تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

بلفظة «بل» وهي تقتضي الاستدراك والنقض للكلام الماضي والإضراب عنه؟ وليس ذلك بشيء ، أمّا الاستدراك فإن أريد به الاستفادة أو التذكّر لما لم يكن معلوما فليس بصحيح ، لأنّ أحدنا يقول : أعطيته ألفا بل ألفين ، وقصدته دفعة بل دفعتين ؛ وهو عالم في ابتداء كلامه بما أخبر به في الثاني ، ولم يتجدّد به علم ، وإن أريد به الأخذ في كلام غير الماضي ، واستئناف زيادة عليه فهو صحيح ؛ ومثله جائز عليه تعالي.

فأمّا النقض للكلام الماضي فليس بواجب في كلّ موضع تستعمل فيه لفظة «بل» ، لأنّ القائل إذا قال : أعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الأوّل ؛ وكيف ينقضه ؛ والأوّل داخل في الثاني وإنّما زاد عليه؟ وإنّما يكون ناقضا للماضي إذا قال : لقيت رجلا بل حمارا ؛ وأعطيته درهما بل ثوبا ؛ لأنّ الأوّل لم يدخل في الثاني على وجه ، وقوله تعالى : (أَشَدُّ قَسْوَةً) غير ناقض للأوّل ؛ لأنّها لا تزيد في القسوة على الحجارة إلّا بعد أن تساويها ، وإنّما تزيد المساواة.

وخامسها (١) : أن تكون «أو» بمعني الواو كقوله (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) (٢) معناه : وبيوت آبائكم ، قال جرير :

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسي على قدر (٣)

وقال توبة بن الحمير :

وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها ، أو عليها فجورها (٤)

وقال جرير أيضا :

أثعلبة الفوارس أم رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا (٥)

__________________

(١) ذكر السيّد هذا الوجه أيضا في الرسائل ، ٤ : ٨٣.

(٢) سورة نور ، الآية : ٦١.

(٣) ديوانه : ٢٧٥ ؛ والبيت من قصيدة بمدح فيها عمر بن عبد العزيز ؛ مطلعها :

لجّت أمامة في لومي وما علمت

عرض السماوة روحاني ولا بكري

(٤) أمالي القالي : ١ / ١٣١.

(٥) ديوانه : ٦٦ ؛ من قصيدته المشهورة التي يذم فيها الراعي ؛ ومطلعها :

أقلّي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا

 ـ

٤٤١

أراد أو رياحا.

وقال آخر (١) :

فلو كان البكاء يردّ شيئا

بكيت على بجير أو عفاق

على المرأين إذ هلكا جميعا

لشأنهما بشجو واشتياق

أراد على بجير وعفاق.

وحكى المفضل بن سلمة هذا الوجه عن قطرب ، وطعن عليه بأن قال : ليس شيء يعلم أشدّ قسوة عند المخاطبين من الحجارة ، فينسق به عليها ؛ وإنّما يصحّ ذلك في قولهم : أطعمتك تمرا أو أحلى منه ، لأنّ أحلى منه معلوم.

واختار المفضل الوجه الذي يتضمّن أن «أو» بمعنى «بل».

وهذا الذي طعن به المفضّل ليس بشيء ، لأنّهم وإن لم يشاهدوا أو يعرفوا ما هو أشدّ قسوة من الحجارة فصورة قسوة الحجارة معلومة لهم ، ويصحّ أن يتصوّروا ما هو أشدّ قسوة منها ، وماله الزيادة عليها ؛ لأنّ قدرا ما إذا عرف صحّ أن يعرف ما هو أزيد منه أو أنقص ، لأنّ الزيادة والنقصان إنّما يضافان إلى معلوم معروف ، على أنّ الآية خرجت مخرج المثل ، وأراد تعالى بوصف قلوبهم بالزيادة في القسوة على الحجارة أنّها قد انتهت إلى حدّ لا تلين معه للخير على وجه من الوجوه ، وإن كانت الحجارة ربّما لانت وانتفع بها ، فصارت من هذا الوجه كأنّها أشدّ قسوة منها تمثيلا وتشبيها ، فقول المفضل : «ليس يعرفون ما هو أقسى من الحجارة» لا معنى له إذا كان القول على طريق المثل.

وبعد ؛ فإنّ الذي طعن به على هذا الجواب يعترض على الوجه الذي

__________________

ـ وهي القصيدة التي تسميها العرب : الفاضحة. والبيت من شواهد الكتاب (١ / ٥٢) استشهد به على نصب «ثعلبة» ، بإضمار فعل دل عليه ما بعده ؛ فكأنّه قال : أظلمت ثعلبة ، عدلت بهم طهية ، ونحوه من التقدير. وأورده أيضا في (١ / ٤٨٩) شاهدا على دخول «أم» عديلة للألف. وفي حاشية بعض النسخ : «كأنّه قال : أأخملت ثعلبة الفوارس فعدلت بهم طهية والخشاب!».

(١) البيتان في اللسان (عفق) ؛ ونقل عن ابن بري أنهما لمتمم بن نويرة ، وعفاق : اسم رجل أكلته باهلة في قحط أصابهم.

٤٤٢

اختاره ، لأنّه إذا اختار أنّ «أو» في الآية بمعنى «بل» فكيف جاز بأن يخبرهم بأنّ قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة ، وهم لا يعرفون ما هو أقسى من الحجارة! وإذا جاز أن يقول لهم : بل قلوبهم أقسى ممّا يعرفون من الحجارة جاز أن يخبر عن مثل ذلك بالواو فيقول : قلوبهم كالحجارة التي يعرفون في القسوة ، وهي مع ذلك تزيد عليها.

فإن قيل : كيف يكون «أو» في الآية بمعنى الواو ، والواو للجمع ، وليس يجوز أن تكون قلوبهم كالحجارة ، أو أشدّ من الحجارة في حالة واحدة ؛ لأنّ الشيء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها؟!

قلنا : قد أجاب بعضهم عن هذا الاعتراض بأن قال : ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حال ، وأشدّ من الحجارة في حال أخرى ؛ فيصحّ المعنى ، ولا يتنافى ، وهذا قريب ، ويكون فائدة هذا الجواب أنّ قلوب هؤلاء في بعض الأحوال مع القسوة والعدول عن قبول الحقّ والفكرة فيه ؛ ربّما لانت بعض اللين ؛ [وهمّت بالانعطاف ، وكادت تصغي إلى الحقّ فتكون في هذه الحال كالحجارة التي ربما لانت] ، وفي حال أخرى تكون في نهاية البعد عن الخير والنفور عنه ، فتكون في هذا الحال أشدّ قسوة من الحجارة.

على أنّه يمكن في الجواب عن هذا الاعتراض وجه آخر ؛ وقد تقدّم معناه في بعض كلامنا ، وهو أنّ قلوبهم لا تكون أشدّ من الحجارة إلّا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة ؛ لأنّ القائل إذا قال : فلان أعلم من فلان فقد أخبر أنّه زائد عليه في العلم الذي اشتركا فيه ؛ فلا بدّ من الاشتراك ثمّ الزيادة ، فليس هاهنا تناف على ما ظنّ المعترض ، ولا إثبات لصفة ونفيها ، فكلّ هذا واضح بحمد الله (١).

ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩].

أنظر المائدة : ٣٨ من الانتصار : ٢٦٢ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٥٠.

٤٤٣

ـ (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : ٩٣].

أنظر النحل : ١٠ من الأمالي ١ : ٥٧٦.

ـ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [البقرة : ٩٦].

ويوصف تعالى بأنه «بصير» بمعنى عالم ؛ لأن هذه اللفظة حقيقة في العالم كما انه حقيقة في صحّة الروية ، ولهذا يقولون فلان بصير في الفقه والطبّ إذا كان عالما بهما ، ويوصف بذلك فيما لم يزل على الوجهين معا (١).

ـ (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٩٨].

أنظر الاعراف : ٥٤ من الملخص ، ٢ : ٤٤٠

ـ (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢].

[فيها أمران :

الأوّل : إن سأل سائل] فقال : كيف ينزل الله تعالى السّحر على الملائكة؟ أم كيف تعلّم الملائكة الناس السّحر والتفريق بين المرء وزوجه؟ وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى أنّه بإذنه ، وهو تعالى قد نهى عنه ، وحذّر من فعله؟ وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم ، بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ)، ثم قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؟

الجواب : قلنا : في الآية وجوه ؛ كلّ منها يزيل الشبهة الداخلة على من لا ينعم النّظر فيها :

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٣.

٤٤٤

أوّلها : أن يكون «ما» في قوله : «وما أنزل على الملكين» بمعنى الّذي ، فكأنّه تعالى أخبر عن طائفة من أهل الكتاب ، بأنّهم اتّبعوا ما تكذب به الشياطين على ملك سليمان ، وتضيفه إليه من السّحر ؛ فبرّأه الله تعالى من قرفهم ، وأكذبهم في قولهم ، فقال : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) باستعمال السّحر والتمويه على الناس ، ثمّ قال : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) وأراد أنّهم يعلّمونهم السّحر والذي أنزل على الملكين ، وإنّما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيّته وكيفية الاحتيال فيه ؛ ليعرفا ذلك ويعرّفاه للناس فيجتنبوه ويحذروا منه ، كما أنّه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ، ووصف لنا أعمال القبائح لنجتنبها لا لنوقعها ؛ لأنّ الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه ، وأقدموا على فعله ؛ وإن كان غيرهم من المؤمنين لمّا عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطّلاعه على كيفيته ، ثمّ قال : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) يعنى الملكين ، ومعنى «يعلّمان» يعلمان ، والعرب تستعمل لفظة «علّمه» بمعني «أعلمه» ، قال القطاميّ :

تعلّم أنّ بعد الغيّ رشدا

وأنّ لتانك الغبر انقشاعا (١)

وقال كعب بن زهير :

تعلّم رسول الله أنّك مدركي

وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد (٢)

ومعنى «تعلّم» في البيتين معنى «اعلم» (٣) ؛ والذي يدلّ أنّ المراد هاهنا الإعلام لا التعليم قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)، أي أنّهما لا يعرّفان صفات السحر وكيفيته إلّا بعد أن يقولا إنّما نحن محنة ، لأنّ الفتنة بمعنى المحنة ؛ وإنّما كان محنة ، بحيث ألقيا إلى المكلّفين أمرا لينزجروا عنه ، وليمتنعوا من مواقعته ، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه ، فقالا

__________________

(١) ديوانه : ٤٠ ؛ وفي بعض النسخ : «لهذه الغمر». وهي رواية الديوان والغمر : جمع غمرة ، وهي الشدة.

(٢) ملحقات ديوانه : ٢٥٨ (عن الغرر).

(٣) حواشي بعض النسخ : «قال ابن السكيت رحمه‌الله : يقال : تعلّمت أن فلانا خارج يعني علمت ، وإذا قال لك : اعلم أنّ زيدا خارج قلت : قد علمت ، وإذا قال : تعلم أن زيدا خارج لم تقل : قد تعلمت ؛ يعني أنّه يقتصر على ما ورد عنهم ، ولا يتجاوز إلى غيره».

٤٤٥

لمن يطلعانه على ذلك : لا تكفر باستعماله ، ولا تعدل عن الغرض في إلقاء هذا إليك ، فإنّه إنّما ألقي إليك ، وأطلعت عليه لتجتنبه ؛ لا لتفعله ، ثم قال : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، أي فيعرفون من جهتهما ما يستعملونه في هذا الباب ؛ وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك ؛ ولهذا قال : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)، لأنّهم لمّا قصدوا بتعلّمه أن يفعلوه ويرتكبوه ، لا أن يجتنبوه صار ذلك لسوء اختيارهم ضررا عليهم.

وثانيها : أن يكون (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) موضعه موضع جرّ ، فيكون معطوفا بالواو على (مُلْكِ سُلَيْمانَ)؛ والمعنى : واتبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان ، وعلى أنزل على الملكين ؛ ومعنى (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) أي معهما ، وعلى ألسنتهما ؛ كما قال تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (١) ، أي على ألسنتهم ومعهم.

وليس بمنكر أن يكون (وَما أُنْزِلَ) معطوفا علي (مُلْكِ سُلَيْمانَ) وإن اعترض بينهما من الكلام ما اعترض ؛ لأنّ ردّ الشيء إلى نظيره ، وعطفه على ما هو أولى هو الواجب ، وإن اعترض بينهما ما ليس منهما ؛ ولهذا نظائر من القرآن وكلام العرب كثيرة ، قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) (٢) و «قيّم» من صفات الكتاب حال منه ، لا من صفة «عوج» ، وإن تباعد ما بينهما ، ومثله قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (٣) ، فالمسجد هاهنا معطوف على الشهر الحرام ، أي يسئلونك عن القتال في الشهر الحرام وعن المسجد الحرام.

وحكي عن بعض علماء أهل اللغة أنّه قال : العرب تلفّ الخبرين المختلفين ، ثم ترمي بتفسيرهما جملة ؛ ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كلّ خبره ؛ كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٤) ، وهذا واضح في مذهب العرب ، كثير النظائر.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٤.

(٢) سورة الكهف ، الآيتان : ١ ـ ٢.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢١٧.

(٤) سورة القصص ، الآية : ٧٣.

٤٤٦

ثم قال : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ)، والمعنى أنّهما لا يعلّمان أحدا ، بل ينهيان عنه ، ويبلغ من نهيهما وصدّهما عن فعله واستعماله أن يقولا : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) باستعمال السحر والإقدام على فعله ، وهذا كما يقول الرجل : ما أمرت فلانا بكذا ، ولقد بالغت في نهيه حتى قلت له : إنّك إن فعلته أصابك كذا وكذا ؛ وهذا هو نهاية البلاغة في الكلام ؛ والاختصار الدالّ مع اللفظ القليل على المعاني الكثيرة ؛ لأنّه استغنى بقوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) عن بسط الكلام الذي ذكرناه ؛ ولذلك نظائر في القرآن ، قال الله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) ، فلولا الاختصار لكان مع شرح الكلام يقول : ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، ولو كان معه إله إذا لذهب كلّ إله بما خلق ؛ ومثله قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٢) ، أي : فيقال للّذين اسودّت وجوههم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا) وأمثاله أكثر من أن تورد.

ثم قال تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وليس يجوز أن يرجع الضمير في هذا الجواب إلى الملكين ؛ وكيف يرجع إليهما وقد نفى عنها التعليم! بل يرجع إلى الكفر والسحر ، وقد تقدّم ذكر السحر ، وتقدّم أيضا ذكر ما يدلّ على الكفر ويقتضيه في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)؛ فدلّ «كفروا» على الكفر ، والعطف عليه مع السحر جائز ، وإن كان التصريح قد وقع بذكر السحر دونه ؛ ومثل ذلك قوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (٣) ، أي يتجنّب الذكرى الأشقى ، ولم يتقدّم تصريح بالذّكرى ، لكن دلّ عليها قوله : (سَيَذَّكَّرُ).

ويجوز أيضا أن يكون المعنى (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما)، أي بدلا ممّا علّمهم

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية : ٩١.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٣) سورة الأعلى ، الآيتان : ١٠ ـ ١١.

٤٤٧

الملكان ، ويكون المعنى أنّهم يعدلون عمّا علّمهم ووقفهم عليه الملكان من النهي عن السحر إلى تعلّمه واستعماله ؛ كما يقول القائل : ليت لنا من كذا وكذا كذا! أي بدلا منه ، وكما قال الشاعر :

جمعت من الخيرات وطبا وعلبة

وصرّا لأخلاف المزمّمة البزل

ومن كلّ أخلاق الكرام نميمة

وسعيا على الجار المجاور بالمحل

يريد جمعت مكان الخيرات ، ومكان أخلاق الكرام هذه الخصال الذميمة.

وقوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يكونوا يغوون أحد الزوجين ، ويحملونه على الكفر والشرك بالله تعالى ، فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه ، فيفرّق بينهما اختلاف النّحلة والملّة.

والوجه الآخر : أن يسعوا بين الزّوجين بالنميمة والوشاية والإغراء والتمويه بالباطل ؛ حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة والمباينة.

وثالث الوجوه : في الآية أن يحمل «ما» في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) على الجحد والنفي ، فكأنه تعالى قال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ)، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) ويكون قوله : (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) من المؤخّر الذي معناه التقديم ، ويكون ـ على هذا التأويل ـ هاروت وماروت رجلين من جملة الناس ، هذان أسماهما ؛ وإنّما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا ، ويكون الملكان المذكوران اللذان نفى عنهما السحر جبرائيل وميكائيل عليهما‌السلام ؛ [لأنّ سحرة اليهود ـ فيما ذكر ـ كانت تدّعي أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل] إلى سليمان بن داود عليه‌السلام ، فأكذبهما الله تعالى بذلك.

ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين ، كأنّه قال : ولكن الشياطين : هاروت وماروت كفروا ؛ ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله تعالى :

٤٤٨

(وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (١) ، يعنى حكم داود وسليمان عليهما‌السلام.

ويكون قوله على هذا التأويل : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) راجعا إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين ، أو من الإنس المتعلّمين للسحر من الشياطين والعاملين به. ومعنى قولهم : (نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) يكون على طريق الاستهزاء والتماجن والتخالع ، كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحا أو قال باطلا : هذا فعل من لا يفلح ، وقول من لا ينجب ، والله ما حصلت إلّا على الخسران ؛ وليس ذلك منه على سبيل النّصح للناس وتحذيرهم من مثل فعله ، بل على وجه المجون والتهالك.

ويجوز أيضا على هذا التأويل الذي يتضمّن النفي والجحد أن يكون هاروت وماروت اسمين لملكين ، ونفى عنهما إنزال السحر بقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) ويكون قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) يرجع إلى قبيلتين من الجنّ أو إلى شياطين الجنّ والإنس ، فتحسن التثنية لهذا.

وقد روى هذا التأويل الأخير في حمل «وما» على النفي عن ابن عباس وغيره من المفسّرين.

وروي عنه أيضا أنّه كان يقرأ : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) بكسر اللام ، ويقول : متى كان العلجان ملكين! بل كانا ملكين ؛ [وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) إليهما].

ويمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر وإن لم يحمل قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) على الجحد والنفي : وهو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتّبعوا ما تتلوا الشياطين وتدّعيه على ملك سليمان ، واتّبعوا ما أنزل على هذين الملكين من السحر ، ولا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى ، وإن أطلق ؛ لأنّه جلّ وعز لا ينزل السحر ؛ بل يكون منزله إليهما بعض الضّلال العصاة ، ويكون معنى «أنزل» ـ وإن كان من الأرض ـ حمل إليهما لا من السماء أنّه أتي به من نجود

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٧٨.

٤٤٩

الأرض وأعاليها ؛ فإنّ من هبط من نجد البلاد إلى غورها يقال : نزل وهبط ، وما جرى هذا المجرى. فأمّا قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فيحتمل وجوها :

منها : أن يريد بالإذن العلم ، من قولهم : آذنت فلانا بكذا إذا أعلمته ، وأذنت لكذا إذا استمعته وعلمته ، قال الشاعر :

في سماع يأذن الشّيخ له

وحديث مثل ماذيّ مشار (١)

ومنها : أن تكون «إلّا» زائدة ، فيكون المعنى : وما هم بضارّين به من أحد بإذن الله ، ويجرى مجرى قول أحدنا : لقيت زيدا إلّا أني أكرمته ، أي لقيت زيدا فأكرمته.

ومنها : أن يكون أراد بالإذن التخلية وترك المنع ، فكأنّه أفاد بذلك أنّ العباد لن يعجزوه ، وما هم بضارّين أحدا إلّا بأن يخلّي الله تعالى بينهم وبينه ، ولو شاء لمنعهم بالقهر والقسر ، زائدا على منعهم بالزجر والنهي.

ومنها : أن يكون الضرر الذي عنى أنّه لا يكون إلّا بإذنه ، وأضافه إليه هو ما يلحق المسحور من الأدوية والأغذية التي يطعمه إياها السّحرة ويدّعون أنّها موجبة لما يقصدونه فيه من الأمور ؛ ومعلوم أنّ الضرر الحاصل عن ذلك من فعل الله تعالى بالعادة ؛ لأنّ الأغذية لا توجب ضرّا ولا نفعا ، وإن كان المعرضّ للضرر من حيث كان كالفاعل له هو المستحقّ للذم ، وعليه يجب العوض.

ومنها : أن يكون الضرر المذكور إنّما هو يحصل عن التفريق بين الأزواج ؛ لأنّه أقرب إليه في ترتيب الكلام ؛ والمعنى أنّهم إذا أغووا أحد الزوجين ، وكفر فبانت منه زوجته ، فاستضرّ بذلك كانوا ضارّين له بما حسّنوه له من الكفر ، إلّا أنّ الفرقة لم تكن إلّا بإذن الله وحكمه ؛ لأنّه تعالى هو الذي حكم وأمر بالتفريق بين المختلفي الأديان ؛ فلهذا قال : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

__________________

(١) البيت في اللسان (أذن) ، ونسبه إلى عدي بن زيد. الماذي : العسل الأبيض. والمشار : المجنى ، ويقال : شرت العسل واشترته وأشرته ، إذا جنيته.

٤٥٠

والمعنى أنّه لو لا حكم الله وإذنه في الفرقة بين هذين الزوجين باختلاف الملّة لم يكونوا ضارّين له هذا الضّرب من الضرر الحاصل عند الفرقة ؛ ويقوّي هذا الوجه ما روي أنّه كان من دين سليمان ؛ أنّه من سحر بانت امرأته.

فأمّا قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ ،) ففيه وجوه :

أوّلها : أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا ، ويكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبّر عنهم بأنّهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنّهم لا يعلمون ، واتّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، والذين لم يعلموا هم الذين تعلّموا السحر ، وشروا به أنفسهم.

وثانيها : أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا ؛ إلّا أنهم علموا شيئا ولم يعلموا غيره ، فكأنّه تعالى وصفهم بأنّهم عالمون بأنّه لا نصيب لمن اشترى ذلك ورضيه لنفسه على الجملة ، ولم يعلمه كنه ما يصير إليه من عقاب الله الذي لانفاد له ولا انقطاع.

وثالثها : أن تكون الفائدة في نفى العلم بعد إثباته أنّهم لم يعملوا بما علموا ، فكأنّهم لم يعلموا ، وهذا كما يقول أحدنا لغيره : ما أدعوك إليه خير لك وأعود عليك ؛ لو كنت تعقل وتنظر في العواقب ، وهو يعقل وينظر في العواقب ، إلّا أنه لا يعمل بموجب علمه ، فحسن أن يقال له مثل هذا القول ؛ قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه ؛ ليصيبا من زاده :

إذا حضراني قلت : لو تعلمانه

ألم تعلما أنّي من الزاد مرمل (١)

فنفى عنهما العلم ، ثمّ أثبته بقوله : «ألم تعلما» ، وإنّما المعنى في نفيه العلم عنهما أنّهما لم يعملا بما علماه فكأنّهما لم يعلماه.

ورابعها : أن يكون المعنى أنّ هؤلاء القوم الذين قد علموا أنّ الآخرة لا حظّلهم فيها مع عملهم القبيح ، إلّا أنّهم ارتكبوه طمعا في حطام الدنيا وزخرفها

__________________

(١) ديوانه : ٥١. المرمل : الذي نفد زاده.

٤٥١

فقال تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنّ الذي آثروه وجعلوه عوضا من الآخرة لا يتمّ لهم ، ولا يبقى عليهم ، وأنّه منقطع زائل ، ومضمحلّ باطل ، وأنّ المال إلى المستحقّ في الآخرة ؛ وكلّ ذلك واضح بحمد الله (١).

[الثاني : أنظر النحل : ٢٦ معنى «ما تتلوا» من الأمالي ، ١ : ٣٤٠].

[الثالث :] وممّن قيل : إنّه على مذاهب أهل الجبر من المشهورين أيضا (٢) لبيد بن ربيعة العامريّ ، واستدلّ بقوله :

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل (٣)

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضلّ

وإن كان لا طريق إلى نسب الجبر إلى مذهب لبيد إلّا هذان البيتان فليس فيهما دلالة على ذلك ، أمّا قوله :

وبإذن الله ريثي وعجل

فيحتمل أن يريد : بعلمه ؛ كما يتأوّل عليه قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٤) ؛ أي بعلمه ، وإن قيل في هذه الآية ، إنه أراد : بتخليته وتمكينه ، وإن كان لا شاهد لذلك في اللغة أمكن مثله في قول لبيد ؛ فأمّا قوله : «من هداه اهتدى ومن شاء أضل» فيحتمل أن يكون مصروفا إلى بعض الوجوه التي يتأول عليها الضّلال والهدى المذكوران في القرآن ؛ ممّا يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار ؛ اللهم إلّا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفا بغير هذه الأبيات ؛ فلا يتأوّل له هذا التأويل ؛ بل يحمل مراده على موافقة المعروف من مذهبه (٥).

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٩٩.

(٢) ذكر السيّد في كلامه قبل هذا الموضع عدّة من المشهورين بمذهب أهل الجبر ، لذلك عبّر هناب «أيضا».

(٣) ديوانه : ٣٩.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٠٢.

(٥) الأمالي ، ١ : ٤٨.

٤٥٢

ـ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦].

أنظر المقدّمة الرابعة ، الأمر الثالث عشر.

ـ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١١٥].

أنظر القصص : ٨٨ من الأمالي ، ١ : ٥٥٤ والبقرة : ١٤٤ من الناصريات : ٢٠٢.

ـ (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].

[قال القاضي : دليل لهم آخر في وجوب العصمة ، ربما تعلقوا بهذه الآية إذ] أخبر أنه لا حقّ في الإمامة لظالم ، فوجب بذلك إن من كان ظالما وكافرا وقتا من الزمان (١) لا حظّ له في ذلك ، وأن يكون المستحق لذلك المعصوم في كلّ أوقاته ، وذلك يقتضي أن الإمامة ثابتة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وربما تعلّقوا بقريب من ذلك من غير ذكر الآية (٢) وقالوا : قد ثبت أن من يقول بوجوب الإمامة نفسان (٣) أحدهما يقول بإمامة أبي بكر وذلك لا يصحّ ؛ لأنّ من حقّ الإمام أن يكون كالرسول في كونه منزّها عن التدنس والكفر والكبائر في سائر حالاته ، فإذا بطل ذلك فليس إلّا القول الثاني ، وهو ان الإمام علي بن أبي طالب ؛ لأنه ما كفر بالله قط» : قال : «وهذا لا يمكن الاعتماد عليه لأنّ ظاهر الآية إنما يقتضي أن عهده لا ينال الظالم ، ومن كفر ثم تاب أو فسق ثم تاب

__________________

(١) في المغني «في وقت من الزمان».

(٢) في المغني «من غير دليل الآية».

(٣) في المغني «فريقان».

٤٥٣

وصلحت أحواله لا يكون ظالما ، فيجب بحكم الآية أن لا يمتنع أن يناله العهد ، وليس المراد أن الظالمين لا ينالون العهد وإن خرجوا من أن يكونوا ظالمين ، وإنّما المراد في حال ظلمهم ، كما إنه تعالى لمّا قال (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (١) فالمراد بذلك في حال إيمانهم وقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) امّا أن يراد به النبوّة [أو أن يكون قدوة في الصلاح ؛ لأنّا قد بيّنا أنه لا تدخل تحت ذلك الإمامة التي هي بمعنى إقامة الحدود ، وتنفيذ الأحكام ، فإن أريد به النبوّة] (٢) فمن حيث دلّ الدليل على أن من حقّ النبيّ أن لا يقع منه كفر ولا كبيرة ، يجب أن لا يكون ظالما في حال من الأحوال (٣) ، وإن أريد به الوجه الآخر فغير ممتنع أن يكون ظالما في حال ثمّ يصلح فيقتدى بطريقته وعلمه ، وبعد فلا يمتنع أن يقع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصية الصغيرة التي تكون ظلما فلا بدّ من أن يقال : إنّه تعالى أراد بالكلام الظلم المذموم ، وما زال بالتوبة كالصغيرة في هذا الباب فهذا ممّا يبيّن فساد ما تعلّقوا به من ظاهر الآية ، فأمّا الطريقة الأخرى فقد بيّنا الكلام عليها في باب النبوّات (٤) ، وأن ماله وجب في الرسول أن يكون منزّها عن الكفر والكبائر ، هو كونه حجّة فيما تحمله ، وأن الإمام في أنه بخلافه بمنزلة الأمير والحاكم ، وذلك يسقط ما تعلّقوا به ...» (٥).

يقال له : قد اعتمد بهذه الآية التي ذكرتها قوم من أصحابنا ، والاستدلال على القول بالعموم ، وأن له صيغة يقتضي ظاهرها الاستغراق ، فمن لا يذهب إلى ذلك من أصحابنا لا يصحّ له الاستدلال بهذه الآية في هذا الموضع ، ومن ذهب إلى العموم منهم صحّ له ذلك ، ويمكن أن يستدلّ بها على أمرين :

أحدهما : أن من كان ظالما في وقت من الأوقات فلن يجوز أن يكون إماما ، ويبنى على ذلك القول بإمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٧.

(٢) ما بين المعقوفتين ساقط من «المغني».

(٣) في المغني «على كلّ حال من الأحوال».

(٤) باب النبوءات يعني المغني وهو في الجزء الخامس عشر منه.

(٥) المغني ، ٢٠ / ١٩٤.

٤٥٤

فصل ؛ لأنّ من تولّى الأمر غيره قد كان ظالما فيما سلف من أحواله.

والأمر الآخر : أن يبيّن اقتضاء الآية لكون الإمام معصوما ؛ لأنّها إذا اقتضت نفي الإمامة عمّن كان ظالما على كلّ حال ، سواء كان مسرّ الظلم أو مظهرا له ، وكان من ليس بمعصوم وإن كان ظاهره جميلا ، يجوز أن يكون مبطنا للظلم والقبح ، ولا أحد ممن ليس بمعصوم يؤمن ذلك منه ، ولا يجوز فيه ، فيجب بحكم الآية أن يكون من يناله العهد الذي هو الإمامة معصوما حتى يؤمن استسراره بالظلم ، وحتى يوافق ظاهره باطنه ، والكلام الذي طعن به صاحب الكتاب في الاستدلال بالآية غير صحيح ؛ لأنّ عموم ظاهرها يقتضي أن الظالم في حال من الأحوال لا ينال الإمامة ، ومن تاب بعد كفر أو فسق وإن كان بعد التوبة لا يوصف بأنه ظالم فقد كان ممن يتناوله الاسم ، ودخل تحت الآية ، وإذا حملنا الآية على ما توهّم صاحب الكتاب من أن المراد بها من دام على ظلمه ، واستمر عليه ، كان هذا تخصيصا بغير دليل والقول بالعموم يمنع منه ، وكيف يجوز لصاحب الكتاب أن يقول : «إنّ زوال الاسم بالتوبة يخرج المستحق لذلك من عموم الاسم الوارد» وهو يقول في جميع آيات الوعيد أنها مخصوصة ، وأن التائبين وأصحاب الصغائر خارجون منها بالأدلّة الموجبة لإخراجهم ، وأن آيات الوعيد مخصوصة أيضا بالأدلّة الموجبة لاستثناء من أحبط ثواب إيمانه بندم عليه أو كبيرة تصحبه ، فلو كان الأمر على ما ادّعاه في هذه الآية من خروج من تاب من ظلمه عن عموم قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من غير دلالة ، بل لأنّ الاسم لا يتناوله على ما ادّعاه لوجب مثل ذلك في آيات الوعد والوعيد ، وأن يقول : إنها غير مخصوصة ولا مستثناة بأدلّة العقول وغيرها ، ويجعل التائب وغيره خارجا من الاسم واللفظ ولا يحتاج أن يخرجه بدلالة ، وهذا ظاهر البطلان عنده وعند كلّ من قال بالعموم.

فأما معارضته بقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) فلو لم تقم الدلالة على أن المراد بذلك في حال إيمانهم وسلامتهم أيضا من الاحباط على قول من ذهب إليه لم يجعل القول مخصوصا بمن كان في الحال مؤمنا ، وإنّما جعل كذلك ؛

٤٥٥

لأن البشارة بالثواب لا تكون إلا لمستحقه دون من أحبطه وأزاله ، وهذا طريق الاستدلال الذي ما منعنا صاحب الكتاب منه ، وإنما منعناه من ادعاء خروج التائب من الاسم.

فأمّا تقسيمه المراد بالآية ، وادّعاؤه أن الإمامة بمعنى إقامة الحدود ، وتنفيذ الأحكام ، لا يدخل تحتها فباطل ؛ لأنّ الظاهر فيه تصريح بذكر الإمامة التي قد فرّق المخاطبون بينها وبين النبوّة ، فلا بدّ من أن يكون محمولا عليها دون النبوّة ، ولسنا ندري في أي موضع بيّن أنّه لا يدخل تحت ذلك الإمامة التي هي بمعنى إقامة الحدود حتّى ادّعى بيان ذلك فيما سلف من كلامه؟ إن كان ذلك فيه فقد سلف نقضه ، وإن كان فيما يأتي فسيجيىء أيضا بمشيئة الله تعالى نقضه ، وما المنكر من أن يكون إبراهيم عليه‌السلام نبيّا إماما ويكون إليه مع تبليغ الرسالة إقامة الحدود ، وتنفيذ الأحكام؟

فإن قيل : من أين لكم أن المراد بلفظة «عهدي» الإمامة ، وهي لفظة مجملة يصحّ أن يعنى بها الإمامة وغيرها.

قلنا : من وجهين اثنين :

أحدهما : دلالة موضوع الآية على ذلك ؛ لأنّه تعالى لما قال لإبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) حكى عنه قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ومعلوم أنه أراد جعل «من ذرّيتي» أئمة ، ثمّ قال عقيب ذلك : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فأشار بالعهد إلى ما تقدّم من سؤال إبراهيم عليه‌السلام فيه ليتطابق الكلام ، ويشهد بعضه لبعض.

والوجه الآخر : إن «عهدي» إذا كان لفظا مشتركا وجب أن يحمل على كلّ ما يصلح له ، ويصح أن يكون عبارة عنه ، فنقول : إن الظاهر يقتضي أن كلّ ما يتناوله اسم العهد لا ينال الظالم ، ويجري ذلك مجرى أن يقول قائل : «لا ينال عطائي الأشرار» في أن الظاهر يقتضي أن جنس عطائه لا يناله شرير ، ولا يختصّ بعطاء دون عطاء ، وهذا الوجه أيضا مبنيّ على القول بالعموم الذي بيّنا انه عمدة الاستدلال بهذه الآية.

٤٥٦

فأما قوله : على الطريقة الأخرى : «إن الذي له أوجب في الرسول أن يكون منزّها عن الكفر والكبائر كونه حجّة فيما تحمله ، وإن الإمام بخلافه وأنه بمنزلة الأمير والحاكم» فقد بيّنا فيما تقدّم أن الإمام أيضا حجّة وأنه يرجع إليه في أمور لا تعلم إلّا من جهته ، وبيّنا أن النقل الوارد بأحكام الشريعة قد يجوز أن يتغيّر حاله فيخرج من أن يكون حجّة على وجه لا يكون المفزع فيه إلّا إلى قول الإمام ، فيجري قوله ـ والحال هذه ـ في أنه حجّة لا يقوم غيره مقامه فيها ، مجرى قول الرسول (١) ، وبيّنا الفرق بين الإمام والحاكم والأمير ، وأن الحاكم والأمير ليسا هما حجّة في شيء ، ولا يجوز أن يكونا حجّة على وجه من الوجوه ، وأوضحنا ذلك إيضاحا يغني عن إعادته (٢) ، فإذا وجب عند صاحب الكتاب كون الرسول منزّها عن الكفر والكبائر قبل بعثته ؛ لأنّه حجّة فيما يتحمله ، فيجب أيضا أن يكون الإمام منزّها عن القبائح قبل إمامته ؛ لأنّه حجّة فيما يؤديه ويعرف من جهته ، وهذا بيّن لمن تدبّره (٣).

ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٢٧].

أنظر التكوير : ٨ ، ٩ من الأمالي ، ٢ : ٢٤٠.

ـ (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ١٢٩].

ويوصف تعالى بأنه «عزيز» ، ومعناه أنه يقتدر على الأمور لا يلحقه منع ولا ذلّة ولا اهتضام. وقد وصفوا الأرض الصّلبة بأنها عزاز لشدّتها وامتناعها ، وشبهوها

__________________

(١) راجع الشافي ، ١ : ١٠٢.

(٢) راجع الشافي ، ١ : ٢٩٦ ؛ فإن القاضي نقض وجوب العصمة في الإمام بالأمير من قبله ، وانها إذا وجبت في الإمام وجبت في الأمير بنفس الدليل والحال بخلافه ؛ فأجاب عنه السيّد بأنّ عدم عصمة الإمام يؤدى إلى التسلسل فلا بدّ أن يكون هناك إمام معصوم يرجع إليه من ليس كذلك وهذا هو اللطف ، وهذا بخلاف الأمير ؛ فإن إمامه هو إمام الكلّ ورئيس الجميع.

(٣) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٣ : ١٣٧.

٤٥٧

بالقادر من حيث صعب صلابتها التصرّف فيها كما يوصف منع القوي (١).

ويوصف تعالى بأنه حكيم ، بمعنى أنه عالم ، كما قال تعالى (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢) ، وتفيد هذه اللفظة أيضا أنه فعل الأفعال المحكمة فيما لم يزل كما يقال عالم فيما لم يزل (٣). وقيل : معنى وصف الحكيم انّه لا يتخلّل أفعاله شيء من السفه ، ألا ترى انه لا يوصف بالحكمة من يفعل الحكمة تارة والسفه أخرى (٤).

ـ (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥].

أنظر البقرة : ٧٤ من الأمالي ، ٢ : ٥٠.

ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣].

[نقل القاضي استدلال شيخه أبي عليّ على صحّة الإجماع بهذه الآية] قال : «الوسط هو العدل ولا يكون هذا حالهم إلّا وهم خيار ؛ لأنّ الوسط من كلّ شيء هو المعتدل منه ، وقوله تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) (٥) المراد بذلك خيرهم ، وعلى هذا الوجه يقال له : إنّه عليه‌السلام من أوسط العرب (٦) يعني بذلك من خيرهم ، وبيّن أنّه تعالى جعلهم كذلك ليكونوا شهداء على الناس ، كما أنّه عليه‌السلام شهيد عليهم ، فكما أنّه لا يكون شهيدا إلّا وقوله حقّ وحجّة ، فكذلك القول فيهم» (٧).

وهذه الآية لا تدلّ أيضا على ما يدّعونه ؛ لأنّه لا يخلو أن يكون المراد بها جميع الأمّة المصدّقة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعضها ، وقد علمنا أنّه لا يجوز أن يريد جميعها ؛ لأن كثيرا منها ليس بخيار ولا عدول ، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٠.

(٢) سورة ص ، الآية : ٢٠.

(٣) الذخيرة : ٥٨٣.

(٤) الذخيرة : ٥٩٤.

(٥) سورة القلم ، الآية : ٢٨.

(٦) «من أوسط قريش نسبا يعني خيرهم» ، كذا في المغني.

(٧) المغني ١٧ : ١٧١.

٤٥٨

يصف جماعة بأنّهم خيار عدول ؛ وفيهم من ليس بعدل ولا خيّر ، وهذا ممّا يوافقنا عليه صاحب الكتاب ، وإن كان أراد بعضهم لم يخل ذلك البعض من أن يكون هو جميع المؤمنين المستحقّين للثواب أو يكون بعضها منهم غير معيّن ، فإن كان الأوّل فلا دلالة توجب عمومها في الكلّ دون حملها على بعض معيّن ؛ لأنّه لا لفظها هنا من الألفاظ التي تدّعى للعموم ، كما هو في الآيتين المتقدّمتين (١) ، وإن كان المراد بعضا معيّنا خرجت الآية من أن تكون فيها دلالة لخصومنا على الخلاف بيننا وبينهم ، ولم يكن بعض المؤمنين بأن تقتضي تناولها له أولى من بعض فساغ لنا أن نقصرها على الأئمة من آل محمد صلوات الله عليهم ، ويكون قولنا أثبت في الآية من كلّ قول ؛ لقيام الدلالة على عصمة من عدلنا بها إليه (٢) وطهارته ، وتميّزه من كلّ الأمّة.

فإن قيل : إطلاق القول يقتضي دخول كلّ الأمّة فيه لولا الدلالة التي دلّت من حيث الوصف المخصوص على تخصيص من استحقّ المدح منهم ، والثواب ، فإذا خرج من لا يستحقّهما بدليل وجب عمومها في كلّ المستحقّين الثواب والمدح ؛ لأنّه ليس هي بأن تتناول بعضا أولى من بعض.

قيل : إنّ إطلاق القول لا يقتضي كلّ الأمة ـ على أصلنا ـ حتّى يلزم إذا أخرجنا من لا يستحق الثواب منه أن لا يخرج غيره ، ولو اقتضى ذلك ووجب تعليق الأمّة من عدا الخارجين عن استحقاق الثواب ، لوجب القضاء بعمومها في جميع من كان بهذه الصفة في سائر الأعصار ؛ لأنّ ظاهر العموم يقتضيه على مذهب من قال به ، فكان لا يسوغ حمل القول على إجماع كلّ عصر ؛ لأنّه تخصيص لا يجد مقترحه فرقا بينه وبين من اقترح تخصيص فرقة من كلّ عصر ، وهذا يبطل الغرض في الاحتجاج بالآية.

وليس لأحد أن يقول : كيف يكون اجتماع جميع أهل الأعصار على الشهادة

__________________

(١) يعني بذلك ما تقدم في أصل الكتاب وهما الآية ١١٥ من سورة النساء ، والآية ١٥ من سورة لقمان. وسيأتي الكلام فيهما.

(٢) أي عدلنا بالآية إلى الإمام المعصوم.

٤٥٩

حجّة وصوابا على ما ألزمتموناه ولا يكون إجماع جميع أهل كلّ عصر كذلك؟ لأنّ هذا ممّا لم ينكر كما لم يكن منكرا عند خصومنا أن يكون إجماع أهل العصر حجّة وصوابا ، وإن لم يكن اجتماع كلّ فرقة من فرقهم كذلك.

فإن قيل : بأيّ شيء يشهد جميعهم ، وهم لا يصحّ أن يشاهدوا كلّهم شيئا واحدا فيشهدوا به؟

قيل : قد تصحّ الشهادة بما لا يشاهد من المعلومات ، كشهادتنا بتوحيد الله عزوجل ، وعدله ، ونبوّة الأنبياء عليهم‌السلام إلى غير ذلك ممّا يكثر تعداده.

ولو قيل أيضا : فعلى من تكون الشهادة إذا كان المؤمنون جميعا في الأعصار (١) هم الشهداء؟.

قلنا : تكون شهادتهم على من لا يستحق الثواب ، ولا يدخل تحت القول من الأمّة ، ويصحّ أيضا أن يشهدوا على باقي الأمم الخارجين عن الملّة ، وكلّ هذا غير مستبعد.

وممّا يمكن أن يقال في أصل تأويل الآية : ان قوله تعالى (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ـ إذا سلم أن المراد جعلناكم عدولا خيارا ـ لا يدلّ أيضا على ما يريده الخصم ؛ لأنّه لم يبيّن هل جعلهم عدولا في كلّ أقوالهم وأفعالهم أو في بعضها؟ والقول محتمل وممكن أن يكون أراد تعالى أنهم عدول فيما يشهدون به في الآخرة ، أو في بعض الأحوال ، فإن رجع راجع إلى أن يقول : إطلاق القول إنّما يقتضي العموم ، وليس هو بأن يحمل على بعض الأحوال أو الأقوال أولى من بعض ، فقد مضى الكلام على ما يشبه هذا مستقصى (٢).

فأمّا حمل الأمّة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في باب الشهادة ، وكونه حجّة فيها ، فلم يكن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة من حيث كان شهيدا ، بل من حيث كان نبيّا معصوما فتشبيه أحد الأمرين بالآخر من البعيد.

__________________

(١) خ «إذا كان جميع المؤمنين في الأعصار».

(٢) سيأتي في سورة النساء ، الآية : ١١٥.

٤٦٠