تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

[الرابع عشر] : فصل في جواز نسخ السنّة بالكتاب

إنّما خالف الشافعيّ في هذه المسألة ، والناس كلّهم على خلاف قوله ، وكلّ شيء دللنا به على أنّ السنّة المقطوع بها تنسخ القرآن يدلّ على هذه المسألة ، بل هو هيهنا آكد وأوضح ، لأنّ للقرآن المزيّة على السنّة. وقولهم : لو نزلت آية تقتضي نسخ سنّة لأمر الله تعالى بأن يسنّ سنّة ثانية تكون ناسخة للأولى ، تحكّم بغير دلالة ، فمن أين لهم ذلك؟! وأيّ فرق بينهم وبين من قال : إنّ الله تعالى إذا أراد أن ينسخ سنّة بسنّة أخرى أنزل قرآنا ليكون النسخ به لا بالسنّة؟! وبعد فلو سلّم لهم ما اقترحوه ؛ لم يخرج القرآن من أن يكون ناسخا للسنّة ، بل كانا معا ناسخين ، وليس ذلك بملتبس بالبيان ، ولا مخرج له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كونه مبيّنا.

وقد استدلّ على جواز نسخ السنّة بالقرآن بوقوع ذلك ، والوقوع أكثر من الجواز ، وذكر أنّ تأخير الصلاة في وقت الخوف كان هو الواجب أوّلا ، ثمّ نسخ بقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) (١). وإنّما كان ذلك نسخا من حيث كان جواز التأخير مع استيفاء الأركان كالمضادّ للأداء في الوقت مع الإخلال ببعض ذلك. وذكر أيضا أن قوله تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (٢) نسخ مصالحته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشا على ردّ النساء. وأقوى من ذلك نسخ القبلة الأولى وكانت ثابتة بالسنّة ، بالقبلة الثانية وهي معلومة بالقرآن.

[الخامس عشر] : فصل فيما يعرف به كون الناسخ ناسخا

والمنسوخ منسوخا

اعلم أنّ كون الناسخ ناسخا إنّما يعلم بأن يكون لفظه يقتضي ذلك أو معناه ، فمثال اقتضاء اللّفظ أن يقول : نسخت كذا بكذا ، ويجري مجراه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٩.

(٢) سورة الممتحنة ، الآية : ١٠.

٢٠١

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ، وعن ادّخار لحوم الأضاحيّ ، ألا فادّخروا ما بدا لكم» (١). ومثال الثاني أن يتضادّ حكم النّاسخ والمنسوخ ، ويمتنع اجتماعهما في التّعبّد ، فيعلم بذلك أن أحدهما ناسخ للآخر.

[السادس عشر] : فصل فيما يعرف به تأريخ النّاسخ والمنسوخ

اعلم أنّ أقوى ما علم به التّاريخ أن يكون في اللفظ ، وإنّما يصحّ أن يكون في لفظة النّاسخ دون المنسوخ إذا كان مذكورا على جهة التفصيل ، وقد يكون على جهة الجملة في لفظ المنسوخ ، نحو أن يقول : افعلوا كذا إلى أن أنسخه عنكم ، ولو قال : إلى أن أنسخه في وقت كذا ؛ لكان وقت زوال العبادة معلوما بلفظ إيجابها ، فيخرج بذلك من باب النسخ.

وقد يعلم التأريخ ـ أيضا ـ بأن يضاف إلى وقت أو غزاة يعلم بها تقدّم وقت المنسوخ ؛ لأنّ الغرض معرفة المتأخّر والمتقدّم ، فلا فرق بين ذكر الزّمانين ، أو ذكر ما يضاف إليهما ، ممّا يعلم به التقدّم والتأخّر.

وقد ذكر أيضا أن يكون المعلوم من حال أحد الراويين أنّه صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما صحبه الآخر ، وأن عند صحبته انقطعت صحبة الأوّل. ولا بدّ من أن يشترط في ذلك أن يكون الّذي صحبه أخيرا لم يسمع منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا قبل صحبته له ؛ لأنّه غير ممتنع أن يراه أوّلا ، فيسمع منه وهو كافر ، أو غير مصاحب ، ثمّ يراه ثانيا ، ويختصّ بمصاحبته.

فأمّا إذا علم تقدّم أحد الحكمين وتأخّر الآخر بالعادة ، أو ما يجري مجراها ؛ فلا شكّ في أنّ الثاني هو النّاسخ ، ومثال ذلك أن يكون حكم أحدهما مستمرّا على حكم العقل ، والآخر ثابت بالشرع. ويدخل فيه أن يكون أحدهما

__________________

(١) انظر صحيح مسلم ، ٦ : ٨٢ وسنن ابن ماجة ، ١ : ٥٠١ ؛ مع اختلاف في الألفاظ.

٢٠٢

شرعا متقدّما ، والآخر متجدّدا ، أو أن يكون أحدهما يتضمّن ردّا على الأوّل ، أو شرطا في الأوّل ، إلى غير ذلك من الوجوه الدالّة على التقدّم والتأخّر.

وقد ذكر من تكلّم في أصول الفقه بأنّ التأريخ أيضا يعلم بقول الصحابيّ ، وأن يحكى أن أحد الحكمين كان بعد الآخر ، قالوا : لأنّ التأريخ نقل وحكاية لا مدخل للاجتهاد فيه ، فيجب أن يقبل قول الصحابيّ فيه.

وهذا الوجه مبنيّ على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ، وفرع من فروعه ، فإذا بطل وجوب العمل بخبر الواحد ، بطل هذا الفرع ، وإن صحّ فهو صحيح.

ومنهم من فرّق بين قول الصحابيّ : إنّ كذا نسخ كذا ، وبين نقله التّاريخ ، فقبل قوله في التصريح بالتاريخ ، ولم يقبله في قوله : نسخ ذلك.

ومنهم من قبل قوله في الأمرين.

والأولى على تسليم قبول أخبار الآحاد أن لا يرجع إلى قوله في أنّ كذا نسخ كذا ؛ لأنّ ذلك قول صريح في ذكر مذهبه ، وإنّما يثبت التاريخ تبعا للمذهب ، وإذا ؛ ظلم يجز عند الكلّ الرجوع في المذاهب إلى قوله ، حتّى تثبت صحّتها ، فكذلك في هذا الباب. ونقل التاريخ مخالف لذلك ؛ لأنّه لا يتضمّن ذكر مذهب يصحّ فيه طريقة الاجتهاد ، وكما لو قال في الشيء : إنّه محرّم ؛ لا يعمل عليه ، ولو قال : زمان تحريمه الزّمان الفلانيّ ؛ لعمل عليه ، فكذلك القول فيما تقدّم ذكره (١).

__________________

(١) الذريعة ١ : ٤٦٠ إلى ٤٧٥.

٢٠٣

[المقدّمة الخامسة] : باب الكلام في الأخبار

وفيها أمور :

الأوّل : فصل في حدّ الخبر ومهمّ أحكامه

الواجب أن يحدّ الخبر بأنّه ما صحّ فيه الصّدق أو الكذب ؛ لأنّ حدّه بما يمضى في الكتب بأنّه «ما صحّ فيه الصدق والكذب» ينتقض بالأخبار الّتي لا تكون إلّا صدقا ، كقولنا : إنّه تعالى محدث للعالم ، أو عالم لنفسه ، وإنّ الجهل والكذب قبيحان. وينتقض أيضا بما لا يكون إلّا كذبا ، كنحو قولنا : إنّ صانع العالم محدث ، والكذب حسن.

وقد حدّه قوم بأنّه «ما احتمل التصديق والتكذيب» ، فرارا من أن يقول في صادق وكاذب : إنّهما صدقا ، أو كذبا. وحدّ الخبر بأنّه ما احتمل التصديق والتكذيب صحيح في نفسه ، وجار مجرى ما اخترناه من الحدّ. والصّحيح أنّ الخبر عن صادق وكاذب بأنّهما صدقا أو كذبا لا يكون إلّا كذبا ؛ لأنّ مخبره ليس على ما هو به.

والخبر إنّما يصير خبرا بقصد المخبر ؛ لأنّ الكلام وإن تقدّمت المواضعة فيه فإنّما يتعلّق بما يفيده بالقصد ؛ لأنّ قول القائل : «محمّد رسول الله» لا يكون خبرا عنه عليه‌السلام إلّا بالقصد.

وحكاية الخبر كلفظه ، ولا تكون الحكاية خبرا ؛ لارتفاع القصد.

وإظهار كلمة الكفر عند الإكراه لا يكون خبرا ، ولو كانت كذلك لكانت كفرا ، وإنّما أبيح له إظهار كلمة الكفر تعريضا لا إخبارا.

والخبر لا يخلو من صدق أو كذب ، ولا واسطة بين الأمرين ؛ لأنّ للخبر

٢٠٤

تعلّقا بالمخبر عنه ، فلا يخلو المخبر عنه من أن يكون على ما تناوله الخبر ، فيكون صدقا ، أو ليس على ما تناوله الخبر ، فيكون كذبا. وإذا لم يكن بين النفي والإثبات واسطة في مخبر الخبر ، فلا واسطة في الخبر بين الصّدق والكذب.

وقول الجاحظ : «إنّه لا يكون كاذبا إلّا من علم كونه كذلك» باطل ؛ لأنّ العقلاء يصفون كلّ مخبر علموا أنّ مخبر خبره ليس على ما تناوله خبره بأنّه كاذب وإن لم يعلموا أنّه عالم بذلك ، ولو كان العلم شرطا ، لوجبت مراعاته كما وجب مراعاة متناول الخبر. والمسلمون يصفون اليهود والنصارى بالكذب على الله ، وإن كان أكثرهم لا يعلم أنّه كاذب ، بل يعتقد أنّه صادق. ولو كان الأمر على ما ادّعاه الجاحظ ؛ لوجب أن يكون قول أحدنا لغيره : «إنّه كاذب ولا يعلم بأنّه عالم بكذبه» مناقضة ، وممّا لا يمكن أن يكون حقّا ، ومعلوم خلاف ذلك. والجاحظ بنى هذا على مذهبه في المعارف ، وأنّها ضرورة ، واعتقاده أنّ من لا يعرف فهو معذور ، وكونه كاذبا يقتضي الذمّ ، فلم يتّصف به إلّا مع العلم ، وقد بيّنّا في الذّخيرة (١) وغيرها بطلان هذا المذهب ، ودللنا على أنّ المتمكّن من المعرفة يقوم مقامها في لحوق الذمّ واستحقاق العقاب.

والصدق من جنس الكذب ؛ لأنّ السامع لا يفصل بينهما بالإدراك ، ولو اختلفا في الجنس لفصل بالإدراك بينهما.

ولم يكن الخبر خبرا لجنسه ، ولا لصيغته ، ولا لوجوده ، بل لقصد المخبر إلى كونه خبرا ، وكلّ شيء دللنا به على أنّ الأمر لم يكن أمرا لشيء يرجع إلى أحوال الأمر ممّا قدّمنا ذكره مبسوطا هو دلالة في الخبر ، فلا معنى لإعادته (٢).

__________________

(١) الذخيرة في علم الكلام : ٣٤٣.

(٢) راجع الذريعة ، ١ : ٤١.

٢٠٥

[الثاني] : فصل في أن في الأخبار ما يحصل عنده العلم

اعلم أنّ أصحاب المقالات حكوا عن فرقة تعرف بالسمنيّة (١) إنكار وقوع العلم عند شيء من الأخبار ، وأنّهم يقصرون العلم على الإدراك دون غيره.

والّذي يدلّ على بطلان هذا المذهب أنّا نجد من سكون نفوسنا إلى اعتقاد وجود البلدان الكبار والحوادث العظام ما نجده عند المشاهدات ، فمن تشكّك في أنّ ذلك علم يقين كمن تشكّك في الآخر ، ومن ادّعى أنّه ظنّ قويّ كمن ادّعاه في الأمرين. والأشبه ـ إن كانت هذه الحكاية حقّا ـ أن يكون من خالف في ذلك إنّما خالف في الاسم دون المعنى ، واشتبه عليه العلم بالظنّ ، كما نقوله في السوفسطائيّة. وهذا القدر كاف.

[الثالث] : فصل في أقسام الأخبار

إعلم أنّ الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أقسام : أوّلها : يعلم أنّ مخبره على ما تناوله. وثانيها : يعلم أنّ مخبره ليس على ما تناوله. وثالثها : يتوقّف فيه.

وما يعلم أنّ مخبره على ما تناوله على ضربين :

أحدهما : يعلم ذلك من حاله باضطرار ، ومثاله بغير خلاف خبر من أخبرنا بأنّ السماء فوقنا والأرض تحتنا ، ومن أمثلتهم ـ على الخلاف الّذي فيه وسنذكره ـ الإخبار عن البلدان الكبار والحوادث العظام.

والآخر : أن يعلم أنّ مخبره على ما تناوله باكتساب ، كالخبر المتواتر وخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبر الأمّة بأجمعها. وقد ألحق قوم بهذا القسم

__________________

(١) بضمّ السين ، قوم بالهند يعبدون الأصنام ويقولون بالتناسخ وينكرون حصول العلم بالأخبار وأنه لا معلوم إلّا من جهة الحواس الخمس وانكر أكثرهم المعاد والبعث وكانوا يعتقدون بأن أعظم الأمور الّتي لا تحل ولا يسع الإنسان أن يعتقدها ولا يفعلها قول : «لا» في الأمور كلّها فإنّها من فعل الشيطان انظر المواقف للأيجي ، ١ : ١٣٠.

٢٠٦

لواحق سنتكلّم عليها ، ونبيّن الصحيح منها من الفاسد إذا انتهينا إليها بمشيّة الله تعالى.

وأمّا الخبر الّذي يعلم أن مخبره ليس على ما تناوله ، فينقسم إلى قسمين : أحدهما : يعلم ذلك من حاله باضطرار ، والثّاني : يعلم باكتساب. وينقسم إلى أقسام سنذكرها إذا انتهينا إلى بابها بإذن الله.

وأمّا الخبر الّذي لا يعلم أنّ مخبره على ما تناوله ، ولا أنّه على خلافه ؛ فينقسم إلى قسمين : أحدهما : يجب العمل به ، والآخر : لا يجب العمل به. والّذي يجب العمل به ينقسم إلى وجوب عقليّ بغير خلاف ، كالأخبار المتعلّقة بالمنافع والمضارّ العقليّة ، وإلى وجوب سمعيّ ، ومثاله الشهادات بلا خلاف ، وأخبار الآحاد الواردة بالأحكام الشرعيّة على الخلاف الّذي سنذكره. وأمّا الضرب الثّاني من الضّربين الأوّلين ، وهو الّذي لا يجب العمل به ، فينقسم إلى قسمين : أحدهما : يقتضي الردّ ، والثاني : يجب التّوقف فيه من غير تكذيب ولا تصديق. وتفصيل ذلك يجىء في موضعه بمشيّة الله تعالى.

[الرابع] : فصل في صفة العلم الواقع عند الاخبار

إعلم أنّ الأخبار على ضربين : ضرب : لا يحصل عنده علم ، والضرب الآخر : يحصل عنده العلم.

فأمّا الضرب الأوّل : فخارج عن هذا الفصل ؛ لأنّ العلم إذا لم يحصل فلا كلام لنا في أنّه ضروريّ أو مكتسب.

وأمّا الضرب الثاني : وهو ما يحصل عنده العلم ينقسم قسمين : أحدهما : يحصل العلم به لكلّ عاقل يسمع تلك الأخبار ، ولا يقع منهم فيه شكّ ، كأخبار البلدان والوقايع والحوادث الكبار والضرب الثّاني : لا يحصل العلم عنده إلّا لمن نظر واستدلّ ، وعلم أنّ المخبرين بصفة من لا يكذب ، ومثاله

٢٠٧

الإخبار عن معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخارجة عن القرآن ، وما ترويه الإماميّة من النصّ الصريح على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

فأمّا القسم الأوّل : فذهب قوم إلى أنّ العلم الواقع عنده ضروريّ من فعل الله تعالى بالعادة ، وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم ومن تبعهما من المتكلّمين والفقهاء. وذهب قوم آخرون إلى أنّ العلم بذلك مكتسب ليس بضروريّ ، وهو مذهب أبي القاسم البلخيّ ومن وافقه.

والّذي نصرته ـ وهو الأقوى في نفسي ـ في كتاب الذّخيرة (١) والكتاب الشافي (٢) التوقّف عن القطع على صفة هذا العلم بأنّه ضروريّ أو مكتسب ، وتجويز كونه على كلّ واحد من الوجهين.

وإنّما قوى ذلك في نفوسنا ؛ لأنّ العالم بهذه الأخبار يمكن أن يكون قد تقدّم له العلم على الجملة بصفة الجماعة الّتي قضت العادة بأنّه لا يجوز أن يتّفق منها الكذب ، ولا أن تتواطأ عليه. وجائز أن يكون قد عرف ذلك وتصوّره ، فلمّا أخبره عن البلدان والأمصار من وجده على تلك الصفة الممهّدة في نفسه ، فعل اعتقادا بصدق هذه الأخبار ، وكان ذلك الاعتقاد علما ، لمطابقته للجملة المتقدّمة الممهّدة في نفسه ، ويكون هذا العلم كسبا له ـ لا محالة ـ غير ضروريّ.

وليس لأحد أن يقول : انّ إدخال التفصيل في الجملة إنّما يكون فيما له أصل ضروريّ على سبيل الجملة ، كمن علم أنّ من شأن الظّلم أن يكون قبيحا على سبيل الجملة ، فإذا علم في ضرر بعينه أنّه ظلم فعل اعتقادا لقبحه ، وكان علما ؛ لمطابقته الجملة المتقرّرة ، وأنتم جعلتم الجملة مكتسبة ، والتّفصيل كذلك.

وذلك أنّه لا فرق بين أن تكون الجملة المتقرّرة معلومة ضرورة أو اكتسابا في جواز بناء التفصيل عليها ؛ لأنّ من علم منّا باكتساب أنّ من صحّ منه الفعل

__________________

(١) الذخيرة : ٣٤٥.

(٢) الشافي في الإمامة ، ٢ : ٦٨.

٢٠٨

يجب أن يكون قادرا ، والقادر يجب أن يكون حيّا على سبيل الجملة ، ثمّ علم في بعض الذّوات صحّة الفعل ، فلا بدّ من أن يفعل اعتقادا ؛ لأنّ تلك الذّات قادرة ، ويكون الاعتقاد علما. وكذلك إذا علم في ذات معيّنة أنّها قادرة ، وقد تقدّمت الجملة الّتي ذكرناها ، فلا بدّ من أن يفعل اعتقادا لكونها حيّة ، ويكون هذا الاعتقاد علما. فلا فرق إذن في دخول التفصيل في الجملة بين الضروري والمكتسب ، وكما أنّ ما ذكرناه ممكن جائز ، فممكن أيضا أن يكون الله تعالى يفعل لنا العلم عند سماعنا الاخبار عن البلدان وما جرى مجراها بالعادة ، وليس في العقل دليل على قطع بأحد الأمرين ، فالشكّ في ذلك غير مخلّ بشيء من شروط التكليف.

[أدلّة من قطع على الضرورة والجواب عنها]

وقد تعلّق من قطع على الضرورة بوجوه :

أوّلها : أنّ العلم بمخبر هذه الأخبار لو كان مكتسبا لكان واقعا عن تأمّل حال المخبرين ، وبلوغهم إلى الحدّ الّذي لا يجوز أن يكذبوا وهو على ما هم عليه ، وهذا يوجب أن يكون من لم يستدلّ على ذلك ممّن ليس هو من أهل الاستدلال والنظر من العامّة والمقلّدين لا يعلمون البلدان والحوادث الكبار ، ومعلوم ضرورة الاشتراك في علم ذلك.

ومنها : أنّ حدّ العلم الضروريّ قائم في العلم بمخبر أخبار البلدان ؛ لأنّ الا نتمكن من إزالة ذلك عن نفوسنا ولا الشكّ فيه ، وهذا حدّ العلم الضروريّ.

ومنها : أنّ اعتقاد كون هذا العلم ضروريّا صارف قويّ عن النظر فيه والاستدلال عليه ، فكان يجب أن يكون كلّ من اعتقد أنّ هذا العلم ضروريّ غير عالم بالبلدان والأمصار ؛ لأنّ اعتقاده يصرفه عن النظر ، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك.

٢٠٩

فيقال لهم فيما تعلّقوا به أوّلا : إنّ طريق اكتساب العلم بالفرق بين الجماعة الّتي لا يجوز أن تكذب في خبرها وبين من يجوز ذلك عليه قريب سهل لا يحتاج فيه إلى دقيق النظر ولطيف الاستدلال ، وكلّ عاقل يعرف بالعادات الفرق بين الجماعة الّتي تقضي العادات بامتناع الكذب عليها فيما ترويه وبين من ليس كذلك ، والمنافع الدنيويّة من التجارات ووجوه التصرّفات مبنيّة على حصول هذا الفرق ؛ لأنّه مستند إلى العادة ، والتأمّل اليسير كاف فيه ، والدّواعي إلى حصوله قويّة ، لاستناد المعاملات كلّها إليه فلا يجب في العامّة ومن ليس من أهل التدقيق أن لا يعلموا مخبر هذه الأخبار.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثانيا : غير مسلّم لكم ما حدّدتم به العلم الضروريّ ، وما تنكرون أن يكون حدّه ما فعله فينا من هو أقدر منّا على وجه لا يتمكّن من دفعه ، فلا ينبغي أن تجعلوا ما تفرّدتم به من الحدّ دليلا على موضع الخلاف.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثالثا : إنّ العلم بالفرق بين صفة الجماعة الّتي لا يجوز عليها الكذب ويمتنع التواطؤ فيها للعقلاء كالملجئين عند كمال عقولهم وشدّة حاجتهم إلى التفتيش والتصرّف إلى العلم بذلك لقوّة الدّواعي إليه والبواعث عليه ، وقد يحصل للعقلاء هذا العلم قبل أن يختصّ بعضهم بالاعتقاد الّذي ذكرتم أنّه صارف لهم ، فإذن لا يجب خلوّ مخالفينا من هذه العلوم على ما ادّعوه. ويلزم على هذا الوجه أن لا يكون أبو القاسم البلخيّ عالما بأن المحدثات تفتقر إلى محدث ؛ لأنّه يعتقد أنّ العلم بذلك ضروريّ ، واعتقاده هذا صارف له عن النظر ، فيجب أن لا يكون عالما بذلك ولا عارفا بالله تعالى ولا بشيء من صفاته ، فأيّ شيء قالوه في البلخيّ قلنا مثله فيما تعلّقوا به.

فإن قيل : إذا جوّزتم أن يكون العلم بالبلدان وما جرى مجراها ضروريّا ؛ فهل تشترطون في وقوع هذا العلم الشروط الّتي شرطها أبو عليّ وأبو هاشم ، أم تشترطون غيرها.

قلنا : لا بدّ من شرط نختصّ نحن به ، وهو أن يكون من أخبر بالخبر الّذي

٢١٠

فعل الله تعالى عنده العلم الضروريّ لم يسبق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفي موجب الخبر ؛ لأنّ هذا العلم إذا كان مستندا إلى العادة وليس بموجب عن سبب ، جاز في شروطه النقصان والزيادة بحسب ما يعلم الله تعالى من المصلحة.

وإنّما احتجنا إلى هذا الشرط لئلّا يقال لنا : أيّ فرق بين خبر البلدان والأخبار الواردة بمعجزات النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى القرآن ، كحنين الجذع (١) وانشقاق القمر (٢) وتسبيح الحصى (٣) وما أشبه ذلك؟!. وأيّ فرق أيضا بين أخبار البلدان وخبر النص الجليّ على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الّذي تنفرد الإماميّة بنقله؟! وألّا أجزتم أن يكون العلم بذلك كلّه ضروريّا كما أجزتموه في أخبار البلدان؟! وغير ممتنع أن يكن السبق إلى الاعتقاد مانعا من فعل العلم الضروريّ بالعادة ، كما أنّ السبق إلى الاعتقاد بخلاف ما يولده النظر عند أكثر مخالفينا مانع من توليد النظر للعلم ، فإذا جاز ذلك فيما هو سبب موجب ، فأولى أن يجوز فيما طريقه العادة.

وليس لأحد أن يقول : فيجب على هذا أن لا يفعل العلم لمن سبق إلى اعتقاد نفي المعلوم ، ويفعل لمن لم يسبق ، وكان يجب أن يكون العلم الضروريّ حاصلا لجماعة المسلمين لما ذكرناه من المعجزات ، وكان يجب أيضا أن يكون الإماميّة عالمة بالنصّ ضرورة.

وذلك أنّه يمكن أن نقول : إنّ المعلوم في نفسه إذا كان من باب ما يمكن السبق إلى اعتقاد نفيه إمّا لشبهة أو تقليد ، لم يجر الله العادة بفعل العلم الضروريّ به ، وإن كان ممّا لا يجوز أن يدعو العقلاء داع إلى اعتقاد نفيه ، ولا يعترض شبهة في مثله ، كالخبر عن البلدان ؛ جاز أن يكون العلم به ضروريّا وواقعا عند الخبر بالعادة.

وليس لهم أن يقولوا : فأجيزوا أن يكون في العقلاء المخالطين لنا السامعين

__________________

(١) راجع سنن الدارمي ، ١ : ١٦.

(٢) راجع صحيح البخاري ، ٤ : ١٨٦.

(٣) فتح الباري ، ٦ : ٤٣٣.

٢١١

للأخبار من سبق إلى اعتقاد منع بالعادة من فعل العلم الضروريّ له ، وهذا يوجب أن تجوزوا صدق من أخبركم بأنّه لا يعرف بعض البلدان الكبار والحوادث العظام مع سماعه الأخبار وكمال عقله.

وذلك أنّا نعلم ضرورة أنّه لا داعي يدعو العقلاء إلى السبق إلى اعتقاد نفي بلد من البلدان ، أو حادثة عظيمة من الحوادث ، ولا شبهة تدخل في مثل ذلك ، ففارق هذا الباب أخبار المعجزات والنصّ.

فأمّا القوم ، فإنّهم شرطوا شروطا ثلاثة :

أوّلها : أن يكون المخبرون أكثر من أربعة.

وثانيها : أن يكونوا عالمين بما أخبروا عنه ضرورة.

وثالثها : أن يكونوا ممّن إذا وقع العلم بخبر عدد منهم وقع بخبر كلّ عدد مثلهم.

واعتلّوا في اشتراطهم أن يكونوا أكثر من أربعة ، بأن قالوا : لو وقع بخبر أربعة ؛ لوجب وقوعه بخبر كلّ أربعة ، فكان شهود الزّنا إذا شهدوا به عند الحاكم ، فلم يقع له العلم بما شهدوا به ضرورة ، أن يعلم الحاكم أنّهم كذبوا أو بعضهم ، أو أنّهم شهدوا بما لم يشاهدوه ، وهذا يقتضي أن تردّ شهادتهم متى لم يكن مضطرّا إلى صدقهم ، والإجماع على خلاف ذلك.

ويمكن الطعن على هذه الطريقة بأن يقال : لفظ الشهادة وإن كان خبرا في المعنى ، فهو يخالف لفظ الخبر الّذي ليس بشهادة ، فألّا جاز أن يجري الله تعالى العادة بفعل العلم الضروري عند الخبر الّذي ليس فيه لفظ الشهادة ، ولا يفعله عند لفظ الشهادة ، وإن كان الكلّ إخبارا ، كما أنّه تعالى أجرى العادة عندهم بأن يفعله عند خبر من خبّر عن مشاهدة ، ولا يفعله عند خبر من خبّر عن علم استدلاليّ ، وإن كان الكلّ علوما ويقينا؟!

وأمّا الشرط الثّاني من شروطهم ؛ فدليله أنّ جماعة المسلمين يخبرون بأنّ الله تعالى واحد ، وأن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله ، ولا يضطرّ مخالفوهم من

٢١٢

الملحدة والبراهمة واليهود إلى صدقهم ، وإن اضطرّوا إلى العلم بما يخبرون به من البلدان وما أشبهها.

ودليلهم على الشرط الثالث أنّه لو لم يكن ذلك معتبرا ، لجاز أن يكون في الناس من يخبره الجماعة الكثيرة عن مشاهدة ولا يعلم مخبرهم ، وتجويز ذلك يقتضي أن يصدّق من خبّرنا عن نفسه بأنّه لا يعلم أن في الدنيا بلدا يعرف بمصر وما جرى مجراها.

[شبهة البلخي والجواب عنها]

وأمّا البلخي فإنّه يتعلّق في نصرة مذهبه بأن يقول : لا يجوز أن يقع العلم الضروريّ بما ليس بمدرك ، ومخبر الإخبار عن البلدان أمر غائب عن إدراك من لم يشاهد ذلك ، فلا يجوز أن يكون ضروريّا ؛ لأنه لو جاز أن يكون العلم بالغائب عن الحواسّ ضروريّا ، جاز أن يكون العلم بالمحسوس مستدلّا عليه.

وربما تعلّق في ذلك بأنّ العلم بمخبر الأخبار إنّما يحصل بعد تأمّل أحوال المخبرين بها وصفاتهم ، فدلّ ذلك على أنّه مكتسب.

فيقال له في شبهته الأولى : لم زعمت أنّ العلم بالغائب عن الحسّ لا يكون ضروريّا؟! أو ليس الله تعالى قادرا على فعل العلم بالغائب عن الحسّ مع غيبته؟! فما المنكر من أن يفعله بمجرى العادة عند إخبار جماعة مخصوصة؟! وليس له أن يدعي أن ذلك ليس في مقدوره ، كما يقول : إنّ العلم بذاته لا يوصف بالقدرة عليه ؛ لأنّه يذهب إلى أنّ العلم بالمدركات قد يكون من فعل الله تعالى على بعض الوجوه ، وليس يفعل العلم بذلك إلّا وهو في مقدوره ، وليس كذلك على مذهبه العلم بذاته تعالى ؛ لأنّه لا يصحّ وقوعه منه على وجه من الوجوه. وعلى هذا أي فرق بين أن يفعل العلم بالمدرك عند إدراكه ، وبين أن يفعل هذا العلم بعينه عند بعض الأخبار عنه؟! وإنّما لم يجز أن يكون المشاهد مستدلّا عليه ؛ لأنّه

٢١٣

معلوم ضرورة للكامل العقل ، ولا يصحّ أن يستدلّ وينظر فيما يعلمه ضرورة ؛ لأنّ من شرط صحّة النظر ارتفاع العلم بالمنظور فيه.

وأمّا الشبهة الثانية ، فبعيدة عن الصواب ؛ لأنّها مبنيّة على دعوى ، ومن هذا الّذي يسلّم له من خصومه أنّ العلم بمخبر الإخبار عن البلدان وما جرى مجراها يقع عقيب التأمّل لصفات المخبرين؟! أو ليس خصومه من أصحاب الضرورة يقولون : إنّه يقع من غير تصحيح شيء من التأمّل لأحوال المخبرين ، وإنّه إنّما يعلم أحوال المخبرين بعد حصول العلم الضروريّ بما خبّروا عنه؟!

[في شروط ما يحصل عنده العلم بتأمّل ونظر]

وأمّا القسم الثاني ـ وهو ما يحصل عنده العلم بتأمّل ونظر ـ فلا بدّ فيه من بيان صفة المخبرين الّذين يجب عند النظر في خبرهم العلم على جهة الاستدلال ، وله شروط ثلاثة :

أوّلها : أن يبلغ المخبرون إلى حدّ في الكثرة لا يجوز في العادة أن يتّفق منها الكذب عن المخبر.

وثانيها : أن يعلم أنّهم لم يجمعهم على الكذب جامع ، كالتّواطى أو ما جرى مجراه.

وثالثها : أن يعلم أنّ اللبس والشبهة فيما أخبروا عنه زائلان. هذا إذا كانت الجماعة تخبر عن المخبر بلا واسطة ، وإن كانت هناك واسطة ، وجب اعتبار هذه الشروط الّتي ذكرناها في جميع الوسائط الّتي بينهم وبين المخبر عنه.

وتأثير هذه الشروط الّتي ذكرناها في العلم بصحّة الخبر واضح :

أمّا الشرط الأوّل فمن حيث كنّا متى لم نعلم أن الجماعة قد بلغت من الكثرة إلى الحدّ الّذي لا يجوز معه اتّفاق الكذب منها عن المخبر الواحد ، لم نأمن أن يكون كذبت اتّفاقا ، كما يجوز ذلك في الواحد والاثنين.

٢١٤

وأمّا الشرط الثاني فإنّا متى لم نعلم أنّ التواطؤ وما حلّ محلّه مرتفع ، جوّزنا أن يكون التواطؤ وما جرى مجراه هو الجامع لها على الكذب.

وأمّا الشرط الثالث ، فمن المعلوم أنّ الشبهة قد تدعوا إلى الكذب ، وتجمع الجماعات عليه ، كإخبار الخلق الكثير من المبطلين عن مذاهبهم الباطلة لأجل الشبهة الداخلة عليهم ، وقامت هيهنا الشبهة مقام التواطؤ في الجمع على الكذب ، ولا فصل فيما اشترطنا فيه ارتفاع الشبهة واللّبس بين أن يكون المخبر عنه مشاهدا أو غير مشاهد في صحّة دخول الشبهة فيه ؛ لأنّ اليهود والنصارى مع كثرتهم نقلوا صلب المسيح عليه‌السلام لما التبس عليهم ، فظنّوا أن الشخص الّذي رأوه مصلوبا هو المسيح عليه‌السلام. وقيل : إنّ سبب دخول الشبهة هو أنّ المصلوب قد تتغيّر خلقته ، وتتنكر صورته ، ولأن بعد المصلوب عن العين يقتضي اشتباهه بغيره.

[في اشتراط ثبوت الشرائط في جميع الطبقات]

والوجه في اشتراط ثبوت هذه الشروط في جميع الطبقات المتوسّطة بيننا وبين المخبر عنه أنّ ذلك متى لم يكن معلوما جوّزنا أن الجماعة الّتي تلينا صادقة ، ومن خبّرت عنه قد يجوز أن يتّفق منه الكذب. وعند تكامل هذه الشروط نعلم كون الخبر صدقا ؛ لأنه إذا لم ينفكّ من كونه إمّا كذبا أو صدقا ، فبطل كونه كذبا ؛ لأنّه لو كان كذلك لكان إنما وقع اتّفاقا ، أو لتواطؤ ، أو عن شبهة ، فإذا بطل ذلك كلّه ، فلا بدّ من كونه صدقا.

[الطريق الموصل إلى العلم بثبوت هذه الشرائط]

وبقي علينا أن ندلّ على الطريق الموصل إلى العلم بثبوت هذه الشرائط.

أمّا اتّفاق الكذب عن المخبر الواحد ؛ فإنّه لا يقع من الجماعات ، والعلم

٢١٥

باستحالة ذلك وأنّ حال الجماعة يخالف حال الواحد ضروريّ ، ولهذا جاز أن يخبر أحد من حضر الجامع في يوم الجمعة كاذبا بأنّ الإمام تنكس على أمّ رأسه من المنبر ، ولا يجوز أن يخبر بذلك جميع من حضر الجامع وهو كاذبون ، إلّا لتواطؤ ، أو ما جرى مجراه. وقد شبّه امتناع ذلك من الجماعة باستحالة اجتماع الجماعات على نظم بيت من الشعر على صفة واحدة ، واجتماعهم على تصرّف مخصوص ، وأكل شيء معيّن من غير سبب جامع. وشبّه أيضا بما نعلمه من استحالة أن يخبر أحدنا من غير علم عن أمور كثيرة ، فيكون الخبر بالاتّفاق صدقا ، ومن المعلوم جواز أن يخبر الجماعة الكثيرة بالصّدق من غير تواطؤ وما جرى مجراه. ولا يجوز مثل ذلك في الكذب ؛ لأنّ الصدق يجري في العادة مجرى ما فيه سبب جامع من تواطؤ أو ما جرى مجراه ؛ لأنّ علم المخبر بكون الخبر صدقا داع إلى الإخبار ، وليس كذلك الكذب ؛ لأنّ الكذب يحتاج إلى جامع عليه وداع إليه.

فأمّا ما به يعلم فقد التّواطؤ ؛ فإنّ الجماعات الّتي تروي الخبر ربما بلغت من الكثرة إلى حدّ يستحيل عليها معه التواطؤ بالمراسلة أو المكاتبة وعلى كلّ وجه ؛ لأنّا نعلم ضرورة أنّ جميع أهل بغداد لا يجوز أن يواطؤوا مع أهل الشّام لا باجتماع ومشافهة ولا بمراسلة ومكاتبة ، على أنّ التواطؤ فيمن يصحّ ذلك فيه من الجماعات مشافهة أو بالتراسل والتكاتب لا بدّ على مجرى العادة من أن يظهر لمن خالطهم واختبر أحوالهم ، والعادة شاهدة بثبوت هذا الحكم ، فغير ممكن دفعه. وأمّا ما يقوم مقام التواطؤ من الأسباب الجامعة كتخويف السلطان وخوف ضرره وما يجري مجرى ذلك فظهوره وعلم الناس به على مجرى العادة واجبان ؛ لأنّ الجماعة لا يجوز أن تجتمع لأجل خوف السلطان على الأمر الواحد إلّا بعد أن يظهر لهم هذا التخويف والترهيب المحوجان إلى اتّفاق دواعيهم ، وما هذه حاله لا بدّ من العلم به والقطع على فقده إذا لم يظهر عليه.

وأمّا ما به يعرف ارتفاع اللبس والشبهة عمّا تخبر به الجماعة ؛ فهو أن تخبر الجماعة عن أمر مدرك بمشاهدة أو سماع يعلم انتفاء أسباب اللبس والشبهة عن

٢١٦

ذلك المخبر ، فإنّ أسباب التباس المدركات معلومة ، يعلم انتفاؤها حيث تنتفي ضرورة.

[فيما به يعلم ثبوت الشرائط في جميع الطبقات]

وأمّا ما به يعلم ثبوت الشرائط الّتي ذكرناها في جميع الطبقات الّتي تروي الخبر ، فهو أن العادات جارية بأن المذاهب والأقوال الّتي تقوى بعد ضعف وتدرك بعد خفاء لا بدّ من أن يعرف ذلك من حالها ، ويفرّق العقلاء المخالطون لأهلها بين زماني فقدها ووجودها ، وضعفها وقوّتها ، كما علم الناس كلّهم ابتداء حال الخوارج ، وظهور مقالة الجهميّة والنجّاريّة ومن جرى مجراهم ، وفرّق العقلاء من سامعي الأخبار بين زمان حدوث مقالتهم ، وبين ما تقدّم عليها.

وقد ذهب مخالفونا في الإمامة إلى أن امتناع الكتمان واستحالته في الجماعات الكثيرة يجريان مجرى استحالة الافتعال والكذب عليهم.

والصحيح الّذي تشهد به أصولنا وأصولهم أنّ الجماعات لا يجوز أن تجتمع على افتعال ولا كتمان إلّا لجامع يجمعها وسبب يؤلف بين دواعيها ، وأنّها مع فقد الدّواعي الجامعة لا تجتمع على افتعال ولا كتمان ، وقد بيّنّا في الكتاب الشافي أنّ الجماعات الكثيرة يجوز أن تكتم عداوة وحسدا وبغضا وانحرافا فضيلة معيّنة لمن حسدوه وعادوه ، فلا يروونها ، ولا يذكرونها ، وإن لم يتواطؤوا على ذلك ويتّفقوا عليه مشافهة ولا مكاتبة ، ولا يجوز أن يفعلوا خبرا مخصوصا بصيغة معينة من غير تواطؤ واتّفاق عليه ، ولا يكفي في هذا الوجه داعي الحسد والعداوة كما كفى في الكتمان ، وبيّنّا من بسط هذه النكتة وتفريعها ما ليس هذا موضع ذكره ؛ فإنّ الكتاب يطول باستقصائه ، وهو هنا مشروح (١).

__________________

(١) أنظر الشافي ، ٢ : ٧٢.

٢١٧

فإن قيل : فما أنكرتم أن تكون الجماعة إذا بلغت إلى الحدّ الّذي ذكرتم وقع العلم الضروري عند خبرهم ، وبطل الاستدلال على صدقهم بما رتّبتموه.

قلنا : قد بيّنّا أنّه لا طريق إلى القطع على أنّ العلم الضروريّ يقع عند شيء من مخبر الأخبار. ثمّ لو سلّمنا ما يذهب إليه مخالفونا في العلم الضروري الواقع عند الإخبار ، لم يمتنع أن يستدلّ بالتواتر على بعض الوجوه ، بأن يكون العدد الّذي أجرى الله تعالى العادة بأن يفعل عنده العلم الضروري لم يتكامل في بعض الجماعات. فإن علمنا بالدليل أنّ خبرهم لا يكون إلّا صدقا فيمكن على هذا التقدير أن يكون التواتر دليلا يفضي إلى العلم. فالصحيح ما أشار إليه أبو هاشم من التوقّف على ذلك ، وترك القطع على حصول العلم الضروري لا محالة.

وممّا يلحق من الأخبار بما يعلم صدقه بدليل إخبار الله تعالى فإنّا نعلم كونه صدقا ، من حيث علمنا أنّه تعالى لا يختار الكذب ، لعلمه بقبحه ، وبأنّه غنيّ عنه ، كما لا يفعل سائر القبائح.

ويلحق بذلك أيضا خبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّا قد علمنا بالمعجز صدقه في إخباره ، وأنّ شيئا من القبائح لا يجوز عليه ، وكلّ ذلك معلوم بالدليل.

[فيما يلحق من الأخبار بما يعلم صدقه بدليل]

وممّا يلحق أيضا بهذا الباب خبر الأمّة كلّها إذا أخبرت عن شيء ، فالواجب أن يعلم كونه صدقا ؛ لأنّ الدليل قد دلّ عندنا أنّ في جملة الأمّة في كلّ زمان من قوله حجّة لعصمته ، وتفصيل هذه الجملة يجي في باب الكلام في الإجماع بمشيّة الله تعالى.

وقد ألحق قوم بهذا الباب أن يخبر الواحد عن شيء شاهده ويدعي على جماعة لم تجر العادة بالإمساك عن تكذيب من يدّعي عليها مشاهدة ما لم تشاهده.

وهذا غير صحيح ؛ لأنّه غير ممتنع أن يكون لهذه الجماعة دواع وبواعث

٢١٨

إلى الإمساك عن هذا المخبر ، من وصول إلى نفع ، أو دفع مضرّة ، فلا يجب أن يكذّبوه ، بل ربما صدّقوه ، أو صدّقه بعضهم.

فأمّا إلحاق قوم بهذا الباب خبر المخبر بحضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن شيء فلم ينكره عليه ، فإنّه يجب أن يكون صدقا.

فالواجب أن يقسّم هذا الموضع قسمين : فنقول : إن كان هذا المخبر ادّعى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشاهدة لما خبر عنه ، فلم ينكر عليه ؛ فهو دليل على صدقه ، وإن كان أطلق الخبر إطلاقا ، ولم يدّع عليه شيئا ؛ فإنّه لا يكون إمساكه عن النكير عليه دلالة على صدقه ، وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّه لا يجوز عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنكار ما لا يعلمه منكرا. وإذا أخبر الواحد بحضرته عمّا لا يعلمه ، فهو مجوّز في خبره الصدق والكذب.

وقد ألحق قوم بهذا الباب أن يعلم أن الأمّة أجمعت على العمل بمخبر بعض الأخبار لأجله ، وادّعوا أنّ ذلك يدلّ على كون الخبر حجّة مقطوعا بها ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لردّه بعض وقبله بعض آخر ، وادّعوا أنّ عادتهم بذلك جارية.

وهذا ليس بصحيح ؛ لأنّ بإجماعهم على الحكم يعلم صحّته ، فأمّا أن يعلم صحّة الخبر الّذي عملوا به ، ولأجله ، فلا يجب ذلك ؛ لأنّهم قد يجمعون على ما طريقه الظنّ ، كالقياس والاجتهاد وأخبار الآحاد. والعادة المدّعاة غير صحيحة ، ولا معلومة. وقد استقصينا في الكتاب الشافي الكلام على هذه النكتة عند تعويل مخالفينا في صحّة الخبر المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله «لا تجتمع أمّتي على خطأ» على مثل هذه الطّريقة (١).

__________________

(١) الشافي في الإمامة ، ١ : ٥١٠.

٢١٩

[الخامس] : فصل فيما يعلم كذبه من الأخبار باضطرار أو اكتساب

إعلم أنّ الخبر إنّما يعلم باضطرار أو اكتساب أن مخبره ليس على ما تناوله بغيره لا بنفسه ومثال ما يعلم بطلانه باضطرار خبر من أخبر بأنّ السماء تحتنا ، والأرض فوقنا ، وأنّ جبلا بحضرتنا ، ونحن لا نراه مع السلامة وارتفاع الموانع ، فأمّا الخبر الّذي يعلم بطلانه باكتساب فهو كلّ خبر علمنا أنّ مخبره ليس على ما تناوله بدليل عقليّ أو بالكتاب أو السنّة أو الإجماع.

وقد ألحق قوم بهذا الباب لواحق :

منها : أن يكون الخبر لو كان صحيحا ، لوجب قيام الحجّة به على المكلّفين ، فإذا لم يقم به علم أنّه باطل.

ومنها : أن يكون الخبر ممّا لو كان صحيحا لعلم أهل العلم إذا فتّشوا عنه ذلك ، فإذا لم يعلم مع التفتيش ، علم كونه كذبا.

ومنها : أن يكون المخبر عنه ممّا تقوي الدواعي إلى نقله ، وتمنع من كتمانه ، فإذا لم ينقل ـ والحال هذه ـ علم كونه كذبا.

ومنها : أن تكون الحاجة ماسّة في باب الدين إلى نقله ، فإذا لم ينقل كما نقلت نظائره علم بطلانه.

ومنها : أن يكون في الأصل وقع شائعا ذائعا ، ومثله في العادة لا يضعف نقله ، بل يكون حاله في الاستمرار كحاله في الأوّل.

واعلم أنّ هذه الوجوه إن صحّت كلّها أو بعضها ، فإنّما هي تفصيل لما أجملناه في قولنا : بدليل عقليّ ؛ لأنّ الأدلّة العقليّة المبتنية على العادات واختيارها ، إليها فزع من ألحق هذه الوجوه ، فما صحّ منها من كلّ أو بعض فهو داخل في الجملة الّتي ذكرناها.

والكلام في تصحيح كلّ واحد من هذه الوجوه الملحقة يطول جدّا ، ويخرج عن الغرض لكنّا نشير إلى جملة كافية :

٢٢٠