تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

خلاف ما ادّعيتم ، وإنّما يخرج الاستثناء عندهم ما جاز أو صح دخوله ، دون ما وجب ، وإنّما صحّ استثناء كلّ عاقل من قول القائل : من دخل داري أكرمته ، لصحّة دخوله تحت هذه اللفظة ، وصلاح هذه اللفظة للاشتمال على الكلّ ، ولمّا لم تصلح ان تشتمل على البهائم ، لم يحسن استثنائها ؛ لأنّ استثناء ما لا يصحّ دخوله تحت اللّفظ ليس يحسن.

فإن قالوا : الاستثناء من لفظ العموم كالاستثناء من ألفاظ الأعداد ، فكما أنّ الاستثناء من العدد يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله ، فكذلك الاستثناء من لفظ العموم.

قلنا : ليس بواجب أن يكون الاستثناء من الاعداد إذا كان يخرج ما لولاه لوجب دخوله أن يكون جميع الاستثناء كذلك ، وغير منكر أن يكون الاستثناء إنّما وضع لأن يخرج ما لولاه لصحّ دخوله في الكلام ، فإن أخرج في بعض المواضع ما لولاه ، لوجب دخوله ، فلأنّ فيما يجب دخوله الصحّة وزيادة ، وهذا كما يقول أهل التوحيد أن الحيّ من صحّ أن يكون عالما وقادرا ، فإذا عورضوا بالقديم سبحانه قالوا : الوجوب يشتمل على الصحّة ويزيد عليها.

وقد كان الخالدي وجماعة ممّن خالف في العموم سوّوا في الاستثناء بين ألفاظ العموم والأعداد ، والّذي ذكرناه أوّلا أولى بالاعتماد عليه.

فإن قالوا : هذا الّذي ذهبتم إليه يؤدّي إلى جواز وقوع الاستثناء في النكرات ، وقد علمنا فساده.

قلنا : إنّ الاستثناء من النكرات ينقسم إلى استثناء معرفة من نكرة ، وإلى استثناء نكرة من نكرة : فأمّا استثناء المعرفة من النكرة ، فلا شبهة في حسنه وجوازه عند أهل العربيّة ؛ لأنّهم يقولون : ألق قوما إلّا زيدا ، واضرب جماعة إلّا عبد الله. فأمّا استثناء النّكرة من النّكرات فقد قال أبو بكر ابن السّراج في كتابه المعروف بالأصول في النّحو : ولا يجوز أن يستثنى النّكرة من النكرات في الموجب ؛ لأنّه لا يجوز أن تقول جاءني قوم إلّا رجلا ؛ لأنّ هذا لا فائدة فيه ، قال : فإن خصّصته ، أو نعتّه ، جاز ، فهذا تصريح بحسن الاستثناء من النكرة.

١٤١

وممّا يبطل ما اعتمدوه في باب الاستثناء أنّ القائل إذا قال لغيره : ألق جماعة من العلماء ، واقتل فرقة من الكفّار ، حسن أن يستثنى ، كلّ واحد من العلماء والكفّار ، فيقول : إلّا فلانا ، وإلّا الفرقة الفلانيّة ، ولا أحد منهم إلّا ويحسن أن يستثنى ، فلو كان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ ، لوجب ان يكون قولنا «فرقة» و «جماعة» مستغرقا لجميع الكفّار والعلماء ، كما قالوا في لفظة «من» ، وليس هذا قولهم ، ولا قول أحد.

وبعد ، فإنّ أبا هاشم ومن ذهب مذهبه في أنّ ألفاظ الجنس والجموع لا تستغرق ، لا يستمرّ له دليل الاستثناء ؛ لأنّ حسن استثناء كلّ عاقل من قولنا : جاءني الناس ، واستثناء كلّ مشرك من قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) ، ظاهر ، وإن لم تكن هذه الألفاظ عنده مستغرقة كلفظة «من» و «ما» ، فما المانع من أن يكون الاستثناء من لفظة «من» و «ما» بهذه المنزلة.

والجواب عمّا ذكروه ثالثا : أنّ هذا منهم إثبات لغة بقياس واستدلال ، وذلك ممّا لا يجوز فيما طريقه اللغة.

وبعد ، فليس يخلو قولهم : لا بدّ أن يضعوا عبارة ، من أن يريدوا أنّه واجب عليهم أن يفعلوا ذلك ، أو لا بدّ أن يقع على سبيل القطع : فإن كان الأوّل ، فمن أين لهم أنّهم لا بدّ أن يفعلوا الواجب ، ولا يخلّوا به ، وليس في وجوب الشيء دلالة على وقوعه ، إلّا أن يتقدم العلم بأنّ من وجب عليه لا يترك الواجب ، وهذا ممّا لا يدّعى على أهل اللغة. وإن أرادوا القسم الثاني ، فيجب أن يكون القوم ملجئين إلى وضع العبارات ، وهذا بعيد ممّن بلغ إليه ، لأنّه لا وجه يلجىء القوم إلى ذلك ، لا سيّما وهو متمكّنون من إفهام ما عقلوه من المعاني ـ إذا قويت دواعيهم إلى إفهامها ـ بالإشارة على اختلاف أشكالها.

وقد كان يجب أيضا أن يقطع على ثبوت لفظ الاستغراق في كلّ لغة ، للعلّة الّتي ذكروها.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٥.

١٤٢

وكان يجب أيضا في كلّ من عقل معنى من المعاني ، وكان ممّا يجوز أن تدعوه الدّواعي إلى إفهامه ، والعبارة عنه ، أن يضع له عبارة ، وأن يكون ملجأ إلى وضعها ، ومعلوم خلاف ذلك ؛ لأنّا نعلم أنّ المتكلّمين الّذين قد استدلّوا ، فعلموا اختلاف الأكوان في الأماكن ، والاعتمادات في الجهات والطعوم والأراييح ، لم يضعوا للمختلف من ذلك عبارات ، وإن كانوا قد عرفوه ، وميّزوه ، ولا يمكن أن يقال فيهم ما يقال في أهل اللّغة : أنّهم إنّما لم يضعوا لسائر ما عدّدناه ، من حيث لم يعرفوه ، وإذا لم يضعوا ذلك ، ثبت أنّ أهل اللغة غير ملجئين إلى وضع الألفاظ لما عقلوه من المعاني ؛ لأنّ الإلجاء لا يختلف فيمن تكامل له شروطه.

وبعد ، فإنّا نصير إلى ما آثروه ، ونقول : قد وضعوا للاستغراق عبارة تنبىء عنه ، إلّا أنّه من أين لهم أنّها يجب أن تكون خاصة وغير مشتركة.

فإن قالوا : لا بدّ أن يضعوا عبارة خاصة ، كما فعلوه في كلّ ما عقلوه.

قيل لهم : ومن أين لكم أنّهم قد فعلوا ما ادّعيتموه في كلّ ما عقلوه ، ففيه الخلاف ؛ لأنّا نذهب إلى أنّ ما عقلوه على ضربين : منه ما وضعوا له عبارة تخصّه ، ومنه ما وضعوا له عبارة مشتركة بينه وبين غيره ، وما فيه عبارة تخصّه ينقسم ، ففيه ما تخصّه عبارة واحدة بلا مشاركة لغيره في سواها ، وفيه ما تخصّه عبارات كذلك ، وفيه ما يشارك غيره في عبارات ، وان اختصّه غيرها.

على أنّا ما وجدناهم يفعلونه في بعض المعاني ، وبعض الألفاظ لا يجب القياس عليه ، ولا القضاء بأنّهم فاعلون لمثله في كلّ موضع ؛ لأنّا قد رأيناهم وضعوا للمعنى الواحد عبارات كثيرة ، وأسماء عدّة ولم يجز لأحد أن يعلّل ذلك ، فيقول : إنّما فعلوه من حيث عقلوه ، فيجب أن يكون لجميع المعاني عدّة أسماء ، وكذلك لا يجب ما قالوه.

والجواب عمّا ذكروه رابعا : أنّا نقول بموجب اقتراحهم ؛ لأنّا نذهب إلى أنّ لفظ العموم في نفسه مخالف للفظ الخصوص ، ألا ترى أنّ لفظ العموم يتناول ما

١٤٣

زاد على الواحد ويتعدّى ، ولفظ الخصوص لا يتعدّى ؛ لأنّ لفظ العموم إن كان «من» و «ما» وما أشبههما ، فهذا اللّفظ عندنا يصلح لكلّ عدد من العقلاء ، قليل ، أو كثير ، ولجميعهم ، فهو مخالف في نفسه للفظ الخصوص ، وإن كان لفظ الجمع كقولنا المسلمون ، فهذا لفظ يجب تناوله لثلاثة ، ونشك فيما زاد على الثلاثة ، ويجوز في الزيادة الكثرة والقلّة ، وأن تبلغ إلى الاستغراق والشّمول ، فقد فارق عندنا لفظ العموم لفظ الخصوص ، كما افترقا في التأكيد.

والجواب عمّا ذكروه خامسا : أنّكم قد أخللتم في القسمة بالقسم الصحيح ، وهو أن يكون موضوعة لأن يعبّر بها عن كلّ العقلاء ، وعن بعضهم ، وآحادهم ، صلاحا لا وجوبا ، وقول بعضهم عقيب هذه الطريقة : «وهذا إنّما يدلّ على أن هذه اللفظة تتناول الكلّ ، فأمّا الّذي يدلّ على وجوب استغراقها فدليل الاستثناء وطريقة الاستفهام» من العجيب ؛ لأنّ الخلاف إنّما هو في وجوب الاستغراق ، وتناول هذه اللّفظة للكلّ على سبيل الاستغراق ، فأمّا في الصّلاح ، فلا خلاف فيه بيننا ، فنحتاج إلى تكلّف دلالة عليه. وهذا يدلّ على قلّة تأمّل معتمدي هذه الطريقة.

والجواب عمّا ذكروه سادسا : أن الفزع عند العزم على العبارة عن العموم إلى هذه الألفاظ إنّما يدلّ على أنّها موضوعة لهذا المعنى ، ونحن نقول بذلك ، ولا نخالف فيه ، فمن أين أنّها موضوعة لذلك على سبيل الاختصاص به من غير مشاركة فيه ، فإنّ القدر الّذي تعلّقتم به لا يدلّ على ذلك.

ثمّ نقول لهم : أما يجوز ـ على جهة التّقرير ـ أن يضع أهل اللّغة لفظة لمعنى من المعاني لا عبارة عنه سواها ، وتكون هذه اللفظة بعينها يحتمل أن تكون عبارة عن غيره على سبيل الاشتراك.

فإن قالوا : لا يجوز ذلك ، طولبوا بالدلالة عليه ، فإنّهم لا يجدونها ، وإن أجازوه ، انتقض اعتمادهم على الفزع في العموم إلى هذه العبارة ؛ لأنّه قد يمكن أن يفزع إليها وإن لم تكن خاصة له ، بل مشتركة بينه وبين غيره ، إذا كان لم يضعوا له عبارة سواها.

١٤٤

وتحقيق الخلاف في ذلك بيننا وبينهم أن ألفاظ العموم يدعون أنها موضوعة للاستغراق في اللّغة مختصّة به ، إذا استعملت فيما دونه كانت مجازا ، ونحن نقول : أنّ هذه اللّفظة تصلح في وضعهم للاستغراق وما دونه ، وهي في الأمرين حقيقة ، فمن تكلّم بها وأراد العموم ، كان متكلّما بها على حقيقتها ، وكذلك إذا أراد الخصوص ، فإنّها حقيقة فيه ، فكونها حقيقة في العموم لا نزاع فيه وإنّما الاختلاف في الاشتراك أو الاختصاص (١).

[الثالث] : فصل في أنّه تعالى يجوز أن يخاطب بالعموم

ويريد به الخصوص

إعلم أنّه لا شبهة في ذلك على مذهبنا في العموم ؛ لأنّا نذهب إلى أنّ ألفاظ العموم حقيقة في العموم والخصوص معا ، فمن أراد كلّ واحد من الأمرين بها ، فما خرج عن الحقيقة إلى المجاز. وعلى مذهب من خالفنا وقال : أنّ هذه الألفاظ موضوعة للاستغراق دون غيره ، وأنّها إذا استعملت في الخصوص ، كانت مجازا ، فكلام واضح ؛ لأنّ الله تعالى قد يجوز أن يخاطب بالمجاز ، كما يخاطب بالحقيقة ، وفي القرآن من ضروب المجاز ما لا يحصى. وأكثر ألفاظ القرآن الّتي ظاهرها العموم قد أريد بها الخصوص.

غير أنّه لا بدّ في الخطاب بالمجاز من وجه في المصلحة زائد على وجهها في الخطاب على جهة الحقيقة ، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك التعريض لزيادة الثواب ؛ لأنّ النظر في ذلك والتأمّل له يشقّ ، ويستحقّ به زيادة الثواب ، كما نقوله في حسن الخطاب بالمتشابه. ويجوز أن يعلم أنّه يؤمن عند ذلك ويطيع من لولاه لم يطع.

ولا يجوز أن تتساوى الحقيقة والمجاز عند الحكيم في جميع الوجوه ،

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٠١.

١٤٥

ويكون مخيّرا في الخطاب بأيّهما شاء ، على ما ظنّه بعض من تكلّم في هذا الباب ؛ لأنّ الخطاب بالمجاز عدول عن الحقيقة الموضوعة ، وتعدّ إلى ما لم يوضع ، وذلك لا يكون إلّا لغرض زائد. وربما يكون الكلام على وجه المجاز أفصح ، وأبلغ ، وأخصر ، فهذا وجه يجوز أن يكون مقصودا (١).

[الرابع] : فصل فيما يصير به العامّ خاصّا

اعلم أنّ اللفظ الموضوع لأن يستعمل في الاستغراق وفيما دونه إنّما يصير خاصّا وعبارة عن البعض دون الكلّ بقصد المخاطب به ، وكذلك متى كان عامّا ومتناولا للكلّ إنّما يصير كذلك لكون فاعله مريدا لذلك وقاصدا إليه ، فإذا قلنا : إنّ الدليل : إمّا العقليّ ، أو السّمعي ، خصّص اللّفظ ، فالمراد أنّه دلّ على كونه مخصوصا ، وعلى أنّ المخاطب به قصد إلى التخصيص ، فالدّليل دالّ على القصد الّذي هو المؤثّر في الحقيقة.

وكيف يجوز أن تكون الأدلّة هي المؤثّرة في تخصيص العامّ ، وقد يتقدّم ويكون من فعل غير المخاطب ، وإنّما يؤثّر في كلامه ، فيقع على وجه دون آخر ما كان من جهته.

وقد يتجوّز ، فيقال في الدليل : إنّه مخصّص ، والمعنى أنّه دلّ ذلك على التخصيص ، وربما اشتبه ذلك على من لا يتأمّله (٢).

[الخامس] : باب ذكر جمل الأدلة التي يعلم بها خصوص العموم

اعلم أنّ الأدلّة الدالّة على التخصيص على ضربين : متّصل بالكلام ، ومنفصل عنه.

__________________

(١) الذريعة ، ٢ : ٢٣٧.

(٢) الذريعة ، ١ : ٢٤٢.

١٤٦

والمتّصل قد يكون استثناء ، أو تقييدا بصفة. وقد ألحق قوم بذلك الشرط ، وهذا غلط ؛ لأنّ الشرط لا يؤثّر في زيادة ولا نقصان ، على ما كنّا قدّمناه ، ولا يجري مجرى الاستثناء والتقييد بصفة.

فأمّا المخصص المنفصل ، فقد يكون دليلا عقليّا وقد يكون سمعيّا ، فالسّمعي ينقسم إلى ما يوجب العلم وإلى ما يوجب الظّن ، كالقياس وأخبار الآحاد ، وليس يخرج عن هذه الجملة شيء من المخصّصات ، وتفصيل هذه الجملة يأتي بإذن الله تعالى ومشيّته (١).

[السادس] : فصل في تخصيص العموم بالاستثناء وأحكامه

اعلم أنّ الاستثناء لا يؤثّر في المستثنى منه حتّى يتّصل به ، ولا يكون منقطعا عنه ، وذلك ممّا لا خلاف فيه بين المتكلّمين والفقهاء وقد حكي عن ابن عبّاس رحمه‌الله خلاف فيه.

والّذي يدلّ على ذلك أنّ كلّ مؤثّر في الكلام لا بدّ من إتّصاله بما يؤثّر فيه ، كالشّرط والتّقييد بصفة ، فالاستثناء كذلك ، يبيّن ما ذكرناه أنّا لو سمعنا قائلا يقول بعد تطاول سكوته : «إلّا واحدا» لعددناه عابثا هاذيا ، كما نعدّه كذلك إذا اشترط ، أو قيّد بعد انقضاء الكلام وتراخيه بمدّة طويلة.

وأيضا لو جاز ما ذكروه لم يكن أحدنا حانثا في يمينه ؛ لأنّه يستثنى فيما بعد زمان ، فتخرج يمينه من أن تكون منعقدة.

ويجب على هذا القول ألّا يوثق بوعد ولا وعيد ، ولا يستقرّ أيضا حكم العقود ولا الإيقاعات من طلاق وغيره.

فأمّا طول الكلام ؛ فغير مانع من تأثير الاستثناء فيه ؛ لأنّه مع طوله متّصل غير منقطع ، ولذلك ينقطع الكلام بانقطاع النفس وما يجري مجراه ، ولا يخرجه

__________________

(١) الذريعة ، ٢ : ٢٤٣.

١٤٧

من أن يكون متّصلا ، وقد بيّنّا أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصحّ دخوله ، وذكرنا الخلاف فيه ، ودللنا على الصّحيح منه.

فأمّا استثناء الشّيء من غير جنسه ، فالأولى أن يكون مجازا ومعدولا به عن الأصل ؛ لأنّ من حقّ الاستثناء أن يخرج من الكلام ما يتناوله اللّفظ دون المعنى ، فإذا أخرج مالا يتناوله اللّفظ ، فيجب أن يكون مجازا ، كاستثناء الدّرهم من الدّنانير ، وقول الشاعر :

«وما بالربع من أحد إلّا أوارىّ» (١)

وإنّما جاز استثناء الدرهم من الدنانير على المعنى لا على اللّفظ ، لأنّه لمّا كان الغرض بالإقرار إثبات المال ، وكان الدنانير كالدّراهم في أنّها مال ، جاز استثناؤها منها.

والشاعر أراد ما بالربع من حالّ ولا ثاو به ، فاستثنى الأواريّ على هذا المعنى.

فأمّا قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ) (٢) ؛ فإنّما جاز استثناؤه من الملائكة وإن لم يكن منهم ، من حيث كان مأمورا بالسجود كما أمروا به ، فكأنّه تعالى قال : فسجد المأمورون بالسّجود إلّا إبليس.

فأمّا قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) (٣) ؛ فالتأويل المعروف أنّ «إلّا» هيهنا ليست استثناء ، وإنّما هي بمعنى لكن ، فكأنّه تعالى قال : لكن من قتله خطأ فحكمه كذا وكذا.

وقد ذكر أبو هاشم على مذهبه وجها قريبا ، وهو أنّ المراد أن مع كونه مؤمنا يقع منه الخطأ ، ولا يقع منه العمد.

ويمكن وجه آخر : وهو أنّه ليس له أن يقتل من يعلمه مؤمنا أو يظنّه كذلك

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني. خزانة الأدب ، ٤ : ٥.

(٢) سورة الحجر ، الآيتان : ٣٠ و ٣١.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٩٢.

١٤٨

إلّا خطأ ، بأن لا يحصل له أمارة ظنّ ولا طريقة علم. وقد جوّز الفقهاء ذلك فيمن يختلط بالكفّار من المؤمنين إذا لم يتميّز.

واختلفوا في استثناء الأكثر ممّا يتناوله المستثنى منه ، فمنع منه قوم ، والأكثر يجوّزونه.

والّذي يدلّ على جواز ذلك أنّ استثناء الأكثر في المعنى المقصود كاستثناء الأقلّ ، فيجب جوازه.

وأيضا ؛ فإنّ الاستثناء كالتخصيص في المعنى ، فإذا جاز أن يخصّص الأكثر جاز أن يستثنيه.

وليس لاحد أن يلزم على ذلك جواز استثناء الكلّ ؛ لأنّ ذلك يخرجه من كونه استثناء ؛ لأنّ من حقّه أن يخرج بعض ما تناوله الكلام.

وتعلّق المخالف بأنّه لم يجد أهل اللغة استثنوا الأكثر ، غير صحيح ؛ لأنّه ليس كلّ شيء لم يجدهم فعلوه لا يجوز فعله ، ألا ترى أنّا ما وجدناهم يستثنون النّصف وما قاربه ، وإن كان جائزا بلا خلاف ، وليس كلّ شيء هو الأحسن لا يجوز خلافه ؛ لأن الأحسن عندهم تقديم الفاعل على المفعول ، ثمّ لم يمنع ذلك من خلافه.

فإن قيل : أفيدلّ دخول الاستثناء على الجملة على عموم اللّفظ بعدما أخرجه.

قلنا : قد ذهب قوم إلى ذلك ، والصّحيح أنّه يبقى على ما كان عليه من الاحتمال ، وإنّما تأثير الاستثناء إخراج ما تناوله ، يوضح ذلك أن القائل إذا قال : «ضربت غلماني إلّا زيدا» يجوز له أن يقيم لنا أيضا دليلا على أنّه ما ضرب أيضا عمروا ، فالاحتمال باق (١).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٤٤.

١٤٩

[السابع] : فصل في تخصيص العموم بالشرط

اعلم أنّ الشرط وإن لم يكن مؤثّرا في نقصان عدد المشروط كالاستثناء ، وبذلك فصلنا بينهما فيما تقدّم ، فإنّه يخصّص المشروط من وجه آخر ؛ لأنّه إذا قال «اضرب القوم ، إن دخلوا الدّار» فالشرط لا يؤثّر في تقليل عدد القوم ، وإنّما يخصّص الضّرب بهذا الحال ؛ لأنّه لو أطلق لتناول الأمر بالضّرب على كلّ حال ، فتخصّص بالشرط ، ومن أمثلته قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (١) وقوله جلّ اسمه : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) (٢).

ولا فصل في الحكم الّذي ذكرناه بين تقدّم الشرط في صدر الكلام وبين تأخره.

ولا يمتنع أن يشترط الشيء بشروط كثيرة ، كما لا يمتنع أن يكون الشرط الواحد شرطا في أشياء كثيرة. وكلّما زيد في الشّرط زاد التخصيص.

ومن حقّ الشّرط أن يكون مستقبلا ، وكذلك المشروط.

والغاية تجري في هذا المعنى مجرى الشرط. وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (٣) معناه إلى أن يطهرن ، فإن طهرن فاقربوهن. وكذلك قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٤) (٥).

[الثامن] فصل في المطلق والمقيّد

اعلم أنّ التقييد هو مثل قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وقوله تعالى : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) (٦) فإذا ولي هذا التّقيد جملة واحدة ، فلا شبهة في تغيّر حكمها. والخلاف فيه متى ولي جملتين ، في رجوعه إليهما ـ إذا صحّ ذلك فيه ـ أو رجوعه إلى ما يليه ، كالخلاف في الاستثناء ، وقد تقدّم مشروحا.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٤٣.

(٢) سورة المجادلة ، الآية : ٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ٢٩.

(٥) الذريعة ، ١ : ٢٧٣.

(٦) سورة النساء ، الآية : ٩٢.

١٥٠

ولا خلاف في أنّ الحكم المقيّد إذا خالف الحكم المطلق ، ولم يكن من جنسه ، فإنّ التّقييد لا يتعدّى إلى المطلق. وإنّما اختلف فيما قيّد وأطلق ، والجنس واحد ، كالكفّارات ؛ لأنّه تعالى أطلق الرقبة في كفّارة الظّهار ، وقيّدها في كفّارة القتل ، فقال قوم : أن المطلق يصير مقيّدا للظاهر ، لا للدّليل ، وقال قوم : يقيّد بالدليل ، والقياس ، وقال آخرون : لا يصحّ تقييده بالقياس ، من حيث يتضمّن الزيادة ، والزيادة في النصّ نسخ.

والدّليل على أنّ المطلق لا يقيّد لأجل تقييد غيره أنّ كلّ كلام له حكم نفسه ، ولا يجوز أن يتعدّى إليه حكم غيره ، ولو جاز تقييد المطلق لأجل تقييد غيره ، لوجب أن يخصّ العامّ لتخصيص غيره ، ويشترط المطلق على هذا الوجه ، وهذا يبطل الثقة بشيء من الكلام.

واحتجاجهم بأنّ القرآن كالكلمة الواحدة ، يبطل بالاستثناء والتّخصيص.

وقولهم : «الشهادة لما أطلقت في موضع ، وقيّدت في آخر ، حكمنا بتقييدها في كلّ موضع» يبطل بأنّ العدالة معتبرة في كلّ موضع ، وإنّما اشترطت لدليل هو غير ظاهر تقييدها في بعض المواضع.

فأمّا من يجعل القياس دليلا وطريقا إلى إثبات الأحكام ، فليس له أن يمتنع من تقييد الرقبة بدليل القياس ، إن اقتضى ذلك ، وإن كان زيادة ، وليس في الحقيقة زيادة ، لأنّ تقييد الرقبة بالإيمان يقتضي أن المجزي أقلّ ممّا كان يجزي ، وهذا في المعنى تخصيص ، لا زيادة ، ولا معتبر بزيادة اللّفظ ، لأنّ كلّ تخصيص بدليل شرعيّ لا بدّ من كونه زيادة في اللّفظ (١).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٧٥.

١٥١

[التاسع] : فصل في ذكر مخصصات العموم

المنفصلات الموجبة للعلم

اعلم أنّ تخصيص العموم بكلّ دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنّة مقطوع عليها وإجماع لا شبهة فيه ، ولا خلاف من محقّق في مثله ؛ لأنّ الدليل القاطع إذا دلّ على ضدّ حكم العامّ لم يجز تناقض الأدلّة ، فلا بدّ من سلامة الدليلين ، ولا يسلمان إلّا بتخصيص ظاهر العموم.

فإن قيل : لم كنتم بأن تخصوا العموم بدليل العقل أولى ممّن خصّ دليل العقل بالعموم.

قلنا : دليل العقل لا يدخله الاحتمال والحقيقة والمجاز ، والعموم يصحّ فيه كلّ ذلك ، فلهذا خصصنا العموم بالعقل.

فإن قيل : دليل العقل يجب تقدّمه على العموم ، فكيف يخصّ به ، ولو جاز تخصيصه به ، لجاز نسخه.

قلنا : دليل العقل ليس بمخصّص على الحقيقة ، وإنّما هو دالّ على المخصّص ، والمؤثّر في الحقيقة هو قصد المخاطب ، والدليل يجوز تقديمه على المدلول ؛ لأنّه ليس بمؤثّر.

على أنّ دليل العقل كما يتقدّم ، فهو مصاحب ، فلو كان مؤثّرا ، لكان مصاحبا.

وأمّا النّسخ بدليل العقل ، فغير ممتنع في المعنى ؛ لأنّ سقوط فرض القيام في الصلاة بالزّمانة كسقوطه بالنّهي ، فمعنى النسخ حاصل ، وإن لم يطلق الاسم.

وأمّا تخصيص الكتاب بالكتاب ، فلا شبهة في جوازه ، ومن خالف في ذلك من أهل الظّاهر وسمّى التخصيص بيانا إنّما هو مخالف في العبارة.

وأمّا تخصيصه بالسنّة ، فلا خلاف فيه ، وقد وقع كثير منه ؛ لأنّه تعالى قال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وخصّص عموم هذا الظّاهر

١٥٢

قوله عليه‌السلام : «لا يرث القاتل» (١) و «لا يتوارث أهل ملّتين» (٢).

وجملة القول في هذا الباب أنّ كلّ شيء هو حجّة في نفسه لا بدّ من تخصيص العموم به ، وإنّما الخلاف في عبارة ، أو في وقوع ذلك ، ولا حاجة بنا إلى ذكر الوقوع في هذا الموضع.

وأمّا تخصيصه بالإجماع ، فصحيح ؛ لأنّ الإجماع عندنا لا يكون إلّا حجّة ، لما سنذكره في باب الإجماع بمشيّة الله تعالى والخلاف بيننا وبين أصحاب الإجماع إنّما هو في التّعليل والدّليل (٣).

[العاشر] : فصل في التخصيص بأخبار الآحاد

اختلف العاملون في الشريعة بأخبار الآحاد في تخصيص عموم الكتاب بها ، فمنهم من أبى أن يخصّ بها على كلّ حال ، ومنهم من جوّز تخصيصه بأخبار الآحاد إذا دخله التّخصيص بغيرها ، ومنهم من راعى سلامة اللّفظة في كونها حقيقة ، ولم يوجب التّخصيص بخبر الواحد مع سلامة الحقيقة ، وأجازه إذا لم تكن سالمة ، وإنّما تسلم الحقيقة عنده إذا كان تخصيصه بكلام متّصل به ، ومنهم من يجيز تخصيص العموم باخبار الآحاد على كلّ حال بغير قسمة.

والّذي نذهب إليه أن أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال ، وقد كان جائزا أن يتعبّد الله تعالى بذلك ، فيكون واجبا ، غير أنّه ما تعبّدنا به.

والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه أنّ الناس بين قائلين ، ذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ، وناف لذلك ، وكلّ من نفى وجوب العمل بها في الشّرع نفى التخصيص بها ، وليس في الأمّة من جمع بين نفي العمل بها في غير التخصيص وبين القول بجواز التخصيص ، فالقول بذلك يدفعه الإجماع ، وسندلّ

__________________

(١) سنن البيهقي ، ٦ : ٢١٩ و ٨ : ١٣٣.

(٢) سنن ابن ماجة ، ٢ : ٩١٢.

(٣) الذريعة ، ١ : ٢٧٧.

١٥٣

بمشيّة الله تعالى إذا انتهينا إلى الكلام في الأخبار على أنّ الله تعالى ما تعبّدنا بالعمل بأخبار الآحاد في الشّرع ، فبطل التّخصيص بها لما ذكرناه ، ولا شبهة في أنّ تخصيص العموم بأخبار الآحاد فرع على القول بالعمل بأخبار الآحاد.

على أنّا لو سلّمنا أن العمل بها لا على وجه التّخصيص واجب قد ورد الشّرع به ، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها ؛ لأنّ إثبات العبادة بالعمل في موضع لا يقتضي تجاوزه إلى غيره ، ألا ترى أنّهم لم ينسخوا بها وإن علموا بها في غير النسخ ، وكذلك يجوز ثبوت العمل بها في غير التخصيص وإن لم يثبت التخصيص ، لاختلاف الموضعين ؛ لأنّ خبر الواحد ليس بحجّة من جهة العقل ، وإنّما كان حجّة عند من ذهب إلى ذلك بالشّرع ، فغير ممتنع الاختصاص في ذلك.

واعلم أن شبهة من أحال التّعبّد بالعمل بخبر الواحد في تخصيص أو غيره الّتي عليها المدار ومنها يتفرّع جميع الشبه أنّ العموم طريقه العلم ، فلا يجوز أن يخصّ بما طريق إثباته غالب الظّنّ ، والّذي يفسد أصل هذه الشبهة أنّ التعبّد إذا ورد بقبول خبر الواحد في تخصيص أو غيره ، فطريق هذه العبادة العلم ، دون الظّنّ ، فإنّما خصّصنا معلوما بمعلوم ، وأدلّة العقول شاهدة بذلك ، وسنشبع هذا في الكلام على نفي جواز العبادة بخبر الواحد عقلا عند الانتهاء إليه بعون الله.

وبعد ؛ فلا خلاف بين الفقهاء في جواز الرجوع إلى أخبار الآحاد في الاسم العامّ ، فما الّذي يمنع من الرجوع إليها في الحكم المعلّق بالاسم ، ألا ترى أنّا عند الاختلاف نثبت الأسماء بالرّجوع إلى أهل اللّغة ، فما الّذي يمنع من الرّجوع إلى الآحاد في تخصيص الأحكام.

وأمّا من جوّز التّخصيص بأخبار الآحاد بشرط دخول التخصيص قبل ذلك ، أو بشرط سلامة الحقيقة ، فشبهته في ذلك أنّ التخصيص يصيّر اللّفظ مجازا ، وقد بيّنّا أنّ الأمر بخلاف ذلك (١).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٨٠.

١٥٤

[الحادي عشر] : فصل في تخصيص العموم بالقياس

اعلم أنّ هذا الفصل نظير الّذي تقدّمه ، والخلاف في تخصيص العموم بالقياس إنّما هو فرع من فروع القائلين بأنّ العبادة قد وردت بالقياس في الشريعة ، ومن دفع جواز القياس في شيء من الشريعة لا شغل له بهذا الفرع ، وإذا دللنا على أنّ العبادة لم ترد بالقياس في حكم من أحكام الشّريعة ، بطل القول بأنّه مخصّص بالإجماع ، على ما قلناه في أخبار الآحاد.

وقد اختلف مثبتوا القياس في هذه المسألة ، فذهب أبو عليّ الجبّائيّ وجماعة من الفقهاء إلى أنّه لا يخصّص العموم به ، وهو قول أبي هاشم الأوّل ، ومنهم من قال : يخصّ بالقياس الجلي ، دون القياس الخفيّ ، وهو مذهب كثير من أصحاب الشافعيّ ، ومنهم من قال : يخصّ به إذا دخله التخصيص ، ومنهم من جوّز تخصيصه بالقياس على كلّ حال ، وهو مذهب أكثر الفقهاء ، ومذهب أبي هاشم الأخير.

وقد ذكرنا طريقتنا في نفي التخصيص بأخبار الآحاد ، وهي الطريقة في نفي التخصيص بالقياس.

ويمكن ـ إذا سلّمنا أن العبادة قد وردت به في غير التخصيص ـ أن نسلك مثل الطريقة الّتي سلكناها في نفي تخصيصه بأخبار الآحاد ، فنقول : قد علمتم أنّ القياس ليس بحجّة في نفسه بدليل العقل ، وإنّما يثبت كونه حجّة بالسّمع ، فمن أين إذا كان في غير التخصيص حجّة أنّه كذلك في التخصيص.

وأمّا دعواهم أن الأمّة إنّما حجبت الأمّ بالأختين فما زاد بالقياس ، وذلك أبلغ من التّخصيص ، وأنّ العبد كالأمة في تنصيف الحدّ ، فباطلة ؛ لأنّا لا نسلّم ذلك ، ولا دليل على صحّته ، وإنّما المعوّل في ذلك على إجماع الأمّة ، دون القياس.

ومن منع من القياس من حيث أوجب الظّنّ ، والعموم طريقه العلم ، قد بيّنّا الكلام عليه في التّخصيص بأخبار الآحاد ، وقلنا : دليل العبادة بالقياس يقتضي

١٥٥

العلم ، فما خصّصنا معلوما إلّا بمعلوم ، ولا اعتبار بطريق هذا العلم ، كان ظنّا أو غيره.

ومن أقوى ما احتجّ به من نفي تخصيص العموم بالقياس أنّه لا خلاف بين مثبتيه في أن الشّرط في استعماله الضرورة إليه ، وسلامته من أن تكون الظّواهر دافعة له ، وهذا الشرط يمنع من تخصيص الكتاب والسنّة المعلومة المقطوع عليها به.

ووجدت بعض من خالف في ذلك يقدح في هذه الطريقة ، بأن يقول : إذا خصّصنا العموم بالقياس ، فقد استعملناه فيما لا نصّ فيه يخالفه ، وإنّما يدفع النصّ القياس إذا كان المراد بذلك النصّ معلوما ، فأمّا ما يتناول اللّفظ في الظّاهر لا يكون دافعا ، فإن أردتم الأوّل ، فهو مسلّم ، ولا يمنع من التخصيص بالقياس ، وإن أردتم الثاني ، فغير مسلّم ، وهو موضع الخلاف.

وهذا ليس بصحيح ؛ لأنّ مراد الله تعالى إنّما يعلم بخطابه ، فإذا كان ظاهر خطابه ينافي القياس ، فقد زال الشّرط في صحّة القياس ، فكيف السبيل إلى العلم بمراده إلّا من جهة خطابه.

وبعد ، فمعلوم بغير شبهة ان للقياس في تخصيص العموم شرطا ليس هو للدليل العقليّ ، ولا للسنّة المقطوع عليها ، وقد بيّنّا أنّا نترك ظاهر الكتاب ونخص عمومه بدليل العقل ، والسنّة المعلومة ، والإجماع ، فيجب مع هبوط درجة القياس عنها ألّا ندع به ظاهر العموم ، وأن نكتفي في الدفع له بتناول ظاهر الكتاب بخلاف موجبه ، حتّى يكون القياس بخلاف الأدلّة القاطعة.

وليس يمكن أن يدّعوا أنّ الفرق بين القياس وغيره من الأدلّة القاطعة أنّ القياس لا يستعمل مع العلم بأنّ مراد الله تعالى بخطابه خلافه.

قلنا : ولا شيء من الأدلّة يستعمل مع ذلك.

فإذا قيل ما عدا القياس من الأدلّة يمنع من أن يعلم من مراد الله خلافها ؛ لأنّ ذلك يقتضي تعارض الأدلّة وتناقضها ، وهذا جائز في القياس.

١٥٦

قلنا : هذا صحيح غير أنه فرق بين القياس وغيره في غير الموضع الّذي حقّقناه ؛ لأنّ الاتّفاق إنّما حصل في أنّ شرط التّخصيص بالقياس يخالف شرط التّخصيص بغيره ، فإن لم يكن الأمر على ما ذكرناه من أنّ ظاهر تناول لفظ العموم يمنع من القياس ، ولا يمنع من سائر الأدلة ، فلا مزيّة بين الكلّ ، ويجب التساوي ، ومعلوم خلافه (١).

[الثاني عشر] : فصل في تخصيص العموم بأقوال الصحابة

اعلم أنّه لا خلاف في أنّ كلّ ما هو حجّة في نفسه يصحّ تخصيص العموم به ، وإجماع الصّحابة حجّة ، فيجب التخصيص به. ونحن وإن كنّا نخالفهم في تعليل كون ذلك حجّة ، أو في دليله ، فالحكم لا خلاف فيه بيننا.

فأمّا قول بعضهم ، ففي الناس من يذهب إلى أنه إذا ظهر وانتشر ولم يقع فيه خلاف جرى مجرى الاجماع ، فيخص بذلك ، كما يخصّ بالإجماع. وفيهم من يقول : إمساكهم عن الخلاف لا يدلّ على الوفاق ، فلا يجعله إجماعا ، ولا يخصّص به. وتحقيق ذلك يأتي فيما بعد بمشيّة الله تعالى.

وأمّا نحن ؛ فنذهب إلى أن في الصحابة من قوله بانفراده حجّة ، وهو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لقيام الدليل على عصمته ، وقد دللنا على ذلك في كتب الإمامة ، وليس هذا موضع ذكره ، فقوله عليه‌السلام منفردا يخصّ به العموم لا محالة (٢).

[الثالث عشر] : فصل في تخصيص العموم بالعادات

اعلم أنّ العموم لا يجوز تخصيصه بأن يعتاد النّاس أن يفعلوا خلافه ؛ لأنّ

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٨٣.

(٢) الذريعة ، ١ : ٢٨٨.

١٥٧

أفعالهم يجب أن تكون تابعة لخطاب الله تعالى وخطاب رسوله عليه‌السلام ، فكيف يجعل التابع متبوعا. وإن كانت هذه العادة أثّرت في حكم اللّفظ وفائدته ، وجب أن يخصّ العموم بها ؛ لأنّ التعارف له تأثير في فوائد الألفاظ فلا يمتنع تخصيص العموم بما يجري هذا المجرى (١).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٠٦.

١٥٨

[المقدّمة الثالثة] : باب الكلام في المجمل والبيان

[فيها أمور :

الأوّل : تمهيد :] اعلم أن المجمل هو الخطاب الّذي لا يستقلّ بنفسه في معرفة المراد به ، والمفسّر ما استقلّ بنفسه.

والمستقل بنفسه على أقسام :

أحدها : ما يدلّ على المراد بلفظه.

وثانيها : ما يدلّ بفحواه.

وثالثها : ما ألحقه قوم به من الدّال على المراد بفائدته.

ورابعها : ما ألحق ـ أيضا ـ ممّا يدلّ بمفهومه.

ومثال الأوّل قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (١). و (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢). و (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٣). وما لا يحصى من الأمثلة. ومثال الثّاني قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٤). ومثال الثّالث طريقة التعليل. ومثال الرّابع الزّجر ، وتعلّق الحكم بالأسباب ، ووجوب ما لا يتمّ ما كلّفناه إلّا به.

ومن خالف في فحوى اللّفظ يجب موافقته ، فيقال له : أيدخل على عاقل عرف عادة العرب في خطابها شبهة في أنّ القائل إذا قال : «لا تقل له أفّ» ؛ فقد منع من كلّ أذيّة له ، وأنّه أبلغ من قوله : «لا تؤذه» فمن خالف في ذلك ؛ أعرض عنه. ومن لم يخالف ، وادّعى أنّ بالقياس والتأمّل يعلم ذلك ؛ قيل له : فمن لا

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٣٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٣١.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٤٩.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ٢٣.

١٥٩

يثبت القياس يجب ألّا يعرف ذلك ، ولو ورد التعبّد بالمنع من القياس لكان يجب ألّا يكون ما ذكرناه مفهوما ، ونحن نعلم ضرورة أنّ قولهم : «فلان مؤتمن على القنطار» أبلغ من قولهم : «إنّه مؤتمن على كلّ شيء» ، وقولهم : «ما يملك نقيرا ولا قطميرا» أبلغ من قولهم : «إنّه لا يملك شيئا» ، وإنّما اختصروا للبلاغة والفصاحة ، ولهذا يعدّون مناقضا من قال : «لا تقل له أفّ ، واستخفّ به» ، أو قال : «فلان لا يملك نقيرا ، ومعه ألوف الدّنانير».

وأمّا طريقة التّعليل ؛ فأكثر ما فيها أن يعقل من قوله عليه‌السلام : «إنّها من الطّوّافين عليكم والطّوّافات» تعليق الحكم بهذه الصفة ، فمن أين تعدّيه إلى كلّ ما كانت له هذه الصفة ، وذلك إنّما يكون بالعبادة بالقياس ، وإلّا لم يكن مستفادا.

فأمّا الزّجر ؛ فالأولى أن يكون قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (١) ـ إذا ثبت أنّه زجر عن السرقة ـ أنّ القطع إنّما كان لأجل السّرقة. والأغلب في العادة والتّعارف أنّ من أوجب شيئا ، فقد أوجب ما لا يتمّ إلّا به.

فأمّا ما لا يستقلّ بنفسه ، ويحتاج إلى بيان ؛ فهو على ضربين :

أحدهما : يحتاج إلى بيان ما لم يرد به ممّا يقتضي ظاهره كونه مرادا به كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٣). وقد ذهب قوم إلى أن ذلك كالمجمل في أن ظاهره لا يدلّ على المراد ، وهذا الوجه له باب مفرد يذكر في موضعه والخلاف فيه ، بمشيّة الله ، ويدخل في هذا القسم النسخ ؛ لأنّ الدليل المتقدّم إذا علم بلفظه أو بقرينة أنّ المراد به الامتثال في جميع الأوقات المستقبلة ؛ فلا بدّ من الحاجة إلى بيان ما لم يرد به ، ممّا يفيده النّسخ. ويدخل في هذا القسم ضروب المجازات ؛ لأنّ الخطاب إذا ورد ، فلو خلّينا وظاهره ؛ لاقتضى ما لم يرد منّا ، فلا بدّ من الحاجة إلى البيان.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) سورة النور ، الآية : ٢.

١٦٠