تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

ويمكن الإشارة إلى تسلم آل فرات مقام الوزارة في الدولة العباسيّة في فترات عديدة ما يجعلها عاملا مستقلّا وذلك لاهميّة جهودها في هذا المضمار. خصوصا وأن هذه العائلة كانت قد سعت بشكل حثيث في تقوية وتأييد ودعم التشيّع وبذلت بسخاء للعلماء والمفكّرين ودعمتهم أفضل دعم.

ولعلّ العامل المهم الآخر لتحوّل بغداد إلى محلّ مهيء لنموّ الثقافة والعلم عند المجتمع الشيعي البغدادي هو الحضور الممتد لنوّاب الإمام المهدي عجّ الله فرجه الشريف الأربعة في بغداد.

فقد لعبت إقامة النوّاب الأربعة في هذه المدينة دورا يمكن تحديده بما يلي : أوّلا ساهم في نموّ التشيّع وزيادة عدد الشيعة في بغداد والكرخ. ثانيا : ساهم ارتباط الإمام بالأمّة في تطوّر الجانب العلمي لدى الشيعة. ثالثا : إنّ المركزية الّتي حدثت من خلال إقامتهم خلال عشرات السنين ساهمت في جذب وانتقال الكثير من علماء الشيعة العظام إلى بغداد ومن سائر المناطق. وقد ساهم هذا العامل بحدّ ذاته في تكامل الثقافة والمعارف الشيعيّة في هذه المدينة. ويلاحظ هذا الأمر من خلال ما ورد من حضور عليّ بن محمّد بن همام الإسكافي مجلس وصيّة محمّد بن عثمان العمري مع مجموعة مثلت كبار علماء الشيعة حيث حضروا عنده وهو مسجّى على فراشه. وقد ورد في أبي علي محمّد ابن همام الإسكافي انه «شيخ أصحابنا ومتقدّمهم له منزلة عظيمة كثير الحديث» (١) أو أبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختي والّذي ورد فيه : «شيخ المتكلّمين من أصحابنا ببغداد» (٢) (٣).

فحضور الكليني (٤) وعليّ بن بابويه (٥) ...

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٧٩.

(٢) الفهرست : ٤٩.

(٣) كتاب الغيبة (للطوسي) : ٣٧١.

(٤) في رجال النجاشي : ٣٧٧ : «ومات أبو جعفر رحمه‌الله ببغداد. سنة تسع وعشرين وثلاثمائة».

(٥) في رجال النجاشي : ٢٦١. «كان قدم العراق واجتمع مع أبي القاسم الحسين بن روح رحمه‌الله» ولا ـ

٢١

وابن قولويه (١) والصدوق (٢) في أثناء الغيبة الكبرى أو بعدها بقليل في مدينة بغداد دليل على قدرة وسعة المجتمع الشيعي ومكانته وقوّة السنة العلمية الشيعيّة في هذه المدينة.

وبعد فترة وجيزة من انتهاء الغيبة الصغرى في بغداد نشأ أوّل عصر للمرجعيّة الشيعيّة والحوزة العلميّة بمفهومها العصري للحوزة اليوم. وكان أوّل من انشأ تلك الحوزة الشيخ محمّد بن محمّد النعمان المشهور بالشيخ المفيد.

وإذا ما أضفنا نفوذ الحكومة الشيعية الّتي أوجدها البويهيون إلى جهود الشيخ وتلامذته لا تضح لنا صدق كلام ابن كثير المؤرّخ الشامي بأنّ أكثر الناس في تلك الفترة مالوا إلى التشيّع.

لقد كان درس الشيخ ينعقد في مسجده في ممرّ درب الرياح الواقع في منطقة الكرخ أو في بيته الّذي يقع في تلك المنطقة بالذات. وكانت هذه المجالس منتجعا علميّا لجميع العلماء والدارسين ، وكان من مكانة هذا الرجل الاجتماعية أن كان يزوره عضد الدولة الديلمي في بيته أو يحضر في حلقة درسه (٣).

لقد كانت هذه الكلمات خلاصة لما كانت تعيشه بغداد الّتي نما ونشأ فيها السيّد المرتضى ، ويتّضح من خلال ما مرّ أنّ بغداد كانت تمثل الأرضية المناسبة

__________________

ـ يخفى أنّ الشيخ حسين بن روح النوبختي توفّي سنة ٣٢٦ وهكذا يعلم أنّه رحمه‌الله قدم بغداد أكثر من مرّة إذ قال النجاشي : «أخبرنا أبو الحسن العبّاس بن عمر بن العبّاس بن محمّد بن عبد الملك بن أبي مروان الكلوذاني رحمه‌الله قال : أخذت إجازة عليّ بن الحسين بن بابويه لما قدم بغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة بجميع كتبه». رجال النجاشي : ٢٦١ و ٢٦٢.

(١) استاذ الشيخ المفيد في الفقه ؛ قال النجاشي في رجاله ؛ ١٢٣ : «وعليه قرأ شيخنا أبو عبد الله الفقه ومنه حمل» ووصفه الشيخ المفيد في كتاب مصابيح النور بالصدوق ؛ قال : «أخبرني الشيخ الصدوق أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه رحمه‌الله» رجال النجاشي : ٤٤٧.

(٢) في رجال النجاشي : ٣٨٩ : «محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي أبو جعفر ، نزيل الري ، شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن» وقيل : إنّ الجملة الأخيرة ترتبط بوروده ببغداد ؛ وفيه نظر.

(٣) تلخيص وتعريب من مقالات مؤتمر تكريم الشريف الرضي رحمه‌الله.

٢٢

لازدهار ونموّ اناس مستعدين. فهذه المدينة يمكن اعتبارها عاملا مستقلّا ومهمّا في مسير تكوين شخصيّة السيّد المرتضى.

٣ ـ لقد كان لأساتذة ومعلّمي السيّد المرتضى الّذين كانوا يعتبرون أساطين في العلم الركيزة المهمّة الأخرى في تعالي شخصيّة السيّد المرتضى ومن أبرز هؤلاء يمكن الإشارة إلى :

أ ـ شيوخه في الأدب العربي :

١) أبو عليّ النحوي :

هو أبو عليّ الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، أحد ائمّة العربية ولد بفسا من أرض فارس ، وقدم بغداد فاستوطنها ، أخذ من علماء النحو ، وعلّت منزلته في النحو حتّى قال قوم من تلامذته : هو فوق مبرد وأعلم (١) كما أقام بحلب عند سيف الدولة مدّة ، وجرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مجالس (٢) وقد صنّف كتبا لم يسبق إلى مثلها منها : كتاب التذكرة ، والإيضاح ، والمقصور والممدود ، والحجّة في القرءات (٣). وقد ذكره السيّد المرتضى في موضعين من كتبه. وذكر صاحب رياض العلماء أنه من شيوخ المرتضى في النحو (٤) توفّي سنة ٣٣٧.

٢) المرزباني :

أبو عبد الله محمّد بن عمران بن موسى بن سعيد (٥) ، أصله من خراسان (٦) بغدادي المولد (٧) ، راوية صادق اللهجة ، واسع المعرفة بالروايات كثير السماع (٨). روي عن البغوي ، وابن دريد ، وأبي بكر بن داود السجستاني ، وآخرين (٩). وكان أبو علي النحوي يقول : هو من محاسن الدنيا (١٠). وله من

__________________

(١) أنباه الرواة ، ١ : ٢٧٣.

(٢) شذرات الذهب ، ٣ : ٨٨.

(٣) أنباه الرواة ، ١ : ٢٧٣.

(٤) رياض العلماء ، ١ : ٥٣.

(٥) الفهرست (لابن النديم) : ١٤٦.

(٦) نفس المصدر.

(٧) مرآة الجنان ، ٢٢ : ٤١٨.

(٨) الفهرست (لابن النديم) : ١٤٦.

(٩) البداية والنهاية ، ١١ : ٣١٤.

(١٠) نفس المصدر.

٢٣

الكتب : الكتاب المونق في أخبار الشعراء على حروف المعجم وكتاب الموشح ، وصف فيه ما أنكره العلماء على بعض الشعراء (١). هذا وأكثر روايات السيّد المرتضى في أماليه عن أبي عبد الله المرزباني. توفّي المرزباني سنة ٣٨٤ ه‍ وكان مولده في جمادي الآخر سنة ٢٩٧ ه‍ (٢).

٣) سهل بن احمد الديباجي :

هو سهل بن أحمد بن عبد الله أبو أحمد الديباجي (٣). حدث عن محمّد بن العبّاس اليزيدي ومحمّد بن الدريد وأبي بكر بن الأنباري (٤) وروي عنه الأزهري والقاضي أبو العلاء الواسطي وأبو القاسم التنوخي (٥) وقد ذكر الخطيب البغدادي وصاحب شذرات الذهب أن الشريف المرتضى روي عنه (٦). توفّي سنة ٣٨٥ ه‍ وقيل ٣٨٣ ه‍.

٤) ابن جنيقا :

هو أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى الدقّاق ، المعروف ب «ابن جنيقا» قال أبو علي البرداني : قال لنا القاضي أبو يعلى : الناس يقولون جنيقا بالنون وهو غلط ، إنّما هو جليقا باللام (٧) ، قال عنه ابن كثير : سمع الحديث سماعا صحيحا وروي عنه الأزهري ، وكان ثقة مأمونا حسن الخلق (٨). وقد ذكر السيّد المرتضى في أكثر من موضع من أماليه. توفّي في رجب سنة ٣٩٠ ه‍ (٩).

٥) ابن نباتة السعدي :

هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمّد بن أحمد بن نباتة السعدي (١٠) ، كان شاعرا مجيدا ، جمع بين حسن السبك وجودة المعنى ، طاف البلاد ومدح الملوك والوزراء وله في سيف الدولة الحمداني غرر القصائد (١١).

__________________

(١) الفهرست (لابن النديم) : ١٤٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) تاريخ بغداد ، ٩ : ١٢١.

(٤) نفس المصدر.

(٥) نفس المصدر.

(٦) نفس المصدر وشذرات الذهب ، ٣ : ٢٥٦.

(٧) تاريخ بغداد ، ١٠ : ٣٧٧.

(٨) البداية والنهاية ، ١١ : ٢٣٦.

(٩ ـ ١١) المنتظم ، ٧ : ٢١٠.

٢٤

قال عنه أبو حيّان التوحيدي : هو شاعر الوقت ، لا يدفع ما أقول إلّا حاسد أو جاهل أو معاند (١).

ويعد ابن نباتة من أوائل شيوخ السيّد المرتضى ، فقد قرأ عليه هو وأخوه مبادئ العربية وهما طفلان (٢). توفّي ببغداد سنة ٤٠٥ ه‍ (٣).

٦) علي بن محمد الكاتب :

هو أبو الحسن عليّ بن محمّد الكاتب ، روي عنه السيّد كثيرا في أماليه ، ولم نقف على ترجمته ، ويبدو من روايات السيّد المرتضى عنه أنه كان يحدث عن أبي بكر الصولي وابن دريد وان المرزباني قد روي عنه (٤).

ب ـ شيوخه في الحديث والفقه والأصول :

١) الشيخ المفيد :

هو الشيخ الجليل أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد ، يكنّى أبا عبد الله ، المعروف بابن المعلم ، من جملة متكلّمي الإمامية ، انتهت إليه رئاسة الإماميّة في وقته ، وكان مقدما في العلم وصناعة الكلام ، وكان فقيها متقدّما فيه ، حسن الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب. وله قريب من مائتي مصنّف كبار وصغار ، وفهرست كتبه معروف ، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وتوفّي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ، وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه ، من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق (٥). قال ابن نديم : (شاهدته فرأيته بارعا) (٦).

٢) محمد بن بابويه الصدوق :

محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي أبو جعفر ، نزيل

__________________

(١) الامتاع والمؤانسة ، ١ : ١٣٦.

(٢) الدرجات الرفيعة : ٤٥٩.

(٣) المنتظم ، ٧ : ٢٧٤.

(٤) نقلناه ترجمة أساتذة السيّد في الأدب عن كتاب «الدلالة القرآنية عند الشريف المرتضى» : ٢١ ـ ٢٦. وعن الناصريات : ١٨ ـ ٢١.

(٥) الفهرست : ٢٣٨ ، ٢٣٩.

(٦) الفهرست (لابن نديم) : ٢٢٦.

٢٥

الري ، شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان (١) ، المعروف بالشيخ الصدوق المتوفّى سنة ٣٨١ ه‍ ، كما ورد ذلك في الإجازات.

٣) الحسين بن بابويه :

هو الحسين بن عليّ بن الحسين بن بابويه ، أخ الشيخ الصدوق ، كان جليل عظيم الشأن في الحديث ، يروي عن أبيه وأخيه ، ويروي عنه الشريف المرتضى بلا واسطة (٢) ، وكذلك النجاشي (٣).

٤) هارون بن موسى التلعكبري

هو أبو محمد هارون بن موسى بن أحمد بن سعيد بن سعيد ، أبو محمّد ، التلعكبري من بني شيبان (٤) ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، واسع الرواية ، عديم النظير ، ثقة ، روى جميع الأصول والمصنّفات ، مات سنة خمس وثمانين وثلاثمائة (٥).

٥) أحمد بن محمّد الكاتب

أبو الحسين أحمد بن محمّد بن عليّ الكوفي الكاتب ، قال الشيخ الطوسي : أحمد بن عليّ الكوفي ، يكنّى أبا الحسين ، روى عن الكليني ، أخبرنا عنه عليّ ابن الحسين الموسوي المرتضى (٦).

ختامه مسك

بملاحظة مشايخ السيد المرتضى العظماء الّذين مثلوا كلّ بدوره عظمة ومكانة كبيرة. يتّضح أنّ محيط بغداد وأساتذتها الكبار كانوا يمثلون أرضية مناسبة لتطوّر السيّد المرتضى علميّا ؛ لكن ينبغي أنّ نعلم بأن هذا العامل كسابقه (أي الوراثة والمحيط العلمي للعائلة) لا يكفي لوحده لنموّ وازدهار شخص ما ،

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٨٩.

(٢) رجال الطوسي : ٤٣٤.

(٣) رجال النجاشي : ٦٨.

(٤) رجال النجاشي : ٤٣٩.

(٥) رجال الطوسي : ٤٤٩.

(٦) رجال الطوسي : ٤١٤.

٢٦

فلقد كان الكثير ممّن عاشوا في هكذا بيئة وتعرفوا على علماء بغداد الكبار لكنّهم لم يسعوا للاستفادة من هؤلاء العلماء وما أكثر أولئك الّذين كانوا ينتسبون إلى عوائل كبيرة لكنّهم اكتفوا بنسبهم ولم يجدّوا في طلب العلم ؛ فما هو مؤثّر في مسير نموّ وازدهار إنسان ما إنّما هي العناية والرعاية الألهية بهذا الإنسان ، فإذا ما تهيأ الإنسان فإنّ جميع الاستعدادات الوراثية والاكتسابية تبدأ بالازدهار.

لقد نال السيّد المرتضى هذه العناية الإلهية وقد شمله لطف الله وعنايته وصار كما هو ؛ قال ابن ابي الحديد : حدّثني فخّار بن معد العلوي الموسوي رحمه‌الله قال : رأى المفيد أبو عبد الله محمّد بن النعمان الفقيه الإمامي في منامه كأنّ فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليهما دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين عليهما‌السلام صغيرين فسلمتها إليه وقالت له علّمهما الفقه فانتبه متعجّبا من ذلك فلمّا تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة الّتي رأى فيها الرؤيا دخلت إلى المسجد فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها وبين يديها إبناها محمّد الرضي وعليّ المرتضى صغيرين فقام إليها وسلّم عليها فقالت له : أيّها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلّمهما الفقه فبكى أبو عبد الله وقصّ عليها المنام وتولّى تعليمهما الفقه وأنعم الله عليهما وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا وهو باق ما بقي الدهر (١).

الفصل الثاني

لقد ذكرنا سابقا أنّ معرفة أي مدرسة علميّة لعالم ما وكذا دوافعه الفكريّة يتطلّب مجالا واسعا ؛ وبما أنّ هذا ليس ما نرومه في بحثنا هذا لذلك لم يكن سعينا البحث في آراء ونظريات السيّد المرتضى بل نروم إلى بحث إجمالي في منهجيته العلمية لنحصل على إجابات على الأسئلة المطروحة.

وللحصول على تلك الإجابات ينبغي البحث في الأرضية السياسيّة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، ١ : ٤١.

٢٧

والاجتماعية والمدارس الفكرية الّتي عاصرها السيد المرتضى لنشير بعد ذلك إلى موقف المدرسة البغدادية (١) والّتي كان يتزعمها السيّد المرتضى.

ولهذا سنعمد للحديث عن موقف ونتائج المدرسة البغدادية بعد ذكر مقدّمتين :

المقدمة الأولى : الانفتاح السياسي والاجتماعي للشيعة في عصر السيّد المرتضى

ينبغي اعتبار عصر السيّد المرتضى عصرا لخروج المدرسة الشيعيّة من زوايا مدينة بغداد (٢) والّتي كان من نتاجها ترويج هذا المذهب بشكل تصاعدي ومن ثمّ ازدياد الجهود التبليغيّة والعلميّة للشيعة الإمامية. وبعبارة أخرى فقد حصل في هذه الفترة انفتاحا سيّاسا للشيعة تمكنت من خلالها تحكيم جانبها السياسية والاجتماعيّة. وكان لهذه المهمّة الخطيرة بعدان :

١ ـ الجهد التبليغي والعاطفي ؛

٢ ـ الجهد العلمي والثقافي ؛

لقد كانت المهمّة الأولى تقع على عاتق الدولة الشيعيّة والأمّة ، فيما كانت تقع المهمّة الثانية على عاتق علماء هذه المدرسة. ويظهر أنّ هاتين الفئتين كانتا قد انجزتا هذه المهمّة بشكل جيّد. وهنا نشير إلى جانب من تلك الحالة.

١) الجهد التبليغي والعاطفي

لم يكن بإمكان شيعي القدرة على التصريح بعقائده قبل القرن الرابع الهجري إلّا إذا أراد أن يضحي بنفسه.

ولعلّ حكاية ابن السكّيت دليل مؤيّد لهذا الإدعاء فقد روي أنّ ابن السكّيت

__________________

(١) لا يخفى على المطّلع أنّ المقصود من المدرسة البغدادية هو المدرسة البغدادية الثانية حيث كانت فترة الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي تمثل مستوى القمّة فيها.

(٢) محطّ كلامنا في هذا البحث مدينة بغداد وإلّا فقد كانت في القرنين الثاني والرابع حكومات شيعية أخرى لها أثرها في تاريخ الشيعة ودورها في ترويج المذهب ، كآل حمدان والفاطميين والعلويّين حكّام طبرستان.

٢٨

كان يدرّس ولدي المتوكّل وهم عبد الله المعتزّ وإبراهيم المؤيّد وفي يوم خاطبه المتوكّل قائلا : أيهما أحبّ إليك ابني هذين أو الحسن والحسين فأجابه ابن السكّيت قائلا : لقنبر (غلام عليّ عليه‌السلام) أحبّ إليّ من ابنيك هذين ، فأمر المتوكّل أن تبقر بطنه أو على نقل آخر أمر ان يقطع لسانه من قفاه.

أو كما ورد في حكاية أخرى عن قافلة كانت تتّجه من قم إلى إصفهان فجهر أحدهم بكلام يظهر فيه اعتقاده الشيعي فما كان من الحاكم ألّا أن قتل مجموعة من تلك القافلة ومنذ القرن الرابع وما بعده وخصوصا منذ بداية النصف الثاني من ذلك القرن استطاع أمراء الديلم أن يسلبوا الخليفة اختياراته وحوّلوا بغداد إلى مركز حكومتهم وبذلك زال الكثير من هذا الضغظ والمنع ، نعم كانت تحدث بعض الخصومات والنزاعات بين الشيعة والسنّة والّتي كان يحركها في الغالب الحكّام ، وفي غير هذا كان إظهار العقائد الشيعية من دون مانع.

إظهار الشعائر الشيعيّة

المقصود من الشعار هنا هو الأمور الّتي يكون ابرازها من مختصّات اتباع المذهب الشيعي لكن هذا الاختصاص لا يعني أنّ هذه الشعارات لم تكن لها جذور إسلامية ، وأنّ الشيعة هم إبتدعوها ، بل إنّ لهذه الشعائر منطلقاتها الإسلامية سواء في زمن الأئمّة الأطهار أو في الأزمنة اللاحقة لكن هذه الشعائر كانت تقام في الخفاء أيّام الحكومات الظالمة الّتي كانت تشدّد ضغطها على الشيعة. وهكذا كانت بعض هذه الشعائر تنساق في مسير النسيان وذلك ضمن متقلبات الوقائع التاريخية.

لكن هذه الشعائر بدأت تظهر إلى العلن بحدّ ما وذلك في منتصف المئوية الرابعة والخامسة. وسنذكر هنا عدّة شعائر كانت قد ظهرت بشكل جليّ في ذلك العصر :

١) جملة حيّ على خير العمل

إنّ ممّا لا شك فيه أنّ الصلاة تمثل أهمّ الأعمال ، إذا فذكر هذه الجملة في

٢٩

الأذان يعدّ أمرا مناسبا جدّا. وكما أشرنا فإنّ هذه الجملة كانت تذكّر في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأذان (١) ولا دليل على كونها قد نسخت (٢).

إذا ، فالشيعة حينما اعتبروا هذه الجملة جزءا من الأذان والإقامة لم ينحو إلّا طريق الصواب وما عملوا إلّا بسنّة وسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولأن بقيّة الفرق الإسلاميّة منعت هذا الأمر فإنّ هذا صار من مختصّات الشيعة وتحوّل إلى شعار ، يرتل على المآذن حينما كان يدخل كلّ قائد شيعي إلى منطقة من المناطق أو مدينة من المدن (٣).

٢) الشهادة الثالثة في الأذان (٤)

هناك روايات في مصادر الفريقين من قبيل الكتب الأربعة والصحاح الستّة

__________________

(١) سنن البيهقي ، ١ : ٤٢٤.

(٢) يقول السيّد المرتضى : وممّا انفردت الإمامية : أن تقول في الأذان والإقامة بعد قول : «حيّ على الفلاح» : حيّ على خير العمل. والوجه في ذلك إجماع الفرقة المحقّة عليه. وقد روت العامّة أنّ ذلك ممّا كان يقال في بعض أيّام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما ادعي أن ذلك نسخ ورفع ، وعلى من ادعى النسخ الدلالة له ، وما يجدها».

(٣) يقوى أن احتمال أن تكون مدينتي قم وكاشان والّتي كانت تقطنها الشيعة من المدن الّتي كانت تجهر بهذه الجملة في الأذان قبل القرن الرابع في أغلب أحيائها. وقد كانت الشيعة تجهر بهذه الجملة ببغداد وفي احياء من قبيل القطيعة (الكاظميّة) والكرخ وفي مسجد براثا. فقد نقل القاضي التنوخي نقلا عن أبي الفرج الإصفهاني أنه قد سمع مؤذّنا يذكر حيّ على خير العمل في أذانه. لكن في أوّل أيّام السلجوقيين أي سنة ٤٤٨ تمّ منع الشيعة من ذكره في الأذان. وكان طغرل السلجوقي قد أجبر سكان حيّ الكرخ أن يقولوا جملة «الصلاة خير من النوم» (في أذان الصبح) بدل «حيّ على خير العمل».

(٤) عدّ هذه الجملة من الأذان غير متّفق عليه قال الشيخ الصدوق : والمفوّضة لعنهم الله قد وضعوا أخبارا وزادوا في الأذان «محمّد وآل محمّد خير البريّة» مرّتين ، وفي بعض رواياتهم أشهد أنّ محمّد رسول الله «أشهد أنّ عليّا وليّ الله» مرّتين ، ومنهم من روى بدل ذلك «أشهد أنّ عليّا أمير المؤمنين حقّا» مرّتين ولا شكّ أنّ عليّا ولي الله أمير المؤمنين حقّا وأنّ محمّدا وآله صلوات الله عليه خير البريّة ، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان ، وإنّما ذكرت ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلسون أنفسهم في جملتنا أقول مراده رحمه‌الله من المفوّضة ـ على ما فسّره بعض الأساطين ـ خطّ الغلوّ السياسي في الشيعة وأيّا كان هم غير المعتزلة القائلين بتفويض أعمال العباد إليهم.

٣٠

والّتي يعتمدها الشيعة والسنة تدلّ على ولاية عليّ عليه‌السلام أو تؤيّد ذلك فالاعتقاد بولاية أمير المؤمنين يعد جزءا من الإيمان. فالشيعة ومن دون أدنى ترديد كانت ترفع شعار الشهادة لعليّ بالولاية وتصرّح بذلك كأحد أهمّ شعاراتها ، لكن السؤال هو هل وجدت الشيعة فرصة للجهر بهذا الشعار في مأذنها بشكل عملي. وللجواب يقال اننا لم نجد مطلبا يدلّ على ذلك. لكن وفي القرن الرابع فقد كان هناك من يرتل الشهادة الثالثة (الشهادة لعليّ بالولاية) في الأذان وذلك في حي القطعية من بغداد (الكاظمية).

٣) إقامة العزاء إحياء لذكرى مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام

لقد كانت مراسم إقامة العزاء على مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام إحدى أهمّ الشعائر البارزة الّتي كانت الشيعة تقيمها بعد واقعة الطف واستمرّت إلى يومنا هذا.

فقد كان خواصّ الشيعة وقبل القرن الرابع الهجري وفي أيّام الأئمّة المعصومين يحضرون عندهم في يوم عاشوراء ويقيمون مأتم الحزن هناك وكان الشعراء ينشدون ما نظموا حول هذه الواقعة ، واستمرّ هذا الأمر بعد زمن الأئمّة عليه‌السلام بشكل سرّي ، لكن كان يجهر بالأشعار الّتي كانت قد نظمت في هذه المناسبة.

فمنذ القرن الرابع بدأت مراسم إقامة العزاء على قتلى الطف تبرز إلى العلن. وسنذكر هنا بعض هذه الأنواع بشكل مختصر :

١ ـ النياحة :

لقد امتهن البعض النياحة وذكر مصية الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه في القرن الرابع وكان من جملتهم شخص يقال له خلب (بكسر الخاء وسكون اللام) وذلك في أوائل القرن الرابع الهجري وكان يبدأ قراءة مصيبة بالبيت التالي :

أيّها العينان فيضا

واستهلا لا تغيضا

وقد كانت الأبيات الشعرية الّتي ينشدها هؤلاء القرّآء تشتمل على مصائب

٣١

الإمام الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه ولم يتمّ التعرّض فيها للسلف ابدا ، لكن ـ ومع كلّ هذا ـ أنّ أبا محمّد البربهاري وهو من العلماء الحنابلة المعروفين ومن أوائل المؤسّسين لما عرف اليوم بمذهب الوهابيّة. كان يأمر بقتل قرّاء المصيبة الحسينية ، ففي تلك الفترة لم يكن أحد من قرّاء المصيبة ، ليجرأ بشكل علني على قراءة المصيبة لكن وفي أواسط القرن الرابع حيث زالت هيمنة البربهاري واتباعه كان قرّاء المصيبة يجهرون بذكر المصيبة.

٢ ـ رواج نظم الأبيات الشعرية حول واقعة الطف

منذ أن حدثت واقعة الطفّ ، والشعراء ينظمون أبياتا كثيرة حول هذه المناسبة وقد استمرّ هذا الأمر إلى يومنا هذا وقد اتّسع هذا المنحى في القرنين الرابع والخامس بشكل كبير فقد خصّص مؤلّف كتاب «أدب الطف» المجلّد الثاني من كتابه لذكر شعراء هذين القرنين وذكر نماذج من أشعارهم وقد أورد أسماء العشرات من هؤلاء الشعراء.

وقد ورد في مصادر ذلك الزمان الحديث عن وضع الشعراء ونماذج من أشعارهم وذلك في رسائل بديع الزمان الهمداني (المتوفّى سنة ٣٩٣) وكان منها مثلا قصيدة تحدث فيها الشاعر عن رفع رأس الإمام الحسين على رمح وكيف كانت تضرب شفاهه عليه‌السلام وأسنانه بالعصى وكذا بقيّة المظالم الّتي فعلها بنو أميّة (١).

__________________

(١) أورد الثعالبي كلاما حول رجل يقال له ابن كولان وكان يعتبر من شعراء الشيعة ، وكان يحبّ الإمام الحسين عليه‌السلام حبّا جما وقد دوّن تسعا وأربعين قصيدة حول أهل البيت عليهم‌السلام وكان قد نذر أن يكتب خمسين قصيدة وحين بدأ بكتابة الشطر الأوّل منها قال :

بني أحمد يا بني أحمد

ولم يتمكّن من إتمام البيت فنام بعد ذلك فرأى في المنام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطلب منه النبيّ أن يذهب إلى أمير المؤمنين فلمّا وصل عند الإمام أنشده تتمّة القصيدة قائلا :

بكت لكم عمد المسجد

وقد أورد الثعالبي عن أبي بكر الخالدي الشاعر قصيدة في وقعة الطفّ. وقد أورد أبو عبد الله المرزباني وهو من أدباء وكتاب القرن الرابع مجموعة من هؤلاء الشعراء ونماذج من أشعارهم.

٣٢

٣ ـ الحزن في يوم عاشوراء

لقد ذكرنا سلفا أنّ مراسم العزاء على مقتل الإمام الحسين كانت تجرى بالخفاء (في البيوت) قبل القرن الرابع الهجري لكن وبعد القرن الرابع وخصوصا بعد النصف الثاني من القرن الرابع كانت هذه المراسم تجرى في يوم عاشوراء بشكل علني في الأزقة والأسواق. فلقد أورد عموم المؤرّخين المسلمين وخصوصا المؤرّخون الّذين كتبوا في وقائع تلك السنوات كيفيّة العزاء الّذي كان يقيمه الشيعة في يوم عاشوراء ومنهم ابن الجوزي في كتاب المنتظم وابن الأثير في كتاب الكامل وابن كثير في البداية والنهاية واليافعي في مرآة الجنان والذهبي وآخرون وذلك ضمن ذكرهم لوقائع سنة ٣٥٢ والسنوات الّتي تلتها.

قال ابن الجوزي في هذا : أنه في اليوم العاشر من المحرم أغلقت الأسواق ببغداد ، وعطل البيع ، ولم يذبح القصّابون ولا طبخ الهرّاسون ولا ترك الناس أن يستقوا الماء ، ونصبت القباب في الأسواق ، وعلّقت عليها المسوح ، وخرجت النساء منتشرات الشعور يلطمن في الأسواق ، وأقيمت النائحة على الحسين عليه‌السلام (١) وكتب ابن أثير ضمن سرده لوقائع سنة ٣٥٢ : عاشر المحرّم أمر معزّ الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء ، وأن يظهروا النياحة ، ويلبسوا قبابا عملوها بالمسوح ، وأن يخرج النساء منثرات الشعور ، مسودات الوجوه وقد شققن ثيابهن ، يدرن في البلد بالنوائح ، ويلطمن وجوههنّ على الحسين بن عليّ رضى الله عنهما ففعل الناس ذلك ولم يكن للسنّة قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم. (٢)

ومنذ سنة ٣٥٢ إلى أواسط القرن الخامس حيث زال حكم البويهيين كانت تقام هذه المراسم بشكل مستمرّ. وإن صادف عاشوراء «النوروز» أو «مهركان» فإنّ مراسم الاحتفال بهذه الأيّام تؤخّر إلى ما بعده.

__________________

(١) المنتظم ، ١٤ : ١٥.

(٢) الكامل في التاريخ ، ٨ : ٥٤٩.

٣٣

٤ ـ إحياء مراسم عيد الغدير

ومن جملة الشعائر الشيعية الّتي برزت في القرن الرابع وتحوّلت إلى مراسم احتفالية يقام فيها الفرح والسرور هي يوم الغدير المصادف للثامن عشر من شهر ذي الحجّة ، ولم تكن هذه المناسبة مستحدثة بعد القرن الرابع بل هي مراسم كانت تقام قبل ذلك بعيدا عن أعين الرقيب لكنّها تحوّلت إلى مراسم علنية في منتصف القرن الرابع وفي نفس السنة التي بدأت فيها إقامة مراسم العزاء الحسيني بشكل علني واعتيادي أي في سنة ٣٥٢ حيث بدأت مراسم الاحتفال والإضائة في ليلة ويوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة (١).

٥ ـ زيارة العتبات المقدّسة

لقد دأبت الشيعة بعد واقعة عاشوراء المأساوية على إحياء هذه الذكرى ولم تنس هذا المصاب العظيم واستمرّت في زيارتها لمثاوي شهداء تلك الواقعة وبقيّة الأماكن المتبرّكة لاستذكار مواقف تلك الثلّة الّتي نصرت الحسين عليه‌السلام في زيارتها لمثاوي شهداء تلك الواقعة وبقية الأماكن المتبرّكة لاستذكار مواقف من نصر الحسين عليه‌السلام.

لقد واجه زائري مرقد الإمام الحسين عليه‌السلام في القرن الرابع مشاكل وضغوط عديدة ، فقد منع عنها المتوكّل العبّاسي كما هو معروف في كتب التاريخ وأيضا أمر أن تحرث أرض قبر الإمام الحسين وأن يمنع من يشد الرحال إليه. لكن مساعي المتوكّل لم تفلح في زلزلة عزم الشيعة فتحمّلوا مخاطر جمة وأعيد القبر إلى ما هو عليه وعاد زائروه متلهفين لزيارته.

وفي النصف الثاني من القرن الرابع وإلى حد ما في النصف الثاني من القرن

__________________

(١) يقول ابن أثير في حوادث هذه السنة : «وفيها ، في ثامن ذي الحجّة ، أمر معزّ الدولة بإظهار الزينة في البلد ، وأشعلت النيران بمجلس الشرّطة ، وأظهر الفرح ، وأظهر الفرح ، وفتحت الأسواق بالليل وقال ابن الجوزي أيضا : «في ليلة الخميس ثامن عشر ذي الحجّة : وهو يوم «غدير خم» أشعلت النيران ، وضربت الدبادب والبوقات ، وبكر الناس إلى مقابر قريش».

٣٤

الخامس وأبان حكم البويهين كانت زيارة قبر الإمام الحسين تؤدى ببساطة وسهولة إلّا في أوقات خاصّة ، وكانت بغداد تضيف القوافل الّتي تأتي لزيارة كربلاء والنجف وتهيء لهم الخيام ووسائل الراحة. وقد ذكرنا سلفا أن من جملة زيارات شيعة العراق إلى كربلاء في النصف من شهر شعبان. وقد اعتادت الكرخ أن تحمل معها نوعا من المنجنيق الخاص (محامل من الخشب) إلى كربلا (١).

٢ ـ الجهد العلمي والثقافي

لقد حصل هناك نوعان من الأعمال العلمية والثقافية :

في البلد ، وأشعلت النيران بمجلس الشرّطة ، وأظهر الفرح ، وأظهر الفرح ، وفتحت الأسواق بالليل وقال ابن الجوزي أيضا : (في ليلة الخميس ثامن عشر ذي الحجّة : وهو يوم «غدير خم» أشعلت النيران ، وضربت الدبادب والبوقات ، وبكر الناس إلى مقابر قريش).

(١) تلخيص وتعريب من مقالات مؤتمر تكريم الشريف الرضي رحمه‌الله

أ ـ بين المذاهب

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى بعض المناظرات الّتي كانت تحصل بين علماء ومفكّري الشيعة وبقيّة علماء ومفكّري المذاهب الإسلامية وذلك في مسألة أحقّيّة الشيعة والحوار في هذا المجال. وقد كتب علماء الشيعة كتبا كثيرة ورسائل مختلفة في المسائل الخلافيّة مستندين في تدوينهم إلى الأصول العلمية الّتي يتفق عليها المذهبان وقد برزت من بين هذه المؤلّفات احتجاجات الشيخ الصدوق مع اتباع الملل والنحل الّتي عاشت عصره وقد ذكرها في كتاب «كمال الدين» (٢). وكذا مباحث الشيخ المفيد وبقيّة علماء ذلك العصر.

وقد ألّفت في تلك البرهة كتبا من قبيل الانتصار للسيّد المرتضى والخلاف

__________________

(١) تلخيص وتعريب من مقالات مؤتمر تكريم الشريف الرضي رحمه‌الله.

(٢) انظر كمال الدين : ٨٧ ؛ يقول الشيخ الربّاني : «له مباحثات ضافية ، وجوابات شافية في مناصرة المذهب الحقّ ومناجزة الباطل منها : ما وقع بحضرة الملك ركن الدولة البويهي الديلمي وذلك ـ

٣٥

للشيخ الطوسي في موضوع الفقه والذريعة للسيّد المرتضى وعدّة الأصول للشيخ الطوسي في موضوع أصول الفقه.

إن ما يمكن بيانه بالنسبة لمكانة بغداد وعلماء الشيعة فيها هو أنّ هذه المدينة لم تكن كبقيّة المناطق الشيعية من قبيل قم والري من حيث اختصاصهما بالشيعة وعدم وجود جوّ من الاختلاف والنقاشات المذهبيّة (١). فقد كانت بغداد وبحكم سكانها الّذين تنوعوا من حيث المذاهب والفرق مسرحا لهذا النوع من النقاشات والاختلافات المذهبيّة فبيئة كهذه تجعل اتباع كلّ مذهب يتحفزون لإثبات ما يؤمنون به.

فمع ملاحظة ما ذكر يتضح لنا السبب في غلبة الطابع العقلي والكلامي أوفقه الخلاف و... خصوصا في عصر الشيخ المفيد على الكتب الّتي تمّ تأليفها في مدينة بغداد.

ب ـ في إطار المذهب

١) تدوين القسم الأكبر من الكتب الأربعة في هذا العصر وكذا تأليف الكثير من الكتب والرسائل الكلامية والتفسيرية من قبل الشيخ المفيد وتلامذته. والّتي كانت تمثل اروع ما ألفه كبار علماء الشيعة.

__________________

ـ بعد أن بلغ صيت فضله وشهرته الآفاق ، فأرسل الملك إليه واستدعى حضوره لديه ، فحضر قدس‌سره مجلسه فرحب به وأدناه من نفسه ، وبالغ في تعظيمه وتكريمه وتبجيله ، وألقى إليه مسائل غامضة في المذهب فأجاب عنها بأجوبة شافية ، وأثبت حقّية المذهب ببراهين واضحة بحيث استحسنه الملك والحاضرون ، ولم يجد بدا من الاعتراف بصحّتها المخالفون ، وذكر النجاشي في جملة ككتبه : (ذكر مجلس الّذي جرى له بين يدي ركن الدولة ، ذكر مجلس آخر ، ذكر. مجلس الثالث ، ذكر مجلس رابع ، ذكر مجلس خامس). انظر معاني الأخبار ، ترجمة المؤلّف : ٢٦.

(١) فعلى سبيل المثال كان المحفزّ لتأليف بعض الكتب الّتي ألّفها الشيخ الصدوق في الدفاع عن المذهب الشيعي هو إشكاليات حصلت خارج محلّ سكناه. فمثلا كان للشيعة في نيشابور إشكالاتهم حول غيبة الإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه) وكذا شبهات بعض كبار الفلاسفه في بخارا الّذين اشكلوها على الشيخ نجم الدين أبو سعيد محمّد بن الحسن القمّي في أمر الغيبة ، ولذلك تمّ تأليف كتاب كمال الدين راجع كمال الدين وتمام النعمة : ٢ و ٣. ولعلّ دعوة ابن ركن الدين البويهي إيّاه لاجراء مناظرة دليل على هذا المدّعى.

٣٦

٢) لقد ذكرنا فيما مضى أنّ أوّل حوزة علميّة حديثة وعلى الطريقة الّتي نلاحظها في عصرنا هذا كانت قد تأسّست على يد الشيخ المفيد.

ومع وفاة الشيخ المفيد رضوان الله عليه تسلم بعده السيّد المرتضى علم الهدى زعامة هذه الحوزة وتقلد منصب المرجعية للعالم الشيعي.

وقد كانت هذه المرتبة نفس المرتبة التي حصل عليها استاذه الشيخ المفيد رحمه‌الله ، لكن الملاحظ هو انّ العلماء المعاصرين للسيّد المرتضى ومن بعده كانوا قد نعتوه بمرتبة اجتماعية أكبر.

فقد كتب ابن بسام الأندلسي في كتابه «الذخيرة» : كان هذا الشريف إمام أئمّة العراق بين الاختلاف والاتفّاق ، إليه فزع علمائها وعنه اخذ عظمائها ، صاحب مدارسها وجماع شاردها وآنسها ممن سارت اخباره وعرفت له أشعارها.

وقد كتب أبو منصور الثعالبي : وقد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم و...

وكتب ابن خلّكان : كان إماما في علم الكلام والأدب والشعر.

لذلك نحن نلحظ في السيّد المرتضى الزعامة والقيادة العامّة ، فهو ـ إضافة لمقام المرجعيّة والزعامة الشيعية ـ كان يمتاز بشعبية واسعة.

لقد كانت دروس الشيخ المفيد تقام في مسجده في الكرخ. وقد اتّسعت في هذا العصر المعارف واصبحت شاملة إلى مستوى شيد كلّ من السيّد الرضي والمرتضى دارا للعلم والتحقيق والمطالعة وتدريس طلاب العلوم الدينيّة ، وقد تزيّنت حلقات دروس أولئك الأعلام بوجوه العلماء والفقهاء والادباء من كافّة الطوائف الإسلامية. وخرجت من كونها خاصّة بطلّاب العلوم الدينية من الطائفة الشيعية.

هذا إضافة لما كان يبذله السيّد المرتضى من رواتب شهرية لطلّابه ليتمكّنوا من الدراسة والمطالعة والتحقيق بفراغ بال ، وأن لا يمنعهم مانع معاشي من الابتعاد عن حلقة الدرس والتحقيق.

٣٧

ومن جملة ما نقل عن السيّد المرتضى في رفده للعلم والعلماء والحثّ على اكتساب المعارف أنه كان قد وقف قرية من ممتلكاته لتهيئة مستلزمات صناعة الورق هذا أوّلا وثانيا قيامه بتأسيس مكتبة قيّمة تحتوي على كتب قيّمة (١).

وبهذا اسّس مجتمع علمي وتحقيقي ودراسي في مدينة الكرخ مع الشيخ المفيد ثمّ راحت العلوم واتسعت المعارف في الكرخ وتضاعف عدد الدارسين في عهد السيّد المرتضى ليدخل المجتمع في عصر الشيخ الطوسي رحمه‌الله عليه مرحلة جديدة (٢).

إنّ ما مرّ يمثل جانبا للوضع السياسي والاجتماعي لمدينة بغداد شيعتها وعلمائها والّذي نطلق عليه عنوان الانفتاح السياسي ، وسنتحدث لاحقا عن موقف السيّد المرتضى قبال هذا الوضع وتأثيره على المنهج العلمي للسيّد المرتضى.

المقدمة الثانية : المذاهب العلميّة في عصر السيّد المرتضى

لقد ذكرنا سابقا أن بغداد كانت تمثل مركزا لاجتماع علماء بغداد الكبار من المذاهب الإسلاميّة المختلفة وكان البحث العلمي ينصبّ بنوع من الأنواع بينهم وبين علماء الشيعة ، وفي هذا الإطار سنشير إلى الاتجاهات العلميّة الأخرى الّتي هيمنت في مدن شيعية مهمّة من قبيل الري وقم ثمّ نتحدث في موقف المدرسة البغدادية وزعيمها المرتضى قبال المدارس المذكورة.

__________________

(١) تلخيص وتعريب من مقالات مؤتمر تكريم الشريف الرضي رحمه‌الله.

(٢) إنّ ما يميّز الشيخ الطوسي عن أكابر العلماء في بغداد هو أنه أجرى جميع اطروحاته في العلوم الدينيّة المختلفة وقام بتأليف كتاب في كلّ علم من هذه العلوم. وكانت آرائه سببا لتغيير المنهجية الكلّية لهذه العلوم لدى الشيعة ومن جملة ذلك حجّيّة الخبر الواحد والّتي يمكن اعتبارها حدّ المدرسة الثانية لبغداد والعهد الجديد. فتأثير هذه النظرية يعد بمستوى يمكن أن يقال : (كما ذكر أحد الأساطين) : (أن العلماء إلى يومنا هذا ينبغي اعتبار هم مقلّدين للشيخ الطوسي). فهذه النظرية هي جمع بين مدرسة بغداد ومدرسة قم ؛ ومن هذا المنطلق تجلّ المدرستين المذكورتين الشيخ الطوسي.

٣٨

١ ـ المذاهب العلمية في بغداد :

لقد كانت الغالبية في بغداد أيّام السيّد المرتضى تعمل وفق المذاهب السنية فقهيّا وكان المذهب الحنبلي المذهب الأكثر اتّباعا من بين هذه المذاهب فيما كان الفكر العقائدي المتّبع في بغداد هو الفكر المعتزلي.

لقد تكوّنت المدارس الفقهية السنية على أساس القرآن والأخبار الّتي وردت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا الإجماع فيما كانت بعض المذاهب تضيف إليها القياس والاستحسان كمنهج للاستنباط الفقهي. لكن المناهج الكلاميّة كانت تنقسم إلى قسمين مهمّين هما المعتزلة والأشاعرة والّذين كان لكلّ منهم اعتقاداته الخاصّة (١).

وكانت المعتزلة تشدّد في اعتمادها العدل ، والعقل ، والاستطاعة (الاختيار والحكمة) لتعليل أفعال الباري بكونها ذات أغراض وفي مقابل هذا المنحى كان هناك الأشاعرة الّذين يقفون بشدّة بوجه هذا التوجّه الّذي كانت تعتمده المعتزلة ، فقد رفض الأشاعرة المستقلّات العقليّة وكانوا يعتقدون بالحسن والقبح الشرعي وكان تفسيرهم للتوحيد الأفعالي السبب في قبول الجبر في أفعال العباد وإنكار وجود تعليل لأفعال الباري (٢).

لقد أطلق على المعتزلة «العدليّة» ولم تكن هذه الكلمة ممثّلة للعدل وحسب ، فإضافة لمفهوم العدل الّذي كانت تتبناه المعتزلة كان يفهم منها العقائد المذكورة أعلاه.

إنّ ما كان يورده الأشاعرة على المعتزلة هو كون أصل العدل يتنافي مع التوحيد الأفعالي بل يتنافي مع التوحيد الذاتي ؛ لأنّ الاختيار عند المعتزلة هو نوع تفويض أي سلب الاختيار عن ذات الحقّ.

__________________

(١) لقد كانت هناك مدارس أخرى مثل الماتريدية ، والأباظيّة والصوفيّة و... في ذلك العصر. لكن المذهبين الأشعري والمعتزلي كانا يمثلان المذهبين المهمين في تلك الفترة.

(٢) راجع لتفصيل الأقوال إلى كتاب الملل والنحل ، للعلّامة الفقيه الشيخ جعفر السبحاني.

٣٩

إنّ لهذين المذهبين موارد قوّة وضعف في ما كانا يطرحانه فقد كانت القوّة تكمن في نقد واعتراض أحدهما على الآخر ولكن الضعف كان يكمن في دفاعهما عن مذهبهما واعتباره مذهبا جامعا وشاملا (١).

وعلى كلّ حال فقد كان مذهب المعتزلة هو المذهب الأكثر استقطابا في مدينة بغداد أيّام السيّد المرتضى. وكانت أكثر المناضرات تجري مع هذا المذهب الكلامي (٢).

٢ ـ مدرسة الريّ وقم (٣) :

لقد بدات المدارس العلميّة الشيعية كما ذكر من مدينة الكوفة ثمّ انتقلت إلى المدن الأخرى ، ومن هذه المراكز الّتي تحوّلت بعد ذلك إلى مدرسة مهمّة في معارف أهل البيت عليهم‌السلام مدينتي الري وقم.

إنّ أوّل من نقل آثار الكوفة إلى قم إبراهيم بن هاشم (٤). وقد كان أحد أسباب انتقال «مدرسة أهل البيت» من العراق إلى «إيران» هو الضغط الشديد الّذي كان يلاقيه فقهاء الشيعة وعلماؤهم من العبّاسيّين ، فقد كانوا يطاردون من يظهر باسم الشيعة بمختلف ألوان الأذى والتهمة (٥).

فالتجأ فقهاء الشيعة وعلماؤها إلى قم والري ، ووجدوا في هاتين البلدتين ركنا آمنا يطمئنون إليه لنشر فقه أهل البيت عليهم‌السلام وحديثهم.

ويظهر أن «قم أوان عصر الغيبة ، وعهد نيابة النوّاب الأربعة كانت حافلة بعلماء الشيعة وفقهائها ، ومركزا فقهيّا كبيرا من مراكز البحث الفقهي ، حتّى أن

__________________

(١) مقتبس من كتاب العدل الإلهي للشهيد مرتضى مطهّري ، المقدّمة.

(٢) لا يوجد في عصرنا الحاضر اتباع للمعتزلة.

(٣) لا بد أن يلاحظ هنا أن مقصودنا هو الخطّ الفكري الأخباري الّذي كان يغلب على مدرسة قم والري.

(٤) رجال النجاشي : ١٦ والفهرست للشيخ الطوسي : ٣٥.

(٥) منهم : أحمد بن محمّد بن خالد البرقي وأبوه ، راجع رجال النجاشي : ٧٦.

٤٠