تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

فقال : «ولليدين جسأة وبددا» ؛ أي أنّه يعلم هذا وذاك معا ؛ وكذلك لمّا كان في قوله : «علفت» معنى غذيت عطف عليه الماء ؛ لأنّه ممّا يغتذي به ؛ وكذلك لمّا كان المتقلّد للسيف حاملا له جاز أن يعطف عليه الرمح المحمول. وهذا أولى في الطعن على الاستشهاد بهذه الأبيات ممّا ذكره ابن الأنباريّ (١).

ـ (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٥٤].

[إن سأل سائل] فقال : كيف يجوز أن يتعبّدهم بقتل أنفسهم ، والعبادة بذلك لا تحسن إلّا تكون مصلحة لهذا المكلّف في دينه ؛ إمّا بأن يفعل طاعة أو يمتنع من قبيح ؛ وهو بعد الموت قد خرج من كلّ تكليف ، فلا يصحّ منه شيء من الأفعال!.

الجواب : إن المفسّرين قد اختلفت أقوالهم في هذه الآية :

فمنهم من ذهب إلى أنّه تعالى كلّفهم أن يقتلوا أنفسهم القتل الحقيقيّ المعهود.

ومنهم من ذهب إلى أنّه تعالى كلّفهم أن يقتل بعضهم بعضا.

ومنهم من حمل الآية على أنّ المراد بها تكليف الاستسلام للقتل ؛ ويقول : إنّهم استحقّوا بعبادة العجل القتل ، فلما تابوا أمرهم الله تعالى بأن يستسلموا لمن يقتلهم ؛ كما كلّف الله القاتل لغيره أن يستسلم للقود منه.

فأمّا الوجه الأول فيبطل بما ذكر في السؤال ؛ ولا يجوز أن يكون وجه حسن هذا التكليف المصلحة لغير المقتول ؛ لأنّ مصلحة زيد لا تكون وجها في وجوب الفعل على عمرو ؛ ولا يمكن أن يقال : إنّ مصلحة المأمور بقتل نفسه في نفس الأمر والتكليف قبل أن يقتل نفسه ؛ فإنّ ذلك ربّما كان لطفا له في بعض العبادات ؛ وذلك لأنّ الأمر بما ليس له وجه وجوب أو ندب لا يحسن ؛ بل

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٢٣.

٤٢١

يكون الأمر قبيحا ؛ وإذا كان الأمر قبيحا لم يحسّنه أن يكون فيه لطف لبعض المكلّفين ؛ بل يمنع منه كما يمنع من أن يلطف لبعض المكلّفين بما هو قبيح في نفسه ؛ فلم يبق بعد إبطال هذا الوجه إلّا الوجهان الأخيران ؛ من الاستسلام لمن يقتلهم القتل الذي استحقّوه ، أو قتل بعضهم بعضا ؛ فقد روي أنّهم برزوا بأسيافهم ؛ واصطفّوا صفّين يضرب بعضهم بعضا ، فمن قتل منهم كان شهيدا ، ومن نجا كان تائبا.

ويمكن في الآية وجه آخر ؛ ما رأينا أحدا من المفسّرين سبق إليه ؛ وهو إن لم يزد في القوة على ما ذكروه لم ينقص عنه ؛ وهو أن يكون المراد بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي اجتهدوا في التوبة ممّا أقدمتم عليه ، والندم على ما فات ، وإدخال المشاقّ الشديدة عليكم في ذلك ؛ حتّى تكادوا أن تكونوا قتلتم أنفسكم ؛ وقد يسمّى من فعل ما يقارب الشيء باسم فاعله ، ومذهب أهل اللغة في ذلك معروف مشهور ؛ يقولون : ضرب فلان عبده حتى قتله ، وفلان قتله العشق ، وأخرج نفسه ، وأبطل روحه ، وما جرى مجرى ذلك ؛ وإنّما يريدون المقاربة والمشارفة والمبالغة في وصف التناهي والشدّة ؛ فلمّا أراد تعالى أن يأمرهم بالتناهي والمبالغة في الندم على مافات ، وبلوغ الغاية القصوى فيه جاز أن يقول : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

فإذا قيل طعنا على هذا الجواب : إنّما تسمّى مقاربة القتل قتلا مجازا وتوسّعا ، وحمل الكلام على حقيقته أولى!.

الجواب : أنّ الوجهين اللذين ذكرهما المفسّرون في هذه الآية من قتل بعضهم بعضا ، والاستسلام للقتل مبنيّان أيضا على المجاز ؛ وظاهر التنزيل بخلافهما ؛ لأنّ الاستسلام للقتل ليس بقتل على الحقيقة ؛ وإنّما سمّي باسمه من حيث يؤدّي إليه ، وكذلك قتل بعضهم بعضا مجاز ؛ لأنّ القاتل غير المقتول ؛ وظاهر الآية يقتضي أن القاتل هو المقتول.

وأمّا استشهادهم في تقوية هذا الوجه بقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعنى

٤٢٢

إخوانكم فلا يغني شيئا ؛ لأنّ ذلك مجاز لا محالة ؛ وإنّما حمل على الإخوان بدليل. والظاهر أن يكون تكليفا لقتل الواحد نفسه ، وسلامة على نفسه.

فإن قيل : كيف يجوز أن يستحقّ القتل بعد التوبة من الوجوه التي بها استحقّ القتل؟.

قلنا : غير ممتنع أن يكلّفنا الله تعالى ـ بعد التوبة من الكفر ـ القتل امتحانا ؛ لا على سبيل العقوبة.

فإن قيل : كيف يصح أن تكون التوبة نفسها قتل أنفسهم ؛ والتوبة هي الندم والعزم ، وهما غير القتل!.

قلنا : الجواب الصحيح عن السؤال أن الفاء في الآية عاطفة للقتل على التوبة ، وليست بمنبئة أنّ القتل هو التوبة على ما ظنّه بعض من لم يتأمّل. وهو جار مجرى قوله : ضربت زيدا فعمرا ؛ فالفاء هاهنا عاطفة وقائمة مقام الواو ؛ إلّا أن لها زيادة على حكم الواو ، فإنّ الفاء تقتضي الجمع الذي تقتضيه الواو ، وتقتضي الترتيب والتعقيب اللذين لا يفهمان من الواو ؛ فكأنّه تعالى قال : فتوبوا إلى بارئكم واقتلوا أنفسكم ؛ فلمّا أمرهم بالقتل عقيب التوبة ؛ أدخل الفاء التي هي علامة على ذلك.

وقد أجاب بعض الناس بأن قال : ما لا تتمّ التوبة إلّا به ، ومعه يصحّ أن يسمّى باسمها ؛ كما يقال للغاصب إذا عزم على التوبة : إنّ توبتك ردّ ما غصبت ؛ وإنّما يريد : أنّ توبتك لا تتمّ إلّا به. وقد بيّنّا ما يغني عن ذلك في الجواب الذي اخترناه ، وهو أولى وأوضح (١).

ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٥].

أنظر الاعراف : ١٤٣ من الأمالي ، ١٨٥ : ٢.

ـ (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١].

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٣١٠.

٤٢٣

أنظر البقرة : ٣٦ من الأمالي ، ١٣٥ : ٢.

ـ (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٦١].

أنظر الحج : ٢٦ من الرسائل ، ١١٧ : ٣.

ـ (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ١٧٧ : ٢ : إلى ٢٤٧.

ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥].

تأول سيدنا «أدام الله نعماءه» ما ورد في المسوخ مثل الدبّ والفيل والخنزير وما شاكل ذلك ، على أنّها كانت على خلقة جميلة غير منفور عنها ، ثمّ جعلت هذه الصور المسيئة على سبيل التنفير عنها ، والزيادة في الصدّ عن الانتفاع بها.

وقال : لأنّ بعض الاحياء لا يجوز أن يصير حيّا آخر غير ، وإذا أريد بالمسخ هذا فهو باطل ، وإن أريد غيره نظرنا فيه.

فما جواب من سأل عند سماع هذا عن الأخبار الواردة عن النبي والأئمة عليهم‌السلام بأنّ الله تعالى يمسخ قوما من هذه الأمّة قبل يوم القيامة كما مسخ في الأمم المتقدّمة ، وهي كثيرة لا يمكن الاطالة بحصرها في كتاب.

وقد سلم الشيخ المفيد رحمه‌الله صحّتها ، وضمن ذلك الكتاب الذي وسمه ب «التمهيد» وأحال القول بالتناسخ ، وذكر أنّ الأخبار المعوّل عليها لم يرد إلّا بأنّ الله تعالى يمسخ قوما قبل يوم القيامة.

وقد روى النعماني كثيرا من ذلك ، يحتمل النسخ والمسخ معا ، فمّما رواه ما أورده في كتاب «التسلي والتقوي» وأسنده إلى الصادق عليه‌السلام حديث طويل ، يقول في آخره :

«وإذا احتضر الكافر حضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام وجبرئيل وملك الموت ، فيدنو إليه علي عليه‌السلام ، فيقول : يا رسول الله إن هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه ، فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل إنّ هذا كان يبغض الله ورسوله

٤٢٤

وأهل بيت رسوله فأبغضه ؛ فيقول جبرئيل لملك الموت : إنّ هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيته فأبغضه وأعنف به ، فيدنو منه ملك الموت ؛ فيقول : يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك؟ أخذت أمان براءتك؟ تمسّكت بالعصمة الكبرى في دار الحياة الدنيا؟ فيقول : وما هي؟ فيقول : ولاية علي بن أبي طالب ؛ فيقول : ما أعرفها ولا أعتقد بها ؛ فيقول له جبرئيل : يا عدو الله وما كنت تعتقد؟ فيقول : كذا وكذا ؛ فيقول له جبرئيل : أبشر يا عدوّ الله بسخط الله وعذابه في النار ، أمّا ما كنت ترجو فقد فاتك ، وأمّا الذي كنت تخافه نزل بك. ثمّ يسلّ نفسه سلّا عنيفا ، ثمّ يوكّل بروحه مائة شيطان كلّهم يبصق في وجهه ويتأذى بريحه. فإذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النار ، يدخل إليه من فوح ريحها ولهبها ، ثم إنّه يؤتى بروحه إلى جبال برهوت ، ثمّ إنّه يصير في المركّبات حتى أنّه يصير في دودة ، بعد أن يجري في كلّ مسخ مسخوط عليه ، حتى يقوم قائمنا أهل البيت ، فيبعثه الله ليضرب عنقه ، وذلك قوله : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١). والله لقد أتي بعمر بن سعد بعد ما قتل ، وأنّه لفي صورة قرد في عنقه سلسلة ، فجعل يعرف أهل الدار وهم لا يعرفونه. والله لا يذهب الدنيا حتى يمسخ عدوّنا مسخا ظاهرا حتّى أنّ الرجل منهم ليمسخ في حياته قردا أو خنزيرا ، ومن ورائهم عذاب غليظ ومن ورائهم جهنّم وساءت مصيرا (٢).

والأخبار في هذا المعنى كثيرة قد جازت عن حدّ الآحاد ، فإن استحال النسخ وعوّلنا على أنّه ألحق بها ، ودلس فيها وأضيف إليها ، فماذا يحيل المسخ؟ وقد صرّح به فيها وفي قوله : (أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) (٣) وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٤) وقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) (٥).

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ١١.

(٢) أورد الرواية بتمامها عن الرسالة في البحار ، ٤٥ : ٣١٢ ، ٣١٣.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٦٠.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٦٥.

(٥) سورة يس ، الآية : ٦٧.

٤٢٥

والأخبار ناطقة بأنّ معنى هذا المسخ هو إحالة التغيير عن بنية الانسانية إلى ما سواها.

وفي الخبر المشهور عن حذيفة أنّه كان يقول : «أرأيتم لو قلت لكم أنّه يكون فيكم قردة وخنازير ، أكنتم مصدّقي فقال رجل يكون فينا قردة وخنازير قال وما يؤمنك لا أمّ لك» (١). وهذا تصريح بالمسخ.

وقد تواترت الاخبار بما يفيد أن معناه : تغيير الهيئة والصورة (٢).

وفي الأحاديث : أنّ رجلا قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وقد حكم عليه بحكم ـ :

والله ما حكمت بالحقّ ؛ فقال له : اخسأ كلبا ، وأنّ الأثواب تطايرت عنه وصار كلبا يمصع بذنبه (٣).

وإذا جاز أن يجعل الله جلّ وعزّ الجماد حيوانا ، فمن ذا الذي يحيل جعل حيوان في صورة حيوان آخر.

رعاني الرأي لسيدنا الشريف الأجل «أدام الله علاه» في إيضاح ما عنده. الجواب :

إعلم أنّا لم نحل المسخ ، وإنّما أحلنا أن يصير الحيّ الذي كان انسانا نفس الحيّ الذي كان قردا ؛ أو خنزيرا. والمسخ أن يغيّر صورة الحيّ الذي كان انسانا يصير بهيمة ، لا أنّه يتغيّر صورته إلى صورة البهيمة.

والأصل في المسخ قوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) وقوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ).

وقد تأوّل قوم من المفسرين آيات القرآن التي في ظاهرها المسخ ، على أنّ

__________________

(١) راجع الدر المنثور ٢ / ٢٩٥.

(٢) أورد العلامة المجلسى جملة منها في البحار ٧٦ / ٢٢٠ ـ ٢٤٥.

(٣) يمصع بذنبه : أى يحركه ، كأنه يتملق بذلك.

٤٢٦

المراد بها أنّا حكمنا بنجاستهم ، وخسة منزلتهم ، وايضاع أقدارهم لمّا كفروا وخالفوا ، فجروا بذلك مجرى القرود التي [لها] هذه الاحكام ، كما يقول أحدنا لغيره : «ناظرت فلانا وأقمت عليه الحجّة حتى مسخته كلبا» على هذا المعنى.

وقال آخرون : بل أراد بالمسخ أنّ الله تعالى غيّر صورهم وجعلهم على صور القرود على سبيل العقوبة لهم والتنفير عنهم.

وذلك جائز مقدور لا مانع له ، وهو أشبه بالظاهر وأمرّ عليه. والتأويل الأوّل ترك للظاهر ، وإنّما تترك الظواهر لضرورة وليست هاهنا.

فإن قيل : فكيف يكون ما ذكرتم عقوبة؟

قلنا : هذه الخلقة إذا ابتدأت لم تكن عقوبة ، وإذا غير الحيّ المخلوق على الخلقة التامّة الجميلة إليها كان ذلك عقوبة ؛ لأنّ تغيّر الحال إلى ما ذكرناه يقتضي الغمّ والحسرة.

فان قيل : فيجب أن يكون مع تغيّر الصورة ناسا قردة ، وذلك متناف.

قلنا : متى تغيّرت صورة الانسان إلى صورة القرد ، لم يكن في تلك الحال انسانا ، بل كان انسانا مع البنية الاولى ، واستحقّ الوصف بأنّه قرد لمّا صار على صورته ، وإن كان الحيّ واحدا في الحالين.

ويجب فيمن مسخ قردا على سبيل العقوبة أن يذمّه مع تغيّر الصورة على ما كان منه من القبائح ؛ لأنّ تغيّر الهيئة والصورة لا يوجب الخروج عن استحقاق الذمّ ، كما لا يخرج المهزول إذا سمن عمّا كان يستحقّه من الذمّ ، وكذا السمين إذا هزل.

فإن قيل : فيقولون : إنّ هؤلاء الممسوخين تناسلوا ، وأنّ القردة في أزماننا هذه من نسل أولئك.

قلنا : ليس يمتنع أن يتناسلوا بعد أن مسخوا ، لكن الإجماع على أنّه ليس شيء من البهائم من أولاد آدم ، ولولا هذا الاجماع لجوّزنا ما ذكروا.

[و] على هذه الجملة التي قرّرناها لا ينكر صحّة الأخبار الواردة من طرقنا

٤٢٧

بالمسخ ؛ لأنّها كلّها تتضمّن وقوع ذلك على من يستحقّ العقوبة والذمّ من الأعداء والمخالفين.

فإن قيل : أفتجوّزون أنّ يغيّر الله تعالى صورة حيوان جميلة إلى صورة أخرى غير جميلة ، بل مشوّه منفور عنها أم لا تجوّزون ذلك؟

قلنا : إنّما أجزنا في الأوّل ذلك على سبيل العقوبة لصاحب هذه الخلقة التي كانت جميلة ، ثم تغيّرت ؛ لأنّه يغتمّ بذلك ويتأسّف ، وهذا الغرض لا يتمّ في الحيوان الذي ليس بمكلّف ، فتغيّر صورهم عبث ، فإن كان في ذلك غرض يحسن لمثله جاز (١).

ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)) [البقرة : ٦٧ ـ ٧٠].

[فسّر السيّد هذه الآيات في موضعين من كتبه ، لا يخلو ذكرهما معا من فوائد ، وهما كالتالي :]

[الأوّل : إن سأل سائل] فقال : ما تأويل هذه الآيات؟ وهل البقرة التي نعتت بهذه النعوت هي البقرة المرادة باللفظ الأوّل والتكليف واحد ، والمراد مختلف والتكليف متغاير؟.

الجواب : قلنا : أهل العلم في تأويل هذه الآية مختلفون بحسب اختلاف أصولهم ؛ فمن جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب يذهب إلى أنّ التكليف واحد ، وأنّ الأوصاف المتأخرة هي للبقرة المتقدّمة ؛ وإنّما تأخّر البيان ، ولمّا سأل القوم عن الصفات ورد البيان شيئا بعد شيء.

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ٣٥٠.

٤٢٨

ومن لم يجوّز تأخير البيان يقول : إنّ التكليف متغاير ؛ وإنّهم لمّا قيل لهم : اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلّا ذبح أيّ بقرة شاؤوا ، من غير تعيين بصفة ، ولو أنّهم ذبحوا أيّ بقرة اتّفقت كانوا قد امتثلوا الأمر ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة لا فارض ولا بكر ، ولو ذبحوا ما اختصّ بهذه الصفة من أيّ لون كان لأجزأ عنهم ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة صفراء ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح ما اختصّ بالصفات الأخيرة.

ثمّ اختلف هؤلاء من وجه آخر ، فمنهم من قال في التكليف الأخير : إنّه يجب أن يكون مستوفيا لكلّ صفة تقدّمت ، حتى تكون البقرة مع أنّها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث ، مسلّمة لاشية فيها ، [صفراء فاقع لونها ، ولا فارض ولا بكر]. ومنهم من قال : إنّما يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط ، دون ما تقدّم.

وظاهر الكتاب بالقول المبنى على جواز تأخير البيان أشبه ، وذلك أنّه تعالى لمّا كلّفهم ذبح بقرة قالوا للرسول : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ)، فلا يخلو قولهم : (ما هِيَ) من أين يكون كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها ، أو عن التي أمروا بها ثانيا ؛ على قول من يدّعي ذلك.

وليس يجوز أن يكون سألوا عن الصفة التي تقدّم ذكرها ، لأن الظاهر من قولهم «ما هى» بعد قوله لهم : اذبحوا بقرة يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها ؛ ولأنّه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها ؛ وإذا صحّ أنّ السؤال إنّما كان عن صفة البقرة المنكّرة التي أمروا في الابتداء بذبحها فليس يخلو قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) من أن يكون كناية عن البقرة الأولى ، أو عن غيرها ، وليس يجوز أن يكون ذلك كناية عن بقرة ثانية ، لأنّ ظاهر قوله : إنّها بقرة من صفتها كذا بعد قولهم : «ما هى» يقتضي أن يكون كناية متعلّقة بما تضمّنه سؤالهم ، ولأنّ الأمر لو لم يكن على ما ذكرناه لم يكن ذلك جوابا لهم ، بل كان يجب أن يكونوا سألوه عن شيء فأجابهم عن غيره ، وهذا لا يليق بالنبي عليه‌السلام.

على أنّه لمّا أراد أن يكلّفهم تكليفا ثانيا عند تفريطهم في الأوّل على ما

٤٢٩

يدعيه من ذهب إلى هذا المذهب قد كان يجب أن يجيبهم عن سؤالهم ، وينكر عليهم الاستفهام في غير موضعه ، وتفريطهم فيما أمروا به ؛ ممّا لا حاجة بهم إلى الاستفهام عنه ، فيقول في جواب قولهم : «ما هى» إنّما كلّفتم أيّ بقرة شئتم ، وما يستحقّ اسم بقرة ، وقد فرّطتم في ترك الامتثال ، وأخطأتم في الاستفهام مع وضوح الكلام إلّا أنكم قد كلّفتم ثانيا كذا وكذا ، لأنّ هذا ممّا يجب عليه بيانه ؛ لإزالة الشكّ والإبهام واللبس ؛ فلمّا لم يفعل ذلك ، وأجاب بالجواب الذي ظاهره يقتضي التعلّق بالسؤال علم أنّ الأمر على ما ذكرناه. وهب أنّه لم يفعل ذلك في أوّل سؤال ، كيف لم يفعله مع تكرار الأسئلة والاستفهامات التي لم تقع على هذا المذهب بموقعها؟ ومع تكرّر المعصية والتفريط كيف يستحسن أن يكون جميع أجوبته غير متعلّقة بسؤالاتهم؟ لأنّهم يسألونه عن صفة شيء فيجيبهم بصفة غيره من غير بيان ؛ بل على أقوى الوجوه الموجبة لتعلّق الجواب بالسؤال ؛ لأنّ قول القائل في جواب من سأله ما كذا وكذا؟ إنّه بالصفة الفلانية صريح في أنّ الهاء كناية عمّا وقع السؤال عنه ؛ هذا مع قولهم : إنّ البقر تشابه علينا ، لأنّهم لم يقولوا ذلك إلّا وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبيّن ، فلم لم يقل : أيّ تشابه عليكم إذ إنّما أمرتم في الابتداء بأيّ بقرة كانت ، وفي الثاني بما اختصّ باللون المخصوص من أيّ البقر كان؟

فإن قيل : كيف يجوز أن يأمرهم بذبح بقرة لها جميع الصفات المذكورة إلى آخر الكلام ولا يبيّن ذلك لهم ، وهل هذا إلّا تكليف ما لا يطاق!.

قلنا : لم يرد منهم أن يذبحوا البقرة في الثاني من حال الخطاب ؛ ولو كانت حال الفعل حاضرة لما جاز أن يتأخّر البيان ، لأنّ تأخيره عن وقت الحاجة هو القبيح الذي لا شبهة في قبحه ، وإنّما أراد أن يذبحوها في المستقبل ، فلو لم يستفهموا ويطلبوا البيان لكان قد ورد عليهم عند الحاجة إليه.

فإن قيل : إذا كان الخطاب غير متضمّن لصفة ما أمروا بذبحه ، فوجوده كعدمه ، وهذا يخرجه من باب الفائدة ، ويوجب كونه عبثا!

قلنا : ليس يجب ما ظننتم ؛ لأنّ القول وإن كان لم يفد صفة البقرة بعينها

٤٣٠

فقد أفاد تكليف ذبح بقرة على سبيل الجملة ؛ ولو لم يكن ذلك معلوما قبل هذا الخطاب ، لصار مفيدا من حيث ذكرنا ، وخرج من أن يكون وجوده كعدمه.

وفوائد الكلام لا يجب أن يدخلها الاقتراح ، وليس يخرج الخطاب من تعلّقه ببعض الفوائد كونه غير متعلّق بغيرها ، وبما هو زيادة عليها.

فإن قيل : ظاهر قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) يدلّ على استبطائهم وذمّهم على التقصير في امتثال الأمر!.

قلنا : ليس ذلك صريح ذمّ ، لأنّ «كادوا» للمقاربة ، وقد يجوز أن يكون التكليف صعب عليهم لغلاء ثمن البقرة التي تكاملت لها تلك الصفات ، فقد روي أنّهم ابتاعوها بملء جلدها ذهبا.

على أنّ الذمّ يقتضي ظاهره أن يصرف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التامّ ، لأنّ قوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) إنّما ورد بعد تقدّم البيان التامّ المتكرّر ، ولا يقتضى ذمّهم على ترك المبادرة في الأوّل إلى ذبح بقرة ، فليس فيه دلالة على ما يخالف ما ذكرناه.

فإن قيل : لو ثبت تقديرا أنّ التكليف في البقرة متغاير ، أيّ القولين اللّذين حكيتموهما عن أهل هذا المذهب أصحّ وأشبه؟

قلنا : قول من ذهب إلى أنّ البقرة إنّما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط ، لأنّ الظاهر به أشبه ؛ من حيث إذا ثبت تغاير التكليف. وليس في قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) إلى آخر الأوصاف ذكر لما تقدّم من الصفات ، وهذا التكليف غير الأوّل ، فالواجب اعتبار ما تضمّنه لفظه والاقتصار عليه.

فأمّا «الفارض» فهي المسنّة ، وقيل : هي العظيمة الضخمة ؛ يقال : غرب فارض ، أي ضخم ، والغرب الدلو ؛ ويقال أيضا : لحية فارضة ؛ إذا كانت عظيمة : والأشبه بالكلام أن يكون المراد المسنّة.

فأما «البكر» فهي الصغيرة التي لم تلد ، فكأنّه تعالى قال : غير مسنّة ، ولا صغيرة.

٤٣١

والعوان : دون المسنّة وفوق الصغيرة ؛ وهي النّصف التي ولدت بطنا أو بطنين ؛ يقال : حرب عوان إذا لم تكن أوّل حرب وكانت ثانية ؛ وإنّما جاز أن يقول : (بَيْنَ ذلِكَ) «وبين» لا يكون إلّا مع اثنين أو أكثر ؛ لأنّ لفظة «ذلك» تنوب عن الجمل ، تقول : ظننت زيدا قائما ، ويقول القائل : قد ظننت ذلك.

ومعنى «فاقع لّونها» ، أي خالصة الصفرة ، وقيل : إنّ كلّ ناصع اللون ـ بياضا كان أو غيره ـ فهو فاقع. وقيل : أنّه أراد ب «صفراء» هاهنا سوداء.

ومعنى قوله تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي تكون صعبة لا يذلّلها العمل في إثارة الأرض وسقي الزرع.

ومعني «مسلّمة» ، مفعلة ، من السلامة من العيوب ، وقال قوم : مسلّمة من الشّية ، أي لاشية فيها تخالف لونها.

وقيل : «لّا شية فيها» ، أي لا عيب فيها ؛ وقيل : لا وضح ، وقيل : لا لون يخالف لون جلدها ، والله أعلم بما أراد ، وإياه نسأل حسن التوفيق (١).

[الثاني : يمكن الاستدلال بهذه الآيات على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب] ووجه الدلالة أنّه تعالى أمرهم بذبح بقرة لها هذه الصفات المذكورة كلّها ، ولم يبيّن في أوّل وقت الخطاب ذلك حتّى راجعوه واستفهموه ، حتّى بيّن لهم المراد شيئا بعد شيء ، وهذا صريح في جواز تأخير البيان.

فإن قيل : لم زعمتم أن الصفات كلّها هي للبقرة الأولى التي أمروا بذبحها ، وما أنكرتم أن يكونوا أمروا في الخطاب الأوّل بذبح بقرة من عرض البقر ، فلو امتثلوا وذبحوا أيّ بقرة اتّفقت كانوا قد فعلوا الواجب ، فلمّا توقّفوا ، وراجعوا تغيّرت المصلحة ، فأمروا بذبح بقرة غير فارض ولا بكر ، من غير مراعاة لباقي الصفات. فلمّا توقّفوا أيضا تغيّرت المصلحة في تكليفهم ، فأمروا بذبح بقرة صفراء. فلمّا توقّفوا ؛ تغيّرت المصلحة ، فأمروا بذبح ما له كلّ الصفات. وإنّما

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٣٤.

٤٣٢

يكون لكم في ذلك حجّة لو صحّ لكم أنّ الصفات كلّها كانت للبقرة الأولى.

قلنا هذا سؤال من لا يعرف عادة أهل اللغة في كناياتهم ؛ لأنّ الكناية في قوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) لا يجوز عند متأمّل أن يكون كناية إلّا عن البقرة الّتي تقدّم ذكرها ؛ لأنّه لم يجر ذكر لغيرها ، فيكنى عنه.

ولا يجوز على ما ذهب القوم إليه أن تكون كناية عن البقرة الّتي يريد تعالى أن يأمرهم بذبحها ثانيا ؛ لأنّهم لا يعرفون ذلك ، ولا يخطر لهم ببال ، فكيف يسألون عن صفة بقرة لا يعلمون أنه يؤمرون بذبحها؟ ويجري ذلك مجرى قول أحدنا لغلامه : «أعطني تفّاحة» فيقول غلامه : «بيّن لي ما هي» فلا يصرف أحد من العقلاء هذا الكناية إلّا إلى التفاحة المأمور بإعطائها.

ثمّ قال تعالى بعد ذلك : إنّه يقول : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) وقد علمنا أنّ الهاء في قوله تعالى : (إِنَّهُ يَقُولُ) هي كناية عنه تعالى ؛ لأنّه لم يتقدّم ما يجوز ردّ هذه الكناية إليه إلّا اسمه تعالى. فكذلك يجب أن يكون قوله تعالى : (إِنَّها) كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها ، وإلّا فما الفرق بين الأمرين.

وكذلك الكلام في الكناية بقوله تعالى : (ما لَوْنُها)، وقوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ) الكناية في قوله تعالى (ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا)، ثمّ الكناية في قوله تعالى : (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ).

ولا يجوز ان تكون الكناية في قوله تعالى : (إِنَّها) في المواضع كلّها للقصّة والحال ؛ لأنّ الكناية في (إِنَّها) لا بدّ أن تتعلّق بما تعلّقت به الكناية في قوله : (ما هِيَ)، ولا شبهة في أن المراد بلفظة (هِيَ) البقرة الّتي أمرهم بذبحها ، فيجب أن يكون كناية الجواب تعود إلى ما كني عنه بالهاء في السؤال ، ولو جاز تعليق (إِنَّها) بالقصّة والشأن جاز تعليق (ما هِيَ) بذلك ، وجاز أيضا أن يكون الكناية في قوله تعالى : (إِنَّهُ يَقُولُ) عن غير الله تعالى ، ويكون عن الأمر والقصّة ، كما قالوا : «إنّه زيد منطلق» ، فكنوا عن الشأن والقصّة. وكيف يكون قوله : «إنّها كذا وكذا» كناية عن غير ما كني عنه بما هي وبما لونها ، أو ليس ذلك موجبا أن يكون جوابا عن غير المسؤول عنه؟ لأنّهم سألوا عن صفات

٤٣٣

البقرة الّتي تقدّم ذكرها ، وأمرهم بذبحها ، فأجيبوا عن غير ذلك. وسواء جعلوا الهاء في «إنّها» عن الشأن والقصّة ، أو عن البقرة الّتي أمروا ثانيا وثالثا بذبحها ، كيف يجوز أن يسألوا عن صفة ما تقدّم أمره لهم بذبحها ، فيترك ذلك جانبا ، ويذكر صفة ما لم يتقدّم الأمر بذبحه ، وإنّما أمروا أمرا مستأنفا به.

ولو كان الأمر على ما قالوه من أنّه تكليف بعد تكليف لكان الواجب لمّا قالوا : (ما هِيَ) وإنّما عنوا البقرة الّتي أمروا ابتداء بذبحها ، أن يقول لهم : أيّ بقرة شئتم ، وعلى أيّ صفة كانت ، وما أمرتكم بقبح بقرة لها صفة معيّنة ، والآن فقد تغيّرت مصلحتكم ، فاذبحوا الآن ما صفتها كذا وكذا. وإذا قالوا له : (ما لَوْنُها) يقول : أيّ لون شئتم ، وما أردت لونا بعينه ، والآن فقد تغيّرت المصلحة ، والّذي تؤمرون به الآن بقرة صفراء. ولمّا قالوا في الثالث : (ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أن يقول : المأمور به صفراء ، على أيّ صفة كانت بعد ذلك ، وقد تغيّرت المصلحة ، فاذبحوا بقرة ، لا ذلول تثير الأرض ، إلى آخر الصفات. فلمّا عدل تعالى عن ذلك إلى نعت بعد آخر ، دلّ على أنّها نعوت للبقرة الأولى.

على أنّه لو جاز صرف الهاء في قوله تعالى : (إِنَّها) إلى الشأن والقصّة ـ وإن كان المفسّرون كلّهم قد أجمعوا على خلاف ذلك ؛ لأنّهم كلّهم قالوا : هي كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها ، وقالت المعتزلة بالأسر : انّها كناية عن البقرة الّتي تعلّق التكليف المستقبل بذبحها ، ولم يقل أحد : انّها للقصّة والحال ـ لكان ذلك يفسد من وجه آخر : وهو أنّه إذا تقدّم ما يجوز أن تكون هذه الكناية راجعة إليه ، ولم يجر للقصّة والحال ذكر ، فالأولى أن تكون متعلّقة بما ذكر وتقدّم الإخبار عنه ، دون ما لا ذكر في الكلام له ، وإنّما استحسنوا الكناية عن الحال والقصّة في بعض المواضع ، بحيث تدعوا الضرورة ، ولا يقع اشتباه ، ولا يحصل التباس.

وبعد ، فإنّما يجوز إضمار القصّة والشأن بحيث يكون الكلام مع تعلّق الكناية بما تعلّقت به مفيدا مفهوما ؛ لأنّ القائل إذا قال : «إنّه زيد منطلق» و «إنّها قائمة هند» ؛ فتعلّقت الكناية بالحال والقصّة ، أفاد ما ورد في الكلام ، وصار كأنّه

٤٣٤

قال : «زيد منطلق» و «قائمة هند» ، والآيات بخلاف هذا الموضع ؛ لأنّا متى جعلنا الكناية في قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) و (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ) و (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) متعلّقة بالحال والقصّة ، بقي معنا في الكلام ما لا فائدة فيه ولا يستقلّ بنفسه ؛ لأنّه لا فائدة في قوله : (بَقَرَةٌ صَفْراءُ) و (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ،) ولا بدّ من ضمّ كلام إليه حتّى يستقلّ ويفيد ، فإن ضممنا إلى قوله : (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) أو (بَقَرَةٌ صَفْراءُ) الّتي أمرتم بذبحها ، أفاد لعمري ، فبطل صرف الكناية إلى غير البقرة ، ووجب أن تصرف الكناية إلى البقرة حتّى لا يحتاج أن يحذف خبر المبتدأ ، والاكتفاء بما في الكلام أولى من تأويل يقتضي العدول إلى غيره ، وحذف شيء ليس بموجود في الكلام.

وممّا يدلّ على صحّة ما نصرناه أنّ جميع المفسّرين للقرآن أطبقوا على أنّ الصفات المذكورات للبقرة أعوز اجتماعها للقوم حتّى توصّلوا إلى ابتياع بقرة لها هذه الصفات كلّها بملء جلدها ذهبا ، ولو كان الأمر على ما قاله المخالفون لوجب أن لا يعتبر فيما يبتاعونه ويذبحونه إلّا الصفات الأخيرة ، دون ما تقدّمها ، ويلغى ذكر الصفراء ، أو الّتي ليست بفارض ولا بكر ، وأجمعوا على أنّ الصفات كلّها معتبرة ، فعلم أنّ البيان تأخّر وأنّ الصفات كلّها للبقرة الأولى.

فإن قيل : فلم عنّفوا على تأخير هم امتثال الأمر الأوّل ، وعندكم أن البيان للمراد بالأمر الأوّل تأخّر ولم قال سبحانه : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.)

قلنا : ما عنّفوا بتأخير امتثال الأمر الأوّل ، وليس في القرآن ما يشهد بذلك ، بل كان البيان شيئا بعد شيء ، كلّما طلبوه واستخرجوه ، من غير تعنيف ، ولا قول يدلّ على أنّهم عصاة بذلك. فأمّا قوله تعالى في آخر القصّة : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) فإنّما يدلّ على أنّهم كادوا يفرّطون في آخر القصّة وعند تكامل البيان ، ولا يدلّ على أنّهم فرّطوا في أوّل القصّة. ويجوز أن يكونوا ذبحوا بعد تثاقل ، ثمّ فعلوا ما أمروا به (١).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٦٤.

٤٣٥

ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)) [البقرة : ٧٢ ـ ٧٣].

[إن سأل سائل] فقال : كيف ذكر تعالى هذا بعد ذكره البقرة والأمر بذبحها؟ وقد كان ينبغي أن يتقدّمه ، لأنّه إنّما أمر بذبح البقرة لينكشف أمر القاتل ، فكيف أخّر تعالى ذكر السبب عن المسبّب ، وبنى الكلام بناء يقتضي أنّه كان بعده؟.

ولم قال : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً)، والرواية وردت بأنّ القاتل كان واحدا؟ وكيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل والقاتل بينها واحد! وإلى أيّ شيء وقعت الإشارة بقوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى)؟.

الجواب : قيل له : أمّا قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ففيه وجهان :

أوّلهما : أن تكون هذه الآية ـ وإن أخّرت ـ فهي مقدّمة في المعنى على الآية التي ذكرت فيها البقرة ؛ ويكون التأويل : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) فسألتم موسى فقال : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، فأخّر المقدم وقدّم المؤخر ؛ ومثل هذا في القرآن وكلام العرب كثير. ومثله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) (١).

وقال الشاعر :

إنّ الفرزدق صخرة ملمومة

طالت ـ فليس تنالها ـ الأوعالا (٢)

أراد : طالت الأوعال فليس تنالها.

ومثله :

طاف الخيال وأين منك لماما!

فارجع لزورك بالسّلام سلاما

أراد : طاف الخيال لماما وأين هو منك!

والوجه الثاني : أن يكون وجه تأخير قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) أنه علّق

__________________

(١) سورة الكهف ، الآيتان : ١ ـ ٢.

(٢) البيت في شرح شواهد سيبويه للأعلم (٢ / ٣٥٦).

٤٣٦

بما هو متأخر في الحقيقة ، وواقع بعد ذبح البقرة ، وهو قوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى)؛ لأنّ الأمر بضرب المقتول ببعض البقرة إنّما هو بعد الذبح ؛ فكأنّه تعالى قال : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ولأنّكم (قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أمرناكم بأن تضربوه ببعضها ، لينكشف أمره.

فأمّا إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع مع أنّ القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء بخطاب الآباء والأجداد ، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها ؛ فيقول أحدهم : فعلت بنو تميم كذا ، وقتل بنو فلان فلانا ؛ وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة ؛ ومنه قراءة من قرأ : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (١) ؛ بتقديم المفعولين على الفاعلين ؛ وهو اختيار الكسائي وأبى العباس ثعلب ؛ فيقتل بعضهم ويقتلون ؛ وهو أبلغ في وصفهم ، وأمدح لهم ، لأنّهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن قتل بعضهم كان ذلك أدلّ على شجاعتهم وقلة جزعهم وحسن صبرهم.

وقد قيل : إنّه كان القاتلان اثنين ، قتلا ابن عم لهما ، وإنّ الخطاب جرى عليهما بلفظ الجمع ؛ كما قال تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٢) ؛ يريد داود وسليمان عليهما‌السلام ؛ والوجه الأوّل أولى وأقوى بشهادة الاستعمال الظاهر له ، ولأنّ أكثر أهل العلم أجمعوا على أنّ القاتل كان واحدا.

ومعنى «فادّارأتم» فتدارأتم ؛ أي تدافعتم ، وألقى بعضكم القتل على بعض ؛ يقال : دارأت فلانا إذا دافعته ، وداريته إذا لاينته ، ودريته إذا ختلته ؛ ويقال : إدّرأ القوم إذا تدافعوا.

والهاء في قوله : (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) تعود إلى النفس ، وقيل : إنّها تعود إلى القتلة ، أي اختلفتم في القتلة ؛ «قتلتم» تدل على المصدر ؛ والقتلة من المصادر ، تدلّ عليها الأفعال ، ورجوع الهاء إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر.

فأمّا قوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) فالإشارة وقعت به إلى قيام

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١١١.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٧٨.

٤٣٧

المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة ؛ لأنّه روي أنّه قام حيّا وأوداجه تشخب دما ، فقال : قتلني فلان! ونبّه الله تعالى بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكره مشركو قريش واستبعدوه من البعث وقيام الأموات ؛ لأنّهم قالوا : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (١) فأخبرهم الله تعالى بأنّ الذي أنكروه واستبعدوه هيّن عليه ، غير متعذّر في اتّساع قدرته. وكان ممّا ضرب تعالى لهم من الأمثال ، ونبّههم عليه من الأدلّة ذكر المقتول الذي ضرب ببعض البقرة فقام حيا. وأراد تعالى : أنّني إذا كنت قد أحييت هذا المقتول بعد خروجه عن الحياة ، ويئس قومه من عوده وانطواء خبر كيفية قتله عنهم ، ورددته حيا مخاطبا باسم قاتله ؛ فكذلك فاعلموا أنّ إحياء جميع الأموات عند البعث لا يعجزني ولا يتعذر عليّ. وهذا بيّن لمن تأمّله (٢).

ـ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤].

[إن سأل سائل] فقال : ما معني «أو» هاهنا؟ وظاهرها يفيد الشكّ الذي لا يجوز عليه تعالى.

الجواب : قلنا في ذلك وجوه :

أوّلها : أن تكون «أو» هاهنا للإباحة كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ؛ والق الفقهاء أو المحدّثين ، ولم يريدوا الشكّ ؛ بل كأنّهم قالوا : هذان الرجلان أهل للمجالسة ، وهذا القبيلان من العلماء أهل للّقاء ؛ فإن جالست الحسن فأنت مصيب ، وإن جالست ابن سيرين فأنت مصيب ، وإن جمعت بينهما فكذلك.

فيكون معنى الآية على هذا : إنّ قلوب هؤلاء قاسية متجافية عن الرّشد والخير ، فإن شبّهتم قسوتها بالحجارة أصبتم ، وإن شبّهتموها بما هو أشدّ أصبتم ، وإن شبّهتموها بالجميع فكذلك.

وعلى هذا يتأوّل قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) (٣) ، لأنّ «أو» لم

__________________

(١) سورة الأسراء ، الآية : ٤٩.

(٢) الأمالي ، ٢ : ١٩٢.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٩.

٤٣٨

يرد بها الشكّ بل على نحو الذي ذكرناه ، من أنّكم إن شبّهتموهم بالذي استوقد نارا فجائز ، وإن شبّهتموهم بأصحاب الصّيب فجائز ، وإن شبّهتموهم بالجميع فكذلك.

وثانيها : أن تكون «أو» دخلت للتفصيل والتمييز ، ويكون معنى الآية : إنّ قلوبهم قست ، فبعضها ما هو كالحجارة في القسوة ، وبعضها ما هو أشدّ قسوة منها.

ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) (١) معناه : وقال بعضهم : كونوا هودا ـ وهم اليهود ـ وقال بعضهم : كونوا نصارى ـ وهم النصارى ـ فدخلت «أو» للتفصيل.

وكذلك قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٢) معناه فجاء بعض أهلها بأسنا بياتا ، وجاء بعض أهلها بأسنا في وقت القيلولة.

وقد يحتمل قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) هذا الوجه أيضا ، ويكون المعني أنّ بعضهم يشبه الذي استوقد نارا ، وبعضهم يشبه أصحاب الصيّب.

وثالثها : أن يكون «أو» دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب ، وإن كان الله تعالى عالما بذلك غير شاكّ فيه ، لأنّه تعالى لم يقصد في إخبارهم عن ذلك إلّا التفصيل ؛ بل علم «عزوجل» أنّ خطبهم بالإجمال أبلغ في مصلحتهم ، فأخبر تعالى أنّ قسوة قلوب هؤلاء الذين ذمّهم كالحجارة أو أشدّ قسوة ، والمعنى أنّها كانت كأحد هذين لا يخرج عنهما.

ويجري ذلك مجرى قولهم : ما أطعمتك إلّا حلوا أو حامضا ، فيبهمون على المخاطب ما يعلمون أنّه لا فائدة في تفصيله ؛ والمعنى : ما أطعمتك إلّا أحد هذين الضّربين.

وكذلك يقول أحدهم : أكلت بسرة أو ثمرة ؛ وهو قد علم ما أكل على التفصيل إلّا أنّه أبهمه على المخاطب ، قال لبيد :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٣٥.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٤.

٤٣٩

تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر (١)

أراد : هل أنا إلّا من أحد هذين الجنسين ، فسبيلي أن أفنى كما فينا ؛ وإنّما حسن ذلك لأنّ قصده الذي أجري إليه ، وغرضه الذي نحاه وهو أن يخبر بكونه ممّن يموت ويفنى ، ولا يخلّ به إجمال ما أجمل من كلامه ، فأضرب عن التفصيل ؛ لأنّه لا فائدة فيه ، ولأنّه سواء كان من ربيعة أو مضر فموته واجب. وكذلك الآية ، لأنّ الغرض فيها أن يخبر تعالى عن شدة قسوة قلوبهم ، وأنّها ممّا لا تنثني لوعظ ، ولا تصغي إلى حقّ ، فسواء كانت في القسوة كالحجارة أو أشدّ منها ، فقد تمّ ما أجري إليه من الغرض في وصفها وذمّها ، وصار تفصيل تشبيهها بالحجارة وبما هو أشدّ قسوة منها كتفصيل كونه من ربيعة أو مضر ، في أنّه غير محتاج إليه ، ولا يقتضيه الغرض في الكلام.

ورابعها : أن تكون «أو» بمعنى «بل» كقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (٢) معناه : بل يزيدون.

وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ؛) قال : كانوا مائة ألف وبضعا وأربعين

ألفا. وأنشد الفرّاء :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحا

وصورتها ، أو أنت في العين أملح

وقد تكون «أم» في الاستفهام أيضا بمعنى «بل» ، كقول القائل : أضربت عبد الله أم أنت رجل متعنّت؟ معناه : بل أنت رجل متعنت.

وقال الشاعر :

فو الله ما أدري أسلمي تغوّلت

أم النّوم ، أم كلّ إليّ حبيب!

معناه : بل كلّ.

وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال : وكيف يجوز أن يخاطبنا تعالى

__________________

(١) ديوانه : ٢ / ١.

(٢) سورة الصافات ، الآية : ١٤٧.

٤٤٠