تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وإن اختلفت أقوالهم ... والذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة ، ولأنّ ما ذكرناه أشبه بالعدل ؛ لأنّ الجماعة إنّما أتلفت نفسا واحدة فكيف تؤخذ النفوس الكثيرة بالنفس الواحدة؟ وإذا اتبعنا في قتل الجميع بالواحد الروايات المتظاهرة الواردة بذلك (١) فلا بدّ فيما ذكرته الإمامية من الرجوع بالدية ...

والذي يدلّ على الفصل الأوّل زائدا على إجماع الطائفة قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ومعنى هذا أنّ القاتل إذا علم أنّه إن قتل قتل كفّ عن القتل ، وكان ذلك أزجر له عنه ، وكان داعيا إلى حياته وحياة من همّ بقتله ، فلو أسقطنا ؛ القود في حال الاشتراك سقط هذا المعنى المقصود بالآية ، وكان من أراد قتل غيره من غير أن يقتل به شارك غيره في قتله ، فسقط القود عنهما.

وممّا يمكن معارضة من ذهب إلى هذا المذهب به ما يروونه ويوجد في كتبهم في خبر أبي شريح الكعبي من قوله عليه‌السلام : فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين ، إن أحبّوا قتلوا وإن أحبّوا أخذوا الدية (٢) ، ولفظة «من» يدخل تحته الواحد والجماعة دخولا واحدا.

ويمكن أن يستدلّ أيضا على من خالف في قتل الجماعة بواحد بقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٣) ، والقاتلون إذا كانوا جماعة فكلّهم معتدّ ، فيجب أن يعاملوا بمثل ما عاملوا به القتيل.

فإن قالوا الله تعالى يقول : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٤) (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) (٥) ، وهذا ينفي أن يؤخذ نفسان بنفس وحرّان بحر.

قلنا : المراد بالنفس والحرّ هاهنا الجنس لا العدد ، فكأنّه تعالى قال : إنّ جنس النفوس تؤخذ بجنس النفوس ، وكذلك جنس الأحرار. والواحد والجماعة يدخلون في ذلك.

__________________

(١) الوسائل ، ١٩ : ٢٩.

(٢) سنن البيهقي ، ٥٢ : ٨.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٩٤.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٤٥.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ١٧٨.

٤٨١

فإن قيل : إذا اشتركت الجماعة في القتل فليس كلّ واحد من الجماعة منهم قاتلا ، وليس يجوز أن يقتل من ليس بقاتل. قلنا : كلّ واحد من الجماعة قاتل في حال الاشتراك ويطلق عليه هذا الاسم ، فكيف ظننتم أنّا لا نطلق أنّ كلّ واحد قاتل ، فإذا قالوا : فالقاتل لا بدّ له من مقتول فكيف يقولون في الجماعة؟

قلنا : مقتول الجماعة واحد وإن كان القتلة جماعة ، وكلّ واحد من القاتلين هو قاتل للنفس التي قتلها القاتل الآخر ، ويجري ذلك مجرى جماعة حملوا جسما وكلّ واحد منهم حامل ، ومحمول الجماعة واحد وهو الجسم ، وكذلك مقتول الجماعة المشتركين في القتل واحد ، وإن كان فعل أحدهم غير فعل صاحبه ، كما أنّ حمل كلّ واحد من حاملي الجسم غير حمل صاحبه وفعله غير فعله ، وإن كان المحمول واحدا ، وبيان هذه الجملة أنّ القتل إذا كان على ما ذكرناه في مواضع كثيرة من كلامنا هو نقض البنية التي لا تبقي الحياة مع نقضها ، وكان نقض هذه البنية قد يفعله الواحد منّا منفردا ، وقد يشترك الجماعة في نقض بنية الحياة ، فيكونون كلّهم ناقضين لها ومبطلين الحياة ، وهذا هو معنى القتل ، فثبت أنّه قد وجد من كلّ واحد من الجماعة معنى القتل وحقيقته ، فيجب أن يسمّى قاتلا.

ووجدت لبعض من نصر هذا المذهب ـ أعني القول بجواز قتل الجماعة بالواحد ـ كلاما سأل فيه نفسه فقال : إذا كان كلّ واحد من الجماعة قاتلا فينبغي أن يكون كلّ واحد منهم قاتلا لنفس غير النفس التي قتلها صاحبه ، وأجاب عن هذا الكلام بأنّ كلّ واحد من الجماعة قاتل لكنّه ليس بقاتل نفس ، كما أنّ الجماعة إذا أكلت رغيفا فكلّ واحد منهم آكل لكنّه ليس بآكل رغيف ، وهذا غلط من هذا القائل ؛ لأنّ كلّ واحد من الجماعة إذا اشتركوا في القتل قاتل كما قال ، فلا بدّ أن يكون قاتل نفس ، فكيف يكون قاتلا وما قتل نفسا؟ غير أنّ النفس التي قتلها واحد من الجماعة هي النفس التي قتلها شركاؤه والنفس واحدة والقتل مختلف ، كما قلناه في الجسم المحمول.

وليس كذلك الرغيف ؛ لأنّ الجماعة إذا أكلت رغيفا فكلّهم أكلوا ، وليس

٤٨٢

كلّ واحد منهم آكل رغيف ، وإنّما أكلت الجماعة الرغيف وكلّ واحد منهم إنّما أكل بعضه ؛ لأنّ الرغيف يتبعّض والنفس لا تتبعض ، كما أنّ حمل الجسم الثقيل لا يتبعّض ، فما يحمله كلّ واحد من الجماعة هو الذي يحمله الآخر ، وكذلك يجب أن يكون من قتله واحد من الجماعة إذا اشتركوا في القتل هو الذي قتله كلّ واحد منهما ، وتحقيق هذا الموضع ليس من عمل الفقهاء ، ولا ممّا يهتدون إليه لفقد علمهم بأصوله فلا يجب أن يتعاطوه فيفتضحوا.

فإن قيل : قد ثبت أنّ الجماعة إذا اشتركوا في سرقة نصاب لم يلزم كلّ واحد منهم القطع ، وإن كان كلّ واحد منهم إذا انفرد بسرقته لزمه القطع ، وأيّ فرق بين ذلك وبين القتل مع الاشتراك؟ قلنا : الذي نذهب إليه وإن خالفنا فيه الجماعة ، انّه إذا اشترك نفسان في سرقة شيء من حرز وكان قيمة المسروق ربع دينار فصاعدا فإنّه يجب عليهما القطع معا ، فقد سوّينا بين القتل والقطع ، وإنّما ينبغي أن يسأل عن الفرق بين الأمرين من فرّق بينهما ، فإن قالوا : كما لم يجب على كلّ واحد من الجماعة إذا اشتركوا في قتل الخطأ دية كاملة ، لم يجب عليهم قصاص كامل ، قلنا : الديّة تتبعّض فيمكن تقسيطها عليهم ، والقصاص لا يتبعّض ... (١).

ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ١٨٠].

وممّا ظنّ انفراد الإمامية به ما ذهبوا إليه من أن الوصية للوارث جايزة وليس للوارث ردّها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء وإن كان الجمهور والغالب على خلافه (٢). والذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه في ذلك بعد الإجماع المتردد قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) وهذا نص في موضع الخلاف.

__________________

(١) الانتصار : ٢٦٥ وراجع أيضا الناصريات : ٣٩٣. وحيث لم يكن الأمران الآخران مشتملين على بحث تفسيري لم نذكرهما ، فراجع هذين المصدرين.

(٢) البحر الزخّار ، ٦ : ٣٠٨.

٤٨٣

وأيضا قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (١) وهذا عام في الأقارب والأجانب فمن خصص به الأجانب دون الأقارب فقد عدل عن الظاهر بغير دليل.

وأيضا ؛ فإن هذا إحسان إلى أقاربه وقد ندب الله سبحانه إلى كلّ إحسان عقلا وسمعا ولم يخص بعيدا من قريب بذلك ، ولا فرق بين أن يعطيهم في حياته من ماله وفي مرضه وبين أن يوصي بذلك ؛ لأنّه إحسان إليهم وفعل مندوب إليه.

فإن قالوا : فإن الآية منسوخة بآية المواريث وبما يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق مختلفة من أنه لا وصية لوارث. فالجواب عن ذلك أن النسخ بين الخبرين إنما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما ولا تنافي بين آية المواريث وآية الوصية ، والعمل بمقتضاهما جميعا جائز سايغ ، فكيف يجوز أن يدعي في آية المواريث أنها ناسخة لآية الوصية مع فقد التنافي ، فأما الأخبار المروية في هذا الباب فلا اعتراض بها ، لأنها إذا سلمت من كلّ قدح وجرح وتضعيف كانت تقتضي الظن ولا تنتهي إلى العلم اليقين ، ولا يجوز أن ينسخ بما يقتضي الظنّ كتاب الله تعالى الذي يوجب العلم اليقين ، وإذا كنّا لا نخصص كتاب الله بأخبار الآحاد فالأولى أن لا ننسخه بها ، وقد بيّنا ذلك في كتابنا في أصول الفقه وبسطناه (٢) (٣).

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)) [البقرة : ١٨٣ و ١٨٤].

[فيها أمور :]

[الأوّل : استدلّ السيّد بهذه الآية على اعتبار الاهلة في المواقيت دون العدد ، قال :] فأخبر بأنّ الصوم المكتوب علينا نظير الصوم المكتوب على من

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١١.

(٢) الذريعة ، ١ : ٤٦١.

(٣) الانتصار : ٣٠٨.

٤٨٤

قبلنا ، وقد علم أنّه عني بذلك أهل الكتاب ، وأنّهم لم يكلفوا في معرفة ما كتب عليهم من الصيام إلّا العدد والحساب ، وقد بيّن الله تعالى ذلك بقوله في الآية : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ). وهذا نصّ من الكتاب في موضع الخلاف ، يشهد بأنّ فرض الصيام المكتوب أيام معدودة ، حسب ما اقتضاه التشبيه بين الصومين ، وما فسّره بقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فإذا وجب ذلك فالمحفوظ من العبادات محفوظ بعدده ، محروس بمعرفة كمّيته ، لا يجوز عليه تغييره ما دام فرضه لازما على وجه.

فهذا هو الذي نذهب إليه في شهر رمضان ، من أنّ نية معرفته بالعدد والحساب ، وأنّه محصور بعدد سالم من الزيادة والنقصان ، ولو لا ذلك لم يكن لقوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) معنى يستفاد.

يقال له : ما رأينا أبعد عن الصواب وموقع الحجّة من هذا الاستدلال ؛ لأنّ الله تعالى إنّما جمع بين ما كتبه علينا من الصيام ، وبين ما كتبه على من كان قبلنا ، وتشبه أحدهما بصاحبه في صفة واحدة وهي أنّ هذا مفروض مكتوب ، كما أنّ ذلك مفروض مكتوب ، فجمع في الايجاب والالزام ، ولم يجمع بينهما في كلّ الصفات.

ألا ترى أنّ العدد فيما فرض علينا من الصيام ، وفيما فرض على اليهود والنصارى مختلف غير متّفق ، فكيف يدعى أنّ الصفات والأحكام واحدة.

على أنّا لو سلمنا أنّ الآية تقتضي التشبيه بين الصومين في كلّ الأحوال ـ وليس الأمر كذلك ـ لم يكن لهم في الآية حجّة ؛ لأنّا لا نعلم أنّ فرض اليهود والنصارى في صومهم العدد دون الرؤية ، واليهود يختلفون في طريقتهم إلى معرفة الشهورة فمنهم من يذهب إلى أنّ الطريق هو الرؤية ، وآخرون يذهبون إلى العدد ، وإذا لم يثبت أنّ أهل الكتاب كلّفوا في حساب الشهور العدد دون الرؤية ، سقط ما بنوا الكلام عليه وتلاشى.

فأمّا قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فلم يرد به أنّ الطريق إلى إثبات هذا ؛ ييظظ الصيام وتعيينه هو العدد دون الرؤية ، وإنّما أراد تعالى أحد أمرين : إمّا أن

٤٨٥

يريد ب «معدودات» محصورات مضبوطات ، كما يقول القائل : أعطيته مالا معدودا ، يعني أنّه محصور مضبوط متعيّن ، وقد ينحصر الشيء وينضبط بالعدد وبغيره ، فهذا وجه ؛ أو يريد بقوله : (مَعْدُوداتٍ) أنّها قلائل ، كما قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (١) يريد أنّها قليلة.

وهذان التأويلان جميعا يسوغان في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (٢).

فأمّا قوله : «ان المعدود من العبادات محفوظ بعدده محروس بمعرفة كميته ، لا يجوز عليه تغيير ما دام فرضه لازما» فهو صحيح ، لكنّه لا يؤثّر في موضع الخلاف في هذه المسألة ، لأنّ العدد إذا كان محفوظا بالعدد مضبوط الكميّة إنّ هذا المعدود المضبوط إنّما عرف مقداره وضبط عدده ، لا من طريق الرؤية بل من الطريق الذي يدعيه أهل العدد ، فليس في كونه مضبوطا معروف العدد ما يدلّ على الطريق الذي به عرفنا عدده وحصرناه ، وليس بمنكر أن يكون الرؤية هي الطريق إلى معرفة حصره وعدده.

ثم من أين صحّة قوله (٣) : «وأنّه محصور بعدد سالم من الزيادة والنقصان» فليس في قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أنّها لا تكون تارة ناقصة وتارة زائدة ، بحسب ما يدلّ عليه الرؤية ، وإنّما تدلّ على أحد الأمرين اللذين ذكرناهما ، إمّا معنى القلة ، أو معنى الضبط والحصر.

وليس في كونها مضبوطات محصورات ما يدلّ على أنّها تكون تارة زائدة وتارة ناقصة ، بحسب الرؤية وطلوع الأهلة.

فأمّا انتصاب قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فقد قيل : إنّه على الظرف ، كأنّه قيل : الصيام في أيّام معدودات ، كما يقول القائل : أوجبت علي الصيام أيام حياتي وخروج زيد يوم الخميس.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٢٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٠٣.

(٣) يعني به قول صاحب الكتاب الذي ردّ السيّد عليه في هذه الرسالة.

٤٨٦

والوجه الثاني : أن يعدي الصيام ، كأنه قال : كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات.

ووجه ثالث : أن يكون تفسيرا عن «كم» ويكون مردودا عن لفظة «كما» كأنّه قال : كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب على الذين من قبلكم ، وفسّر فقال : وهذا المكتوب على غيركم أيّاما معدودات.

ويجوز أيضا أن يكون تفسيرا وتمييزا للصوم ؛ فإنّ لفظة «الصوم» مجملة يجوز أن تتناول الأيّام والليالي والشهور ، فميّز بقوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وبيّن أنّ هذا الصوم واقع في أيام.

وقال الفرّاء : هو مفعول ما لم يسمّ فاعله كقوله : أعطي زيد المال.

وخالفه الزجّاج فقال : هذا لا يشبه ما مثّل به ؛ لأنّه يجوز رفع الأيام ب «يكتب عليكم الصيام» كما يجوز رفع المال ، فيقول : أعطى زيدا المال. فالأيّام لا يكون إلّا منصوبة على كلّ حال.

وممّا يمكن أن يقال في هذا الباب ممّا لا نسبق إليه : أن تجعل «أياما» منصوبة بقوله : «تتّقون» كأنّه قال : لعلّكم تتقون أياما معدودات ، أي تحذرونها وتخافون شرها ، وهذه الأيام أيام المحاسبة والموافقة (١) والمسائلة ودخول النار وما أشبه ذلك من الأيام المحذورة المرهوبة ، ويكون المعنى : انّ الصوم إنّما كتب عليكم لتحذروا هذه [الأيام (٢)] وتخافوها ، وتتجنبوا القبائح وتفعلوا الواجب.

ثمّ حكى صاحب الكتاب عنّا ما لا نقوله ولا نعتمده ولا نسأل عن مثله ، وهو أنّ قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) إنّما أراد به إن كان عددها وتشاغل بنقض ذلك وإبطاله ، وإذا كنا لا نعتمد ذلك ولا نحتجّ به ، فقد تشاغل بما لا طائل فيه. والذي نقوله في معنى «معدودات» من الوجهين ما ذكرناه فيما تقدّم وبيّناه فلا معنى للتشاغل بغيره (٣).

__________________

(١) الظاهر المؤاخذة.

(٢) الزيادة منا.

(٣) الرسائل ، ٢١ : ٢.

٤٨٧

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] «ولا يجوز الإفطار في السفر إلّا عند الضرورة».

عندنا : أنّ الإفطار في السفر المباح هو الواجب الذي لا يجوز الإخلال به ، فمن صام في السفر الذي ذكرناه عليه القضاء ... دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتكرر ذكره ، قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وظاهر هذا الكلام يقتضي أن السفر والمرض يجب معهما القضاء ، ولا يجوز معهما الصوم.

فإن قالوا : في الآية ضمير ، وإنّما يريد فمن كان مريضا أو مسافرا فأفطر فعدّة من أيّام أخر.

قلنا : الإضمار خلاف الظاهر ، فمن ادّعاه بلا دليل لم يلتفت إلى قوله ، وإنّما أثبتنا في قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) ضميرا ، وهو ملحق بدليل ، ولا دليل في الموضع الذي اختلفنا فيه (١).

[الثالث :] وممّا انفردت الإمامية به تحديدهم السفر الذي يجب فيه التقصير في الصلاة ببريدين ـ والبريد أربع فراسخ ـ والفرسخ ثلاثة أميال فكان المسافة أربعة وعشرين ميلا ...

والحجة في ذلك إجماع الطائفة ؛ وأيضا فانّ الله تعالى علّق سقوط فرض الصيام على المسافر بكونه مسافرا في قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، ولا خلاف بين الأمّة في أنّ كلّ سفر أسقط فرض الصيام ورخّص في الافطار (فيه) فهو بعينه موجب لقصر الصلاة ، وإذا كان الله تعالى قد علّق ذلك في الأية باسم السفر فلا شبهة في أنّ اسم السفر يتناول المسافة التي حدّدنا السفر بها فيجب أن يكون الحكم تابعا لها ، ولا يلزم على ذلك أدنى ما يقع عليه هذا الاسم من فرسخ أو ميل ؛ لأنّ الظاهر يقتضي ذلك لو تركنا معه الدليل ، لكنّ الدليل والاجماع أسقطا إعتبار ذلك ولم يسقطاه فيما اعتبرناه من المسافة وهو داخل تحت الاسم (٢).

__________________

(١) الناصريات : ٢٥٦.

(٢) الانتصار : ٥٠.

٤٨٨

[الرابع :] وممّا ظنّ انفراد الإمامية به ولها فيه موافق متقدّم ، القول بأنّ من صام شهر رمضان في السفر يجب عليه الاعادة ...

والحجّة لقولنا الاجماع المتكرر ، وأيضا قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، فأوجب الله تعالى القضاء بنفس السفر ، ومن ادّعى ضميرا في الآية وهو لفظة فأفطر فهو تارك للظاهر من غير دليل.

فإن قيل : فيجب أن تقولوا مثل ذلك في قوله «فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه» ولا تضمروا فحلق ، قلنا : هكذا يقتضي الظاهر ولو خلّينا وإيّاه لم نضمر شيئا ، لكن أضمرناه بالإجماع ولا إجماع ولا دليل يقطع به في الموضع الذي اختلفنا فيه (١).

[الخامس : قال الناصر رحمه‌الله :] «لا يجوز التفريق في قضاء صوم شهر رمضان إلّا من عذر».

عند أصحابنا : أنّه مخيّر بين التفريق والمتابعة في قضاء صوم شهر رمضان ...

دليلنا على ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردّد ، قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). والعدّة تقع على المتتابع والمتفرّق.

وأيضا ؛ فإن التتابع حكم شرعي زائد على وجوب القضاء على الجملة ، فالأصل ألّا شرع ، فمن أثبته فعليه الدليل (٢).

وأيضا ما رواه نافع ، عن ابن عمر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كان عليه شيء من قضاء رمضان إن شاء صامه متتابعا ، وإن شاء صامه متفرّقا» (٣).

فإن قالوا : قد أمرنا بالقضاء في الآية أمرا مطلقا ، والأمر المطلق على الفور.

__________________

(١) الانتصار : ٦٦.

(٢) الناصريات : ٢٩٧.

(٣) الدرّ المنثور ، ١ : ١٩٢.

٤٨٩

قلنا : إذا سلمنا ذلك كان التعلق به باطلا ؛ لأنه لو كان الأمر بالقضاء على الفور لكان يجب متى أمكنه القضاء أن يتعيّن الصوم فيه حتّى لا يجزي سواه ، ولا خلاف في أنّه يؤخر القضاء ، وإنّما الخلاف في تتابعه بعد الشروع فيه.

[السادس :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ من بلغ من الهرم إلى حدّ يتعذّر معه الصوم وجب عليه الافطار بلا كفّارة ولا فدية ، وإن كان من ذكرنا حاله لو تكلّف الصوم لتمّ له ، لكن بمشقة شديدة يخشى المرض منها والضرر العظيم ، كان له أن يفطر ويكفّر عن كل يوم بمد من الطعام ، وهذا التفصيل لا نعرفه لباقي الفقهاء ...

والحجّة في مذهبنا إجماع الطائفة ، وممّا يجوز أن يستدلّ به على أن الشيخ الذي لا يطيق الصيام ويجوز له الافطار من غير فدية ، قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ، وإذا لم يكن في وسع الشيخ الصوم خرج من الخطاب به ولا فدية عليه إذا أفطر ؛ لأنّ الفدية إنّما تكون عن تقصير ، فإذا لم يطق الشيخ الصوم فلا تقصير وقع منه.

ويدلّ على أنّ من أطاق من الشيوخ الصوم لكن بمشقّة شديدة يخشى منها المرض يجوز له أن يفطر ويفدي ، قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) ومعنى الآية أنّ الفدية تلزم مع الافطار ، وكأنّ الله تعالى خيّر في ابتداء الأمر بهذه الآية للناس كلّهم بين الصوم وبين الافطار والفدية ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) وأجمعوا على تناول هذه الآية لكلّ من عدا الشيخ الهرم ممّن لا يشقّ عليه الصوم ، ولم يقم دليل على أنّ الشيخ إذا خاف الضرر دخل في هذه الآية ، فهو إذن تحت حكم الآية الأولى التي تناولته ، كما تناولت غيره ونسخت عن غيره وبقيت فيه ، فيجب أن تلزمه الفدية إذا أفطر ؛ لأنّه مطيق للصوم (٣).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٨٥.

(٣) الانتصار : ٦٨.

٤٩٠

[السابع : قال الناصر رحمه‌الله :] «صوم يوم الشكّ أولى من إفطاره». هذا صحيح ، وإليه يذهب أصحابنا ...

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه : الاجماع المتقدّم ذكره.

وأيضا قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وهذا عامّ في سائر الأيّام.

وأيضا ؛ فإنّه يوم في الحكم من شعبان ، بدلالة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وإن غمّ عليكم فعدّوا شعبان ثلاثين» (١) فجاز صومه بنيّة شعبان (٢).

[الثامن :] وممّا ظنّ انفراد الإمامية به القول : بأنّ صوم التطوّع يجزي بنيته بعد الزوال ؛ لأنّ الثوري يوافق في ذلك ، ويذهب إلى أنّ صوم التطوّع إذا نواه في آخر النهار أجزأه وهو أحد قولي الشافعي أيضا (٣) ، وباقي الفقهاء يمنعون من ذلك ويقولون : إذا نوى التطوّع بعد الزوال لم يجزه (٤). دليلنا الاجماع الذي تقدّم ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وكلّ ظاهر لقرآن أو السنّة يقتضي الأمر بالصوم والترغيب فيه لا إختصاص له بزمان دون غيره فهو يتناول ما بعد الزوال وقبله ، ولا يلزم على ذلك صوم الفرض ؛ لأنّه لا يجزي عندنا إلّا بنيّة قبل الزوال ؛ لأنّا أخرجناه بدليل ولا دليل فيما عداه (٥).

ـ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ١٨٥].

[فيها أمور :]

[الأوّل : إن سأل سائل] فقال : كيف أخبر تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقد أنزله في غيره من الشهور على ما جاءت به الرواية؟ والظاهر يقتضي أنّه أنزل

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٣ : ٦٨.

(٢) الناصريات : ٢٩٢.

(٣) المغني (لابن قدامة) ٣ : ٣٠ ، ٣١.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الانتصار : ٦٠.

٤٩١

الجميع فيه ، وما المعنى في قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وهل أراد الإقامة والحضور الذين هما ضدا الغيبة ، أو أراد المشاهدة والإدراك؟.

الجواب : قلنا : أمّا قوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فقد قال قوم : المراد به أنّه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في شهر رمضان ، ثمّ فرّق إنزاله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسب ما تدعوا الحاجة إليه.

وقال آخرون : المراد بقوله : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)؛ أنّه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن ؛ فيكون «فيه» بمعنى في فرضه ، كما يقول القائل : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في فرضها ، وأنزل الله في الخمر كذا وكذا يريد في تحريمها.

وهذا الجواب إنّما هرب متكلّفه من شيء ، وظنّ أنّه قد اعتصم بجوابه عنه ، وهو بعد ثابت على ما كان عليه ؛ لأنّ قوله : (الْقُرْآنُ) إذا كان يقتضي ظاهره إنزال جميع القرآن فيجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصيام جميع القرآن ؛ ونحن نعلم أنّ قليلا من القرآن يتضمّن إيجاب صوم شهر رمضان ، وأنّ أكثره خال من ذلك.

فإن قيل : المراد بذلك أنّه أنزل في فرضه شيئا من القرآن ، وبعضا منه.

قيل : فألّا اقتصر على هذا ، وحمل الكلام على أنّه تعالى أنزل شيئا من القرآن في شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة «فيه» بمعنى في فرضه وإيجاب صومه.

والجواب الصحيح : أنّ قوله تعالى : (الْقُرْآنُ) في هذا الموضع لا يفيد العموم والاستغراق ، وإنّما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق ، فكأنّه قال : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) هذا الجنس من الكلام ؛ فأيّ شيء نزل منه في الشهر فقد طابق الظاهر. وليس لأحد أن يقول : إن الألف واللام هاهنا لا يكونان إلّا للعموم والاستغراق ؛ لأنّا لو سلمنا أنّ الألف واللام صيغة العموم والصورة المقتضية لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون هاهنا بهذا الصفة ؛ لأنّ

٤٩٢

هذه اللفظة قد تستعمل في مواضع كثيرة من الكلام ولا يراد بها أكثر من الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم ؛ حتى يكون حمل كلام المتكلم بها على خصوص أو عموم ؛ كالمناقض لغرضه والمنافي لمراده ؛ ألا ترى أنّ القائل إذا قال : فلان يأكل اللحم ، ويشرب الخمر ، وضرب الأمير اليوم اللصوص ، وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلّا محض الجنس والطبقة من غير خصوص ولا عموم ؛ حتى لو قيل له : فلان يأكل جميع اللحم ، ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه : إنّني لم أرد عموما ولا خصوصا ؛ وإنّما أريد أنّه يأكل هذا الجنس من الطعام ، ويشرب هذا الجنس من الشراب ؛ فمن فهم من كلامي العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادي.

وأرى كثيرا من الناس يغلطون في هذا الموضع ، فيظنّون أنّ الإشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة ؛ حتى يحملوا قول من قال : أردت الجنس في كل موضع على العموم ؛ وهذا بعيد ممّن يظنّه ؛ لأنّه كما أنّ العموم والخصوص مفهومان في بعض بهذه الألفاظ فكذلك الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص مفهومة مميّزة ؛ وقد ذكرنا أمثلة ذلك.

فأمّا قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فأكثر المفسّرين حملوه على أنّ المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما في بلد غير مسافر. وأبو عليّ حمله على أنّ المراد به فمن أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل الشروط فليصمه ، ذهب في معنى «شهد» إلى معنى الإدراك والمشاهدة.

وقد طعن قوم على تأويل أبي عليّ وقالوا : ليس يحتمل الكلام إلّا الوجه الأول. وليس الأمر على ما ظنّوه ؛ لأنّ الكلام يحتمل الوجهين معا ؛ وإن كان للقول الأوّل ترجيح ومزيّة على الثاني من حيث يحتاج في الثاني من الإضمار إلى أكثر ممّا يحتاج إليه في الأوّل ؛ لأنّ قول الأوّل لا يحتاج إلى إضمار الإقامة وارتفاع السفر ؛ لأنّ قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ) يقتضي الإقامة ؛ وإنّما يحتاج إلى إضمار باقي الشروط من الإمكان والبلوغ وغير ذلك.

وفي القول الثاني يحتاج مع كلّ ما أضمرناه في القول الأوّل إلى إضمار

٤٩٣

الإقامة ؛ ويكون التقدير : فمن شاهد الشهر وهو مقيم مطيق بالغ إلى سائر الشروط ؛ فمن هذا الوجه كان الأول أقوى.

وليس لاحد أن يقول : إنّ (شَهِدَ) بنفسه من غير محذوف لا يدلّ على إقامة ؛ وذلك أنّ الظاهر من قولهم في اللغة : فلان شاهد إذا أطلق ولم يضف أفاد الإقامة في البلد ؛ وهو عندهم ضدّ الغائب والمسافر ؛ وإن كانوا ربّما أضافوا فقالوا : فلان شاهد لكذا ، وشهد فلان كذا ؛ ولا يريدون هذا المعنى ؛ ففي إطلاق (شَهِدَ) دلالة على الإقامة من غير تقدير محذوف ؛ وهذه جملة كافية بحمد الله (١).

[الثاني : استدلّ بهذه الآية على اعتبار العدد في المواقيت دون الاهلة ، وأن شهر رمضان ثلاثون يوما لا ينقص أبدا قال :] فأبان تعالى في هذه الآية أنّ شهر رمضان عدّة يجب صيامها على شرط الكمال.

وهذا قولنا في شهر الصيام أنّه كامل تامّ سالم من الاختلاف ، وأنّ أيامه محصورة لا يعترضها زيادة ولا نقصان. وليس كما يذهب إليه أصحاب الرؤية ، إذ كانوا يجيزون نقصانه عن ثلاثين ، وعدم استحقاقه لصفة الكمال.

يقال له : من أين ظننت أنّ قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) معناه : صوموا ثلاثين يوما من غير نقصان عنها.

وما أنكرت أن يكون قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) معناه : صوموا العدّة التي وجب عليكم صيامها من الأيام على التمام والكمال ، وقد يجوز أن يكون هذه العدّة تارة ثلاثين وتارة تسعة وعشرين يوما ، ومن رأى الهلال فقد أكمل العدة التي وجب عليه صيامها وما نقص عنها شيئا.

ألا ترى أنّ من نذر أن يصوم تسعة وعشرين يوما من شهر ثم صامها ، نقول : إنّه قد أكمل العدة التي وجبت عليه وتمّمها واستوفاها ولم يصم شهرا عدده ثلاثون يوما؟

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢١٧.

٤٩٤

ثمّ قال صاحب الكتاب (١) : وقد عارض بعضهم في هذا الاستدلال فقال : إنّ الشهر وإن نقص عدد أيامه عن ثلاثين يوما ، فإنّه يستحقّ من صفة الكمال ما يستحقّه إذا كان ثلاثين ، وأنّ كلّ واحد من الشهرين المختلفين في العدد ، كامل تامّ على كلّ حال.

ثمّ قال : وهذا غير صحيح ؛ لأنّ الكامل والناقص من أسماء الإضافات ، وهما كالكبير والصغير والكثير والقليل ، فكما لا يقال كبير إلّا لوجود صغير ، ولا كثير إلّا لحصول قليل ، فكذلك لا يقال الشهر من الشهور كامل إلّا بعد ثبوت شهر ناقص ، فلو استحال تسمية شهر بالنقصان ، لاستحالت لذلك تسمية شهر آخر بالتمام والكمال ، وهذا واضح يدلّ المنصف على فساد معارضة الخصوم ووجود كامل وناقص في الشهور.

يقال له : لسنا ننكر أن يكون في الشهور ما هو ناقص ومنها ما هو كامل ، لكن قولنا «ناقص» يحتمل أمرين : أحدهما : أن يراد به النقصان في العدد ، ويحتمل أن يراد به النقصان في الحكم وأداء الفرض.

فإذا سألنا سائل عن شهرين أحدهما عدده ثلاثون يوما والآخر عدده تسعة وعشرون يوما ، وقال : ما تقولون إنّ الشهر الذي عدده تسعة وعشرون يوما أنقص من الذي عدده ثلاثون يوما.

فجوابنا أن نقول له : إن أردت بالنقصان في العدد ، فالقليل الأيام ناقص عن الذي زاد عدده. وإن أردت النقصان في الحكم وأداء الفرض ، فلا نقول ذلك.

بل نقول : إن من أدّى ما عليه في الشهر القليل العدد وصامه كملا إلى آخره فقد كمل العدّة التي وجبت عليه ، ونقول : إنّ صومه كامل تامّ لا نقصان فيه ، وإن كان عدد أيامه أقلّ من عدد أيام الشهر الاخر ، فلم ننكر ـ كما ظننت ـ أن يكون شهر ناقصا وشهر تاما ، حتى يحتاج إلى أن تقول : إنّ هذا من ألفاظ الإضافات ، إنّما فصّلنا ذلك وقسمناه ووضعناه في موضعه.

__________________

(١) أي من كتب السيّد هذه الرسالة ردا عليه.

٤٩٥

ثمّ قال صاحب الكتاب من بعد ذلك : ثم يقال لهم : كيف استجزتم القول بأنّ قياس الشهور كاملة ، مع إقراركم بأنّ فيها ما عدد أيامه ثلاثون يوما ، وفيها ما هو تسعة وعشرون يوما ، وليس في العرب أحد إذا سئل عن الكامل من هذه الشهور ، التبس عليه أنّه الذي عدده ثلاثون يوما.

يقال له : هذا ممّا قد بان جوابه في كلامنا الماضي ، وجملته انّنا لا ننكر أنّ الشهر الذي هو تسعة وعشرون يوما أنقص عددا من الذي عدده ثلاثون يوما ، وأنّ الذي عدده ثلاثون يوما أكمل من طريق العدد من الذي هو تسعة وعشرون ؛ وإنّما أنكرنا أن يكون أحدهما أكمل من صاحبه وأنقص منه في باب الحكم وأداء الفرض ؛ لأنّهما على الوجه الذي يطابق الأمر والايجاب ، وهذا ما لا يشتبه على المحصّلين.

ثمّ قال بعد ذلك : وقد قال بعض حذّاقهم : إنّ قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) إنّما أراد به قضاء الفائت على العليل والمسافر ؛ لأنّه ذكره بعد قوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

ثمّ قال يقال لهم : لو كان الأمر على ما ظننتموه ، لكان قاضي ما فاته من علّة أو سفر مندوبا إلى التكبير عقيب القضاء ، لقول الله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وقد أجمعت الأمّة على أنّه لا تكبير عليه فرضا ولا سنّة ، وانّما هو مندوب إليه عقيب انقضاء شهر رمضان ليلة الفطر من شوّال.

فعلم بما ذكرنا سقوط هذه المعارضة وصحّة ما ذهبنا إليه في معنى الاية ، وأنّ كمال العدّة يراد به نفس شهر الصيام ، وإيراده على التمام.

يقال له : قد بيّنا أنّ أمره تعالى باكمال العدّة ليس المراد به صوموا ثلاثين على كلّ حال ، وإنّما يراد به صوموا ما وجب عليكم صيامه ، واقتضت الرؤية أو العدد الذي نصير إليه بعد الرؤية ، وأكملوا ذلك واستوفوه فمن صام تسعة وعشرين يوما وجب عليه لموجب الرؤية ، كمن صام ثلاثين يوما وجب عليه برؤية أو عدد عند عدم الرؤية ؛ لأنّهما قد أكملا العدّة وتمّماها.

٤٩٦

وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فلا حاجة بنا أن نجعل قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) مخصوصا بقضاء الفائت على العليل والمسافر.

ولو قال صاحب الكتاب في جواب ما حكاه من أنّ بعض حذاقهم قال : إنّ إكمال العدّة إنّما أمر به العليل أو المسافر : إنّ هذا تخصيص للعموم بغير دليل لكان أجود ممّا عوّل عليه ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) تمام في قضاء الفائت من شهر رمضان وفي استيفاء العدد وتكميله ، وإذا صرفه صارف إلى موضع دون آخر ، كان مخصّصا بغير دليل.

فأمّا قوله : «إن مندوبية التكبير إنّما هو عقيب انقضاء شهر رمضان لليلة الفطر وليس على قاضي ما فاته في علّة أو سفر تكبير ولا هو مندوب إليه» فغلط منه ؛ لأنّ التكبير وذكر الله تعالى وشكره على نعمه مندوب إليه في كلّ وقت وعلى كلّ حال ، وعقيب كلّ أداء العبادة وقضائها ، فكيف يدّعي أنّه غير مندوب إليه إلّا عقيب انقضاء شهر رمضان؟ (١).

[الثالث :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ على المصلّي التكبير في ليلة الفطر ، وابتداؤه من دبر صلاة المغرب إلى أن يرجع الإمام من صلاة العيد ، فكأنّه عقيب أربع صلوات أوّلهن المغرب من ليلة الفطر ، وآخرهنّ صلاة العيد ...

والحجّة ما تقدّم من الاجماع وطريقة الاحتياط ، وقوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) يدلّ على أنّ التكبير أيضا واجب في الفطر (٢).

ـ (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة : ١٨٦].

[إن سأل سائل] فقال : كيف ضمن الإجابة وتكفّل بها ، وقد نرى من يدعو فلا يجاب؟

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ٢٥.

(٢) الانتصار : ٥٧.

٤٩٧

الجواب : قلنا : في ذلك وجوه.

أوّلها : أن يكون المراد بقوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) أي أسمع دعوته ؛ ولهذا يقال للرجل : دعوت من لا يجيب أي دعوت من لا يسمع. وقد يكون أيضا يسمع بمعنى يجيب ؛ كما كان يجيب بمعنى يسمع ؛ يقال : سمع الله لمن حمده ؛ يراد به : أجاب الله من حمده وأنشد ابن الأعرابيّ :

دعوت الله حتى خفت ألّا

يكون الله يسمع ما أقول

أراد يجيب ما أقول.

وثانيها : أنّه تعالى لم يرد بقوله : (قَرِيبٌ) من قرب المسافة ؛ بل أراد إنّني قريب بإجابتي ومعونتي ونعمتي ، أو بعلمي بما يأتي العبد ويذر ، وما يسّر ويجهر ، تشبيها بقرب المسافة ؛ لأن من قرب من غيره عرف أحواله ولم تخف عليه ؛ ويكون قوله : (أُجِيبُ) على هذا تأكيدا للقرب ؛ فكأنّه أراد : إنّني قريب قربا شديدا ، وإنّني بحيث لا يخفى عليّ أحوال العباد ؛ كما يقول القائل إذا وصف نفسه بالقرب من صاحبه والعلم بحاله : أنا بحيث أسمع كلامك ، وأجيب نداءك ، وما جرى هذا المجرى. وقد روي أنّ قوما سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له : أربّنا قريب فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وثالثها : أن يكون معنى هذه الآية أنّني أجيب دعوة الداعي إذا دعاني على الوجه الصحيح ، وبالشرط الذي يجب أن يقارن الدعاء ؛ وهو أن يدعو باشتراط المصلحة ؛ ولا يطلب وقوع ما يدعو به على كلّ حال ؛ ومن دعا بهذا الشرط فهو مجاب على كلّ حال ؛ لأنّه إن كان صلاحا فعل ما دعا به ؛ وإن لم يكن صلاحا لم يفعل لفقد شرط دعائه ، فهو أيضا مجاب إلى دعائه.

ورابعها : أن يكون معنى (دَعانِ) أي عبدني ، وتكون الإجابة هي الثواب والجزاء على ذلك ؛ فكأنّه قال : إنّني أثيب العباد على دعائهم لي ؛ وهذا ممّا لا اختصاص فيه.

وخامسها : ما قاله قوم من أنّ معنى الآية أنّ العبد إذا سأل الله تعالى شيئا في

٤٩٨

إعطائه صلاح فعله به وأجابه إليه ، وإن لم يكن في إعطائه إياه في الدنيا صلاح وخير لم يعطه ذلك في الدنيا ، وأعطاه إياه في الآخرة ، فهو مجيب لدعائه على كلّ حال.

وسادسها : أنّه تعالى إذا دعاه العبد لم يخل من أحد أمرين : إمّا أن يجاب دعاؤه ، وإمّا أن يخار له بصرفه عمّا سأل ودعا ، فحسن اختيار الله له يقوم مقام الإجابة ، فكأنّه يجاب على كل حال.

وهذا الجواب يضعّف لأنّ العبد ربّما سأل ما فيه صلاح ومنفعة له في الدنيا ، وإن كان فيه فساد في الدين لغيره فلا يعطى ذلك ، لأمر يرجع إليه ، لكن لما فيه [من فساد غيره ، فكيف يكون مجابا مع المنع الذي] لا يرجع إليه منه شيء من الصلاح! اللهم إلّا أن يقال : إنّه دعا ؛ مشروط بأن يكون صلاحا ، ولا يكون فسادا ، وهذا ممّا تقدّم.

ومعنى قوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ،) أي فليجيبوني وليصدّقوا رسلي ، قال الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)

أي لم يجبه (٢).

ـ (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) [البقرة : ١٨٧].

[فيها أمور :

الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «لا اعتكاف إلّا بصوم».

عندنا : أن الصوم من شرط صحّة الاعتكاف.

ووافقنا على ذلك أبو حنيفة ، ومالك (٣). قال والشافعي : يصح الاعتكاف بغير صوم وفي الأوقات التي لا يصحّ فيها الصوم ، مثل يوم النحر ، والفطر ، والتشريق (٤).

__________________

(١) مطلع قصيدة كعب بن سعد الغنوي ؛ وهي في أمالي القالي : ٢ / ١٤٨ ـ ١٥١.

(٢) الأمالي ، ١ : ٥٦٦.

(٣) المجموع ، ٦ : ٤٨٧.

(٤) نفس المصدر.

٤٩٩

دليلنا بعد الإجماع المتقدّم : قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) والاعتكاف : لفظ شرعي مفتقر إلى بيان ، والله تعالى لم يبينه في كتابه ، واحتجنا إلى بيان من غيره ، فلمّا وجدنا النبيّ لم يعتكف إلّا بصوم كان فعله ذلك بيانا للجملة المذكورة في الآية ، وفعله إذا وقع على وجه البيان كان كالموجود في أوجه الآية (١).

[الثاني :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الاعتكاف لا ينعقد إلّا في مسجد صلّى فيه إمام عدل بالناس الجمعة ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الكوفة ومسجد البصرة ...

والحجة لنا ـ مضافا إلى الاجماع ـ طريقة الاحتياط وبراءة الذمة ؛ لأنّ من أوجب على نفسه الاعتكاف بنذر يجب أن يتيقّن براءة ذمّته منه ممّا وجب عليه ، ولا يحصل له اليقين إلّا بأن يعتكف في المواضع التي عيّناها ؛ ولأنّ الاعتكاف حكم شرعي ويرجع في مكانه إلى الشرع ، ولا خلاف في الأمكنة التي عيّناها مشروعة فيه ، ولا دليل على جوازه فيما عداها ، ولا اعتراض على ما قلناه بقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ)؛ لأنّ هذا اللفظ مجمل ، ولفظ المساجد هاهنا ينبئ عن الجنس لا عن الاستغراق ، ولا منافاة بينه وبين مذهبنا.

ويجوز أن يكون وجه تخصيص هذه المساجد الأربعة لتأكّد حرمتها وفضلها وشرفها على غيرها (٢).

[الثالث :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيام ، ومن عداهم من الفقهاء يخالفون في ذلك ؛ لأنّ أبا حنيفة والشافعي يجوّزان أن يعتكف يوما واحدا (٣).

وقال مالك : لا إعتكاف أقلّ من عشرة أيام (٤) ، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.

__________________

(١) الناصريات : ٢٩٩.

(٢) الانتصار : ٧٢.

(٣) المحلّى ، ٥ : ١٨٠.

(٤) نفس المصدر.

٥٠٠