تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

الحكيم قوما بلغتهم وجرّد كلامه عمّا يقتضي العدول عن ظاهره ، فلا بدّ من أن يريد به ما تقتضيه المواضعة في تلك اللّفظة الّتي استعملها.

ومن شأن الحقيقة ان تجري في كلّ موضع تثبت فيه فائدتها من غير تخصيص ، إلّا أن يعرض عارض سمعي يمنع من ذلك ، هذا إن لم يكن في الأصل تلك الحقيقة وضعت لتفيد معنى في جنس دون جنس ، نحو قولنا : أبلق ، فإنّه يفيد اجتماع لونين مختلفين في بعض الذّوات دون بعض ؛ لأنهم يقولون : فرس أبلق ، ولا يقولون : ثور أبلق.

وإنّما أوجبنا اطّراد الحقيقة في فائدتها ؛ لأنّ المواضعة تقتضي ذلك ، والغرض فيها لا يتم إلّا بالاطّراد ، فلو لم تجب تسمية كلّ من فعل الضّرب بأنه ضارب ، لنقض ذلك القول بأنّ أهل اللّغة إنّما سمّو الضّارب ضاربا ، لوقوع هذا الحدث المخصوص الّذي هو الضرب منه.

وإنّما استثنينا المنع السمعي لأنّه ربما عرض في إجراء الاسم على بعض ما فيه فائدته مفسدة ، فيقبح إجرائه ، فيمنع السمع منه ، كما قلنا في تسميته تعالى بأنّه فاضل.

واعلم أنّ الحقيقة يجوز أن يقلّ استعمالها ، ويتغيّر حالها فيصير كالمجاز ، وكذلك المجاز غير ممتنع أن يكثر استعماله في العرف فيلحق بحكم الحقائق. وإنّما قلنا ذلك ، من حيث كان إجراء هذه الأسماء على فوائدها في الأصل ليس بواجب ، وإنّما هو بحسب الاختيار ، وإذا صحّ في أصل اللّغة التّغيير والتّبديل ، فكذلك في فرعها ، والمنع من جواز ذلك متعذّر. وإذا كان جائزا ، فأقوى ما ذكر في وقوعه وحصوله أنّ قولنا : غائط ، كان في الأصل اسم للمكان المطمئنّ من الأرض ، ثمّ غلب عليه الاستعمال العرفيّ ، فانتقل إلى الكناية عن قضاء الحاجة والحدث المخصوص ، ولهذا لا يفهم من إطلاق هذه اللفظة في العرف إلّا ما ذكرناه ، دون ما كانت عليه في الأصل. وأمّا استشهادهم على ذلك بالصلاة والصّيام ، وأنّ المفهوم في الأصل من لفظة الصلاة الدعاء ، ثمّ صار بعرف

١٢١

الشّرع المعروف سواه ، وفي الصيام الإمساك ، ثمّ صار في الشّرع لما كان يخالفه ، فإنّه يضعف ، من حيث أمكن أن يقال إن ذلك ليس بنقل ، وإنّما هو تخصيص ، وهذا غير ممكن في لفظة الغائط.

[الرابع : ما تعرف به الحقيقة]

وأقوى ما يعرف به كون اللفظ حقيقة هو نصّ أهل اللّغة ، وتوقيفهم على ذلك ، أو يكون معلوما من حالهم ضرورة.

ويتلوه في القوّة أن يستعملوا اللّفظ في بعض الفوائد ، ولا يدلّونا على أنّهم متجوّزون بها مستعيرون لها ، فيعلم أنّها حقيقة ، ولهذا نقول : إنّ ظاهر استعمال أهل اللّغة اللّفظة في شيء دلالة على أنّها حقيقة فيه إلّا أن ينقلنا ناقل عن هذا الظّاهر.

وقد قيل فيما يعرف به الحقيقة أشياء غيرها ، عليها ـ إذا تأمّلتها حقّ التأمّل ـ طعن ، وفيها قدح. وما ذكرناه أبعد من الشّبهة.

[الخامس : تحقيق معنى قولهم : المجاز لا يستعمل في غير مواضعه]

ويمضى في الكتب كثيرا أنّ المجاز لا يجوز استعماله إلّا في الموضع الّذي استعمله فيه أهل اللّغة من غير تعدّ له. ولا بدّ من تحقيق هذا الموضع فإنّه تلبيس.

والّذي يجب ، أن يكون المجاز مستعملا فيما استعمله فيه أهل اللّغة أو في نوعه وقبيله. ألا ترى أنّهم لمّا حذفوا المضاف ، وأقاموا المضاف إليه مقامه في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) (١) ، أشعرونا بأنّ

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

١٢٢

حذف المضاف توسّعا جائز ، فساغ لنا أن نقول : سل المنازل الّتي نزلناها ، والخيل الّتي ركبناها ، على هذه الطريقة في الحذف. ولمّا وصفوا البليد بأنّه حمار تشبيها له به في البلادة ، والجواد بالبحر تشبيها له به في كثرة عطائه ، جاز أن نصف البليد بغير ذلك من الأوصاف المنبئة عن عدم الفطنة ، فنقول : إنّه صخرة ، وإنّه جماد ، وما أشبه ذلك. ولمّا أجروا على الشيء اسم ما قارنه في بعض المواضع ، فقلنا مثل ذلك للمقارنة في موضع آخر. ألا ترى أنّهم قالوا : سل القرية في قرية معيّنة ، وتعدّيناها إلى غيرها بلا شبهة للمشاركة في المعنى ، وكذلك في النّوع والقبيل. وليس هذا هو القياس في اللّغة المطرح ، كما لم يكن ذلك قياسا في تعدّى العين الواحدة في القرية.

وبعد فإنّا نعلم أنّ ضروب المجازات الموجودات الآن في اللّغة لم يستعملها القوم ضربة واحدة في حال واحدة ، بل في زمان بعد زمان ، ولم يخرج من استعمل ذلك ـ ما لم يكن بعينه مستعملا ـ عن قانون اللّغة ، فكذلك ما ذكرناه (١).

[السادس : البحث في أقسام الخطاب وبيان مراتبه]

واعلم أنّ الخطاب إذا انقسم إلى لغويّ ، وعرفيّ ، وشرعيّ ، وجب بيان مراتبه وكيفيّة تقديم بعضه على بعض ، حتّى يعتمد ذلك فيما يرد منه تعالى من الخطاب.

وجملة القول فيه أنّه إذا ورد منه تعالى خطاب ، وليس فيه عرف ، ولا شرع ، وجب حمله على وضع اللغة ؛ لأنّه الأصل.

فإن كان فيه وضع ، وعرف ، وجب حمله على العرف دون أصل الوضع ؛ لأنّ العرف طار على أصل الوضع ، وكالنّاسخ له والمؤثّر فيه.

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ١٠.

١٢٣

فإذا كان هناك وضع ، وعرف ، وشرع ، وجب حمل الخطاب على الشّرع دون الأمرين المذكورين ، للعلّة الّتي ذكرناها ، ولأنّ الأسماء الشرعيّة صادرة عنه تعالى ، فتجري مجرى الأحكام في أنّه لا يتعدّى عنها.

واعلم أن الناس قد طولوا في أقسام الكلام ، وأورد بعضهم في أصول الفقه ما لا حاجة إليه.

[السابع : البحث في أقسام الكلام المفيد]

وأحصر ما قسّم الكلام المفيد إليه ، أنّه إمّا أن يكون خبرا أو ما معناه معنى الخبر. وعند التأمّل يعلم دخول جميع أقسام الكلام تحت ما ذكرناه ؛ لأنّ الأمر من حيث دلّ على أنّ الآمر مريد للمأمور به ، كان في معنى الخبر. والنهي إنّما كان نهيا ؛ لأن النّاهي كاره لما نهى عنه ، فمعناه معنى الخبر ، ولأنّ المخاطب غيره إمّا أن يعرّفه حال نفسه ، أو حال غيره ، وتعريفه حال غيره يكون بالخبر دون الأمر ، وتعريفه حال نفسه يكون بالأمر والنّهي ، وإن جاز أن يكون بالخبر.

[الثامن : في جواز الاشتراك ووقوعه]

واعلم أن المفيد من الأسماء إمّا أن يختصّ بعين واحدة ولا يتعدّاها ، أو يكون مفيدا لما زاد عليها. فمثال الأوّل قولنا : إله وقديم وما جرى مجرى ذلك ممّا يختصّ به القديم تعالى ولا يشاركه فيه غيره. فأمّا ما يفيد أشياء كثيرة فينقسم إلى قسمين : إمّا أن يفيد في الجميع فائدة واحدة ، أو أن يفيد فوائد مختلفة ، فمثال الأوّل قولنا : لون ، وإنسان. ومثال الثّاني قولنا : قرء ، وعين ، وجارية.

ومن خالف في جواز وقوع الاسم على مختلفين أو على ضدّين ، لا يلتفت إلى خلافه ، لخروجه عن الظّاهر من مذهب أهل اللّغة.

١٢٤

[التاسع : جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى]

واعلم أنّه غير ممتنع أن يراد باللفظة الواحدة في الحال الواحدة من المعبّر الواحد المعنيان المختلفان. وأن يراد بها أيضا الحقيقة والمجاز. بخلاف ما حكى عمّن خالف في ذلك من أبي هاشم وغيره. والّذي يدلّ على صحّة ما ذكرناه أنّ ذلك لو كان ممتنعا لم يخل امتناعه من أن يكون لأمر يرجع إلى المعبّر ، أو لما يعود إلى العبارة ، وما يستحيل لأمر يرجع إلى المعبّر ، تجب استحالته مع فقد العبارة ، كما أنّ ما صحّ لأمر يعود إليه ، تجب صحّته مع ارتفاع العبارة ، وقد علمنا أنّه يصحّ من أحدنا أن يقول لغيره لا تنكح ما نكح أبوك ، ويريد به لا تعقد على من عقد عليه ولا من وطئه. ويقول أيضا لغيره إن لمست امرأتك فأعد الطّهارة ، ويريد به الجماع واللّمس باليد. وإن كنت محدثا فتوضّأ ، ويريد جميع الأحداث. وإذا جاز أن يريد الضدين في الحالة الواحدة ، فأجوز منه أن يريد المختلفين. فأمّا العبارة فلا مانع من جهتها يقتضى تعذّر ذلك ؛ لأنّ المعنيين المختلفين قد جعلت هذه العبارة في وضع اللّغة عبارة عنهما ، فلا مانع من أن يرادا بها ، وكذلك إذا استعملت هذه اللفظة في أحدهما مجازا شرعا أو عرفا ، فغير ممتنع أن يراد بالعبارة الواحدة ؛ لأنّه لا تنافي ولا تمانع. وإنّما لا يجوز أن يريد باللّفظة الواحدة الأمر والنّهي ، لتنافي موجبيهما ؛ لأنّ الأمر يقتضي إرادة المأمور به ، والنّهى يقتضي كراهة المنهيّ عنه ، ويستحيل أن يكون مريدا كارها للّشيء الواحد على الوجه الواحد. وكذلك لا يجوز أن يريد باللّفظة الواحدة الاقتصار على الشيء وتعدّيه ؛ لأنّ ذلك يقتضي أن يكون مريدا للشيء وأن لا يريده.

وقولهم لا يجوز أن يريد باللفظة الواحدة استعمالها فيما وضعت له والعدول بها عمّا وضعف له ، ليس بصحيح ؛ لأنّ المتكلّم بالحقيقة والمجاز ليس يجب أن يكون قاصدا إلى ما وضعوه وإلى ما لم يضعوه ، بل يكفي في كونه متكلّما بالحقيقة ، أن يستعملها فيما وضعت له في اللّغة ، وهذا القدر كاف في

١٢٥

كونه متكلّما باللّغة ، من غير حاجة إلى قصد استعمالها فيما وضعوه. وهذه الجملة كافية في إسقاط الشّبهة (١).

[العاشر : في حدّ العلم وأقسامه]

واعلم أن العلم ما اقتضى سكون النفس. وهذه حالة معقولة يجدها الإنسان من نفسه عند المشاهدات ، ويفرّق فيها بين خبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن زيدا في الدّار وخبر غيره. غير أنّ ما هذه حاله ؛ لا بدّ من كونه اعتقادا يتعلّق بالشيء على ما هو به. وإن لم يجز إدخال ذلك في حدّ العلم ؛ لأنّ الحدّ يجب أن يميّز المحدود ، ولا يجب أن يذكر في جملة ما يشاركه فيه ما خالفه. ولئن جاز لنا أن نقول في حدّ العلم : إنّه اعتقاد للشيء على ما هو به مع سكون النفس ، ونعتذر ، بأنّا أبنّاه ، بقولنا اعتقاد ، من سائر الأجناس. وبتناوله المعتقد على ما هو به ، من الجهل ، وبسكون النفس ، من التقليد ، فألّا جاز أن نقول في حدّه عرض ، لبينه عن الجوهر ، ويوجب حالا للحيّ ، لبينه ممّا يوجب حالا للمحلّ. ويحلّ القلب ولا يوجد إلّا فيه ، لبينه ممّا يحلّ الجوارح.

والعلم ينقسم إلى قسمين ؛ أحدهما : لا يتمكّن العالم به من نفيه عن نفسه بشبهة إن انفرد ، وإن شئت قلت لأمر يرجع إليه ، وإن شئت قلت على حال من الحالات ، والقسم الآخر : يتمكّن من نفيه عن نفسه على بعض الوجوه.

والقسم الأول على ضربين : أحدهما : مقطوع على أنّه علم ضروري ومن فعل الله تعالى فينا ، كالعلم بالمشاهدات وكلّ ما يكمل به العقل من العلوم. والقسم الثاني : مشكوك فيه ويجوز أن يكون ضروريّا ومن فعل الله فينا ، كما يجوز أن يكون من فعلنا ، كالعلم بمخبر الإخبار عن البلدان والحوادث الكبار. وإنّما شرطنا ما ذكرناه من الشّروط ، احترازا من العلم المكتسب إذا قارنه علم

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ١٧.

١٢٦

ضروري ، ومتعلّقهما واحد. وأمّا العلم الّذي يمكن نفيه عن العالم على الشروط الّذي ذكرناها ، فهو مكتسب ، ومن شأنه أن يكون من فعلنا ، لا من فعل غيرنا فينا. وما بعد هذا من أقسام العلوم الضروريّة ، وما يتفرع عليه ، غير محتاج إليه [ههنا].

والنظر في الدلالة على الوجه الّذي يدلّ عليه ، يجب عنده العلم ويحصل لا محالة.

[الحادي عشر : في الظنّ والأمارة]

وأمّا الظنّ فهو ما يقوّى كون ما ظنّه على ما يتناوله الظنّ ، وإن جوّز خلافه. فالّذي يبيّن به الظّنّ التقوية والترجيح. ولا معنى لتحقيق كون الظنّ من غير قبيل الاعتقاد هيهنا ، وإن كان ذلك هو الصحيح ، لأنّه لا حاجة تمسّ إلى ذلك.

وما يحصل عنده الظنّ ، يسمّى أمارة.

ويمضى في الكتب كثيرا ، أنّ حصول الظنّ عند النّظر في الأمارة ليس بموجب عن النّظر ، كما نقوله في العلم الحاصل عند النّظر في الدلالة ، بل يختاره الناظر في الامارة لا محالة لقوّة الداعي.

وليس ذلك بواضح ؛ لأنّهم إنّما يعتمدون في ذلك على اختلاف الظنون من العقلاء والأمارة واحدة ، وهذا يبطل باختلاف العقلاء في الاعتقادات والدلالة واحدة. فإن ذكروا اختلال الشروط وأنّ عند تكاملها يجب العلم ، أمكن أن يقال مثل ذلك بعينه في النظر في الأمارة (١).

__________________

(١) راجع أيضا الذخيرة : ١٥٤.

١٢٧

[الثاني عشر : في عدم جواز العمل بالظن

في أصول الفقه وأصول الديانات]

وإن قيل : ما دليلكم على أنّ تكليفكم في أصول الفقه إنّما هو العلم دون العمل التّابع للظنّ وإذا كنتم تجوّزون أن تكليفكم الشرايع تكليف يتبع الظنّ الراجح إلى الأمارة فألّا كان التكليف في أصول الفقه كذلك؟

قلنا : ليس كل أصول الفقه يجوز فيه أن يكون الحقّ في جهتين مختلفتين ؛ لأنّ القول بأنّ المؤثّر في كون الأمر أمرا إنّما هو إرادة المأمور به وأنّه لا تعلّق لذلك بصفات الفعل في نفسه وأنّه تعالى لا يجوز أن يريد إلّا ما له صفة زائدة على حسنه ولا ينسخ الشيء قبل وقت فعله وما أشبه ذلك وهو الغالب والأكثر فلا يجوز أن يكون الحقّ فيه إلّا واحدا كما لا يجوز في أصول الديانات أن يكون الحقّ إلّا في واحد.

اللهمّ إلّا أن يقول جوّزوا أن يكلّف الله تعالى من ظنّ بأمارة مخصوصة تظهر له أنّ الفعل واجب ، أن يفعله على وجه الوجوب ، ومن ظنّ بأمارة أخرى أنّه ندب ، أن يفعله على هذا الوجه ، وكذلك القول في الخصوص والعموم ، وسائر المسائل ؛ لأنّ العمل فيها على هذا الوجه هو المقصود دون العلم ، واختلاف أحوال المكلّفين فيه جائز ، كما جاز في فروع الشريعة.

فإذا سئلنا على هذا الوجه ، فالجواب أنّ ذلك كان جائزا ، لكنّا قد علمنا الآن خلافه ؛ لأنّ الأدلّة الموجبة للعلم قد دلّت على أحكام هذه الأصول ، كما دلّت على أصول الديانات ، وما إليه طريق علم لا حكم للظنّ فيه ، وإنّما يكون للظنّ حكم فيما لا طريق إلى العلم به ، ألا ترى أنّنا لو تمكنّا من العلم بصدق الشهود لما جاز أن نعمل في صدقهم على الظنّ ، وكذلك في أصول العقليّات. لو أمكن أن نعلم أنّ في الطّريق سبعا ، لما علمنا على قول من نظنّ صدقه من المخبرين عن ذلك ، وإذا ثبتت هذه الجملة ، وعلمنا أنّ على هذه الأصول أدلّة

١٢٨

يوجب النظر فيها العلم ، لم يجز أن نعمل فيما يتعلّق بها على الظّنّ والأمارات ، ومعنا علم وأدلّة.

وأيضا فلو كانت العبادة وردت بالعمل فيها على الظنون لوجب ان يكون على ذلك دليل مقطوع به ، كما نقول لمن ادّعى مثل ذلك في الأحكام الشرعيّة ، وفي فقد دلالة على ذلك صحّة ما قلناه.

وأيضا فليس يمكن أن يدّعى أن المختلفين يعذر بعضهم بعضا في الخلاف الجاري في هذه الأصول ، ويصوّبه ، ولا يحكم بتخطئته ، كما أمكن أن يدّعى ذلك في المسائل الشّرعيّة ، فإنّ من نفى القياس في الشريعة ، لا يعذر مثبتيه ، ولا يصوّبه ، ومن أثبته ، لا يعذر نافيه ، ولا يصوّبه ، وكذلك القول في الإجماع وأكثر مسائل الأصول (١).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٤.

١٢٩

[المقدّمة الثانية]

باب الكلام في العموم والخصوص وألفاظهما

[وفيها أمور :

الأوّل

تمهيد :] اعلم أنّ العموم ما تناول لفظه شيئين فصاعدا ، والخصوص ما تناول شيئا واحدا ، وقد يكون اللّفظ عموما من وجه وخصوصا من وجه آخر ؛ لأنّ القائل إذا قال : ضربت غلماني ، وأراد بعضهم ، فقوله عموم ، لشموله ما زاد على الواحد ، وخصوص ، من حيث أراد بعض ما يصحّ أن يتناوله هذا اللّفظ.

وقولنا «عموم وخصوص» يجري مجرى قليل وكثير في أنّه يستعمل بالإضافة ، فقد يكون الشيء الواحد قليلا وكثيرا بإضافتين مختلفتين ، وقد يثبت عموم لا خصوص فيه ، وهو ما أريد به الاستيعاب والاستغراق ، وقد يثبت أيضا خصوص لا عموم فيه ، وهو الّذي يراد به العين الواحدة ، كما يثبت قليل ليس بكثير ، وهو الواحد ، وكثير ليس بقليل ، وهو ما عم الكلّ ، ومع الإضافة في الأمرين يختلف الحال.

وليس في الكلام عندنا لفظ وضع للاستغراق فإن استعمل فيما دونه كان مجازا ، وسندلّ على ذلك.

والألفاظ الموضوعة للعموم على سبيل الصّلاح على ضربين :

فمنها : ما يصحّ تناوله للواحد ولكلّ بعض وللكلّ على حدّ واحد ، وهو حقيقة في كلّ شيء من هذه الأمور ، كلفظة «من» إذا كانت نكرة في الشّرط أو

١٣٠

الاستفهام ، وتختصّ العقلاء ، ولفظة «ما» فيما لا يعقل ؛ فإنّ حكمها فيما ذكرناه كحكم «من» ، وهكذا حكم «متى» في الأوقات ، و «أين» في الأماكن.

والضرب الثّاني : ما يتناول الكلّ صلاحا ، ويتناول البعض وجوبا ، ولا يستعمل فيما نقص عن ذلك البعض ، مثل ألفاظ المجموع ، بألف ولام أو بغيرهما كقولنا : رجال والرجال ومسلمون والمسلمون ، فهذه ألفاظ تتناول كلّ الرجال وجميع المسلمين صلاحا ، إذا لم يكن بين المخاطب والمخاطب عهد ينصرف ذلك إليه ، ولثلاثة بغير أعيانهم وجوبا ، ولا يجوز أن يستعمل في الواحد ولا الاثنين ألبتّة على سبيل الحقيقة.

فأمّا ألفاظ الجنس مثل قولنا الذهب والفضّة والرقيق والنساء والناس فهي على ضربين.

أحدهما لا يجوز أن يراد به عموم ولا خصوص ، ولا يتصوّران في مثله ، وإنّما يراد به محض الجنسيّة الّتي تميّزت من غيرها كقولنا ذهب وفضّة ورقيق ؛ فإنّ القائل إذا قال : الذّهب أحبّ إليّ من الفضّة ، وادّخار العين أولى من ادّخار الورق ، فلا عموم يتصوّر في قوله ولا خصوص ، بل الإشارة إلى الجنسيّة من غير اعتبار لتخصيص ولا تعميم ، وكذلك إذا قال : استخدام الرقيق أحمد من استخدام الأحرار.

وأمّا لفظة الناس والنساء فقد يراد بهما في بعض المواضع المعنى الّذي ذكرناه من الجنسيّة من غير عموم ولا خصوص وقد تكون في موضع محتملة للعموم والخصوص ، كما قلناه في ألفاظ الجموع المشتقّة من الأفعال ، مثال القسم الأوّل قول القائل : فلان يجبّ النّساء ويميل إلى عشرتهن ، والناس خير من الجانّ ، ومثال الثّاني لقيت النساء ، وجاءني الناس. وأبو هاشم يوافقنا فيما ذكرناه من ألفاظ الجنس خاصة ، وإنّما أبو عليّ هو الذّاهب إلى استغراق ألفاظ الجنس للكلّ.

فأمّا استعمال لفظ العموم في المعاني نحو قولهم : عمّهم الخصب أو

١٣١

الجدب أو المرض أو الصحّة فالأشبه أن يكون مستعارا مشبّها بغيره ؛ لأنّا لا نفهم من إطلاق قولنا عموم وخصوص بالعرف المستقرّ إلّا ما يعود إلى الألفاظ.

ومن خالفنا من المتكلّمين والفقهاء يقول في كلّ ما قلنا : «انه يستغرق من هذه الألفاظ صلاحا» : «انه يستغرق وجوبا». وسيجيء الكلام في ذلك بعون الله ومشيّته (١).

[الثاني :] فصل في ذكر الدلالة على أنه ليس للعموم المستغرق

لفظ يخصه واشتراك هذه الألفاظ الّتي يدّعى فيها الاستغراق

الّذي يدلّ على ذلك أنّ كلّ لفظة يدّعون أنّها للاستغراق تستعمل تارة في الخصوص ، وأخرى في العموم ، ألا ترى أنّ القائل إذا قال : من دخل داري أهنته أو أكرمته ، لا يراد به إلّا الخصوص ، وقلّما يراد به العموم ، ويقول : لقيت العلماء ، وقصدت الشرفاء ، وهو يريد العموم تارة ، والخصوص أخرى ، وهذا معلوم ضرورة ، ممّا لا يقع في مثله خلاف ، والظاهر من استعمال اللفظة في شيئين أنّها مشتركة فيهما ، وموضوعة لهما ، إلّا أن يوافقونا ، أو يدلّونا بدليل قاطع على أنهم باستعمالها في أحدهما متجوّزون ، وهذه الجملة تقتضي اشتراك هذه الألفاظ ، واحتمالها العموم والخصوص ، وهو الذي اعتمدناه.

فإن قيل : دلّوا على أنّ بنفس الاستعمال تعلم الحقيقة ، وهذا ينتقض بالمجاز ؛ لأنّهم قد استعملوه ، وليس بحقيقة ، ثمّ دلّوا على أنّهم استعملوا هذه الألفاظ في الخصوص على حدّ ما استعملوها في العموم ؛ فإنّا نخالف في ذلك ، ونذهب إلى أنّ كيفيّة الاستعمال مختلفة.

قلنا : أمّا الّذي يدلّ على الأوّل فهو أن لغتهم إنّما تعرف باستعمالهم ، وكما أنّهم إذا استعملوا اللّفظة في المعنى الواحد ولم يدلونا على أنّهم متجوّزون ،

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ١٩٧.

١٣٢

قطعنا على أنّها حقيقة فيه ، فكذلك إذا استعملت في المعنيين المختلفين.

ويوضح ذلك أنّ الحقيقة هي الأصل في اللغة ، والمجاز طار عليها ، بدلالة أنّ اللفظة قد تكون لها حقيقة في اللّغة ولا مجاز لها ، ولا يمكن أن يكون مجاز لا حقيقة له ، فإذا ثبت ذلك ، وجبت أن يكون الحقيقة هي الّتي يقتضيها ظاهر الاستعمال ، وإنّما ينتقل في اللّفظ المستعمل إلى أنّه مجاز بالدلالة ، وأمّا المجاز فلا يلزم على ما ذكرناه ، لأنّ استعمال المجاز لو تجرّد عن توقيف أو دلالة على أنّ المراد به المجاز والاستعارة ، لقطعنا به على الحقيقة ، لكنّا عدلنا بالدلالة عمّا يوجبه ظاهر الاستعمال ، ألا ترى أنّه لا أحد خالط أهل اللغة إلّا وهو يعلم من حالهم ضرورة أنّهم إنّما سمّوا البليد حمارا والشّديد أسدا على سبيل التشبيه والمجاز ، فكان يجب أن يثبت مثل ذلك في إجراء لفظ العموم على الخصوص.

وأمّا المطالبة لنا بان ندلّ على أنّ كيفيّة الاستعمال واحدة ؛ فإنّا لم ندّع ذلك في استدلالنا فيلزمنا الدلالة عليه ، وإنّما ادعينا الاستعمال ، ولا شبهة فيه ، ومن ادّعى أن كيفيّة الاستعمال مختلفة ، فعليه الدلالة.

على أنّا نقول لمن ادّعى اختلاف كيفيّة الاستعمال : أتريد بذلك أنّ الصيغة الّتي يراد بها العموم لا تستعمل على صورتها في الخصوص ، أم تريد أنّ اللّفظ يستعمل مجرّدا في العموم ، وفي الخصوص يفتقر إلى قرينة ودلالة.

والأوّل : يفسد بأنّا ندرك الصيغة متّفقة عند استعمالها في الأمرين ، ولو اختلفتا لأدركنا هما كذلك ، وقد بيّنّا في هذا الكتاب أنّ نفس الصّيغة الّتي يراد بها العموم كان يجوز أن يراد بها الخصوص (١) ، حيث تكلّمنا في أن ما يوجد أمرا كان يجوز أن يوجد نفسه ولا يكون أمرا.

على أنّ أكثر مخالفينا في العموم يذهبون إلى أن لفظ العموم إذا أريد به الخصوص كان مجازا ، وعندهم أنّ اللفظ لا يكون مجازا إلّا إذا استعمل على صورته وصيغته فيما لم يوضع له.

__________________

(١) راجع الذريعة ، ١ : ٣٨.

١٣٣

وأمّا القسم الثاني : فهو محض الدّعوى ، وبناء على المذهب الّذي نخالف فيه ، فكأنّهم قالوا : أنّ اللفظ موضوع في اللغة على الحقيقة للعموم ، وإنّما يتجوّز به في الخصوص ، وفي ذلك الخلاف ، وعليه يطالبون بالدلالة ، ولا فرق بينهم وبين من عكس هذا عليهم ، وقال لهم : بل هذه اللفظة موضوعة على الحقيقة للخصوص ، وإذا استعملت في العموم فبالقرينة والدلالة ، فقد ذهب قوم إلى ذلك ، وهم أصحاب الخصوص.

وقد مثّل أصحابنا حالنا وحال مخالفينا في هذه النّكتة بمن ادّعى أنّ زيدا في الدّار ، وادّعى خصمه أنّ زيدا وعمروا فيها ، وقالوا : من ادّعى أنّ عمروا مع زيد في الدّار فقد وافق في أنّ زيدا في الدّار ، وإنّما ادّعى أمرا زائدا على ما اتّفق مع خصمه عليه ، فالدلالة لازمة له ، دون خصمه ، فإذا قال خصومنا : الصّيغة لا تستعمل في الخصوص إلّا مع قرينة ، فقد سلّموا لنا الاستعمال ، وادّعوا أمرا زائدا عليه ، فالدلالة تلزمهم دوننا.

وقد يمكن الطّعن على هذا بأن نقول : أنتم تدّعون استعمالا عاريا من قرينة ؛ لأنّكم لو ادّعيتم محض الاستعمال للزمكم أن يكون المجاز كلّه حقيقة ؛ لأنّه مستعمل ، وإذا ادّعيتم نفي القرينة لزمكم أن تدلّونا ؛ فإنّا لا نسلّم ذلك ، كما يلزمنا أن ندلّ على إثبات القرينة إذا ادّعيناها ، وتجرون في هذا الحكم مجرى من ادّعى أنّ زيدا وحده في الدار ، وآخر يدّعى أنّ معه عمروا ، في أنّ كلّ واحد يلزمه الدّلالة ، واتّفاقهما على أن زيدا في الدار ليس باتّفاق على موضع الخلاف من التوحد أو الاقتران ، وهذا أجود شيء يمكن أن يسألونا عنه.

والجواب أنّ الأصل في الاستعمال التّعرّي من القرائن والدّلائل ؛ لأنّ الأصل هو الحقيقة الّتي لا تحتاج إلى قرينة ، وإنّما يحتاج المجاز للعدول به عن الأصل إلى مصاحبة القرينة ، فلمّا ادّعينا ما هو الأصل فلا دلالة علينا ، وادّعى خصومنا أمرا زائدا على الأصل فعليهم الدلالة.

وأيضا فإنّنا نتمكّن من الدّلالة على صحّة ما ادّعيناه من غير بناء على موضع

١٣٤

الخلاف ؛ لأنّا نقول : إن كانت القرينة هي العلم الضروريّ بتوقيف أهل اللسان على ذلك ، كما علمناه في حمار وأسد ، فكان يجب ألّا يقع خلاف في ذلك مع العلم الضروريّ ، كما لم يقع خلاف في أسد وحمار ، وان كانت القرينة مستخرجة بدليل وتأمّل ، وقد نظرنا فما عثرنا على ذلك ، ومن ادّعى طريقا إلى إثبات هذه القرينة فواجب عليه أن يشير إليه ، ليكون الكلام فيه ، وخصمنا لا يمكنه أن يدلّ على أنّ استعمال هذه اللفظة في الخصوص لا بدّ فيه من قرينة إلّا بأن يصحّ مذهبه في أنّ ذلك مجاز وعدول عن الحقيقة ، وهذا هو نفس المذهب.

وممّا يقال لهم : كيف وجب في كلّ شيء تجوّز أهل اللغة به من الألفاظ ، واستعملوه في غير ما وضع له ، كالتشبيه الذي ذكرناه في حمار وبليد ، وكالحذف في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) (١) و (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) ، والزّيادة في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) ، ونظائر ذلك وأمثاله ، وما يتفرّع إليه ويتشعّب ، أن يعلم أنّهم بذلك متجوّزون ، وقارنون إلى اللّفظ ما يدلّ على المراد ضرورة بغير إشكال ، ولا حاجة إلى نظر واستدلال ، ولم يجب مثل ذلك في استعمال صيغة العموم في الخصوص ، وهو ضرب من ضروب المجاز عندكم؟ فألّا لحق بهذا الباب كلّه في حصول العلم؟.

ويمكن أن يترتّب استدلالنا على هذه العبارة ، فنقول : قد ثبت بلا شكّ استعمال هذه اللفظة في العموم والخصوص ، وما وقّفنا أهل اللغة ولا علمنا ضرورة من حالهم مع المداخلة لهم أنّهم متجوّزون بها في الخصوص ، كما علمنا منهم ذلك في صنوف المجازات على اختلافها ، فوجب أن تكون مشتركة.

فإن قيل لنا : فلعلّ كونهم متجوّزين بها في الخصوص يعلم بالاستدلال ، دون الضّرورة ، فلم قصرتم هذا العلم على الضّرورة.

قلنا : كيف وقف هذا الباب من المجاز على الاستدلال ولم يقف غيره من

__________________

(١) سورة الفجر ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة شورى ، الآية : ١١.

١٣٥

ضروب المجازات في كلامهم على الاستدلال ، لولا بطلان هذه الدّعوى ، وفي خروج هذا الموضع عن بابه دلالة على خلاف مذهبكم ، وليس تجد هذا الدّليل مستقصى في شيء من كتبنا السّالفة على هذا اللحدّ ، فقد بلغنا غايته.

دليل آخر : وممّا يدلّ أيضا على صحّة مذهبنا أنّ استفهام المخاطب بهذه الألفاظ عن مراده في خصوص أو عموم يحسن من المخاطب بغير ريب وموضوع الاستفهام إذا وقع طلبا للعلم والفهم يقتضي احتمال اللّفظ واشتراكه بدلالة أنّه لا يحسن دخوله فيما لا احتمال فيه ولا اشتراك ألا ترى أنّه لا يحسن أن يستفهم عن مراده من قال : ركبت فرسا ، ولبست ثوبا ، لاختصاص اللّفظ وفقد احتماله ، ويحسن أن يستفهم من قال : رأيت عينا ، عن أيّ عين رأى؟ وهذا الجملة تقتضي اشتراك هذه الألفاظ بين الخصوص والعموم.

ومن خالف في حسن الاستفهام بحيث ذكرناه ، لا يخلو من أن يكون قائلا بحسن الاستفهام في موضع من الكلام ، أو ليس يحسن أصلا ، فإن ذهب إلى الأوّل ؛ قيل له : بيّن لنا حسن الاستفهام أين شئت من الكلام ، حتّى نسوّي بينه وبين حسنه في الخصوص والعموم ، وإن أراد الثّاني ، كان مكابرا دافعا للضّرورة ، فكيف يقال ذلك ، وقد جعل أهل اللغة الاستفهام ضربا مفردا من ضروب الكلام ، وخصّوه بحروف ليست لغيره.

فإن قيل : وجه حسن الاستفهام في ألفاظ العموم تجويز المخاطب أن يريد مخاطبه الخصوص على وجه المجاز.

قلنا : هذا يقتضي حسن الاستفهام في كلّ خطاب ، عن كلّ حقيقة ؛ لأنّ هذه العلّة موجودة ، وقد علمنا اختصاص حسن الاستفهام بموضع دون غيره ، فعلمنا أنّ علّته خاصّة غير عامّة.

وبعد ، فإنّ المخاطب إذا كان حكيما ، وخاطب بالمجاز ، فلا بدّ من أن يدلّ من يخاطبه على أنّه عادل عن الحقيقة ، وهذان الوجهان يسقطان قولهم : انّ وجه حسن الاستفهام أن السّامع يجوّز أن يكون مخاطبه أراد المجاز ، ودلّ عليه بدلالة خفيت على السامع.

١٣٦

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الاستفهام إنّما يحسن مع اقتران اللّفظ ، لا مع إطلاقه.

قلنا : اللّفظ الوارد لا يخلو من اقسام ثلاثة : إمّا أن يرد مطلقا ، أو مقترنا بما يقتضي العموم ، أو يقترن بما يقتضي الخصوص ، ومع الوجهين الآخرين لا يحسن الاستفهام ، لحصول العلم بعموم أو خصوص ، فثبت أنّه إنّما يحسن مع الإطلاق.

فإن قيل : الاستفهام يحسن على أحد وجهين : إمّا أن يكون المخاطب يعتقد أنّ لفظ العموم مشترك ، فيستفهم لذلك ، أو يكون المخاطب قد يعتقد ذلك ، فيحسن استفهامه ، لتجويز أن يعدل من معنى إلى معنى في الألفاظ المشتركة.

قلنا : كلامنا إنّما هو في حسن استفهام أهل اللّغة ، ومن لا مذهب له في العموم والخصوص يعرف.

وبعد ، فقد يحسن استفهام من لا يعرف مذهبه في هذا الباب ، ويستحسن الناس أيضا استفهام من يرونه يستفهم عن هذا الألفاظ ، وإن لم يعرفوا شيئا ممّا ذكر في السؤال.

فإن قيل : هذا الطريقة تقتضي اشتراك جميع الألفاظ ؛ لأنّه يحسن ممّن سمع قائلا يقول : ضربت أبي ، أو شتمت الأمير ، أن يقول مستفهما أباك؟ الأمير؟ فيجب بطلان الاختصاص في الألفاظ.

قلنا : الاستفهام إنّما يطلب به المعرفة وقد يرد بصورته ما ليس باستفهام فقول القائل : أباك! الأمير! إنّما هو استكبار واستعظام وليس باستفهام ، ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أضربت أباك أم لم تضربه؟

فإن قيل : فقد يستفهم من قال : «صمت شهرا» ، و «له عندي عشرة» ، عن كمال الشّهر ، والعشرة ، وكذلك إذا قال : «لقيت الأمير» و «جاءني فلان» ، يحسن أن يقال لقيت الأمير نفسه؟ أو جاءك فلان بنفسه؟

قلنا : أمّا لفظة شهر ، فإنّها تقع على الثلاثين ، وعلى التّسعة وعشرين ، وهو

١٣٧

في الشّريعة والعرف اسم للأمرين ، فالاستفهام في موضعه ، وقد أجرى قوم العشرة هذا المجرى ، وعوّلوا على قوله سبحانه : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (١) والأجود أن يقال : أنّ أحدا لا يستحسن استفهام حكيم إذا أطلق قوله : «عندي عشرة» عن كمالها ونقصانها.

ومن قال لمن يسمعه يقول : «جاءني الأمير» : أجاءك الأمير بنفسه! ليس بمستفهم ، وإنّما هو مستكبر مستعظم ، كما تقدّم ، ولا يجوز أن يقال في غير الأمير ومن جرى مجراه ذلك إلّا على سبيل الاستفهام ، دون التّعجّب والاستكبار ، والتأمّل يكشف عن ذلك.

ووجدت بعض من يشار إليه في أصول الفقه (٢) يطعن على هذا الدليل بأنّ الاستفهام في ألفاظ العموم إنّما حسن طلبا للعلم الضّروريّ ، أو لقوّة الظنّ بالامارات.

وهذا يقتضي حسن الاستفهام في كلّ كلام ، وعن كلّ حقيقة ، لعموم هذه العلّة.

[أدلّة القائلين بالعموم والجواب عنها]

وقد تعلّق القائلون بالعموم بأشياء :

أوّلها : أنّ المستفهم لغيره بقوله : من عندك؟ يحسن أن يجاب بذكر آحاد العقلاء وجماعتهم ، ولا عاقل إلّا ويصحّ أن يكون مجيبا بذكره ، ولا يصحّ أن يجيبه بذكر البهائم ، فلولا استغراق اللفظ ، لما وجب هذا الحكم ، ولجاز في بعض الأحوال أن يكون الجواب عنها بذكر بعض العقلاء جاريا مجرى الجواب بذكر بعض البهائم. وأكّدوا هذه الطّريقة بأن قالوا : إنّما عدلوا عن الاستفهام عن

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٦.

(٢) هو أبو الحسين البصري ، راجع المعتمد ، ١ : ٢١٧ و ٢١٨

١٣٨

كلّ شخص باللفظ الموضوع له ، حتّى يقولوا : أزيد عندك؟ أفلان عندك؟ ويعدّوا كلّ عاقل ، لاستطالة ذلك ، فاختصروا بالعدول إلى لفظة من ، فيجب أن تقوم في الغرض مقام الاستفهام عن كلّ عاقل باسمه ، وقالوا في عموم لفظة ما مثل ذلك.

وثانيها : أن القائل إذا قال : «من دخل داري ضربته» حسن أن يستثني كلّ عاقل من هذه الجملة ، ومن شأن الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته بدلالة قبح استثناء البهائم من هذه الجملة ، لما لم يجب دخولها فيه.

وثالثها : أنّ الاستغراق معنى معقول لأهل اللّغة ، وممّا تدعوهم الدّواعي إلى الاخبار عنه ، فلا بدّ أن يضعوا له عبارة تنبىء عنه ، كما فعلوا ذلك في كلّ شيء عقلوه من المعاني ، ودعتهم الدّواعي إلى الاخبار عنه ، وإذا وجب ان يضعوا عبارة ، فلا شيء من الألفاظ بذلك أولى من الألفاظ التي نذهب إلى عمومها.

ورابعها : أنّ العموم قد أكّد بتأكيد معيّن ، وكذلك الخصوص ، فكما اختلف التأكيدان في وضع اللغة لا بالقصد ، فكذلك يجب في المؤكّد.

وخامسها : أن لفظة «من» لا بدّ لها من حقيقة في وضع اللّغة ، وإذا لم يجز أن تكون موضوعة لبعض من العقلاء معيّن أو غير معيّن ، ولا لجميعهم على البدل ، وجب أن يكون الجميع على الاستغراق.

وسادسها : أنّا قد علمنا أنّ كلّ من أراد أن يخبر عن الاستغراق لا بدّ له من استعمال هذا الألفاظ الّتي نذهب إلى أنّها مستغرقة ، فيجب أن تكون موضوعة له ؛ لأنّه لا مندوحة عنها ، وجرى ذلك مجرى كلّ الحقائق الّتي يفزع فيها إلى العبارات الموضوعة لها.

والجواب عمّا ذكروه أوّلا : أنّكم قد اقتصرتم في قاعدة هذه الشبهة على الدّعوى ، ونحن لا نسلّم لكم أنّ من استفهم بلفظة «من» ولم يعرف من قصد المخاطب بعادة أو قرينة أنّه أراد الشّمول يحسن أن يجيبه بذكر كلّ عاقل وإنّما

١٣٩

يحسن أن يجيبه بذلك إذا علم عموم استفهامه بطريق منفصل ، فما الدّليل على ما ادّعيتموه.

والّذي يوضح ما ذكرناه أنّه يحسن إذا قيل له : «من عندك» أن يقول : أمن النساء أو الرجال؟ ومن الأحرار أو العبيد؟ وكذلك إذا قيل له : ما أكلت؟ يقول : أمن الحلو أو الفاكهة؟ ومن كذا أو كذا؟ وهذا يدلّ على اشتراك اللفظ بين العموم والخصوص.

وأمّا قولهم : «جاز أن يكون ذكر بعض العقلاء كذكر بعض البهائم» فباطل ، وذلك أنّ لفظة «من» عندنا وإن لم تكن موضوعة لوجوب استغراق العقلاء ، فهي تصلح لأن يقصد بها إلى الاستفهام عن جميعهم ، كما يصلح أن يقصد بها إلى الاستفهام عن بعضهم ، وهي حقيقة في الأمرين ، ولا يصلح في وضع اللّغة للاستفهام بها عن البهائم.

وليس معنى قولنا أنّها لا تصلح هو أن المتكلّم لا يصحّ أن يقصد بها إلى ذلك ، فتكون عبارة عنه ؛ لأنّه لا لفظ من الألفاظ إلّا ويمكن أن يقصد به إلى كلّ معنى ، فيكون عبارة عنه ، وإن لم يصلح له ، ومعنى قولنا أنّها لا تصلح أي لا تكون حقيقة في ذلك متى قصد بها إليه ، ويكون المتكلّم بها عادلا عن مذهب أهل اللّغة.

فأمّا عدولهم عن ألفاظ الاستفهام إلى لفظة «من» فلأنّهم لا يبلغون بغيرها ما يبلغون بها ، وذلك أنّ الاستفهام بذكر كلّ واحد باسمه إمّا أن لا يمكن ، أو يطول ، وليس في سائر الألفاظ ما يصلح أن يقصد به إلى الاستخبار عن سائر العقلاء جمعا وافترقا إلّا لفظة «من» ، فهذه مزيّة لها على غيرها ظاهرة.

وممّا يبطل ما ادّعوه من قيامها مقام ذكر كل عاقل بعينه ، أنّه لو كان كذلك لقبح من الاستفهام عند ذكر هذه اللفظة ما يقبح مع ذكر كل عاقل بعينه ، وقد علمنا حسن أحد الأمرين وقبح الآخر.

والجواب عمّا ذكروه ثانيا : أنّ المعروف في الاستثناء من مذهب أهل اللغة

١٤٠