تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

مثل «حسين بن روح النوبختي» انفذ كتابه إلى قم لينظر فيه علمائها» (١).

ملامح المدرسة

الأولى : التوسعة في تدوين الحديث وجمعه

فقد كان تدوين الحديث قبل هذه الفترة لا يتجاوز التدوين الشخصي لما سمعه الراوي من الإمام مباشرة أو بصورة غير مباشرة مبعثرة حينا ومنتظمة في بعض الأحيان.

ولم يتّفق لأحد من المحدّثين والفقهاء في العصر الثاني أن يجمع ما صحّ في الأحكام من الأحاديث عن أهل البيت عليهم‌السلام وينظم ذلك ، كما لوحظ في المجموعتين الحديثتين اللتين خلفتهما هذه المدرسة وهما : الكافي ومن لا يحضره الفقيه.

وهذه الخطوة ـ خطوة جمع الأحاديث وتنظيمها ـ تعدّ من حسنات هذه المدرسة ، فقد كثرت حاجة الفقهاء إلى مراجعة الروايات والأحاديث حين الحاجة ، وكانت الأحاديث منتشرة بصورة غير منظمة من حيث التبويب والجمع في آلاف الكتب والأصول والرسائل الّتي خلفها أصحاب الأئمّة ومحدثو الشيعة ، ولم يكن من اليسير بالطبع الإلمام بما ورد من أحاديث في مسألة لكلّ أحد.

فكانت محاولة الجمع والتبويب في هذه الفترة لسدّ هذه الحاجة.

الثانية : الرسائل الجوابية لون جديد من الكتابة الفقهية

فقد كانت الشيعة تسأل الفقهاء من أطراف العالم الإسلامي ما يعرضها من

__________________

(١) قال الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة : ٣٩٠ «أخبرني الحسين بن عبيد الله ، عن أبي الحسن محمّد ابن داود القمّي ، قال : حدّثني سلامة بن محمّد قال : أنفذ الشيخ الحسين بن روح رضى الله عنه كتاب التأديب إلى قم ، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها وقال لهم : انظروا في هذا الكتاب وانظروا فيه شيء يخالفكم؟ فكتبوا إليه : إنّه كلّه صحيح ، وما فيه شيء يخالف إلّا قوله : في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام ، والطعام عندنا مثل الشعير من كلّ واحد صاع.

٤١

المسائل بشكل استفسار ، فكان الفقهاء يجيبون على هذه الأسئلة ، فكانت نقطة بداية للرأي والنظر إن صحّ هذا الاعتبار (١).

ولم يقدر له بعد أن يبلغ حدّ المراهقة ، فكانت الرسائل الفقهية في هذه المدرسة لا تتجاوز عرض الأحاديث من غير تعرض للمناقشة والاحتجاج ونقد الآراء وبحثها ، وتفريع فروع جديدة عليها.

الثالثة : الفروع الفقهية لم يتجاوز ما في الأحاديث

لم يتجاوز البحث الفقهي في الغالب عن حدود الفروع الفقهيّة المذكورة في حديث أهل البيت عليهم‌السلام ، ولم يفرغ الفقهاء بصورة كاملة لتفريغ فروع جديدة للمناقشة والرأي.

وكانت الفتاوى في الغالب نصوص الأحاديث مع إسقاط الاسناد وبعض الألفاظ في بعض الحالات؟ ومن لاحظ ما كتبه «عليّ بن بابويه القمّي والد الصدوق» وكانت له رسالة إلى ولده يذكر فيها فتاواه ، وما كتبه «الصدوق» كالمقنع والهداية ، و «جعفر بن محمّد بن قولويه» وغيرهم يطمئن إلى أن النهج العام في البحث الفقهي في هذه الفترة ، لم يتجاوز حدود عرض ما صحّ من الروايات والأحاديث ، رغم توسع المدرسة في هذه الفترة (٢) (٣).

__________________

(١) يتّضح ذلك من جملة الكتب الّتي أثبتها النجاشي في رجاله لشيخ الصدوق رحمه‌الله ، قال : وله كتب كثيرة ، منها : كتاب جوابات المسائل الواردة عليه من واسط ، كتاب جوابات المسائل الواردة عليه من قزوين ، كتاب جوابات مسائل وردت في مصر ، كتاب جوابات مسائل وردت من البصرة ، كتاب جوابات مسائل وردت من الكوفة ، جواب مسألة وردت عليه من المدائن في الطلاق ، كتاب جواب مسألة نيسابور ، كتاب رسالته إلى أبي محمّد الفارسي في شهر رمضان ، كتاب الرسالة الثانية إلى أهل بغداد في شهر رمضان ، وله أيضا رسالة في الغيبة إلى أهل الري والمقيمين بها وغيرهم». انظر رجاله : ٣٨٩.

(٢) يقول الشيخ الطوسي في مقدّمة المبسوط وبيان علّة تأليفه للكتاب : «وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوّق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوّق نفسي إليه ، فيقطعني عن ذلك القواطع ، وتشغلني الشواغل وتضعف نيّتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه ، وترك عنايتهم به ؛ لأنهم ألّفوا الأخبار ، وما رووه من صريح الألفاظ ، حتّى أن مسألة لو غير لفظها وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منه ، وقصر فهمهم عنها».

(٣) مقدّمة كتاب الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية.

٤٢

الرابعة : التمسك بالأخبار في الأصول الاعتقادية.

إنّ هذه الخصيصة لمدرسة قم تتحصّل من نوع الآثار الاعتقادية للصدوق ، ككتاب التوحيد.

فعلى سبيل المثال كتب الشيخ صدوق في رسالة الاعتقادات :

«من قال بالتشبيه فهو مشرك ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب وكلّ خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل وإن وجد في كتاب علمائنا فهو مدلس والأخبار الّتي يتوهّمها الجهّال تشبيها لله تعالى بخلقه فمعانيها محمولة على ما في القرآن من نظائرها» (١).

فكما يلاحظ هنا لا يوجد مكانة للعقل في منهج نقل الحديث الكلامي عند الشيخ الصدوق فهو يكتب على سبيل المثال : «الجدال في الله منهي عنه ؛ لأنه يؤدي إلى ما لا يليق به» ثمّ يضيف قائلا : «فأمّا الاحتجاج على المخالفين بقول الأئمّة أو بمعاني كلامهم لمن يحسن الكلام فمطلق ، وعلى من لا يحسن فمحظور محرم» (٢).

والملاحظ هنا من هذه العبارة أيضا عدم جواز تعدّي الروايات إلّا في ألفاضها لا أكثر.

وقد كتب السيّد المرتضى حول هذه الخصيصة ما يلي : «ألا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة بأخبار الآحاد» (٣)

نقول : المنهج الكلامي المتّبع لدي جمهور الشيعة هو المنهج الّذي يقول إن أصول الدين ومسائل العقيدة لا بد أن يتوصّل الإنسان إليها بنفسه وبالاستعانة بعقله

__________________

(١) الاعتقادات في دين الإماميّة : ٢٢ و ٢٣.

(٢) الاعتقادات في دين الإماميّة : ٤٣.

(٣) الرسائل ، ١١ : ٢١١.

٤٣

الّذي هو رسول باطن لديه ، وإن استرشد إلى ذلك بطريق أهل البيت عليهم‌السلام والعلماء بحديثهم فلا بأس ، أمّا أن يتقيّد في ذلك بالنصوص ، ولا يتعداها ، فلا.

حصيلة المدرسة البغدادية والسيّد المرتضى

اتّضح في المقدّمة الأولى أن المذهب الشيعي كان قد خرج في أيّام السيّد المرتضى عن كونه مذهبا يعيش في زوايا بغداد إلى كونه مذهبا رسميا ، وقد كان هذا التغيير بحاجة إلى أدواته الخاصّة وذلك بمعنى أن الأمر في السابق لم يكن كما هو الحال فقد كان بالإمكان الاستناد إلى الإثباتات والأدلّة الّتي يقبلها الشيعة بشكل عام ، لكن ومع هذا الوضع الجديد فلا بد وأن تكون أدوات البحث والمناظرة قادرة على مواجهة جبهتين :

١) الجبهة الدفاعية مقابل الفئات السنيّة في مجالي الفقه والكلام ؛

٢) الجبهة الإصلاحية مقابل مدرسة الريّ وقم.

وبعبارة أخرى كان ينبغي على المدرسة البغدادية الاعداد للوصول إلى مشتركات بإمكانها الوقوف مقابل الجبهتين ، مشتركات يمكنها أن تكون حجّة مقابل الفئة الأخرى ويمكن الاستناد إليها في البحث.

المقدّمة : معيار حجيّة المعارف الدينية من منظار المدرسة البغدادية

كان هدف المدرسة البغدادية في مواجهة المسائل العلميّة والإجابة عليها تحصيل العلم الضروري أو الّذي ينتهي إلى الضروري. ولم يكن البغداديّون ليلحظوا فرقا بين العلوم الاعتبارية والحقيقية في هذه الخصيصة ؛ ولهذا سنشير في تأييدنا لهذا المدّعى إلى بعض ما ورد من كلام السيّد المرتضى بالنسبة للعلوم المختلفة :

١) أصول الفقه لقد كتب السيد المرتضى في كتابه «الذريعة» ما يلي :

«واعلم أن الغرض في أصول الفقه الّتي بينا أن مدارها إنّما هو على الخطاب وقد ذكرنا مهم أقسامه ، وما لا بدّ منه من أحواله. لما كان لا بدّ فيه

٤٤

من العلم بأحكام الأفعال ، ليفعل ما يجب فعله ، ويجتنب ما يجب اجتنابه ، وجب أن نشير إلى العلم ما هو ...» (١)

٢) الفقه : وقد كتب السيد المرتضى في جواب المسائل الموصليّات الثالثة :

«اعلم أنه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق التوصّل إلى العلم بها ؛ لأنا متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنه مصلحة لنا جوّزنا كونه مفسدة لنا فيقبح الإقدام منّا عليه ؛ لأن الاقدام على ما لا نأمن كونه فسادا ، كالإقدام على ما نقطع كونه فسادا» (٢).

٣) علم اللغة : ويجيب السيّد المرتضى في جوابات المسائل التبانيات وضمن دفاعه عن عدم تمسّك أهل اللغة بأخبار الآحاد :

«والصحيح أنهم ما فسّروا شيئا من المعاني على سبيل القطع والبتات ، إلّا بأمور معلومة ضرورة لهم أنها من اللغة» ... «وكيف يعتقد في قوم عقلاء أنهم عولوا في تفسير معنى يقطعون عليه وأنه المراد على ما هو مظنون غير مقطوع به» (٣).

إذا فما يراه السيّد المرتضى موردا للتبعية ، هو العلم وقد كتب في تعريف العلم.

«واعلم أن العلم ما اقتضى سكون النفس». وهذه حالة معقولة يجدها الإنسان من نفسه عند المشاهدات ، ويفرق فيها بين خبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن زيدا في الدار وخبر غيره. غير أن ما هذه حالة ، لا بدّ من كونه اعتقادا يتعلّق بالشيء على ما هو به ، وإن لم يجز إدخال ذلك في حدّ العلم ؛ لأن الحدّ يجب أن يميّز المحدود ، ولا يجب أن يذكر في جملة ما يشاركه فيه ما خالفه. ولئن جاز لنا أن نقول في حدّ العلم : «إنّه اعتقاد للشيء على ما هو به مع سكون النفس» ونعتذر بأنا أبناه بقولنا : اعتقاد ، من سائر الأجناس ، وبتناوله المعتقد على ما هو به من

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ١٩ و ٢٠.

(٢) الرسائل ، ١ : ٢٠١.

(٣) الرسائل ، ١ : ٧١.

٤٥

الجهل. وبسكون النفس من التقليد ؛ فألا جاز أن نقول في حدّه عرض ، لبيته عن الجوهر ، ويوجب حالا للحي ، لبينه ممّا يوجب حالا للمحل. ويحل القلب ولا يوجد إلّا فيه ، لبينه ممّا يحل الجوارح (١).

ويؤمن هذا الرأي بأن مصادر انتاج العلم وبعبارة أخرى بيّنته الّتي يمكن الاستدلال بها في إثبات المقاصد هي كالتالي :

١) القرآن الكريم ؛

٢) الأخبار والسنّة المتواترة عن النبيّ والائمّة ؛

٣) حكم العقل العملي ؛

٤) الاجماع ؛ وينحصر في إجماع الجماعة الّتي من جملتها المعصوم.

وعلى هذا الأساس يخرج بعض الأمور من دائرة الدليليّة أيضا :

١) خبر الواحد ، سواء في الأصول أو الفروع ؛

٢) القياس.

والسبب في خروج هذين الأمرين من الأدلّة كما اتّضح هو أنّ كلّ قضيّة ينبغي أن تكون إمّا معلومة بالضرورة أو أن تنتهي إلى الضرورة. ولذلك يعتقد السيّد المرتضى أن لا دليل على حجّية خبر الواحد والقياس (٢).

وهنا سنشير إلى بعض الملاحظات لتبيين مكانة هذه الأمور في المدرسة البغدادية :

١ ـ يمتاز العقل في هذه المدرسة بمكانة بارزة ، كما أنّ حجّية بقيّة الأدلّة مبتنية على قبول أحكام العقل العملي أو نفس نظرية الحسن والقبح العقلي ؛ فإنّ حدوث المعجزة سيكون جائزا من قبل الكاذب. ولذلك سوف لا يمكن من خلالها الاستدلال على صدق مدّعي النبوّة وقبول قوله وبهذا ستصبح حجّيّة

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٠ و ٢١ وراجع أيضا الذخيرة : ١٥٤ وقد شرح هناك قيود التعريف.

(٢) انظر الذريعة ، ٢ : ٥٢٨ و ٦٧٥.

٤٦

القرآن وسنّة النبيّ والإجماع الّذي يرى أهل السنّة أنّه مبتن على الأدلة القرآنية والروائية مورد شكّ وريب.

لذلك نجد أنّ هذه المدرسة ترى أنّ حكم العقل مقدّم على بقيّة الأدلّة الأخرى. ولهذا فإن كان للعقل حكم في مسألة ما وتعارض هذا الحكم مع مؤدّى الأدلّة الأخرى ، فإن كان هناك دليل آخر له احتمال يتوافق وحكم العقل ، فإنّه يحمل على ذلك الاحتمال ، وإن لم يكن لهذا الدليل أيّ احتمال آخر فندع ظاهره ، ويؤول استنادا إلى الحكم القطعي للعقل.

إن اهتمام المدرسة البغدادية بهذا المصدر كان من الأهميّة الفائقة ما دفع بعض الجهّال أو المغرضين إلى اتّهام أكابر من قبيل السيّد المرتضى ـ خطأ ـ بالإعتزال أو اتّهام المدرسة البغدادية بالتأثّر بالمنهج الفكري للمعتزلة.

إنّ هكذا زعم لا يمكن لهذا البحث التفصيل فيه لأنه خارج عن موضوعه ، لكن خلاصة القول هو أنّ مؤلّفات السيّد المرتضى في الردّ على المعتزلة خير دليل على بطلان الادّعاء المذكور ، أضف إلى ذلك أنّ تأثّر شيوخ المعتزلة بأئمّة الشيعة وأفكارهم النيّرة في الكثير من الآراء مسألة قطعية لا تحتاج إلى دليل وبرهان.

٢ ـ القرآن الكريم يمثل المصدر المهم الثاني الّذي تؤمن به هذه المدرسة فالكثير من التراث الّذي تركته هذه المدرسة إنّما هو في مباحث هذا الكتاب العزيز. فاهتمام السيّد المرتضى بالقرآن الكريم ينصب في ثلاثة مجالات :

١ ـ الآيات الّتي تمسّك المخالفون بظاهرها لإثبات بعض الأصول أو الأحكام والّتي يرفضها الشيعة ، وهنا لا بدّ وأن يتمّ نقد تأويل المخالفين أولا ثمّ يشار إلى التأويل الصحيح.

٢ ـ الآيات الّتي يمكن الاستناد إليها لإثبات مدّعى المخالفين هذا رغم انهم غفلوا عنها ، وفي هذا المجال يتمّ طرح الآيات ومن ثمّ نستوحي الإجابة من خلالها ، ثمّ يتمّ بيان التأويل الصحيح.

٤٧

٣ ـ الآيات الّتي تستدلّ بها الطائفة الشيعيّة في إثبات أصول أو أحكام تعتقدها ، ففي مثل هذه الحالة تطرح الآيات ثمّ يبذل الجهد في الإجابة على الشبهات المطروحة أو الّتي يحتمل طرحها بالنسبة إليها.

ومن هنا نجد أنّ السيّد المرتضى أديبا رائدا لا ينحصر اهتمامه بالقرآن الكريم في أبعاده الكلامية أو الفقهية.

٣ ـ المصدر المهم الثالث (١) لهذه المدرسة هو الإجماع ، وسيأتي التوضيح الشامل لدليل حجّية الإجماع في مقدّمات نقلناها من كتاب الذريعة وسنشير هنا إلى ملاحظتين :

أ ـ الإجماع عند أهل السنّة يمثل أحد أدلّة استنباط الأحكام الفقهية إلّا انهم اختلفوا في دليل حجّيّته ، فهنا يسأل عن انّه إذا اجمعت الشيعة على حكم بخلاف ما يحكم به أهل السنّة فهل إجماعهم حجّة عليهم أو ليس بحجّة؟ قال السيّد ـ وسيأتي نقل كلامه مفصّلا ـ :

«فأمّا ما لا دليل لنا عليه إلّا إجماع طائفتنا خاصّة ، فمتى ناظرنا الخصوم واستدللنا عليهم بإجماع هذه الطائفة ، دفعوا أن يكون إجماعهم دليلا ، فيحتاج أن نبيّن ذلك بأن الإمام المعصوم في جملتهم ، وننقل الكلام إلى الإمامة ، ونخرج عن الحدّ الّذي يليق بالفقهاء ويبلغه أفهامهم».

ثمّ إنّه في بعض عبارات مقدّمة كتاب الانتصار وعند جوابه على من لا يعتبر خلاف الشيعة في الأحكام مضرّا بالإجماع يناقش بشكل إجمالي في دليل حجّية الإجماع فيقول :

وممّا يجب علمه أن حجّة الشيعة الإماميّة في صواب جميع ما انفردت به أو

__________________

(١) يلزم التذكير بأن الإجماع بمثل الدليل الأوّل لمدرسة السيّد المرتضى في البحوث الفقهيّة ، لكن بما أنّ وجود الإمام بين المجمعين هو مدرك الحجّيّة إذا فملاك الحجّيّة قول المعصوم وقد مضى أنّ ملاك حجّيّة قول المعصوم قبول الحسن والقبح العقلي ، إذا فمآل العلّة الأصليّة لحجّيّة الإجماع هو حكم العقل ، ولهذا فقد عنوناه كثالث الأدلّة المهمّة لهذه المدرسة.

٤٨

شاركت فيه غيرها من الفقهاء هي إجماعها عليه ؛ لأن إجماعها حجّة قاطعة ودلالة موجبة للعلم فإن انضاف إلى ذلك ظاهر كتاب الله جلّ ثناؤه أو طريقة أخرى توجب العلم وتثمر اليقين فهي فضيلة ودلالة تنضاف إلى أخرى وإلّا ففي إجماعهم كفاية.

وإنّما قلنا : إن إجماعهم حجّة ؛ لأن في إجماع الإمامية قول الإمام الّذي دلّت العقول على أن كلّ زمان لا يخلو منه ، وأنه معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قول ولا فعل فمن هذا الوجه كان إجماعهم حجّة ودليلا قاطعا» (١).

ثمّ يقول في عبارة أخرى وضمن بيانه لتماميّة الحجّة على من سمع هذه الأدلّة : «وإذا كانت الجملة الّتي أشرنا إليها هي الحجّة في جميع مذاهب الشيعة الإمامية في أحكام الفقه فعلى من شك في شيء من مذاهبهم وارتاب بصحّته أن يسأل عن صحّة ذلك ، فإذا أقيمت فيه عليه الحجّة بالطريقة الّتي أشرنا إليها وجب زوال ريبه وحصول علمه ، وبرئت عهدة القوم فيما ذهبوا إليه ببيان الحجّة فيه والدلالة عليه ، وما يضرهم بعد ذلك خلاف من خالفهم ، كما لا ينفع وفاق من وافقهم».

إذا فإجماع الشيعة يكون حجّة عند أهل السنّة.

ب ـ لقد مرّ أنّ الإجماع عند أهل السنّة يعتبر من أدلّة استنباط الأحكام ؛ إلّا أنّ السيّد المرتضى وفي كتابه «الذريعة» يدّعي إمكان إثبات أمور من خلال الإجماع قد ثبتت بعد فترة الإمامة ، يقول رحمه‌الله :

«وإذا كنّا إنّما نرجع في كون الإجماع حجّة إلى قول الإمام المعصوم الّذي لا يخلو كلّ زمان منه ، فيجب أن نقول : كل شيء تقدّمت معرفة وجوب وجود الإمام المعصوم في كلّ زمان له ، فقول الإمام حجّة فيه ، والإجماع الّذي يدخل هذا القول فيه أيضا حجّة في مثله. فأمّا ما لا يمكن المعرفة بوجود الإمام المعصوم قبل المعرفة به ، فقوله ليس بحجّة فيه ، كالعقليّات كلّها.

__________________

(١) الانتصار : ٥ و ٦.

٤٩

والّذي يمكن على أصولنا المعرفة به من طريق الإجماع أوسع وأكثر ممّا يمكن أن يعلم بالإجماع على مذهب مخالفينا ؛ لأنّهم إنّما يعلمون بالإجماع الأحكام الشرعيّة خاصّة ، ونحن نتمكّن من أن نعلم بالإجماع زائدا على ذلك فرضا وتقديرا النبوّة والقرآن وما شاكل ذلك من الأمور الّتي يصحّ أن يتقدّمها العلم بوجوب الإمامة. ولو أجمعت الأمّة في شخص بعينه أنه نبيّهم ، وفي كلام بعينه أنه كلام الله سبحانه ، لعلمنا صحّتهما ، لسلامة الأصل الّذي أشرنا إليه ، وصحّة تقدّمه على هذه المعرفة.

وعلى هذا يصحّ على مذاهبنا أن يعلم صحّة الإجماع وكونه حجّة من يجهل صحّة القرآن ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لان أصل كونه حجّة لا يفتقر إلى العلم بالنبوّة والقرآن ، وعلى مذهب مخالفينا لا يصحّ ذلك ؛ لأنّ الكتاب والسنّة عندهم هما أصل كون الإجماع حجّة (١).

٤ ـ ويعد المصدر المهمّ الرابع لهذه المدرسة السنّة المتواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام فاشتراط التواتر كما عرفنا إنّما هو لأنّ الخبر لا يكون حجّة في هذه المدرسة إلّا إذا كان موجبا للعلم ، وهذا ينحصر في الخبر المتواتر.

٥ ـ لقد ذكر سلفا أنّ المدرسة البغدادية لا تعتبر الخبر الواحد حجّة ، فهو لا يوجب العلم ولا العمل.

يقول السيّد المرتضى في هذا الإطار : «إعلم أنّ في المتكلّمين من يذهب إلى أنّ خبر الواحد لا يجوز من جهة العقل ورود العبادة بالعمل به ، والصحيح أنّ ذلك جائز عقلا ، وإن كانت العبادة ما وردت به» (٢).

لقد تمّ البحث كثيرا في هذه المسألة وبذلت جهودا حثيثة ، ولعلّ الملاحظة المثيرة في هذا الأمر هو ما طرحه الشيخ المفيد والسيّد المرتضى في هذا الإطار وهو إجماع الشيعة حول هذه المسألة ، قال الشيخ المفيد : «إنّه لا يجب العلم

__________________

(١) الذريعة ، ٢ : ٦٢٦ و ٦٢٧.

(٢) الذريعة ، ٢ : ٥١٩.

٥٠

ولا العمل بشيء من أخبار الآحاد ، ولا يجوز لأحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين إلّا أن يقترن به ما يدلّ على صدق رواية على البيان».

وهذا مذهب جمهور الشيعة وكثير من المعتزلة والمحكمة وطائفة من المرجئة وهو خلاف لما عليه متفقّهة العامّة وأصحاب الرأي.

فاشتهار هذه النظريّة لدى السيد المرتضى مشابه لاشتهار نظرية عدم حجيّة القياس عند الشيعة (١).

لتوضيح هذه النظرية ينبغي أن نذكر مقدّمة :

المقدمة :

يقسم الشيخ المفيد في كتابه «التذكرة بأصول الفقه» الأخبار إلى قسمين رئيسين يقول رحمه‌الله :

«والأخبار الّتي يجب العلم بالنظر فيها على ضربين :

أحدهما : التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ على ذلك ، أو ما يقوم مقامه في الاتّفاق.

والثاني : خبر واحد يقترن إليه ما يقوم مقام التواتر في البرهان على صحّة مخبره وارتفاع الباطل منه والفساد.

١ ـ والتواتر الّذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة والانتشار إلى حدّ قد منعت العادة في اجتماعهم على الكذب بالاتّفاق كما يتّفق لاثنين أن يتواردا بالإرجاف. وهذا حدّ يعرفه كلّ من عرف العادات.

٢ ـ وقد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد ، بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم ومخارج كلامهم ، وما يبدوا في ظاهر وجوههم ، ويبيّن من قصودهم إنّهم لم يتواطئوا ، لتعذّر التعارف بينهم والتشاور ، فيكون العلم بما

__________________

(١) يقول في جوابات المسائل التبانيات : يجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس.

٥١

ذكرناه من حالهم دليلا على صدقهم ، ودافعا للإشكال في خبرهم ، وإن لم يكونوا من الكثرة على ما قدمناه (١).

٣ ـ فأما خبر الواحد القاطع للعذر ، فهو الّذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحّة مخبره ، وربّما كان الدليل حجّة من عقل ، وربّما كان شاهدا من عرف ، وربّما كان إجماعا بغير خلف فمتى خلا خبر الواحد من دلالة يقطع بها على صحّة مخبره ، فإنّه كما قدمناه ليس بحجّة ، ولا موجب علما ولا عملا على كلّ وجه» (٢).

نقول : روايات الشيعة الّتي وردت في الأصول المعتبرة إمّا أن تصنّف من القسم الأوّل أو الثاني. ويرى السيّد المرتضى بأن روايات الشيعة الّتي يستندون إليها في الفقه متواترة ، يقول هو في جوابات المسائل التبانيات :

«فإن قيل : فاذكروا على كلّ حال الوجه في إيداع أخبار الآحاد الكتب المصنفة في الفقه ، لتزول الشبهة في أن إيداعها الكتب على سبيل الاحتجاج بها.

قلنا : أوّل ما نقوله في هذا الباب انه ليس كلّ ما رواه أصحابنا من الأخبار وأودعوه في كتبهم وإن كان مستندا إلى رواة معدودين من الآحاد ، معدودا في الحكم من أخبار الآحاد ، بل أكثر هذه الأخبار متواتر موجب للعلم» (٣).

وأمّا الأخبار الّتي لا تتّصف بالصفة المذكورة فهي مصداق للخبر الواحد. ولها حالتان كما يفهم من عبارة الشيخ المفيد :

١ ـ أن يكون مضمونها مصحوبا بقرينة بحيث يجعلنا نقطع بصحّة ذلك المضمون بحيث يكون قاطعا للعذر ، فمن الطبيعي أنّ هذا لا يعني صحّة مصدرها أو وثاقة الرواة ولا يخرجها عن كونها خبرا واحدا.

__________________

(١) ينبغي الانتباه إلى أن المراد من هذا القسم من الخبر ليس الخبر المستفيض ؛ لأنّ الخبر المستفيض يعد من أقسام الخبر الواحد ، بل هو قسم من الخبر المتواتر الّذي يكون آحاده أقلّ نسبة من حيث نوع الخبر المتواتر والّذي لا يمكن تصنيف رواته عادة بأنّهم لا يمكن أن يتّفقوا على الكذب لكنّنا نعلم من خلال القرائن أيضا بعدم وجود اتّفاق سرّي بينهم حول ذلك.

(٢) التذكرة باصول الفقه : ٤٤ و ٤٥.

(٣) الرسائل ، ١ : ٢٦.

٥٢

٢ ـ ليس هناك أي قرينة على صحّة المضمون ، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن قبوله ولا توجب العلم والعمل.

فهذا القسم من الروايات لم يكن للاحتجاج ولكنّها في النهاية استخدمت كمؤيّد يتّفق ومضمونها (١) ، ومن هذا المنطلق يظهر أنّ عبارة السيّد المرتضى في قسم آخر من جوابات المسائل التباينات ناظرة إلى هذا النوع من الأخبار وقد أجاب على سؤال يقول : لماذا ترون عدم حجّية الأخبار الآحاد في حين تستدلّون أنتم بها في كتبكم بما يلي :

«ثمّ يقال لمن اعتمد ذلك : عرفنا في أي كتاب رأيت من كتبنا أو كتب أصحابنا المتكلّمين المحقّقين الاعتماد على أخبار الآحاد الخارجة عن الأقسام الّتي ذكرناها وفصلناها؟ ودعنا من مصنّفات أصحاب الحديث من أصحابنا ، فما في أولئك محتج ، ولا من يعرف الحجّة ، ولا كتبهم موضوعة للاحتجاجات. فإنّك بعد هذا لا تجد موضعا شهد بصحة دعواك» (٢).

يدرك المختصّون في هذا المجال بأنّ الأخبار الّتي تعدّ من الآحاد العارية عن القرائن على تقسيم الشيخ المفيد هي روايات يمكن العثور عليها عند مؤلّفين من الإماميّة الّذين لهم مشرب أخباري أو كما يعبّر عنهم السيّد المرتضى «أصحاب الحديث من أصحابنا.

وقد كتب الشيخ الصدوق في كتابه «من لا يحضره الفقيه» : «ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدس ذكره وتعالت قدرته».

وتدلّ هذه العبارة بصراحة على أنّ تدوين الروايات في مدرسة قم كانت على نحوين :

__________________

(١) يقال في كتب الفهرست والرجال بالنسبة لرواة هذه الأخبار «يعرف وينكر» أو «يعرف حديثه تارة وينكر أخرى ويجوز أن يخرج شاهدا».

(٢) الرسائل ، ١ : ٢٦ و ٢٧.

٥٣

١ ـ جمع ما وصلهم من أخبار عن طريق النقل.

٢ ـ جمع ما كانوا يرونه صحيحا في مقام الإفتاء أو الإستناد في الأمور العقائدية.

إنّ من الواضح أن عبارة «أصحاب الحديث من أصحابنا» إنّما تطلق على المؤلّفين من النوع الأوّل (١).

فتحصل ممّا قدمنا أن المراد من الخبر الواحد عند المدرسة البغدادية هو العاري عن القرائن أمّا إذا اقترن به ما يوجب الاعتماد عليه فهذا وإن كان يعد واحدا إلّا انه يمكن الاستناد إليه في الاستدلال الفقهي ؛ لأنّ العبرة هنا بالقرائن.

والملاحظة النهائية لهذا البحث هي أنّ المنهجيّة الحديثيّة كانت قد وصلت بغداد بعد ان اجتازت مراحل التصفية في مدارس الكوفة وقم والري لتنقّى بشكل نهائي على يد كبار علماء الفقه والكلام في مدينة بغداد (٢). ويعمد إلى إبعاد الكتب الّتي لا يمكن اعتمادها عن مجال الاستدلال والبحث ويكتفي بالاستناد إلى الكتب المعتبرة والروايات المشهورة.

٦ ـ إنّ تفاهة القياس لدى المدرسة الشيعية من الشهرة والمعروفية ما يجعله لا يحتاج إلى بيان وتوضيح ، والتحقيق في هذه المسألة يتّضح من خلال مراجعة المصادر الشيعية المفصّلة في علم الأصول (٣).

__________________

(١) أن ما قيل حول مدرسة بغداد يرجع إلى قبل عهد الشيخ أبي جعفر الطوسي شيخ الطائفة ؛ لأنّه خالف الرأي المذكور وادعى أنّ الفرقة المحقّة أجمعت على حجّيّة الخبر الواحد (عدّة الأصول : ١٢٦ و ١٢٧) فاستنادا لهذا المبنى أسّس مدرسة الجمع عند تعارض الأخبار وبذلك فتح فصلا جديدا في المنهج الفكري للإمامية. فقد كان هذا يمثل أوّل طوفان حدث في الفقه الإمامي على ما ذكره فقيه أهل البيت آية الله المددي دام ظلّه.

(٢) يقول السيّد المرتضى في بيان عظمة هؤلاء الأكابر : «متكلّمي طائفتنا ومحقّقي علمائنا ، ومنهم من يشقّ الشعر ويغلق الحجر تدقيقا وغوصا على المعاني».

(٣) يقول السيّد المرتضى في القياس : «والّذي يذهب إليه أنّ القياس محظور في الشريعة استعماله ؛ لأنّ العبادة لم ترد به ، وإن كان العقل مجوّزا ورود العبادة باستعماله» الذريعة ، ٢ : ٦٧٥.

٥٤

إن أغلب الاختلافات مع مدرسة قم هي في المسائل الاعتقادية وقد يكون في الفروع ؛ لأنّ أولئك كانوا يتمسّكون في المسائل العقائديّة بالروايات وفي بعض الأحيان بخبر الواحد وهذا ما كان يتعارض مع مدرسة بغداد الّتي كانت ترى ضرورة التمسّك بحكم العقل في المباحث الكلاميّة ، وقد يرد عليهم إشكال التمسّك بخبر الواحد في بعض الفروع ، لكن الاختلاف مع السنّة في كلا المجالين راسخ وقوي ؛ لأن الاختلاف معهم كان في المبنى والبناء.

وفي هذا السياق سنشير هنا إلى بعض عبارات السيّد المرتضى في علم الفقه والتفسير ليتّضح لنا أوّلا : ثنائية أبعاد المنظومة الفكريّة والحواريّة للسيّد المرتضى ، وثانيا : لنتعرف بعض الشيء على المنهجية العلميّة لهذا الرجل :

الفقه :

«إعلم أن الطريق إلى صحة ما يذهب إليه الشيعة الإمامية في فروع الشريعة فيما أجمعوا عليه هو إجماعهم ؛ لأنّه الطريق الموصل إلى العلم ، فذلك هو على الحقيقة الدليل على أحكام هذه الحوادث» ... «وليس يمتنع مع ذلك أن يكون في بعض ما أجمعوا عليه من الأحكام ، ظاهر كتاب يتناوله ، أو طريقة تقتضي العلم (١) ، مثل أن يكون ما ذهبوا إليه هو الأصل في العقل ، فيقع التمسّك به مع فقد الدليل الموجب للانتقال عنه ، أو طريقة قسمة ، مثل أن تكون الأقوال في هذه الحادثة محصورة ، فإذا بطل ما عدا قسما واحدا من الأقسام ، ثبت لا محالة ذلك القسم ، وكان الدليل على صحّته بطلان ما عداه ، فإن اتّفق شيء من ذلك

__________________

(١) يمكن التمسّك بهذه العبارة على حجيّة الإجماع المدركي في مدرسة السيّد المرتضى ويكون على هذا ـ إن كان لمدركه احتمالات غير ما يوجبه الإجماع ـ مرجحا لأحد الاحتمالات ، كما وقع السيّد في مسألة جواز الربا بين الوالد وولده ، فرآه مخالفا للظواهر القرآنية فأوّل ما ورد في ذلك على احتمال آخر فيه ثمّ رجع عنه في الانتصار لإجماع الفرقة على هذا الحكم ، على أن عبارة السيّد في مقدّمة الانتصار صريحة في ذلك وسيأتي نقله. وليعلم أن مدار البحث هنا على ظاهر الكتاب أو ما تقتضي العلم أمّا إذا كان هناك خبر واحد مطابق لما عليه إجماعهم فلا يدلّ على صحّته وكونه حجّة مقطوعا وتقدّم نقل كلامه في هذا المعنى.

٥٥

في بعض المسائل ، جاز الاعتماد عليه من حيث كان طريقا إلى العلم ، وصار نظيرا للإجماع الّذي ذكرناه في جواز الاعتماد عليه.

هذا فيما اتّفقوا عليه من المذهب ، فأمّا ما اختلفوا فيه : فقال بعضهم في الحادثة بشيء ، وقال آخرون بخلافه ، فلا يخلو من أن يصحّ دخوله تحت بعض ظواهر القرآن ومعرفة حكمه من عمومه ، فيعتمد على ذلك فيه أو أن يكون ممّا يرجع فيه إلى حكم أصل العقل ، فيرجع فيه إليه مع فقد أدلّة الشرع ، إذ يمكن فيه طريقة القسمة وإبطال بعضها وتصحيح ما يبقى ، فيسلك ذلك فيه أو يكون جميع الطرق الّتي ذكرناها فيه متعذّرة ، فحينئذ يكون مخيّرا بين تلك الأقوال الّتي وقع الاختلاف فيها ، ولك أن تذهب وتفتي بأي شيء شئت منها ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوها ، لإجماع الطائفة عليها ، وقد فقد الدليل المميّز بينها ، فلم يبق في التكليف إلّا التخيير (١). وأمّا ما لم يوجد للإماميّة فيه نصّ على خلاف ولا وفاق ، كان لك عند حدوثه أن تعرضه على الأدلّة الّتي ذكرناها ، من عمومات الكتاب وظواهره ، فقل ما يفوت تناول بعضها من قرب أو بعد له. فإن لم يوجد له فيها دليل ، عرض على أصل العقل وعمل بمقتضاه. وإن كانت طريقة القسمة فيه متأتية ، عمل بها. فإن قدرنا تعذر ذلك كلّه ، كنت بالخيار فيما تعمله فيه على ما ذكرناه.

وهذا الّذي بيناه هو طريق معرفة الحقّ في جميع أحكام الشرع.

ولم يبق إلّا كيف نناظر الخصوم في هذه المسألة.

واعلم أن كلّ مذهب لنا في الشريعة عليه دليل من ظاهر كتاب ، أو حكم الأصل في العقل وما أشبه ذلك ، فإنّه يمكن مناظرة الخصوم فيه.

فأمّا ما لا دليل لنا عليه إلّا إجماع طائفتنا خاصّة ، فمتى ناظرنا الخصوم واستدللنا عليهم بإجماع هذه الطائفة ، دفعوا أن يكون إجماعهم دليلا ، فيحتاج

__________________

(١) يظهر أنّ هذا التخيير بين الأقوال في مقام الإفتاء إذا أنّ مختار مدرسة المرتضى هو عدم حجّيّة خبر الواحد. وعند تعارض الأخبار يتمّ الطرح.

٥٦

أن نبيّن ذلك بأن الإمام المعصوم في جملتهم ، وننقل الكلام إلى الإمامة ، ونخرج عن الحدّ الّذي يليق بالفقهاء ويبلغه أفهامهم.

وهذا الّذي أحوجنا إلى عمل مسائل الخلاف (١) ، واعتمدنا فيها على سبيل الاستظهار على الخصوم في المسائل على القياس وأخبار الآحاد ، وإن كنّا ل انذهب إلى أنهما دليلان في الشرع ، ليتأتى مناظرة الخصوم في المسائل من غير خروج إلى أصول لا يقدرون على بلوغها. غير أنّ الّذي استعملنا في ذلك الكتاب من الاعتماد على القياس وأخبار الآحاد في مناظرة الخصوم في المسائل ممّا يدلّ على صحّة مذاهبنا ولا يمكننا أن نعتقد له ومن أجله هذا المذهب.

وقد عزمنا إلى أن نبيح طريقا يجتمع لنا فيه إمكان مناظرة الخصوم ، وأنه يوصل إلى العلم وطريق إلى معرفة الحقّ ، وهو أن يقصد إلى المسألة الّتي يقع الخلاف فيها بيننا وبين خصومنا ، إذا لم يكن لنا ظاهر كتاب يتناولها ، ولا ما أشبه ذلك من طريق العلم ، فنبنيها على مسألة أخرى قد دلّ الدليل على صحّتها ، فنقول : قد ثبت وجوب القول بكذا وكذا ، لقيام الدليل الموجب للعلم عليه ، وكلّ من قال في هذه المسألة بكذا ، قال في المسألة الأخرى بكذا ، والتفرقة بينهما في الموضع الّذي ذكرناه خروج من إجماع الأمّة لا قائل منهم به (٢).

فكما يلاحظ ، فإنّ المهمّ هو إثبات أحقّيّة نظرية الشيعة حتّى وإن كان الطريق المذكور للوصول إلى الحكم مرفوض من قبلنا.

التفسير :

١ ـ وقد كتب في عبارة حول تنزيه الأنبياء عن جميع المعاصي ما يلي :

«إعلم أن الأدلّة العقليّة إذا كانت دالّة على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يجوز أن يواقعوا شيئا من الذنوب صغيرا وكبيرا ، فالواجب القطع على ذلك ، ولا يرجع عنه بظواهر الكتاب ؛ لأنها إما أن تكون محتملة مشتركة ، أو تكون ظاهرا خالصا

__________________

(١) من كتب السيّد رحمه‌الله المفقودة ويرجع إليه كثيرا في الانتصار.

(٢) الرسائل ، ٢ : ١١٥ إلى ١١٩.

٥٧

لما دلّت العقول على خلافه ؛ لأنها إذا كانت محتملة حملناها على الوجه المطابق للحقّ الّذي هو أحد محتملاتها ، وإن كانت غير محتملة عدلنا عن ظواهرها وقطعنا على أنه تعالى أراد غير ما يقتضيه الظاهر ممّا يوافق الحق» (١).

٢ ـ وقد سأله سائل عن عالم الذرّ : «ما تقول في الأخبار الّتي رويت من جهة المخالف والموافق في الذر وابتداء الخلق على ما تضمّن تلك الأخبار ، هل هي صحيحة أم لا؟ وهل لها مخرج من التأويل يطابق الحق؟».

فالملاحظ هنا أنّ السائل في هذه العبارة يستوضح رأي المدرستين الشيعيّة والسنّية ويجيب السيّد المرتضى على ذلك بما يلي : «إنّ الأدلة القاطعة إذ دلّت على أمر وجب إثباته والقطع عليه ، وأن لا يرجع عنه بخبر محتمل ، ولا بقول معترض للتأويل ، وتحمل الأخبار الواردة بخلاف ذلك على ما يوافق تلك الدلالة ويطابقه ، وإن رجعنا بذلك عن ظواهرها ، وبصحّة هذه الطريقة نرجع عن ظواهر آيات القرآن الّتي تتضمّن إجبارا أو تشبيها» (٢).

إنّ من الواضح أنّ هذا المنهج منهج عامّ ، وهو سار وجار في روايات الفريقين في المباحث التفسيريّة والكلاميّة.

فمع ملاحظة هاتين العبارتين اتّضح مدى اهتمام السيّد المرتضى بالدفاع عن مدرسة التشيّع وإصلاح المصادر الّتي تستند عليها الشيعة. فقد وقف السيّد المرتضى موقفا حاسما في مواجهة الآراء الّتي كان يتبناها أهل الحديث والأشاعرة من أهل السنّة وكذا الآراء ومبتنيات المدرسة الأخبارية الشيعية ، ومن جانب آخر اهتمّ بشكل معمّق بالاستدلال القرآني الّذي يتّفق عليه الطرفان وذلك لنقض وإبرام أدلّتهم ، هذا في حين رفض خبر الواحد ولم يعتبره حجّة ووقف بوجه هذين الخطّين الفكريين في تمسّكهما بخبر الواحد.

وحينما واجه السيّد المرتضى المعتزلة وتبنى مفهوم الحسن والقبح العقليين لم يقع في القول بالتفويض وحسب بل تمكن في الكثير من المواقف أن يزعزع

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ١٢١.

(٢) الرسائل ، ١ : ١١٣.

٥٨

وجهة نظر المعتزلة الّتي بنيت بشكل خاطي على القبول بهذه النظريّة.

وكان السيّد المرتضى الّذي كتب أكثر رسائله وكتبه بمنهجية الدفاع عن المذهب الحق ـ لا يتمسّك في كتاباته بروايات أهل البيت عليهم‌السلام إلّا في موارد قليلة. يقول «أصحابنا إنّما جرت عادتهم بأن يحتجّوا على مخالفهم في مسائل الخلاف الّتي بينهم ، إما بظواهر الكتاب والسنّة المقطوع بها ، أو على سبيل المناقضة لهم والاستظهار عليهم ، بأن يذكروا أن أخبارهم الّتي رووها ـ أعني مخالفيهم ـ وأقيستهم الّتي يعتمدونها تشهد عليهم على الطريقة الّتي بينتها وأوضحتها في كتاب (مسائل الخلاف). فأمّا أن يحتجوا عليهم بخبر واحد ترويه الشيعة الإمامية متفرّدة به ولا يعرفه مخالفوها ، فهذا عبث ولغو لا يفعله أحد ولا يعاطي مثله» (١).

فهذا الكلام ورغم كونه في الخبر الواحد. إلّا أنّ العلّة معمّمة.

أهمّ نتائج هذا الفصل :

١ ـ لقد مثل عصر السيّد المرتضى الانفتاح السياسي والاجتماعي للشيعة ، وكان من معاليل هذا الوضع النتاج التبليغي والعاطفي للحكم السياسي للشيعة وحصيلة العمل العلمي والثقافي للقادة الفكريين للشيعة.

٢ ـ كانت بغداد في تلك الحقبة مركزا علميّا للشيعة ، فقد انتقل التراث العلمي للشيعة بأكمله إلى هذه المدينة ، هذا في حين كان علماء هذه المدينة يعيشون مواجهة مباشرة مع علماء المذاهب الأخرى.

٣ ـ إنّ الخصوصيّات أعلاه أدت إلى ان تتّخذ هذه المدرسة العظيمة منحيين دفاعي وإصلاحي.

٤ ـ من الخصائص الرئيسية لهذا المدرسة ترسيخ مبدأ الاستدلال بالمصادر العمليّة والاجتناب عن المصادر الظنّيّة وغير المعتبرة.

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ١١٣.

٥٩

٥ ـ إنّ مصادر الاستدلال في هذه المدرسة عبارة عن : دليل العقل ، والقرآن ، والإجماع ، والسنّة المتواترة.

٦ ـ لم تكن مدرسة بغداد لتعتبر خبر الواحد ذا قيمة ، إلّا إذا اقترن بقرائن فاعتباره وحجّيّته إنّما هي ناشئة من تلك القرينة.

٧ ـ فتحت المدرسة البغدادية باب الحوار والنقاش بين المذاهب من خلال التمسّك بالأدلّة الّتي يرتضيها طرفا الحوار.

٨ ـ بما أنّ التراث الروائي للشيعة كان قد وصل إلى بغداد من مدينة قم فلذلك يمكن القول بأنّ إحدى المهام الكبيرة لهذه المدرسة هو تنقية وتصفية الروايات الشيعيّة والإصلاح الفكري للفرقة الناجية.

الفصل الثالث

تمهيد

١ ـ إنّ النص والمدّون وليد مع مقولة التفسير والفهم والشرح. ولهذا فإن تاريخ تفسير النصوص يعود إلى زمن بعيد ، إلى زمان كانت فيه أوّل النصوص البشريّة تتمثل في ذلك الكتاب الّذي كان يصطلح عليه عنوان الوحي ، ولأنّ عموم الناس كانوا يجهلون بالخطوط العامّة للأديان أو أنهم كانوا يواجهون الشبهات فيها فقد صار لزاما أن تفسّر هذه النصوص ، كما أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ أفضل مفسّر للنصّ السماوي هو النبيّ الإلهي الّذي يتّصل بالوحي المسدّد من قبل الله تعالى ثمّ انتقلت هذه المهمّة إلى خلفاء الأنبياء. ويمكن أن نصطلح على هذه المنهجيّة في التفسير (منهجية تفسير المعصوم).

وبعد رحيل الأنبياء العظام وأوصيائهم كان العلماء هم الّذين تحملون مهمّة تفسير الكتاب المقدّس. وقد ادت مسألة الاختلاف في مسألة الخلافة ووصاية النبيّ الأكرم في العالم الإسلامي إلى نشوء نظريتين هما التنصيب والانتخاب. فأتباع نظرية الانتخاب تنتهي فترة (منهجية تفسير المعصوم) عندهم بمجرّد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتحوّل علماء الدين إلى مفسّرين لكلام الله تعالى ، لكن المعتقدين بنظرية

٦٠