تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

والقسم الثاني : أن يكون المكلّف واحدا ، وينقسم إلى قسمين : أحدهما : أن لا يتميّز له أحد الفعلين من الآخر ، بأن تكون الصّورة واحدة ، والوجه واحدا ، فلا يجوز أن يأمره تعالى بأحدهما ، وينهاه عن الآخر مع فقد التمييز ، فأمّا إذا تميّز له أحدهما من الآخر ؛ حسن الأمر والنهي بحسب الحسن والقبح.

[الخامس] : فصل في الدلالة على جواز نسخ الشرائع

اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في هذه المسألة ، وإنّما الخلاف فيها مع اليهود. ولا معنى للكلام على اليهود في أبواب أصول الفقه ، وقد تكلّمنا عليهم في كتابنا المعروف بالذّخيرة (١) وغيره بما فيه كفاية. ومن شذّ من جملة المسلمين فخالف في هذه المسألة ؛ فإنّما خلافه يرجع إلى عبارة ، ولا مضايقة في العبارات مع سلامة المعاني. وقد ورد في الشرع من نسخ القبلة بالقبلة والعدّة بالعدّة ما هو واضح. وإذا كان الشرع تابعا للمصلحة فلا بدّ مع تغيّرها من النسخ.

[السادس] : فصل في دخول النسخ في الأخبار

اعلم أنّ النسخ إذا دخل في الأمر والنهي ، فإنّما هو على الحقيقة داخل على مقتضاهما ، ومتناولهما ، لا عليهما أنفسهما. والخبر في هذا الحكم كالأمر والنهي ؛ لأنّ مقتضاه كمقتضاهما. وإذا كان جواز النسخ في فعل المكلّف إنّما يصحّ لأمر يرجع إلى تغيّر أحوال الفعل في المصلحة ، لا لأمر يرجع إلى صفة الدليل ، فلا فرق ـ إذا تغيرت المصلحة ـ بين أن يدلّ على ذلك من حالها بما هو خبر ، أو أمر ، أو نهى ، وقد بيّنّا أنّ قول القائل : «افعل» كقوله : «أريد منك

__________________

(١) الذخيرة : ٣٥٦.

١٨١

أن تفعل» ، وأنّ قوله : «لا تفعل» بمنزلة قوله : «إنّي أكره أن تفعل» ، وهذه الجملة تقتضي جواز دخول النسخ في مقتضى الأخبار ، كما دخلت في مقتضى الأمر والنّهي.

وإذا قيل : إنّ الخبر متى دخله النسخ ، اقتضى تجويز الكذب.

قلنا : والامر متى دخله النسخ ، أوجب البداء.

فإذا قيل : إن النسخ لا يتناول عين ما أريد بالأمر.

قلنا : مثل ذلك في الخبر.

وإنّما قال المتكلّمون قديما أنّ النسخ لا يدخل في الأخبار ، وأرادوا الخبر عمّا كان ، ويكون ، ممّا لا يتعلّق بالتكليف. ولا شبهة في جواز أن يدلّ الله تعالى على جميع الأحكام الشرعيّة بالأخبار. ومعلوم أنّ النسخ ـ لو كان الأمر على ما قدّرناه ـ متأتّ في الشريعة فوضح أنّ الأمر على ما ذكرناه.

فأمّا دخول معنى النسخ في نفس الأخبار فجائز ؛ لأنّه لا خبر كلّفنا الله تعالى أنّ نفعله إلّا ويجوز أن يزيل عنّا التكليف في أمثاله ، حتّى الخبر عن التوحيد ، ألا ترى أنّ الجنب قد منع من قراءة القرآن ، وقد كان يجوز مثله في الشهادتين. وكون هذا الخبر صدقا لا يمنع من إزالة التعبّد به إذا عرض في ذلك أن يكون مفسدة.

فإن قيل : أتجيزون مثل ذلك في العلم والاعتقاد.

قلنا : أمّا العلم الّذي علمنا وجوبه لكونه مصلحة لا يتغيّر ، كالمعرفة بالله تعالى ، فلا يجوز فيه النسخ ، لامتناع تغيّر حاله في وجه الوجوب.

وأمّا العلم بغيره فيجوز أن يكون مفسده ، وذلك وجه قبح ، فيجوز دخول النسخ فيه.

١٨٢

[السابع] : فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة

ونسخ التلاوة دونه

اعلم أنّ الحكم والتلاوة عبادتان يتبعان المصلحة ، فجائز دخول النسخ فيهما اللفظ معا ، وفي كلّ واحدة دون الأخرى ، بحسب ما تقتضيه المصلحة. ومثال نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ الاعتداد بالحول ، وتقديم الصدقة أمام المناجاة. ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به ؛ لأنّه من جهة خبر الآحاد ، وهو ما روى أن من جملة القرآن «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة» (١) فنسخت تلاوة ذلك. ومثال نسخ الحكم والتلاوة معا موجود أيضا في أخبار الآحاد ، وهو ما روي عن عايشة أنّها قالت : «كان فيما أنزل الله سبحانه «عشر رضعات يحرّمن» فنسخ بخمس ، وأنّ ذلك كان يتلى» (٢).

[الثامن] : فصل في جواز نسخ العبادة قبل فعلها

اعلم أن الشبهة في هذه المسألة كالمرتفعة ، وإنّما المشتبه المسألة الّتي تلي هذا الفصل ، ولا بدّ من بيان الحقّ فيما يشتبه ، ولا يشتبه.

والصحيح أنّ نسخ الشيء قبل فعله وبعد مضيّ وقته جائز ؛ لأنّ الله تعالى قد يحسن أن يأمر بالفعل من يعصيه ، كما يحسن أن يأمر من يطيعه ، وإذا كان لو أمر من أطاع ، لجاز النسخ بلا خلاف ؛ فكذلك أمر من يعصي ؛ لأنّ بالطاعة أو المعصية لا يتغيّر حسن النسخ التابع لتعريف المصالح في المستقبل.

وأيضا فقد دللنا على أن الشرائع لازمة للكفّار ، فالنسخ قد تناولهم وإن عصوا ولم يفعلوا ، وإذا جاز ذلك فيهم ، جاز في غيرهم.

__________________

(١) مسند أحمد ، ٥ : ١٣٢ و ١٨٣ ، سنن ابن ماجة ، ٢ : ٨٥٣ ، رقم ٢٥٥٣.

(٢) سنن أبي داود ، ١ : ٤٥٨ برقم ٢٠٦٢.

١٨٣

[التاسع] : فصل في أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل وقت فعله

اختلف الناس في ذلك : فذهب قوم من المتكلّمين ومن أصحاب الشافعيّ إلى أنّه جائز أن تنسخ العبادة قبل وقت فعلها ، وذهب أكثر المتكلّمين وأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعيّ إلى أنّه غير جائز ، وهو الصحيح.

والّذي يدلّ عليه وجهان : أحدهما : أنّه يقتضي البداء ؛ لأنّ شروط البداء الّتي تقدّم ذكرها حاصلة هيهنا. والوجه الآخر : أن ذلك يقتضي إضافة قبيح إلى الله تعالى إمّا الأمر أو النهي ؛ لأنّ الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا ، فالأمر به قبيح ، أو حسنا ، فيكون النهي عنه قبيحا.

وليس يمكنهم أن يقولوا : ان المكلّف ليس بواحد ، ولا الوقت ؛ لأنّه إبطال للمسألة ، من حيث كان الخلاف في هل يجوز أن ينسخ عن كلّ مكلّف بعينه ما أمر به في وقت بعينه بالنهي قبل حضور الوقت ، فعدلوا عن ذلك إلى الشرطين الأخيرين ، إمّا كون الفعل واحدا ، أو كون الوجه أو الشرط واحدا. وتغاير الفعل لا يمكن فيه إلّا وجوه ثلاثة : أحدها : أنّ النهي متناول للفعل ، والأمر الأوّل يتناول الاعتقاد. وثانيها : أنّ النّهي تناول مثل الفعل الّذي تناوله الأمر الأوّل. وثالثها : أن يتناول الثاني خلاف ما تناوله الأوّل ؛ لأنّه لا يمكنه أن يقول : يتناول ضدّ ما تناوله الأول ؛ لأنّه يوجب أنّه تعالى لم يكن ناهيا عن ضدّ ما يوجبه ويلزمه ، وصار الآن ناهيا عنه ، وضدّ الواجب لا يجوز أن يتغيّر ، فلا مدخل لذلك في النسخ.

والّذي يبطل أن يكون النّهي تناول مثل ما تناوله الأمر أنّ الفعلين إذا اختصّا بوقت واحد والوجه واحد لم يجز أن يكون أحدهما مصلحة والأخر مفسدة ، والأمر الأوّل يجمعهما ، فكذلك النّهي الثّاني ، ولأنّ التمييز بينهما غير ممكن ، فلا يجوز أن يتناول التكليف أحدهما دون الآخر.

وأمّا الاعتقاد فإنّهم يقولون : إنّه تعالى أمر بالفعل الأوّل وأراد الاعتقاد ، وتناول النّهي الّذي بعده نفس الفعل.

١٨٤

والجواب عنه : أنّ لفظ الامر تناول الفعل ، فكيف نحمله على الاعتقاد ، ونعدل عن الظّاهر.

وهذا لو صحّ لسقط الخلاف في المسألة ؛ لأنّه أمر بشيء ، ونهى عن غيره ، والخلاف إنّما هو في أن ينهى عن نفس ما أمر به.

ثمّ هذا الاعتقاد لا يخلو من أن يكون اعتقادا لوجوب الفعل ، أو لأنّا نفعله لا محالة : فإن كان اعتقادا لوجوبه ، فذلك يقتضي وجوب الفعل ، ويقبح النهي عنه وإن كان اعتقادا ؛ لأنّ المكلّف يفعله لا محالة ، فذلك محال ؛ لأنّ المكلّف يجوّز الاخترام والمنع.

فإن قيل : هو أمر باعتقاد وجوب الفعل بشرط استمرار حكم الأمر ، أو بأن لا يرد النهي.

قلنا : هذا الاشتراط يمكن أن يقال في نفس الفعل ، ولا يحتاج إلى ذكر الاعتقاد.

وبعد ، فإنّ الاعتقاد تابع للفعل : فإن وجب الفعل مطلقا ؛ كان الاعتقاد كذلك ، وإن كان مشروطا ، فالاعتقاد مثله ؛ لأنّه تابع له ، والشرط المذكور إن دخل في الاعتقاد ؛ فلا بدّ من دخوله في الفعل نفسه.

والّذي يفسد أن يكون لهذا الشّرط تأثير أنّ بقاء الأمر وانتفاء النّهي لا يكون وجها في قبح الفعل ولا حسنه ، ولا يؤثّران في وقوعه على وجه يقتضي مصلحة أو مفسدة ، ولا يجري ذلك مجرى ما نقوله : من أنّ الله تعالى قد أمر بالصلاة في وقت مخصوص على جهة العبادة له ، ونهي عنها في ذلك الوقت على جهة العبادة لغيره ؛ لأنّ هذين الوجهين معقولان ، ولهما تأثير في الحسن والقبح ، وليس كذلك بقاء الأمر وانتفاء النّهي ؛ لأنّ الفعل لا يحسن بالأمر ، ولا يقبح بالنهي ، ولا لهما تأثير في الوجوه الّتي يقع عليها.

ويمكن أن يعترض هذا الكلام بأن يقال : الأمر والنهي وإن لم يقتضيا قبح فعل ولا حسنه ، ولم يؤثّرا في وجه يقع الفعل عليه ، فلا بدّ إذا وقعا من الحكيم

١٨٥

تعالى من أن يدلّا ، فالأمر إذا وقع يدلّ على حسن الفعل ، والنهي على قبحه ، وإذا دلّا على قبح أو حسن ؛ فلا بدّ من ثبوت وجه يقتضي إمّا القبح أو الحسن ؛ لأنّ الدلالة لا تدلّ إلّا على صحّة ، ألا ترى أنّ الأمر والنّهي وإن كانا عندنا لا يؤثّران ، فإنّا كلّنا نستدلّ بأمر الله تعالى على كون الفعل واقعا على وجه يستحقّ به الثواب ، وبنهيه على قبحه ، وكونه ممّا يستحقّ به العقاب ، ونعلم على جهة الجملة أن كلّ شيء أوجب علينا في الشرع فلا بدّ فيه من جهة وجوب ، وكلّ شيء حرّم فلا بدّ فيه من وجه قبح ، وإن كنّا لا نعلم جهات الوجوب والقبح على سبيل التفصيل ، ولا نجعل الأمر والنهي مؤثّرين في تلك الجهات ، بل يدلّان عليها ، فما المنكر على هذا من أن يأمر الله تعالى المكلّف بالصّلاة في وقت زوال الشمس ، وتكون هذه الصلاة واجبة في الوقت المضروب متى استمرّ حكم الأمر بها ، ولم يرد نهي عنها ، وإن ورد النّهي عنها دلّ على تغيّر حالها ، واختصاصها بوجه يقبح عليه؟ فإذا أمر بالصلاة ، اعتقد وجوبها عليه متى لم ينه عنها ، فإذا ورد النهي اعتقد قبحها ويكون الغرض في هذا التكليف مصلحة المكلّف ، كأنّا قدّرنا أنه تعالى علم أنّه إن كلّفه على هذا الوجه ، كان مصلحة له ، في واجب عليه يفعله أو قبيح يتجنّبه.

والجواب : أنّ هذه الصلاة المأمور بها عند زوال الشّمس لا يخلو من أن يكون فعلها في هذا الوقت مصلحة في الدين أو مفسدة : فإن كانت مصلحة ، فبورود النّهي لا يتغيّر حالها ، ويجب قبح النّهي المتناول لها ، وإن كانت مفسدة في نفسها فبتناول الأمر أو باستمراره لا يتغيّر حالها ، فيجب قبحها ، وقبح الأمر المتناول لها.

اللهمّ إلّا أن يقال : لهذه الصلاة في هذا الوقت المخصوص وجهان تقع على كلّ واحد منهما ، فتكون ـ متى وقعت على أحدهما ـ واجبة ، وإذا وقعت على الآخر قبيحة ، والأمر تناولها على جهة الحسن ، والنهي تناولها على جهة القبح.

وهذا ـ إن قيل ـ باطل ؛ لأنّه لو كانت لهذه الصلاة جهتان يقع عليهما ،

١٨٦

لوجب تمييز ذلك للمكلّف وإعلامه إيّاه ، ليفصل بين جهة الحسن وجهة القبح ، كما فصل بين جهة كون هذه الصلاة عبادة لله تعالى ، وبين كونها عبادة لغيره. وبين وقوعها بطهارة ونيّة مخصوصة ، وبين وقوعها على خلاف ذلك. وتميّز له فيما ذكرناه جهة الحسن من جهة القبح ، فقد كان يجب أن يتميّز له أيضا الجهة الّتي تكون هذه الصلاة عليها مصلحة من جهة كونها مفسدة ، فلمّا قيل له : «صلّ الظهر بطهارة وبنيّة مخصوصة» ، ولم يشترط له شيئا زائدا على الشرائط الشرعيّة المعقولة ؛ علمنا أنّ الصلاة على هذه الشروط متى وقعت في هذا الوقت كانت مصلحة ، فيقبح للنهي عنها. وهذه غاية ما بلغ النهاية من كثرة تكرار الكلام على هذه المسألة في الكتب المختلفة.

[أدلّة القائلين بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل والجواب عنها]

وقد تعلّق من خالفنا في هذه المسألة بأشياء :

أوّلها : قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (١) ويدخل في هذا الظاهر موضع الخلاف.

وثانيها : أمره تعالى إبراهيم عليه‌السلام بذبح ابنه ، ثمّ نسخه عنه قبل وقت الفعل ، وفداه بذبح.

وثالثها : ما روي في ليلة المعراج من أن الله تعالى أوجب في اليوم واللّيلة خمسين صلاة ، ثمّ راجع النّبي عليه‌السلام إلى أن عادت إلى خمس (٢) ، وهذا نسخ قبل وقت الفعل.

ورابعها : أنّ النسخ إنّما يتأتّى فيما لم يفعل ، وما فعل كيف ينسخ.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٣٩.

(٢) راجع صحيح البخاري ، ١ : ٩٢ كتاب الصلاة ، باب كيف فرضت صلاة.

١٨٧

وخامسها : أنّه إذا جاز منع المكلّف ممّا أمر به بالإحرام ، فكذلك يجوز بالنّهي ، وإلّا فما الفرق بين الأمرين.

وسادسها : أنّ السيّد منّا قد يأمر عبده بالتجارة وغيرها بشرط بأن لا ينهاه.

وسابعها : أنّ الطهارة إنما تجب لوجوب الصلاة ومع ذلك فقد يمنع المكلّف بالموت عن الصلاة ، وإن كان قد توضّأ ، فأيّ فرق بين منعه بالموت ومنعه بالنهي؟.

وثامنها : ما روي من قوله عليه‌السلام في وصف مكّة : «أحلّت لي ساعة من نهار» (١) ثمّ لم يقع منه عليه‌السلام قتال في ساعة ولا ساعات.

والجواب عمّا تعلقوا به أوّلا : أنّ ظاهر الآية يقتضي محوا وإثباتا على الحقيقة ، وذلك لا يليق بالنسخ ، وإن استعمل فيه على جهة المجاز ، فالأشبه بظاهر الآية ما روي من أنّه تعالى يمحو من اللّوح المحفوظ ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، لما يتعلّق بذلك من صلاح الملائكة. وإن عدلنا عن الظّاهر ، وحملناه على النسخ فليس فيه أنّه يمحو نفس ما أثبته ، ونحن نقول : أنّه ينسخ الشّرائع على الوجه الصحيح ، فإذا حملنا الآية على النسخ ، فهي كالمجمل من غير تفصيل.

والجواب عمّا تعلّقوا به ثانيا : أنّه تعالى لم يأمر إبراهيم عليه‌السلام بالذبح الّذي هو فرى الأوداج ، بل بمقدّماته ، كالإضجاع له وتناول المدية ، وما جرى مجرى ذلك ، والعرب تسمّي الشيء باسم مقدّماته ، والدليل على هذا قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (٢). فأمّا جزع إبراهيم فلأنّه أشفق من أن يأمره بعد مقدّمات الذّبح بالذّبح نفسه ؛ لأنّ العادة بذلك جارية ، وأمّا الفداء فلا يمتنع أن يكون عمّا ظنّ أنّه سيؤمر به من الذبح ، ولا يمتنع أيضا أن يكون عن مقدّمات الذبح زائدة على ما فعله لم يكن قد أمر بها ؛ فإنّ الفدية لا يجب أن تكون من جنس المفدىّ ؛ لأنّ حلق الرأس قد يفدى بدم ما يذبح.

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٢ : ٢١٣ باب لا يعضد شجر حرم.

(٢) سورة الصافات ، الآيتان : ١٠٤ و ١٠٥.

١٨٨

وقد قيل أيضا : «إنّه عليه‌السلام فرّى أوداج ابنه ، لكنّه كلّما فرّى جزءا ، عاد في الحال ملتحما» (١) فقد فعل ما أمر به من الذبح ، وإن لم تبطل الحياة.

والجواب عمّا تعلّقوا به ثالثا : أنّ خبر المعراج خبر واحد ، وبمثله لا يثبت الخلاف في هذه المسألة. وفيه مع ذلك من الشبه والأباطيل ما يدلّ على فساده ؛ لاقتضائه نسخ الفعل قبل أن يعلم المكلّف أنّه مأمور به وتضمّنه أنّ المصالح الدينيّة تتعلّق بمشورة الخلق وإيثارهم.

والجواب عمّا تعلّقوا به رابعا : أنّ النسخ إذا كان لما لم يفعل فمن أين أنّه لما لم يفعل وقد تناوله الأمر ، دون أن يكون لما لم يفعل ممّا قد تقدم فعل نظائره ، أو الأمر بها ، فكأنّه قيل له : «لا تفعل نظير ما كنت أمرت به من الصلاة الموقّتة»؟!.

والجواب عمّا تعلّقوا به خامسا : أنّا قد بيّنّا فيما تقدّم أنّ الله تعالى لا يأمر بالفعل من يعلم أنّه يخترم دونه.

والجواب عمّا تعلّقوا به سادسا : أنّ السيّد إنّما حسن منه ذلك مع عبده لجواز البداء عليه ، وذلك لا يجوز على الله تعالى.

والجواب عمّا تعلّقوا به سابعا : أنّ الطهارة لم تجب على الواحد منّا لأجل وجوب الصّلاة عليه ، وكيف يكون كذلك ، وهو لا يعلم قبل مضيّ وقت الصلاة وجوبها عليه؟! وإنّما تجب الطّهارة لظنّ وجوب الصلاة عليه ، وهو يظنّ وجوبها عليه ، وإن جوّز المنع.

والجواب عمّا تعلّقوا به ثامنا : أنّ هذا الخبر إنّما يصحّ التعلّق به في جواز النسخ قبل إيقاع الفعل ، لا قبل وقته ، وغير ممتنع أن يباح له عليه‌السلام من قتلهم وسلبهم ما لم يفعله ، ومثل ذلك لا شبهة فيه.

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ٨ : ٣٢٣.

١٨٩

[العاشر] : فصل في [أن] الزيادة على النص

هل يكون نسخا أم لا؟

اختلف الناس في ذلك : فذهب قوم إلى أنّ الزيادة إذا غيّرت حكم المزيد عليه كانت نسخا. وقال آخرون : انّ الزيادة على النصّ لا تكون نسخا على كلّ حال ، وهو مذهب أكثر أصحاب الشافعيّ ، وإليه ذهب أبو علي ، وأبو هاشم. وقال آخرون : انّ الزيادة تقتضي النسخ إذا كان المزيد عليه قد دلّ على أنّ ما عداه بخلافه.

واعلم أنّ الزيادة على النصّ تنقسم إلى قسمين : زيادة متّصلة ، وزيادة منفصلة.

والمتّصلة على ضربين : مؤثّرة في المزيد عليه ، وغير مؤثّرة فيه.

فأمّا الزيادة المتّصلة المؤثّرة ، فهي الّتي تغيّر حكم المزيد عليه في الشريعة ، حتّى يصير لو وقع مستقبلا من دون تلك الزيادة ، لكان عاريا من كلّ تلك الأحكام الشرعيّة الّتي كانت له ، أو بعضها ، فهذه الزيادة تقتضي النسخ. ومثاله زيادة ركعتين على سبيل الاتّصال ، كما روي أنّ فرض الصّلاة كان ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر.

وإنّما قلنا : إنّ هذه الزيادة قد غيّرت الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّه لو فعل بعد زيادة الركعتين على ما كان يفعلهما عليه أوّلا ، لم يكن لهما حكم ، وكأنّه ما فعلهما ، ويجب عليه استينافهما ، ولأنّ مع هذه الزّيادة يتأخّر ما يجب من تشهّد وسلام ، ومع فقد هذه الزيادة لا يكون كذلك. وكلّ ما ذكرناه يقتضي تغيّر الأحكام الشرعيّة بهذه الزّيادة.

ولا يلزم على هذا ما نقوله من أن كلّ جزء من الصلاة له في استحقاق الثواب حكم نفسه ، ولا يقف على غيره ؛ لأنّ النسخ إنّما يدخل في الأحكام الشرعيّة ، واستحقاق الثواب من الأحكام العقليّة ، وقد بيّنّا تغيّر الأحكام الشرعيّة.

١٩٠

وعلى هذا الأصل الّذي قرّرناه لو زيد في زمان الصوم زيادة ، لكانت هذه الزيادة تقتضي النسخ ، للعلّة الّتي ذكرناها في الركعتين المتّصلتين.

فأمّا زيادة ركن على أركان الحج ؛ فليس يبين فيه أنّه يكون نسخا ، لانفصال بعض أركان الحجّ من بعض ، وأنّه ليس بجار مجرى الصلاة والصيام.

والأولى أن تكون زيادة تطهير عضو على أعضاء الطهارة ليس بنسخ.

فأمّا إيجاب الصلاة من غير طهارة ، ثمّ اشتراط الطهارة فيما بعد ذلك ؛ فالواجب تقسيمه : فنقول : إن كانت هذه الصلاة يحصل لها بالطهارة حكم شرعيّ ما كان لها من قبل ذلك ، فقد تغيّر بهذه الزيادة حكمها الشرعي ، فيجب أن يكون نسخا. وإن لم يكن لها بهذه الزّيادة حكم شرعيّ لم يكن ، وليس إلّا تقديم فعل الوضوء عليها ؛ لم تكن الزيادة نسخا.

ولو زاد الله تعالى في كفّارة الحنث رابعة ، لم يكن ذلك نسخا للثلاثة ؛ لأنّ الحال في جميع الأحكام الشرعيّة في فعل الثّلاث لم يتغيّر ، وهي مفعولة بعد الزيادة على الحدّ الّذي كانت تفعل عليه قبلها. وإنّما تقتضي هذه الزيادة نسخ ترك الكفّارات الثلاث ؛ لأنّ تركها كان محرّما قبل هذه الزيادة ، فارتفع تحريمه بالزيادة.

فأمّا ورود التّخيير على التّضييق ، أو التضييق على التخيير فالأولى أن يقال فيما تضيّق بعد التخيير : أنّه نسخ ؛ لأنّ أحد المخير فيه خرج عن حكمه الشرعيّ ، فصار منسوخا. ومثاله لزوم صوم شهر رمضان بعد التخيير بينه وبين الفدية.

فأمّا ورد التخيير بعد التضييق ، فالأشبه أنّه لا يكون نسخا ؛ لأنّ حكم الأوّل في نفسه لم يتغيّر ، وإنّما تغيّر حكم الترك ؛ لأنّه كان محرّما ، ثمّ صار مباحا.

فأمّا ورود الخبر بالشاهد واليمين ؛ فإنّه لا يكون نسخا للآية ؛ لأنّا قد بيّنا فيما تقدّم أنّ الشاهد الثاني شرط ، وليس يمتنع أن يقوم مقام الشرط سواه ، وإذا لم تمنع الآية ممّا ورد به الخبر لم يكن فيه نسخ لها.

١٩١

فإذا قيل : الآية تمنع في المعنى من اليمين مع الشاهد من حيث كانت اليمين هي قول المدّعي ، فجرت مجرى دعواه.

قلنا : غير ممتنع أن لا يكون لدعواه حكم ، ويكون ليمينه حكم ، وإن كانا معا قولا له ، ألا ترى أنّه لا حكم لإنكاره ، ولنكوله عن اليمين حكم ، ولم يجريا في الشريعة مجرى واحدا ، وإن كانا راجعين إلى قوله. وكذلك لإنكاره في إسقاط الدّعوى واليمين ، وليمينه هذا الحكم ؛ لأنّها تسقط الدّعوى ، فكذلك لا يمتنع إذا حلف مع شاهد أن يكون لقوله من الحكم ما لا يكون لدعواه إذا تجرّدت.

فأمّا مثال الزّيادة المتّصلة ، وإن كانت غير مؤثّرة ، فكزيادة العشرين على حدّ القذف ، وزيادة النّفي على حدّ الزاني البكر ، وزيادة الرّجم على حدّ المحصن.

فأمّا مثال الزّيادة المنفصلة ؛ فكزيادة صلاة سادسة ، وشهر للصيام ثان ، ولا خلاف في أنّ ذلك لا يقتضي نسخا ، وإنّما هو ابتداء عبادة.

والخلاف إنّما هو في الزيادة المتّصلة المتعلّقة بالمزيد عليه ، كالزيادة في الحدّ : فمن النّاس من ألحق ذلك بزيادة الركعتين على الركعتين ، وفيهم من أجراه مجرى زيادة صلاة سادسة.

والّذي يدلّ على أن الزيادة في الحدّ لا توجب النسخ أنّها لا تؤثّر في تغيّر حكم شرعيّ معقول للمزيد عليه ؛ لأنّ من المعلوم أنّ المزيد عليه يفعل بعد التعبّد بالزيادة على الحدّ الّذي يفعل عليه قبلها ، وإنّما يجب ضمّ هذه الزيادة إليه من غير أن يكون إخلاله بضمّ هذه الزيادة مؤثّرا في الأوّل ، فوجب إلحاق ذلك بابتداء التعبّد.

وتعلّقهم بأنّ الاسم واحد والسبب واحد ليس بشيء ، لأنّه غير ممتنع أن يكون الاسم واحدا ، والسبب كذلك ، ويكون ذلك ابتداء تعبّد ، إذا كانت الأحكام الشرعيّة لم تتغيّر ، وهي الّتي عليها المعول في باب النسخ.

وليس لهم أن يقولوا : قد تغيّر حكم شرعي من حيث صارت الثمانون بعض

١٩٢

الحدّ وكانت قبل الزيادة كلّه ؛ لأنّ قولنا «بعض» و «كلّ» ليس من الأحكام الشرعيّة ، وكذلك قولنا «نهاية» و «غاية» ، ولأنّه يلزم مثل ذلك في فرض صلاة اليوم والليلة ؛ لأنّ الصلاة لو زيد فيها سادسة ، لكان الوصف بالكلّ والبعض والنهاية يتغيّر ومع ذلك فليس بنسخ ، ولو أنّه تعالى أوجب بدلوك الشمس صلاة أخرى ، لكان سبب الوجوب واحدا ، وإن لم يكن نسخا.

فأمّا تعلّقهم بردّ الشهادة ، وأنّه كان متعلّقا بالثمانين ، ثمّ تعلّق بما زاد عليها ، فقد تغيّر الحكم الشرعيّ ؛ فليس بشيء ؛ لأنّ ردّ الشهادة إنّما يتعلّق بالقذف ، لا بإقامة الحدّ ، كما يتعلّق بفعل سائر الكبائر.

ولو سلّمنا أنّ ردّ الشهادة يتعلّق بالحدّ ، لا بالقذف ؛ لكان لنا أن نقول : إنّه يتعلّق بكونه محدودا ، ولا إعتبار بزيادة عدد الحدّ ونقصانه في الحكم الّذي هو ردّ الشهادة ، كما أنّ الإحرام لما كان علّة في تحريم الصيد ، لم يختلف في ذلك كونه محرما ، بحجّ وعمرة ، أو بأحدهما ؛ لأنّ المعتبر كونه محرما. وكذلك لا فرق بين كونه محدثا بجهة واحدة ، أو بجهات ؛ لأنّ المعتبر في الأحكام الشرعيّة كونه محدثا ، من غير أن يكون لزيادة الاحداث أو نقصانها تأثير. وجرى ذلك أيضا مجرى إباحة تزويج المعتدّة إذا انقضت عدّتها في أن عدّتها زادت أو نقصت فالحكم فيما ذكرناه لا يتغيّر ، ولا تكون الزيادة في العدّة أو النقصان نسخا لإباحة تزويج المعتدّة.

على أنّ هذا بعينه لازم للمخالف ؛ لأنّ زيادة العبادة قد تؤثّر في ردّ الشهادة وإن لم يتعلّق بالمزيد عليه كتأثيرها إذا تعلّقت ؛ لأنّ ردّ الشهادة إذا كان شرطه الفسق ـ وقد علمنا أنّ الفسق يتغيّر بزيادة عبادات ونقصانها إذا وقع الإخلال بها ـ فيجب لذلك تغيّر الحكم في ردّ الشهادة ، وهذا يقتضى أنّ زيادة كلّ عبادة وإن لم يتعلّق بغيرها ، ولا كانت متّصلة بها ، تقتضي النسخ.

١٩٣

[الحادي عشر] : فصل في أن النقصان من النص

هل يقتضي النسخ أم لا؟

إعلم أنّه لا خلاف في أنّ النقصان من العبادة يقتضي نسخ المنقوص ، وإنّما الكلام في [انّه] هل يقتضي ذلك نسخ المنقوص منه ، فذهب قوم إلى أنّه يقتضي نسخ العبادة المنقوص منها ، وذهب آخرون إلى أنّه لا يقتضي ذلك.

والواجب أن يعتبر هذا النقصان ، فإن كان ما بقي بعده من العبادة ، متى فعل ، لم يكن له حكم في الشريعة ، ولم يجر مجرى فعله قبل النقصان ، فهذا النقصان نسخ له ، كما قلناه في زيادة ركعتين على ركعتين على جهة الاتّصال ؛ لأنّ العلّة في الموضعين واحدة. وإن لم يكن الأمر على ذلك ؛ فالنقصان ليس بنسخ لتلك العبادة. ومثال ذلك أن ينقص من الحدّ عشرون ؛ فإنّ ذلك لا يكون نسخا لباقي الحدّ. وعلى هذا لو نقصت ركعتان من جملة ركعات لكان هذا النقصان نسخا لجملة الصلاة ؛ لأنّ الصلاة بعد النقصان قد تغيّر حكمها الشرعيّ. ولو فعلت على الحدّ الّذي كانت تفعل عليه من قبل ، لم يجز ، فجملتها منسوخة.

فأمّا نسخ الطهارة بعد إيجابها ، فهو غير مقتض لنسخ الصلاة ؛ لأنّ حكم الصلاة باق على ما كان عليه من قبل. ولو كان نسخ الطهارة يقتضي نسخ الصلاة لوجب مثله في نجاسة الماء وطهارته ، وقد علمنا أنّ تغير أحكام نجاسة الماء وطهارته لا يقتضي نسخ الطهارة ، لأنّه إنّما قيل له : تطهّر بالماء الطاهر ، ثمّ الماء الطّاهر منه والماء النجس موقوف على البيان ، وقد يتغيّر بزيادة ونقصان ، ولا يتعدّى ذلك التغيّر إلى نسخ الطهارة.

فأمّا نسخ القبلة ، فذهب قوم إلى أنّه نسخ للصلاة ، وذهب آخرون إلى أنّه ليس بنسخ ، وجعل القبلة شرطا كتقديم الطهارة.

والّذي يجب تحصيله في هذه المسألة أن نسخ القبلة لا يخلو من أن ينسخ بالتّوجّه إلى جهة غيرها ، أو بأن يسقط وجوب التوجّه إليها ويخيّر فيما عداها من

١٩٤

الجهات ؛ لأنّه من المحال أن تخلو الصلاة من توجّه إلى جهة من الجهات. فإن كانت نسخت بضدّها ، كنسخ التوجّه إلى بيت المقدس بالكعبة ، فلا شبهة في نسخ الصلاة ، ألا ترى أنّه بعد هذا النسخ لو أوقع الصلاة إلى بيت المقدّس على حدّ ما كان يفعله من قبل ، لكان لا حكم له ، بل وجوده في الشرع كعدمه. وإن كانت القبلة نسخت ، فإن حظر عليه التوجّه إلى الجهة المخصوصة الّتي كان يصلّي إليها ، وخيّر فيما عداها ، فهذا أيضا يقتضي نسخ الصلاة ؛ لأنّه لو أوقعها على الحدّ الذي كان يفعلها عليه من قبل ، لكانت غير مجزية ، فصارت منسوخة على ما اعتبرناه. وإن نسخ وجوب التوجّه إلى القبلة بأن خيّر في جميع الجهات لم يكن ذلك نسخا للصلاة ، ألا ترى أنّه لو فعلها على الحدّ الّذي كان يفعلها عليه من قبل لكانت صحيحة مجزية ، وإنّما نسخ التّضييق بالتّخيير.

فأمّا صوم شهر رمضان فلا يجوز أن يكون ناسخا لصوم عاشوراء ؛ لأنّ الحكمين إنّما يصحّ أن يتناسخا إذا لم يمكن اجتماعهما ، وصوم شهر رمضان يجوز أن يجتمع مع صوم عاشوراء ، فكيف يكون ناسخا له. ومعنى هذا القول أن عند سقوط وجوب صيام عاشوراء أمر بصيام شهر رمضان.

[الثاني عشر] : فصل في جواز نسخ الكتاب بالكتاب

والسنّة بالسنّة

إعلم أنّ كلّ دليل أوجب العلم والعمل فجائز النسخ به ، وهذا حكم الكتاب مع الكتاب ، والسنّة المقطوع بها مع السنّة المقطوع بها فلا خلاف في ذلك.

وإنّما الخلاف في نسخ الكتاب بالسنّة المقطوع بها ، ونسخ السنّة بالكتاب ، وسيأتي الكلام على ذلك بإذن الله تعالى.

فأمّا السنّة الّتي لا يقطع بها ؛ فالكلام في نسخ بعضها ببعض مبنيّ على وجوب العمل بأخبار الآحاد : فمن عمل بها في الشريعة ، نسخ بعضها ببعض.

١٩٥

ومن لم يعمل بها لم ينسخ بها ؛ لأنّ النسخ فرع وتابع لوجوب العمل. وسيأتي الكلام على تفصيل ذلك بمشيّة الله تعالى (١).

[الثالث عشر] : فصل في جواز نسخ القرآن بالسنّة

إعلم أن السنّة على ضربين : مقطوع عليها معلومة ، وأخرى واردة من طريق الآحاد :

فأمّا المقطوع عليها فإنّ الشافعيّ ومن وافقه يذهبون إلى أنّها لا ينسخ بها القرآن ، وخالف باقي العلماء في ذلك.

وأمّا السنّة الّتي لا يقطع بها فأكثر الناس على أنّه لا يقع بها نسخ القرآن ، وخالف أهل الظاهر وغيرهم في جواز ذلك ، وادّعوا أيضا وقوعه.

والذي يبطل أن ينسخ القرآن بما ليس بمعلوم من السنّة أنّ هذا فرع مبنىّ على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ؛ لأنّ من يجوّز النسخ يعتمد على أنّه كما جاز التّخصيص به ، وترك الظاهر لأجله ، والعمل به في الأحكام المبتدأة ، جاز النسخ أيضا به. وأنّ دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق ، غير مختصّ ، فوجب حمله على العموم ، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشّرع ، بما سنتكلّم عليه عند الكلام في الأخبار بمشيّة الله تعالى ، بطل النسخ ؛ لأنّ كلّ من لم يعمل به في غير النسخ لا ينسخ به ، فالقول بالنسخ مع الامتناع من العمل أصلا خارج عن الإجماع.

وهذا أولى ممّا يمضى في الكتب من أن الصحابة ردّت اخبار الآحاد إذا كان فيها ترك للقرآن ؛ لأنّ الخصوم لا يسلّمون ذلك ، ولأنّه يلزم عليه أن لا يخصّص الكتاب بخبر الواحد ؛ لأنّ فيه تركا لظاهره.

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٤١٣ إلى ٤٥٦.

١٩٦

وليس يجب من حيث تعبّدنا الله بالعمل بخبر الواحد في غير النسخ ـ إذا سلّمنا ذلك وفرضناه ـ أن نعدّيه إلى النسخ بغير دليل ؛ لأنّ العبادة لا يمتنع اختصاصها بموضع دون موضع ، فمن أين إذا وقعت العبادة بالعمل به في غير النسخ ، فقد وقعت في النسخ ، وأحد الموضعين غير الآخر ، وليس هيهنا لفظ عام يدّعى دخول الكلّ فيه؟!.

وخلاف الشّافعيّ في أنّ السنّة المعلومة لا ينسخ بها القرآن ضعيف جدّا ، لا ندري كيف استمرّت الشبهة فيه؟.

والّذي يدلّ على فساد هذا المذهب أنّ السنّة المعلومة تجري في وجوب العلم والعمل مجرى الكتاب فكما ينسخ الكتاب بعضه ببعض ، كذلك يجوز فيه نسخه بها.

ولأنّ النسخ إنّما يتناول الحكم ، والسنّة في الدّلالة عليه كدلالة القرآن ، فيجب جواز النّسخ بها.

وليس لأحد أن يقول : إنّ السنّة تدلّ كدلالة القرآن ، لكنّها إذا وردت بحكم يضادّ القرآن ، أنزل الله تعالى قرآنا يكون هو الناسخ. وذلك أنّ هذه دعوى لا برهان لمدّعيها ، ومن أين أنّ الأمر على ذلك؟! ولو قدّرنا أنّه تعالى لم ينزل ذلك القرآن ، كيف كان يكون حال تلك السنّة؟ ، فلا بدّ من الاعتراف باقتضائها النسخ ، ثمّ إذا اجتمعا لم صار النّاسخ هو القرآن ، دون السنّة ، وحكم كلّ واحد من الدّليلين حكم صاحبه. وإذا كان نسخ الحكم بحكم يضادّه ، فلا فرق بين أن يكشف عن ذلك الحكم المضادّ سنّة ، أو قرآن.

فأمّا اختصاص القرآن بوجه الإعجاز ، فلا تأثير له في وجه دلالته على الأحكام ، ولذلك قد يدلّ على الأحكام منه القدر الّذي لا يبين فيه وجه الإعجاز. ولو كان هذا الفرق صحيحا ، لوجب مثله في ابتداء الحكم بالسنّة والتخصيص والبيان. ولو أنّه تعالى جعل دليل نبوّته إحياء ميّت ، ثمّ أنزل قرآنا ليس بمعجز ، لكان في الدلالة على الاحكام كهو الآن.

وقد اختلف كلام أصحاب الشافعيّ في هذه المسألة : فتارة يقولون : إنّ

١٩٧

ذلك لا يجوز عقلا ، من حيث يقدح في النبوّة ، ويقتضي التنفير ، وتارة أخرى يقولون : إنّه جائز ، إلّا أنّ السّمع ورد بالمنع منه. وربما قالوا : إنّه لم يوجد ما هذه حاله في الشرع.

فأمّا العقل ؛ فلا وجه فيه للمنع من ذلك عند التأمّل الصحيح ؛ لأنّه تعالى إذا أراد أن يدلّ على الحكم ، فهو مخيّر بين أن يدلّ عليه بكتاب ، أو سنّة مقطوع بها ؛ لأنّ دلالتهما لا يتغيّر ، ويجريان مجرى آيتين ، أو سنّتين.

وأمّا التّنفير فلا شبهة في ارتفاعه ؛ لأنّ المعجز إذا دلّ على صدقه عليه‌السلام ، لم يكن في نسخه الأحكام بسنّة إلّا مثل ما في نسخه لها بما يؤدّيه من القرآن ، وتطرّق التهمة في الأمرين يمنع منه المعجز.

وأمّا ادّعاؤهم أنّه لم يوجد فخلاف في غير هذه المسألة ؛ لأنّ كلامنا الآن على جوازه ، لا على وقوعه.

[في أدلّة من ادّعى أن السمع منع من نسخ الكتاب بالسنّة

والجواب عنها]

وأمّا من ادّعى أنّ السمع منع منه ؛ فإنّه تعلّق بأشياء :

أوّلها : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) (١) فبيّن تعالى أنّ تبديل الآية إنّما يكون بالآية.

وثانيها : قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) (٢) فنفي تبديله إلّا بمثله.

وثالثها : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (٣) فجعله الله تعالى مبيّنا للقرآن ، والبيان ضدّ النسخ والإزالة.

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٠١.

(٢) سورة يونس ، الآية : ١٥.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٤٤.

١٩٨

ورابعها : قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١). وذكروا في التعلّق بهذه الآية وجوها :

منها : أنّه لمّا قال تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) كان الكلام محتملا للكتاب وغيره ، فلمّا قال بعد ذلك : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) علم أنّه أراد ما يختصّ هو تعالى بالقدرة عليه من القرآن المعجز.

ومنها : أنّه قال تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها)، فأضاف ذلك إلى نفسه ، والسنّة لا تضاف إليه حقيقة.

ومنها : أنّ الظاهر من قول القائل : «لا آخذ منك ثوبا إلّا وأعطيك خيرا منه» أنّ المراد أعطيك ثوبا من جنس الأوّل.

ومنها : أنّ الآية إنّما تكون خيرا من الآية بأن تكون أنفع منها ، والانتفاع بالآية يكون بتلاوتها وامتثال حكمها ، فيجب أن يكون ما يأتي به يزيد في النّفع على ما ينسخه في كلا الوجهين ، والسنّة لا يصحّ لها إلّا أحدهما.

والجواب عمّا تعلّقوا به أوّلا : هو أنّ الظّاهر لا دلالة فيه على أنّه لا يبدّل الآية إلّا بالآية ، وإنّما قال تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ)؛ ولأنّ الخلاف في نسخ حكم الآية ، والظّاهر يتناول نفس الآية.

والجواب عن الثاني : أنّه أيضا لا يتناول موضع الخلاف ؛ لأنّه إنّما نفى أن يكون ذلك من جهته ، بل بوحي من الله تعالى سواء كان ذلك قرآنا أو سنّة.

والجواب عن الثالث : أنّ النسخ يدخل في جملة البيان ؛ لأنّه بيان مدّة العبادة وصفة ما هو بدل منها. وقد قيل : إنّ المراد هيهنا بالبيان التبليغ والأداء ، حتى يكون القول عامّا في جميع المنزّل ، ومتى حمل على غير ذلك كان خاصّا في المجمل ، على أن النسخ لو انفصل عن البيان ، لم يمنع أن يكون ناسخا وإن كان مبيّنا ، كما لم يمنع كونه مبيّنا من كونه مبتدئا للأحكام ، وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه بيان ، ولم يمنع ذلك من كونه ناسخا.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٠٦.

١٩٩

والجواب عن الرّابع ؛ أنّ الآية أيضا لا تتناول موضع الخلاف ؛ لأنّها تتناول نفس الآية ، والخلاف في حكمها ؛ على أنّ الظّاهر لا يدلّ على أنّ الّذي يأتي به يكون ناسخا ، وهو موضع الخلاف ، وهو إلى أن يدلّ على أنّه غير ناسخ أقرب ؛ لأنّه تعالى قال : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ)، وهذا يدلّ على تقدّم النسخ على إنزال ما هو خير منها ، فيجب أن لا يكون النسخ بها وهو متقدّم عليها ، ومعنى «خير منها» أي أصلح لنا ، وأنفع في ديننا ، وأنّا نستحقّ به مزيد الثواب ، وليس يمتنع على هذا أن يكون ما يدلّ عليه السنّة من الفعل الناسخ أكثر ثوابا وأنفع لنا ممّا دلّت عليه الآية من الفعل المنسوخ. والشّناعة بأنّ السنّة خير من القرآن تسقط بهذا البيان ، وبأنّ القرآن أيضا لا يقال بأنّ بعضه خير من بعض بالإطلاق ، وقد ينسخ بعضه ببعض ، فإذا فصّلوا وفسّروا فعلنا مثل ذلك. فأمّا إضافة ذلك إليه تعالى ، وأنّ ذلك بالكتاب أليق منه بالسنّة ، فالإضافة صحيحة على الوجهين ؛ لأنّ السنّة إنّما هي بوحيه تعالى وأمره ، فإضافتها إليه كإضافة كلامه. وقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يدلّ على صفة ما يكون به النسخ ، وإنّما يقتضي أنّه تعالى قادر على أن ينسخ الفعل بما هو أصلح في الدّين منه ، كان الدليل على ذلك كتابا أو سنّة. وغير مسلّم أنّ القائل إذا قال لأحد : لا آخذ منك كذا وكذا إلّا وأعطيك خيرا منه ، أنّ الثّاني يجب أن يكون من جنس الأوّل ، بل لو صرّح بخلاف ذلك لحسن ؛ لأنّه لو قال : «لا آخذ منك ثوبا إلّا وأعطيك فرسا خيرا منه» لما كان قبيحا ، وقد بيّنّا معنى «خيرا منها». فليس يمتنع أن يكون السنّة وإن انتفع بها من وجه واحد أصلح لنا من الآية وإن كان الانتفاع بها من وجهين ؛ لأنّ الانتفاع الّذي هو الثواب قد يتضاعف ، فلا ينكر أن يزيد والوجه واحد على الوجهين ، على أنّ في درس السنّة وتلاوتها أيضا ثوابا وقرية وعبادة.

٢٠٠