دائما أمثل الطرق وأفضلها ، وقد نصّ على ذلك العلماء والمهتمون بالدراسات القرآنية ، فذكر ابن كثير (ت ٧٧٤ ه‍) أنّ أصحّ طرق التفسير «هي أن تفسر القرآن بالقرآن ، فما أجمل في مكان قد بسط في موضع آخر» (٥).

وحين عرض الزركشي لطرق التفسير جعل تفسير القرآن بالقرآن في مقدّمتها ، ووصف هذا الأسلوب بأنّه «أحسن طرق التفسير» (٦).

لقد كانت عنايه الشريف المرتضى بهذا الأسلوب كبيرة ، إذ أنّه أكثر من الاستشهاد بالنصوص القرآنية بحيث فاقت الشواهد القرآنية الشواهد الأخرى. فهو لا يكاد يمرّ بمسألة لغوية أو نحوية إلّا يذكر لها ما يناسبها من آيات القرآن الكريم ، وهو في هذا الصدد قوي بارع ، واستشهاداته قوية في دلالتها على ما يريد.

ففي تفسيره لقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٧) ذكر في «غلّت أيديهم» ثلاثة وجوه منها : «أن

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٤.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٣١.

(٣) الاشباه والنظائر في القرآن الكريم : ٩٢ ، وينظر تفسير القرآن بالقرآن : ٢٩٨.

(٤) ينظر مناهل العرفان : ٥٢٠.

(٥) تفسير القرآن العظيم ، ٢ : ٣.

(٦) البرهان ، ٢ : ١٧٥.

(٧) سورة المائدة ، الآية : ٦٤.

٦٨

يكون معنى الكلام وقالت اليهود يد الله مغلولة فغلّت أيديهم ، أو وغلّت أيديهم ، وأضمر تعالى الفاء والواو ، لأنّ كلامهم تمّ واستؤنف بعده كلام آخر ، ومن عادة العرب أن تحذف فيما يجري مجرى هذا الموضع» (١). ثمّ احتجّ لهذا التوجيه اللغوي بقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) (٢) ، فقال : أراد : فقالوا أتتخذنا هزوا ، فاضمر تعالى الفاء ؛ لتمام كلام موسى عليه‌السلام (٣).

[وسنذكر] عناية المرتضى بهذا الأسلوب في كلامنا على الدلالة السياقية ، إذ عوّل كثيرا على الآيات المحيطة بالمفردة المراد تفسيرها ، واتّخذ من سياق الآية قرينة لغوية لتعيين دلالة اللفظة ، ففي بيانه لدلالة قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (٤) ، ذكر وجهين : أحدهما «أن يكون «فلا» بمعنى الجحد وبمنزلة «لم» ، أي فلم يقتحم العقبة ؛ وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظ «لا» كما قال سبحانه : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (٥) أي لم يصدّق ولم يصلّ ، ...» (٦) ، ثمّ يضيف : «وقلما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ ؛ لأنهم لا يقولون : لا جئتني وزرتني ، يريدون : ما جئتني ، فإن قالوا : لا جئتني ولا زرتني صلح ؛ إلّا أن في الآية ما ينوب مناب التكرار ويغني عنه ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٧) فكأنه قال : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ولا آمن ، فمعنى التكرار حاصل» (٨).

وواضح هنا أن الشريف المرتضى يرى أن مجيء «لا» بمعنى «لم» أكثر ما يكون بتكرير لفظ «لا» ، وهو رأي الخليل بن أحمد ، الّذي عدّ هذا الوجه هو الأفصح ، إذ يقول في تفسير الآية : «وأما قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ف «لا» بمعنى «لم» كأنّه قال : فلم يقتحم العقبة ... إلّا أن «لا» بهذا المعنى إذا كررت أفصح

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ٢ : ٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٦٧.

(٣) أمالي المرتضى ، ٢ : ٥.

(٤) سورة البلد ، الآية : ١١.

(٥) سورة القيامة ، الآية : ٣١.

(٦) أمالي المرتضى ، ٢ ـ ٢٨٨ : ٢٨٩ ، وينظر معاني القرآن «للأخفش الأوسط» ، ٢ : ٥٣٨ ، ومعاني القرآن «للزجّاج» ، ٥ : ٣٢٩.

(٧) سورة البلد ، الآية : ١٧.

(٨) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٨٩.

٦٩

منها إذا لم تكرّر» (١) ، ولكن المرتضى وهو مفسّر القرآن بالقرآن ينظر إلى السياق وأثره في توجيه المعنى ، فهناك ما ينوب عن التكرار في الآية وهو قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) ، وكان الزجاج قد سبق إلى هذا المعنى ، وأشار إلى ذلك بقوله : «المعنى فلم يقتحم العقبة ، كما قال : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (٣) ولم يذكر «لا» إلّا مرّة واحدة ، وقلما يتكلّم العرب في مثل هذا المكان إلّا «بلا» مرّتين أو أكثر ... والمعنى في «فلا صدّق ولا صلّى» موجود ... لأن قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) تدلّ على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن» (٤).

ولم يكتف المرتضى وهو يفسّر القرآن بالقرآن بالقرائن المتّصلة المحيطة بالمفردة ، بل يعمد إلى الاستدلال بآيات من سور أخرى ، ونراه ـ في بعض الأحيان ـ يجمع القرائن المتّصلة والقرائن المنفصلة لبيان المعنى المستفاد من النصّ القرآني ، ففي قوله تعالى : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥) ، يفسّر المرتضى «الغواية» بمعنى الخيبة وحرمان الثواب ، فكأنه تعالى قال : «إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفركم ، ويحرمكم ثوابه فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه ، إلّا أن تقلعوا وتتوبوها» (٦). ويعلل هذا التوجيه بقوله : «وقد سمّى الله تعالى العقاب غيا ، فقال : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٧) ، وما قبل هذه الآية يشهد بما ذكرناه ، وأنّ القوم استعجلوا عقاب الله تعالى : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) (٨) الآية ، فأخبر أنّ نصحه لا ينفع من يريد الله أن ينزل به العذاب ، ولا يغني عنه شيئا» (٩).

__________________

(١) العين ، ٨ : ٣٥٠.

(٢) سورة البلد : الآية : ١٧.

(٣) سورة القيامة ، الآية : ٣١.

(٤) معاني القرآن ، ٥ : ٣٢٩ ، وينظر معاني القرآن «للفرّاء» ، ٣ / ٢٦٤. ومغني اللبيب ١ : ٢٦٩.

(٥) سورة هود ، الآية : ٣٤.

(٦) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٤٦.

(٧) سورة مريم ، الآية : ٥٩.

(٨) سورة هود ، الآيتان : ٣٢ ، ٣٤.

(٩) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٤٦.

٧٠

فالمرتضى ـ هنا ـ يجمع بين القرائن المتّصلة الّتي تحيط بالنص ، والقرائن المنفصلة ، أي إنّه يفسر النصّ القرآني بآيات أخر ، قد تكون متّصلة بها ، اما متقدّمة عليها أو متأخّرة عنها ، وقد تكون منفصلة عنها ، وهي في السورة نفسه ، وقد تكون في سورة أخرى ، وهذا يعني أنّه يرى للقرآن وحدة معنوية شاملة ، وليس من الضروري أن يكون النصّ الّذي يحتاج إليه السياق المفسّر مجاورا لتلك الآية الّتي تضمّ السياق المفسّر ، فالقرآن يشهد بعضه على بعض ويفسر بعضه بعضا ، وإن تباعدت سورة وأجزاؤه. وفي مثل هذه المواضع يتّضح جهد المفسّر الدلالي أكثر من غيرها ، لأنّه حين يرد آية إلى آية ليفسّرها بها ، «فأنّما يقوم بعملية ذهنية ذاتية واضحة تتطلب قبل كلّ شيء تتبعا للنصوص القرآن في الذهن ... كما تتطلب مهارة وفهما» (١).

ويتّضح مثل هذا التفسير الدلالي الموازن عند المرتضى في بيانه لدلالة قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٢) ، فقد ذكر قولا لقطرب ، وهو أنّ في الكلام قلبا ، والمعنى : خلق العجل من الإنسان ، لكنّه رفض هذا الرأي «لأن العجلة فعل من أفعال الإنسان ، فكيف تكون مخلوقة فيه لغيره! ولو كان كذلك لما جاز أن ينهاهم عن الاستعجال في الآية ، فيقول : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)، لأنّه لا ينهاهم عمّا خلقه فيهم» (٣). وذكر قولا آخر يرجحه ، وهو أن يكون معنى القول المبالغة في وصف الإنسان بكثرة العجلة ، «وأنه شديد الاستعجال لما يؤثّره من الأمور ... ولهم في ذلك عادة في استعمال مثل هذه اللفظة عند المبالغة ، كقولهم لمن يصفونه بكثرة النوم : ما خلقت إلّا من نوم ... قالت الخنساء تصف بقرة (٤) :

ترتع ما غفلت حتّى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

__________________

(١) تفسير القرآن بالقرآن : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٧.

(٣) أمالي المرتضى ، ١ ـ ٤٦٦ : ٤٦٨.

(٤) ديوانها : ٥٠ ، والرواية فيه :

ترتع ما غفلت حتّى إذا ادّكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

٧١

وإنّما أرادت ما ذكرناه من كثرة وقوع الإقبال والإدبار منها (١).

ويحتج المرتضى لهذا المعنى بقرائن قرآنية متّصلة وأخر منفصلة فيقول : «ويشهد لهذا التأويل قوله في موضع آخر : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (٢) ، ويطابقه أيضا قوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ، لأنّه وصفهم بكثرة العجلة وأن من شأنهم فعلها ، توبيخا لهم وتقريعا ، ثمّ نهاهم عن الاستعجال باستدعاء الآيات من حيث كانوا متمكّنين من مفارقة طريقتهم في الاستعجال (٣). وذهب القرطبي (ت ٦٧١ ه‍) إلى هذا المعنى ، إذ أنّه حمل الكلام في الآية على المبالغة في الوصف (٤) ، ورفض القول بالقلب ، لأنّه ـ كما يقول ـ «لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله ـ لأنّ القلب إنّما يقع في الشعر اضطرارا» (٥).

ويستعين المرتضى بهذا الأسلوب ـ تفسير القرآن بالقرآن ـ لدفع شبهة أو إزالة وهم ، أو ردّ اعتراض معترض ، ويشعرنا منهجه بالحرص على دفع كلّ هذه الشبهات الّتي تتعلّق بلغة القرآن الكريم وتعبيره بصيغة دون أخرى ، كما تتعلّق بمعانيه ، وقد صاغ المرتضى تلك الإشكالات أو الأوهام على صورة أسئلة يثيرها سائلون ، فيجيب عنها بما ينفي الشبهات ويظهر الحقائق ، ففي تفسيره لقوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٦) ، يتوقّع سائلا يسأل : كيف خاطب آدم وحوّاء عليهما‌السلام بخطاب الجمع وهما اثنان؟ وفي الجواب يذكر أكثر من وجه منها : أن يكون الخطاب يختصّ آدم وحوّاء عليهما‌السلام ، وخاطب الاثنين بالجمع على عادة العرب في ذلك ؛ لأن التثنية أوّل الجمع ، قال تعالى : (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٧) ، أراد لحكم داود وسليمان عليهما‌السلام ...» (٨).

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ١ : ٤٦٥ ، وينظر الكشّاف ، ٢ ـ ٥٧٢ : ٥٧٣ ، والتبيان في إعراب القرآن ، ٢ : ٩١٨.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ١١.

(٣) أمالي المرتضى ، ١ ـ ٤٦٥ : ٤٦٦.

(٤) ينظر الجامع لأحكام القرآن ، ١١ : ٢٨٨.

(٥) نفسه ، ١ : ٢٨٨.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ٣٦.

(٧) سورة الأنبياء ، الآية : ٧٨.

(٨) أمالي المرتضى ، ١٥٥ : ٢ ، وتنزيه الأنبياء : ١١٣ ، وينظر الكتاب ، ٢ : ٤٨.

٧٢

ووقف المرتضى عند قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١) ، ويجد أن بعضهم يستدلّ بهذه الآية على نسبة الأفعال الّتي تظهر من العباد إليه تعالى ، لأنه قال بعد ما تقدم من أفعالهم ومعاصيهم : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) فأضافها إلى نفسه (٢) ، وهذا ما يرفضه الشريف المرتضى ويرده بقوله : «وكيف يجوز أن يضيف تعالى ما ذكره من آل فرعون من ذبح الأنبياء وغيره إلى نفسه ، وهو قد ذمّهم عليه ، ووبخهم! وكيف يكون ذلك من فعله ؛ وهو تعالى قد عدّ تخليصهم منه نعمة عليهم!» (٣). وبعد هذا الاحتجاج العقلي يستشهد المرتضى بأدلّة قرآنية لدفع الشبهة وتوكيد المعنى الّذي يذهب إليه ، فقال : «أصل البلاء في كلام العرب الاختبار والامتحان ، ثمّ يستعمل في الخير والشرّ ، لأنّ الاختبار والامتحان قد يكون في الخير والشرّ جميعا ، كما قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) (٤) ، يعني اختبرناهم ، وكما قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٥) ، فالخير يسمّى بلاء ، والشرّ يسمّى (٦) ويرجّح المرتضى أن يكون المراد بالبلاء في الآية الإحسان والنعمة ، وقوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره من تخليصهم من المكروه والعذاب (٧).

وقد ذكر ابن الجوزي (ت ٥٩٨ ه‍) أنّ لفظة (البلاء) في القرآن الكريم جاءت على وجهين : الأوّل : الاختبار ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) (٨) ، والثاني : النعمه ومنه قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٩) (١٠).

ولنا أن نشير إلى أنّ سياق الآيات يرجّح معنى النعمة ، لأن ما قبل الآية

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٤٩.

(٢) ينظر أمالي المرتضى ، ٢ : ١٠٨.

(٣) نفسه ، ٢ : ١٠٩.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٦٨.

(٥) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٥.

(٦) كذا في الأصل.

(٧) نفسه ، ٢ : ١٠٨.

(٨) سورة البقرة ، الآية : ١٢٤.

(٩) سورة البقرة ، الآية : ٤٩.

(١٠) ينظر نزهة الاعين النواظر : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، وتأويل مشكل القرآن : ٤٦٩ ـ ٤٧٠.

٧٣

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، فالمقام هو مقام ذكر النعم الّتي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل ، والله تعالى أعلم.

ويستعين الشريف المرتضى بهذا الأسلوب لدفع الروايات الموضوعة والغريبة عن الفكر الإسلامي الأصيل ، وبخاصّة ما يعرف في علم التفسير ب «الإسرائيليات» الّتي ابتلي بها هذا العلم ، ذلك القصص الّذي نشأ أصلا في ظلّ المنقول عن بعض أهل الكتاب الّذين أسلموا ، وليس لها سند من سماع صحيح أو عقل ، فكان عبثا على علم التفسير ضاق به المحقّقون من المفسّرين (١). وينكر المرتضى مثل هذه القصص ، ويتّضح هذا الشيء في وقوفه عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٢) ، فقد ذكر قول من قال في تفسير هذه الآية : إن جنيا كان اسمه صخرا تمثل على صورة نبي الله سليمان عليه‌السلام ، وجلس على سريره ، وأنه أخذ خاتمه الّذي فيه النبوّة ، فألقاه في البحر ، فذهبت نبوّته وأنكره قومه حتّى عاد إليه من بطن السمكة (٣). ويرفض المرتضى هذا القول وأمثاله من الإسرائيليات ، ويحتجّ لهذا الرفض بدليل القرآن ، فيقول : وأمّا ما رواه الجهّال في القصص في هذا الباب فليس ممّا يذهب على عاقل بطلانه ، وأن مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام وأن النبوّة لا تكون في خاتم وأن الله تعالى لا يمكن الجني من التمثل بصورة النبيّ عليه‌السلام ... وليس في ظاهر القرآن أكثر من أن جسدا ألقي على كرسيه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان ، مثل قوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) (٤) (٥) ، وقد ذكر ابن قتيبة هذا المعنى فقال : الفتنة ،

__________________

(١) ينظر تفسير القرآن العظيم ، ١ ـ ١٣٨ : ١٣٩ ، والقرآن والتفسير : ٢٥٣ ، وسورة الرحمن وسور قصار : ٧ ، ومنهج الطوسي في تفسير القرآن الكريم : ٢٢٩.

(٢) سورة ص ، الآية : ٣٤.

(٣) ينظر تنزيه الأنبياء : ١٢١ ، ومعاني القرآن ، ٤ : ٣٣٢.

(٤) سورة العنكبوت ، الآيات : ١ ـ ٣.

(٥) تنزيه الأنبياء : ١٢١.

٧٤

الاختبار ، يقال : فتنت الذهب في النار : إذا أدخلته إليها لتعلم جودته من رداءته. وقال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (١).

ونجد المرتضى ـ وفي أحيان كثيرة ـ يزاوج بين الشاهد القرآني والشاهد الشعري ، أو بين الشاهد القرآني ودليل العقل ، أو يجمع بين كلّ هذه القرائن لغرض توكيد المعنى الّذي يذهب إليه ، فهو حين يقف عند قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (٢) ، يرى أن ظاهر الآية يشعر أنه تعالى ما شاء أن يكونوا أمّة واحدة وأن يجتمعوا على الإيمان والهدى ، لأن الكناية عن «الرحمة» لا تكون بلفظة «ذلك» ، ولو أرادها لقال : ولتلك خلقهم (٣) ، وهذا بخلاف ما يذهب إليه المرتضى الّذي يقول بالعدل ويرفض الجبر ، ولذا فهو يرد هذا الكلام بدليل العقل وشهادة اللفظ ، فيقول : «فأمّا لفظة ذلك في الآية فحملها على الرحمة أولى من حلمها على الاختلاف ؛ لدليل العقل وشهادة اللفظ ، فأمّا دليل العقل فمن حيث علمنا أنه تعالى كره الاختلاف ، والذهاب عن الدين ، ونهى عنه ، وتوعد عليه ، فكيف يجوز أن يكون شائيا له ... وأمّا شهادة اللفظ فلأن الرحمة أقرب إلى هذه الكناية من الاختلاف ، وحمل اللفظ على أقرب المذكورين إليها أولى في لسان العرب (٤). ولم يكتف المرتضى بدليل العقل وشهادة اللفظ بل يضيف قرائن قرآنية يفسر فيها القرآن بالقرآن ، فيقول : فأمّا ما طعن به السائل ، وتعلّق به من تذكير الكناية ، وأن الكناية عن الرحمة لا تكون إلّا مؤنثة فباطل ، لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، وإذا كنى عنها بلفظ التذكير كانت الكناية على المعنى ، لأن معناها الفضل والإنعام ، كما قالوا سرني كلمتك ، يريدون سرني كلامك ، وقال الله تعالى : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (٥) ، ولم يقل «هذه» وإنّما أراد هذا

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن ، ٤٧٢ ، وينظر الزاهر ، ١ : ٥٨٠.

(٢) سورة هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

(٣) ينظر أمالي المرتضى ، ١ : ٧٠.

(٤) أمالي المرتضى ، ١ ـ ٧٠ : ٧١ ، وينظر التبيان في إعراب القرآن ، ٢ : ٧١٨.

(٥) سورة الكهف ، الآية : ٩٨.

٧٥

فضل من ربّي ، وقالت الخنساء (١) :

فذلك يا هند الرزية فاعلمي

ونيران حرب حين شبّ وقودها (٢)

وواضح هنا أنّ الشريف المرتضى يجعل العقل دليلا كاشفا عن صحّة التفسير أو ضعفه ، فما يرفضه العقل مرفوض عنده باستمرار ، ولكنّه لا يلغي دليل النقل ، ولا يغض من شأنه ، بل يحاول أن يزاوج ما بين المنقول والمعقول ، وأن لا يقيم تعارضا بين حجج العقل وحجج القرآن ، فالتفسير العقلي مضافا إليه التفسير اللغوي يتضافران في توجيهه لدلالة النصّ القرآني ، فالرجل يجمع بين دليل القرآن ودليل اللغة ، وهو في كلّ هذا قوي الحجّة ، واستشهاداته قويّة في دلالتها على ما يريد.

ومن المواطن الأخرى الّتي يجمع المرتضى فيها بين دليل القرآن ودليل العقل ما جاء في بيانه لدلالة قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (٣) ، إذ انّه يرفض قول الّذين ظنّوا في تأويلهم للآية أنّ الله تعالى استخرج من ظهر آدم عليه‌السلام جميع ذرّيته ، وهم في خلق الذرّ ، فقررهم بمعرفته ، وأشهدهم على أنفسهم (٤) ، ويعلّل هذا الرفض بقوله : وهذا التأويل ـ مع أنّ العقل يبطه ويحيله ـ ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه ؛ لأنّ الله تعالى قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ)، ولم يقل : من آدم ، وقال : (مِنْ ظُهُورِهِمْ)، ولم يقل : من ظهره ، وقال : (ذُرِّيَّتَهُمْ) ولم يقل : ذرّيته (٥).

ويؤكّد المرتضى هذا المعنى اللغوي بدليل عقلي ، فيقول : فأمّا شهادة

__________________

(١) ديوانها : ٤٤.

(٢) أمالي المرتضى ، ١ : ٧١.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢.

(٤) ينظر أمالي المرتضى ، ٢٨ : ١. وقد جاء في معاني القرآن (٣ : ٣٩٠) : قال بعضهم : خلق الله الناس كالذر من صلب آدم ، واشهدهم على توحيده ، وهذا جائز أن يكون جعل لأمثال الذرّ فهما تعقل به أمره ، كما قال : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] ... وقال قوم : معناه أن الله جلّ ثناؤه ، أخرج بني آدم بعضهم من ظهور بعض.

(٥) أمالي المرتضى ، ١ : ٢٨ ، وينظر تنزيه القرآن عن المطاعن ، للقاضي عبد الجبّار : ١٤.

٧٦

العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرّيّة الّتي استخرجت من ظهر آدم عليه‌السلام فخوطبت وقرّرت من أن تكون كاملة العقول ... أو لا تكون كذلك ، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم ، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال ، وما قرّروا به ، واستشهدوا عليه ؛ لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى ، وإن بعد العهد وطال الزمان ... وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم ، وصار ذلك عبثا قبيحا ، يتعالى الله عنه (١). وبعد هذا التحليل العقلي الدقيق يذكر المرتضى وجهين في معنى الآية يرجحهما ، أحدهما : أنّه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيبا يدلّ على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته ، وأراهم العبر والآيات في أنفسهم وفي غيرهم ، كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ... وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢) ، وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ، ولا منهما جواب» (٣). ولم يبتعد الزمخشري عن هذا القول ، إذ انّه جعل الآية من باب التمثيل والتخييل قائلا : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) من باب التمثيل والتخييل ، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلّة على ربوبيّته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وأبصارهم الّتي ركبها فيهم» (٤).

وخلاصة القول : إنّ أسلوب تفسير القرآن بالقرآن من الأساليب الّتي اعتمدها الشريف المرتضى في تفسيره وبيانه لدلالة النصّ القرآني ، إذ تميز منهجه بإيراد النصوص القرآنية ، وهو يعرض مادّته لتأكيد أحكامه في قضيّة ما ، لغوية كانت أم نحوية أم تفسيرية ، ولا أقول : إنّه أوّل من استعمل هذا الأسلوب فقد سبقه علماء التفسير واللغة ، ولكن الشيء الّذي يلاحظ أن الشريف المرتضى قد

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ١ ـ ٢٨ : ٢٩ ، ورسائل الشريف المرتضى ، ١ ـ ١١٣ : ١١٤.

(٢) سورة فصلت ، الآية : ١١.

(٣) أمالي المرتضى ، ١ : ٣٠.

(٤) الكشّاف ، ٢ : ١٢٩.

٧٧

أكثر من الاستشهاد بآيات القرآن الكريم ، فهو لا يكاد يمرّ بمسألة إلّا ويذكر لها ما يناسبها من آي القرآن الكريم ، وفي كثير من الأحيان لا يكتفي بشاهد واحد ، بل يسوق أكثر من شاهد في المسألة الواحدة. فالرجل يستنطق القرآن نفسه ، ويطبق الآراء الّتي استقاها من السياق القرآني ويسخرها أداة في التفسير ، وهو حين يفسر آية بأخرى ، وهي ليست ذات دلالة قطعية ، قد يستند إلى فهم آخر قد يكون عقليّا أو لغويا ، فهو يستعين بأكثر من أداة لأجل توضيح الآية دلاليا.

الدلالة السياقيّة

السياق هو «النظم اللفظي للكلمة وموقعها من ذلك النظم» (١) ولا شكّ في أنّ عددا من المفردات قد لا يتّضح معناها بدقّة في ضوء التفسير المعجمي لها ، لذا «يظلّ تحديد معنى الكلام محتاجا إلى مقاييس وأدوات أخرى غير مجرّد النظر إلى القاموس» (٢) ، ذلك أنّ المعنى المعجمي الّذي يدور حول الكلمة المفردة متعدّد ومحتمل ، وهو قابل للدخول في سياق معيّن ، ولا يحدد هذا المعنى إلّا السياق الّذي لا يقبل التعدّد أو الاحتمال. «ففي كلّ مرّة تستعمل فيه الكلمة تكتسب معنى محددا مؤقتا ، ويفرض السياق قيمة واحدة على الكلمة هي المعنى الّذي تدلّ عليه في سياق معيّن دون آخر» (٣). وعلى هذا فإنّ السياق يخلص الكلمة من ركامها الدلالي عبر التأريخ ، وفي هذا يقول فندريس : «ويخلص الكلمة من الدلالات الماضية الّتي تدعها الذاكرة تتراكم عليها ، وهو الّذي يخلق لها قيمة حضورية» (٤).

وقد كانت نظرية السياق واحدة من نتائج البحث الدلالي الحديث ، بيد أنّنا نلمس جذورها في كتب النقد العربية القديمة ، إذ كانت أهمّيّة النص الهاجس الأوّل لدي كتابنا القدماء ولغويينا العرب (٥). وفي إشارة إلى أهمّيّة السياق يرى

__________________

(١) دور الكلمة في اللغة : ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) علم اللغة : ٢٩٠ ، والصحيح «المعجم» بدل «القاموس».

(٣) منهج البحث اللغوي : ٩٤.

(٤) اللغة : ٤٣.

(٥) ينظر علم الدلالة العربي : ٣٢.

٧٨

عبد القاهر الجرجاني أنّ الكلمة في ذاتها ليست جيّدة ولا رديئة ، لكنّها تحسن في موضع وتسوء في آخر ، إذ يقول : «إنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة ، ولا من حيث هي كلم مفردة ، وأنّ الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى الّتي تليها ، وما أشبه ذلك ، ممّا لا تعلّق له بصريح اللفظ» (١).

وقد أولى المهتّمون بالدراسات اللغوية الحديثة عناية خاصّة بهذا البعد في الدلالة اللغوية ، ونظروا إلى نظرية السياق على أنّها حجر الأساس في علم المعنى ، وإلى ذلك أشار ستيفن بقوله : «إنّ نظرية السياق ـ إذا طبقت بحكمة ـ تمثل حجر الأساس في علم المعنى» (٢). وقسم من هؤلاء لا يتورّع في المبالغة في هذا المفهوم ، بحيث يرى أن لا معنى للكلمة المفردة من غير أن تكون داخل السياق ، وفي هذا يقول راسل : «الاستعمال يأتي أوّلا وحينئذ يتقطر المعنى» (٣).

وعلى الرغم من أنّه «لا يمكن فهم أية كلمة على نحو تام ، بمعزل عن الكلمات الأخرى ذات الصلة بها ، والّتي تحدد معناها» (٤) ، ولكن هذا لا يمنع من القول : «إنّ في كلّ كلمة نواة صلبة من المعنى ، ثابتة ـ نسبيا ـ ويمكن تكييفها بالنصّ ضمن حدود معيّنة» (٥). وبهذا لا نلغي المعنى الأساسي للكلمة المفردة ، ولا نقلل من أهمّيّة السياق في إعطاء الكلمة أثرها على وفق نظمها بين الكلمات الأخرى.

وبعد هذا المدخل نحاول أن نتعرف رأي الشريف المرتضى في هذا الشأن ، ومن ثمّ بيان أهمّية السياق عنده ، وكيف كان ينظر إلى الكلمات وهي مفردة؟ ثمّ إليها وهي مؤلّفة في سياقات مختلفة.

لقد أدرك الشريف المرتضى أن في الألفاظ مركّبة دلالة مستنبطة هي غير دلالتها المجرّدة ، ولذا فهو يصرح بأن «اللفظ إذا تعقّبة غيره تغيّرت حاله ... ألا

__________________

(١) دلائل الإعجاز : ٤٦.

(٢) دور الكلمة في اللغة : ٥٩.

(٣) علم الدلالة ، أحمد مختار عمر : ٧٢.

(٤) اللغة والمعنى والسياق : ٨٣.

(٥) منهج البحث اللغوي : ٩٤.

٧٩

ترى أن أكثر الكلام مركّب ممّا إذا فصلنا بعضه عن بعض أفاد ما لا يفيده المركّب» (١). وهذا تصريح بمفهوم السياق حيث يتّفق مع مقولة المحدثين في أنّ معنى الكلمة لا يمكن معرفته وهي منعزلة بمفردها من غير أن نعرف موضعها في النص ، ذلك أن الواجهة الأخرى في المواقف اليومية الّتي نسأل فيها عن معنى الكلمات هي تلك الّتي يقال عنها عادة أنها تعتمد على النصّ ... وغالبا ما يستحيل إعطاء معنى كلمة دون وضعها في نصّ (٢) ، فالدلالة المعجمية للمفردة ـ إذن ـ لا تمثل إلّا جانبا واحدا محددا من دلالتها ، ومن هنا فإنّ السياق اللغوي يحلّ إشكالات لغوية كثيرة تقف حائلا دون فهم التركيب اللغوي (٣).

وممّا يلفت نظر الباحث عناية الشريف المرتضى بالسياق القرآني ، فقد عول عليه في تفسير كثير من المفردات القرآنية ، وسنحاول ـ إن شاء الله ـ تلمس الدلالة السياقية عند المرتضى في اتجاهين :

دلالة السياق اللفظي :

ويراد به في الاصطلاح نسق الكلام ، إذ ترتبط الكلمات في السياق بعلاقاتها بما قبلها وما بعدها (٤) ، فهو ـ إذن ـ ما يصاحب اللفظ ممّا يساعد على توضيح المعنى (٥) ، من ألفاظ سواء تقدّمته أو تأخّرت عنه ، فمعظم الوحدات الدلالية تقع في مجاورة وحدات أخرى ، وإن معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفها أو تحديدها إلّا بملاحظة الوحدات الأخرى الّتي تقع مجاورة لها» (٦).

وللقرآن الكريم نظمه الخاصّ به ، وهو من أبرز وجوه الإعجاز عند العلماء ، ولقد نظم القرآن «جمله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ، ١ : ٢٤٠.

(٢) علم الدلالة : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) ينظر اللغة والمجتمع (رأي ومنهج) : ١١ وما بعدها.

(٤) ينظر مناهج البحث في اللغة : ٢٣٣.

(٥) ينظر المعاجم اللغوية في ضوء دراسات علم اللغة الحديث : ١١٦.

(٦) ينظر علم الدلالة : ٦٨.

٨٠