تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

هو الجحود والتكذيب بالقلب بما أوجب الله تعالى المعرفة به ، والفاسق الملي غير جاحد للمعارف ، فليس بكافر.

فإذا قيل لنا : فألا استذللتم بفسقه على حصول الجحد في قلبه ، كما استدللتم بالسجود للشمس على أن في قلب الساجد كفرا وجحودا؟

قلنا : إنّما فعلنا ذلك في الساجد للشمس لما قام الدليل على أنه كافر فحكمنا بحصول الكفر في قلبه ، وليس كذلك العاصي الملي ، ولو كان في بعض هذه المعاصي ما يدلّ على كفر فاعله ، وحصول الجحود لوجب أن يدلّنا الله تعالى على ذلك ، ويعلمنا به ، كما أعملناه في سائر ما يدلّ على الكفر.

ويمكن الاستدلال على أن هذه المعاصي ليست بكفر ، بأن الكفر من شأنه أن يمنع التوارث والتناكح والمدافنة ، وإذا طرأ على الإسلام كان ردّة وقتل فاعله ، وكلّ هذه الأحكام منتفية عن عصاة أهل الصلاة.

فأمّا من قال من الزيدية : إن الفاسق الملي كافر نعمة ، فقوله باطل ؛ لأنه غير جاحد لنعم الله تعالى عليه ، وهو بذلك معترف بلسانه وقلبه.

فإن أرادوا أنه كافر النعمة لا بمعنى أنه جحدها لكن وجوب شكرها والمعرفة بحقّها يقتضي تجنب المعاصي ، فهذا خلاف في عبارة ، وكيف تكون المعصية كفر النعمة ، والطاعة ليست على الحقيقة شكر النعمة ؛ لأن الشكر هو ما يكون في القلب من الاعتراف بالنعمة مع التعظيم أو ما يجري على اللسان من ذلك ، والطاعات الواقعة بالجوارح خارجة من كلّ وجه عمّا يسمّى شكرا ، وليس يصف أحد من أهل اللغة ردّ الوديعة وقضاء الدين بأنه شكر ، فكيف يكون تركه كفرا؟

فأمّا ما يحكى عن الحسن البصري من وصفه مرتكب الكبيرة بأنه منافق فممّا لا شبهة فيه ؛ لأن المنافق هو الّذي يظهر خلاف ما في باطنه ، ومن كان مظهر المعصية التي يستحقّ عليها العقاب لا يكون منافقا ؛ لأن اليهود والنصارى لما أظهروا معاصيهم الّتي بها كفروا لم يجز أن يوصفوا بالنفاق.

وقد تعلّق الخوارج في نصرة قولهم بأشياء :

٣٠١

منها : قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١) ، ومنها قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)) (٢) ، ومنها قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) (٣) ، وهذا يقتضي أن كلّ من يسودّ وجهه لا يكون إلّا كافرا ، ومنها قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤) ، ومنها قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٥).

فيقال لهم فيما تعلقوا به :

أوّلا : هذه الشبهة مبنية على عموم لفظه «من» ، ونحن نخالف في ذلك ، وقد بيّنا فيما تقدّم أن لفظة «من» غير عامّة بظاهرها ، وأن العموم فيها أو الخصوص إنّما يعلم بدليل (٦) ، ولا ظاهر لهذه الآية يتعلّق به الخوارج ، ولو سلم لهم مسلم الظاهر ، لجاز تخصيصه بالأدلّة القاطعة.

والجواب عن ثانيها : أن هذه الآية إنّما يستفاد بظاهرها أن النار المتلظية الموصوفة في الآية لا يصلاها إلّا من كذّب وتولّى ، بقي عليهم أن يدلّوا على أنه لا نار لله تعالى سوى هذه الموصوفة ، فلا دليل على ذلك.

فإن قالوا : أراد جنس النار ووصفها بالتلظي الموجود في كلّ نار.

قلنا : هذا من أين لكم ، ما أنكرتم أن تكون الإشارة إلى نار مخصوصة.

على أن الخوارج لا بدّ لهم من ترك هذا الظاهر ؛ لأنه ليس كلّ عاص مكذبا متوليا ، وظاهر الآية أنه لا يصلى هذه النار إلّا من كان بهذه الصفة.

والجواب عن ثالثها : أن وصفه تعالى الوجوه الّتي عليها غبرة بأنها للكفرة الفجرة ، لا يدلّ على أن ليس هناك وجوه أقوام من أهل العقاب ليست بهذه الصفة بل بصفة أخرى ، إمّا بأن لا يكون عليها غبرة بل تسمية أخرى أو بأن يكون عليها غبرة لا يرهقها قترة.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة عبس ، الآيات : ٣٨ ـ ٤٢.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ٤٩.

(٥) سورة سبأ ، الآية : ١٧.

(٦) سيأتي في سورة غافر : ١٨.

٣٠٢

والجواب عن رابعها : أنه ليس في الظاهر أن جميع الوجوه الّتي في النار داخلة في اللفظة ، لأن لفظة «وجوه» ليست من ألفاظ العموم عند أحد ، فغير ممتنع أن يكون الله تعالى أراد بعضها أو أراد سوادا مخصوصا يلحق هذه الوجوه وان لم يكن لاحقا بغيرها.

ويلزم المتعلّق بهذه الآية أن يكون كلّ من يدخل النار كفر بعد إيمان حتّى يكون من كفر في الأصل خارجا من النار ؛ لأن الظاهر هكذا يقتضي.

والجواب عن خامسها : أن وصفه تعالى النار بأنها محيطة بالكافرين ، لا يمنع من أن تكون محيطة بغيرهم ، وإنّما قيدنا احاطتها بهم ، ومن قال في دار بعينها : «انها محيطة بزيد» لا يمنع من أن تكون محيطة بعمرو ، وعلى أن النار محيطة بزبانية وخزنة ، وليس في القول بذلك خروج عن ظاهر الآية ، وقد قال الله تعالى : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١) بأنه عالم بأحوالهم ، ولا يمنع ذلك من احاطته بغيرهم.

والجواب عن سادسها : أنه ظاهر قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)، لو اقتضى نفي المجازاة عمّن ليس بكفور لاقتضى أن يكون المؤمن غير مجاز بإيمان فيه وطاعاته.

فإذا قيل : أريد بالآية وهل نجازي بالعقاب إلّا الكفور.

قلنا : هذا ترك للظاهر ، ولا فصل بينكم وبين مرتدكم بأن حمل الآية على عقاب مخصوص وجزاء معيّن ، وظاهر الآية يقتضي حمل الجزاء على الاصطلام والاستيصال في الدنيا ؛ لأنه تعالى أجرى العادة بأن يعاقب بهذا الضرب من الجزاء للكفّار دون غيرهم. ألا ترى قوله تعالى : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)) (٢). وهذا بيّن (٣).

ـ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥].

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩.

(٢) سورة سبأ ، الآية : ١٦ ـ ١٧.

(٣) الذخيرة : ٥٣٦.

٣٠٣

[إن سأل سائل] فقال كيف أضاف الاستهزاء إليه تعالى ؛ وهو ممّا لا يجوز في الحقيقة عليه؟ وكيف خبّر [بأنهم في الطّغيان والعمه] وذلك بخلاف مذهبكم؟.

الجواب : قلنا : في قوله تعالى (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وجوه :

أوّلها : أن يكون معنى الاستهزاء الذي أضافه تعالى إلى نفسه تجهيله لهم وتخطئته إيّاهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال ؛ وسمّى الله تعالى ذلك استهزاء مجازا وتشبيها ؛ كما يقول القائل : إنّ فلانا ليستهزأ به منذ اليوم ، إذا فعل فعلا عابه الناس به ، وخطّؤه فيه فأقيم عيب الناس على ذلك الفعل ، وإزراؤهم على فاعله مقام الاستهزاء به ؛ وإنّما أقيم مقامه لتقارب ما بينهما في المعنى ؛ لأنّ الاستهزاء الحقيقي هو ما يقصد به إلى عيب المستهزأ به ، والإزراء عليه ، وإذا تضمّنت التخطئة والتجهيل والتبكيت هذا المعنى جاز أن يجرى عليه اسم الاستهزاء ؛ ويشهد بذلك قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) (١) ؛ ونحن نعلم أنّ الآيات لا يصحّ عليها الاستهزاء ولا السخريّة ؛ وإنّما المعنى : إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويزرى عليها ؛ والعرب قد تقيم الشيء مقام ما قاربه في معناه ، فتجري اسمه عليه ؛ قال الشاعر :

كم من أناس في نعيم عمّروا

في ذرى ملك تعالى فبسق

سكت الدّهر زمانا عنهم

ثمّ أبكاهم دما حين نطق

والسكوت والنطق على الحقيقة لا يجوزان على الدهر ؛ وإنّما شبّه تركه الحال على ما هي عليه بالسكوت ، وشبّه تغييره لها بالنطق. وأنشد الفرّاء :

إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان

ومثل ذلك في الاستعارة لتقارب المعنى قوله :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٤٠.

٣٠٤

سألتني بأناس هلكوا

شرب الدّهر عليهم وأكل (١)

وإنّما أراد بالأكل والشرب الإفساد لهم ، والتغيير لأحوالهم ، ومثله قول الآخر :

يقرّ بعيني أن أرى باب دارها

وإن كان باب الدّار يحسبني جلدا

والجواب الثاني : أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه «عزوجل» أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون ولا يشعرون.

ويروى عن ابن عباس أنّه قال في معنى استدراجه إياهم : إنّهم كانوا كلّما أحدثوا خطيئة جدّد لهم نعمة ؛ وإنّما سمّي هذا الفعل استهزاء من حيث غيّب تعالى عنهم من الاستدراج إلى الهلاك غير ما أظهر لهم من النعم ؛ كما أنّ المستهزىء منّا ، المخادع لغيره يظهر أمرا ؛ ويضمر غيره.

فإن قيل : على هذا الجواب فالمسألة قائمة ، وأيّ وجه لأن يستدرجهم بالنعمة إلى الهلاك؟

قلنا : ليس الهلاك هاهنا هو الكفر ، وما أشبهه من المعاصي التي يستحقّ بها العقاب ؛ وإنّما استدرجهم إلى الضرر والعقاب الذي استحقّوه بما تقدّم من كفرهم ؛ ولله تعالى أن يعاقب المستحقّ بما شاء أيّ وقت شاء ؛ فكأنّه تعالى لمّا كفروا وبدّلوا نعمة الله ، وعاندوا رسله لم يغيّر نعمه عليهم في الدنيا ؛ بل أبقاها لتكون ـ متى نزعها عنهم ، وأبدلهم بها نقما ـ الحسرة منهم أعظم ، والضرر عليهم أكثر.

فإن قيل : فهذا يؤدّي إلى تجويز أن يكون بعض ما ظاهره ظاهر النعمة على الكفّار ممّا لا يستحقّ الله به الشكر عليهم.

قلنا : ليس يمتنع هذا فيمن استحقّ العقاب ؛ وإنّما المنكر أن تكون النعم المبتدأة بهذه الصفة على ما يلزمه مخالفنا ، ألا ترى أنّ الحياة وما جرى مجراها

__________________

(١) اللسان (أكل) ، ونسبه إلى النابغة الجعديّ. في بعض النسخ : «سألتني عن أناس».

٣٠٥

من حفظ التركيب ، والصحّة لا تعدّ على أهل النار نعمة ؛ وإن كان على أهل الجنّة نعما من حيث كان الغرض فيه إيصال العقاب إليهم.

والجواب الثالث : أن يكون معنى استهزائه بهم أنّه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم ؛ من نصرة ومناكحة وموارثه ومدافنة ، وغير ذلك من الأحكام ؛ وإن كان تعالى معدّا لهم في الآخرة أليم العقاب لما أبطنوه من النفاق ، واستسرّوا به من الكفر ؛ فكأنّه تعالى قال : إن كنتم أيّها المنافقون بما تظهرونه للمؤمنين من المتابعة والموافقة ، وتبطنونه من النفاق ، وتطلعون عليه شياطينكم إذا خلوتم بهم تظنّون أنّكم مستهزؤون ؛ فالله تعالى هو المستهزىء بكم من حيث جعل لكم أحكام المؤمنين ظاهرا ؛ حتى ظننتم أنّ لكم مالهم ، ثمّ ميّز بينكم في الآخرة ودار الجزاء ؛ من حيث أثاب المخلصين الذين يوافق ظواهرهم بواطنهم ، وعاقب المنافقين. وهذا الجواب يقرب معناه من الجواب الثاني ؛ وإن كان بينهما خلاف من بعض الوجوه.

والجواب الرابع : أن يكون معنى ذلك أنّ الله هو الذي يردّ استهزاءكم ومكركم عليكم ؛ وأنّ ضرر ما فعلتموه لم يتعدّكم ؛ ولم يحط بسواكم ؛ ونظير ذلك قول القائل : «إنّ فلانا أراد أن يخدعني فخدعته ؛ وقصد إلى أن يمكر بي فمكرت به» والمعنى أنّ ضرر خداعه ومكره عائد إليه ولم يضررني به.

والجواب الخامس (١) : أن يكون المعنى أنّه يجازيهم على استهزائهم ؛ فسمّي الجزاء على الذنب باسم الذنب ؛ والعرب تسمّي الجزاء على الفعل باسمه ؛ قال الله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) ، وقال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٣) ، وقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (٤) والمبتدأ ليس بعقوبة ، وقال الشاعر (٥) :

__________________

(١) انظر ايضا المائدة : ١١٦ من الأمالي ، ١ : ٣١٧.

(٢) سورة الشورى ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٩٤.

(٤) سورة النحل ، الآية : ١٢٦.

(٥) هو عمرو بن كلثوم ، والبيت من المعلقة : ٢٣٨ ـ بشرح التبريزي.

٣٠٦

ألّا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن شأن العرب أن تسمّى الشيء باسم ما يقاربه ويصاحبه ، ويشتدّ اختصاصه وتعلّقه به ، إذا انكشف المعنى وأمن الإبهام ؛ وربّما غلّبوا أيضا اسم أحد الشيئين على الآخر لقوّة التعلّق بينهما ، وشدّة الاختصاص فيهما ؛ فمثال الأوّل قولهم للبعير الذي يحمل المزادة : راوية ، وللمزادة المحمولة على البعير رواية ، فسمّوا البعير باسم ما يحمل عليه ؛ قال الشاعر :

مشى الرّوايا بالمزاد الأثقل

أراد بالروايا الإبل ؛ ومن ذلك قولهم : صرعته الكأس واستلبت عقله ، قال الشاعر :

وما زالت الكأس تغتالنا

وتذهب بالأوّل الأوّل

والكأس هي ظرف الشراب ، والفعل الذي أضافوه إليها إنّما هو مضاف إلى الشراب الذي يحلّ الكأس إلّا أنّ [الفراء لا يقول الكأس إلّا بما فيه] من الشراب ؛ وكأنّ الإناء الفارغ لا يسمّى كأسا ، وعلى هذا القول يكون إضافة اختلاس العقل والتصريع وما جرى مجرى ذلك إلى الكأس على وجه الحقيقة ؛ لأنّ الكأس على هذا القول اسم للإناء وما حلّه من الشراب.

ومثال الوجه الثاني ما ذكرناه عنهم من التغليب تغليبهم اسم القمر على الشمس ؛ قال الشاعر :

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطوالع

أراد : لنا شمسها وقمرها ؛ فغلّب.

ومنه قول الآخر :

فقولا لأهل المكّتين : تحاشدوا

وسيروا إلى آطام يثرب والنّخل

أراد بمكّتين : مكة والمدينة ، فغلّب.

وقال الآخر :

٣٠٧

فبصرة الأزد منّا والعراق لنا

والموصلان ، ومنّا مصر والحرم

أراد بالموصلين : الموصل والجزيرة.

وقال الآخر :

نحن سبينا أمّكم مقربا (١)

يوم صبحنا الحيرتين المنون

أراد : الحيرة والكوفة ، وقال آخر :

إذا اجتمع العمران : عمرو بن عامر

وبدر بن عمرو خلت ذبيان جوّعا (٢)

وألقوا مقاليد الأمور إليهم

جميعا ، وكانوا كارهين وطوّعا

أراد بالعمرين : رجلين ، يقال لأحدهما عمرو ، وللآخر بدر ؛ وقد فسره الشاعر في البيت.

ومثله :

جزاني الزّهدمان جزاء سوء

وكنت المرء يجزى بالكرامة (٣)

أراد بالزّهدمين رجلين ؛ يقال لأحدهما زهدم ، وللآخر كردم ، فغلّب.

وكلّ الذي ذكرناه يقوّي هذا الجواب من جواز التسمية للجزاء على الذنب باسمه ، أو تغليبه عليه ، للمقاربة والاختصاص التامّ بين الذنب والجزاء عليه.

والجواب السادس : ما روي عن ابن عباس قال : يفتح لهم ـ وهم في النار ـ باب من الجنّة ، فيقبلون إليه مسرعين ؛ حتى إذا انتهوا إليه سدّ عليهم ، فيضحك المؤمنون منهم إذا رأوا الأبواب قد أغلقت دونهم ؛ ولذلك قال «عزوجل» : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥)) (٤) :

فإن قيل : وأيّ فائدة في هذا الفعل؟ وما وجه الحكمة فيه؟

قلنا : وجه الحكمة فيه ظاهر ؛ لأنّ ذلك أغلظ في نفوسهم ، وأعظم في

__________________

(١) المقرب : المرأة تدنو ولادتها.

(٢) البيتان في المخصص ١٣ / ٢٢٧.

(٣) اللسان (زهدم) والمخصص ٢١٣ / ٢٢٧ ، وهو لقيس بن زهير العبسي.

(٤) سورة المطففين ، الآيتان : ٣٤ ـ ٣٥.

٣٠٨

مكروههم ؛ وهو ضرب من العقاب الذي يستحقّونه بأفعالهم القبيحة ؛ لأنّ من طمع في النجاة والخلاص من المكروه ، واشتدّ حرصه على ذلك ؛ ثمّ حيل بينه وبين الفرج وردّ إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه.

فإن قيل : فعلى هذا الجواب ، ما الفعل الذي هو الاستهزاء؟.

قلنا : في ترداده لهم من باب إلى آخر على سبيل التعذيب معنى الاستهزاء ؛ من حيث كان إظهارا لما المراد بخلافه ؛ وإن لم يكن فيه من معنى الاستهزاء ما يقتضي قبحه من اللهو واللعب وما جرى مجرى ذلك.

والجواب السابع : أن يكون ما وقع منه تعالى ليس باستهزاء على الحقيقة ؛ لكنّه سمّاه بذلك ليزدوج اللفظ ويخفّ على اللسان ؛ وللعرب في ذلك عادة معروفة في كلامها ؛ والشواهد عليه مذكورة مشهورة.

وهذه الوجوه التي ذكرناها في الآية يمكن أن تذكر في قوله تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) ؛ وفى قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٢) فليتأمّل ذلك.

فأمّا قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يريد : أنّى أملي لهم ليؤمنوا ويطيعوا ؛ وهم مع ذلك مستمسكون بطغيانهم وعمههم.

والوجه الآخر : أن يريد ب «ويمدّهم» أنّه يتركهم من فوائده ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم ، ويمنعها من الكافرين عقابا كشرحه لصدورهم ، وتنويره لقلوبهم ؛ وكلّ هذا واضح بحمد الله (٣).

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) [البقرة : ١٧].

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٤٢.

(٣) الأمالي ، ٢ : ١٢٦.

٣٠٩

ولا يصحّ وصفه تعالى بأنه «تارك» ؛ لأن هذه اللفظة تفيد في عرف المتكلّمين ما لا يجوز عليه تعالى ؛ لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن حدّ الترك هو ما ابتدئ بالقدرة بدلا من ضدّ له يصحّ ابتداؤه على هذا الوجه ، ومعنى هذا الحدّ لا يصحّ فيه تعالى.

واللغة وإن أفادت في التسمية بالترك من كان غير فاعل ، فلا نصفه تعالى مطلقا بأنه تارك على مذهب اللغة ؛ لأن عرف المتكلّمين أخصّ في أسمائه وصفاته من اللغة. وان قيدناه [و] قلنا إنه : «تارك» بمعنى أنه لم يفعل ، جاز (١).

ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٨].

أنظر يونس : ١٠٠ من الأمالي ، ٦٤ : ١ والأعراف : ١٤٦ من الأمالي ٣٠٤ : ١.

ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩].

أنظر البقرة : ٧٤ من الأمالي ، ٥٠ : ٢ والبقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢].

[إن سأل سائل فقال :] ما الذي أثبت لهم العلم به؟ وكيف يطابق وصفهم بالعلم هاهنا لوصفهم بالجهل في قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٢).

الجواب : قلنا : هذه الآية معناها متعلّق بما قبلها ؛ لأنّه تعالى أمرهم بعبادته ، والاعتراف بنعمته ؛ ثمّ عدّد عليهم صنوف النّعم التي ليست إلّا من جهته ؛ ليستدلّوا بذلك على وجوب عبادته ؛ وانّ العبادة إنّما تجب لأجل النعم المخصوصة ؛ فقال جلّ من قائل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ

__________________

(١) الذخيرة : ٥٩١.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٦٤.

٣١٠

قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إلى آخر الآية ؛ ونبّه في آخرها على وجوب توحيده والإخلاص له ، وألّا يشرك به شيء ، بقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

ومعنى قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) أي يمكن أن تستقرّوا عليها وتفرشوها وتتصرّفوا فيها ؛ وذلك لا يمكن إلّا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون.

وقد استدل أبو عليّ بذلك ، وبقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) على بطلان ما تقوله المنجّمون من أنّ الأرض كريّة الشكل ؛ وهذا القدر ولا يدرك ؛ لأنّه يكفي في النعمة علينا أن يكون فيها بسائط ومواضع مسطوحة يمكن التصرّف عليها ؛ وليس يجب أن يكون جميعها كذلك ؛ ومعلوم ضرورة أنّ جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا وإن كان مواضع التصرّف منها بهذه الصفة ، والمنجّمون لا يدفعون أن يكون في الأرض بسائط وسطوح يتصرّف عليها ، ويستقرّ فيها ؛ وإنّما يذهبون إلى أن بجملتها شكل الكرة.

وليس له أن يقول : قوله : و (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) يقتضى الإشارة إلى جميع الأرض وجملتها ؛ لا إلى مواضع منها ، لأن ذلك تدفعه الضرورة من حيث أنّا نعلم بالمشاهدة أنّ فيها ما ليس ببساط ولا فراش ؛ ولا شبهة في أنّ جعله تعالى السماء على ما هي عليه من الصّفة ممّا له تعلّق بمنافعنا ومصالحنا. وكذلك إنزاله تعالى منها الماء الذي هو المطر الذي تظهر به الثمرات فننتفع بنيلها والاغتذاء بها.

فأمّا قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) فإن الندّ هو المثل والعدل ؛ قال حسّان بن ثابت :

أتهجوه ولست له بندّ

فشرّكما لخيركما الفداء (١)

فأمّا قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فيحتمل وجوها :

__________________

(١) ديوانه : ٩.

٣١١

أوّلها : أن يريد أنّكم تعلمون أنّ الأنداد التي هي الأصنام وما جرى مجراها التي تعبدونها من دون الله تعالى لم ينعم عليكم بهذه النعم التي عدّدها ولا بأمثالها ، وأنّها لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تبصر ؛ ومعلوم أنّ المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام ما كانوا يدّعون ولا يعتقدون أنّ الأصنام خلقت السماء والأرض من دون الله ولا معه تعالى ؛ فالوصف لهم هاهنا بالعلم إنّما هو لتأكيد الحجّة عليهم. ويصحّ لزومها لهم ؛ لأنّهم من العلم بما ذكرناه ويكونون أضيق عذرا.

والوجه الثاني : أن يكون المراد بقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعقلون وتميّزون ، وتعلمون ما تقولون وتفعلون ، وتأتون وتذرون ، لأنّ من كان بهذه الصفة فقد استوفى شروط التكليف ، ولزمته الحجّة ، وضاق عذره في التخلّف عن النظر وإصابة الحقّ.

ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١) ، و (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢).

والوجه الثالث : ما قاله بعض المفسّرين كمجاهد وغيره أنّ المراد بذلك أهل الكتابين التوارة والإنجيل خاصة. ومعنى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي أنّكم تعلمون أنّه إله واحد في التوراة والإنجيل.

فعلى الوجهين الأولين لا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ)؛ لأنّ علمهم تعلّق بشيء ، وجهلهم تعلّق بغيره. وعلى الوجه الثالث إذا جعل الآية التي سئلنا عنها مختصّة بأهل الكتاب أمكن أن تجعل الآية التي وصفوا فيها بالجهل تتناول غير هؤلاء ؛ ممّن لم يكن ذا كتاب يجد فيه بيان التوحيد ؛ وكلّ هذا واضح بحمد الله (٣).

ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣].

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٩.

(٢) سورة فاطر ، الآية : ٢٨.

(٣) الأمالي ، ٢ : ١٦٣.

٣١٢

فصل في الدلالة على وقوع التحدّي بالقرآن

اعلم أنه إذا فهم معنى قولنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحدّي بالقرآن ، زال الخلاف من العقلاء فيه ؛ لأنا لا نريد بالتحدّي أكثر من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعي انّه تعالى خصّه بالقرآن وأبانه به ، وأن جبرئيل عليه‌السلام يهبط به ، وما في ذلك إلّا ما هو معلوم ضرورة لا يتمكّن أحد من دفعه. وهذا غاية التحدّي في المعنى ، والبعث على إظهار معارضته له فيه إن قدر عليها.

وممّا يدلّ أيضا عليه في ثبوت التحدّي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير شبهة دعا الناس كلّهم إلى نبوّته والعمل بشريعته ، وخلع ما كانوا عليه من الأديان ، ولا بدّ فيمن ادّعى إلى مثل هذه الحال بل إلى ما هو دونها كثيرا من إظهار أمر يحتجّ به إمّا حجّة أو شبهة ، ولو عريت دعواه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمر يحتج به لاسرع القوم إلى مطالبته بما يقتضي تصديقه ، ولقالوا له : من أين نعلم أنك صادق في الرسالة ولم تدّع برهانا ولا علما ، لا سيّما مع شدّة عداوتهم وعزّة نفوسهم وثقل وطأته عليهم ، فإذا لم يكن منهم شيء من ذلك دلّ على أنه يحتجّ بالقرآن مضيف الابانة إليه.

ولو لم يكن محتجا بشيء كيف استجاب له من استجاب من الفصحاء والفضلاء ، وما جرت العادة أن يستجيب مثل هؤلاء إلّا بحجّة أو شبهة ، وفي تصديقهم دعوته بلا حجّة ولا شبهة خرق للعادة ، كما أن في إمساك أعدائه عن مطالبته بحجّة فيما ادّعاه من النبوّة خرق للعادة.

وإذا ثبت بما ذكرناه أنه لا بدّ من تعلّقه فيما ادعاه من النبوّة بأمر يدعي الابانة به والتميز ، فلا يمكن أن يشار إليه في ذلك إلّا وحال القرآن أظهر منه وأوضح.

على أنه لا شيء من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى القرآن إلّا وقد تقدّمه ادعاؤه للنبوّة ، وإلزام الخلق الدخول تحت شرائعه ، فلا يجوز أن يكون ما تأخّر عن الدعوى هذا التأخّر هو الحجّة فيها ، والقرآن يتقدّم ذلك كلّه.

ومن المعتمد في وقوع التحدّي أن القرآن قد ثبت صحّة نقله ، والعلم بأن

٣١٣

آيات التحدّي والتقريع والبعث على المعارضة من جملته ضروري على ما بيناه ، وآيات التحدّي صريحة في المطالبة بالمعارضة فلا غاية وراؤها في باب التحدّي ولمن لعلّه أن يفرق بين العلم الضروري الحاصل بجملة القرآن وبين تفصيله أن يقول : آيات التحدّي إن كانت من جملة ما كان يقرأ في أيّام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو المراد والكفاية بالتحدّي واقعة بها ، وإن كانت ممّا أضيف إلى القرآن حادثا فذلك باطل ؛ لأنه لو جرى ذلك ما خفي على أعداء المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم ، ولكانوا يوافقون على حدوث هذه الآيات ؛ لأن أسلافهم ما عرفوها ، ولا سمعوها مع مخالطتهم لنا ، وعلمهم بالظاهر من أحوالنا ، ويجري ذلك مجرى دعوى معجزة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ادّعاها أحد من المسلمين في سالف الزمان في أن أعداء الدين لا يجوز أن تمسّكوا عن الموافقة على حدوث هذه الدعوى.

فصل في أن القرآن لم يعارض

اعلم أن كلّ أمر لو وقع لوجب ظهوره ونقله والعلم به ، فواجب إذا لم ينقل القطع على انتفائه ، ولهذا يجب القطع على أنه لم يكن مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ آخر يدّعي النبوّة لنفسه.

وبمثل هذه الطريقة نعلم انتفاء ما لم نعلمه من البلدان التي لو كانت لاتّصلت أخبارها بنا ، وكذلك ضروب الحوادث.

وإنّما قلنا : ان ظهور المعارضة لو كان واجبا ؛ لأن جميع ما يقتضي نقل القرآن من قوّة الدواعي ، وشدّة الحاجة ، وقرب العهد ثابت في المعارضة والمعارضة تزيد عليه ؛ لأنها كانت حينئذ هي الحجّة والقرآن شبهة ، ونقل الحجّة أولى من نقل الشبهة.

وكيف لا يجب ظهور المعارضة لو كانت والداعي إلى فعلها يدعو إلى ظهورها ؛ لأن داعيهم إلى فعلها إنّما هو التخلّص ممّا ألزموه من خلع العبادات

٣١٤

والديانات والرياسات التي ألفوها ونشأوا عليها ، والاستبدال بذلك كلّه ما لم يعرفوه ولم يألفوه بالإظهار لما يتمّ أغراضهم. وكيف لم ينقل المعارضة لو كانت فقد نقلوا كلام مسيلمة مع ركاكته وبعده عن الشبهة ، فكيف لا ينقل ما فيه حجّة أو شبهة قوية؟

وليس لأحد أن يدّعي : أن الدواعي وان توفرت إلى نقل المعارضة فهناك موانع من نقلها ، وهو الخوف من أنصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومتبعي شرعه وهم كثيرون مهيبون يخاف من مثلهم ؛ وذلك أن الخوف لا يقتضي انقطاع النقل على كلّ وجه ، وإنّما يمنع من المظاهرة ، ولهذا لم ينقطع نقل فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام بالخوف من بني أميّة ، بل منع الخوف من التظاهر بها ، فكان يجب أن ينقل أعداء الإسلام المعارضة لو كانت مكتوما فيما بينهم.

وأيضا فإن الكثرة في الإسلام كانت بعد الهجرة ، فكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ، وإذا نقلت وانتشرت في الآفاق لم يكن قوّة الإسلام من بعد ذلك موجبة لاندفانها وخفائها.

اللهمّ إلّا أن يقال : إن المعارضة لم تقع في تلك المدّة ، وإنّما وقعت بعد الهجرة ، وفي ارتفاع المعارضة طول المقام بمكّة ـ وهو ثلاث عشرة سنة ـ كفاية في إعجاز القرآن ، وقيام الحجّة به ، وثبوت خرق العادة فيه ، أو بما ينقل به.

وأيضا ، فإن قوّة الإسلام وان افتتحت بالمدينة ، فقد كانت في تلك الأحوال لأهل الشرك والكفر ممالك واسعة وبلاد عريضة ، والغالب على أكثر البلاد ومعظمها في تلك الأحوال الكفّار ، ومملكة الفرس كانت ثابتة لم تزل ، وكذلك ممالك الروم وإلى هذه الغاية ما خلا العالم من بلاد واسعة الكفر ، فكان يجب ظهور المعارضة في هذه البلاد وفي علمنا ، ففقد ذلك دليل على وجوب القطع على أنّ المعارضة لمن تكن.

وأيضا ، فإن الخوف في الإسلام لو منع من نقل المعارضة لمنع من نقل السب والهجاء والافتراء ، وقد علمنا أن كلّ ذلك قد نقل ولم يمنع مانع منه.

٣١٥

وأيضا ، فإن التشكّك في وقع المعارضة والاعتذار في خفائها بالتقيّة من كثرة أهل الإسلام يقتضي أن نجوّز كون جماعة في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعون النبوّة لنفوسهم ظهر على أيديهم من المعجزات أكثر ممّا ظهر على يده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّ واحد منهم دعا إلى نسخ شرعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما لم يتّصل ذلك بنا للخوف الّذي ذكروه في نقل المعارضة.

وليس يلزم الإمامية القائلين بالنصّ الجلي على أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وإن كان السبب في خفائه وعدم انتشاره في جميع الأمّة الخوف من أعدائه وكتمان أكثر الأمّة له ـ أنّ يجوّزوا وقوع المعارضة وخفائها لمثل ذلك.

والفرق بين الأمرين واضح ؛ لأن النصّ وان كتمه وان كتمه قوم فقد نقله آخرون ، وإن كانوا منهم عددا ، وإن لم يشعر مخالفي الإمامية نقله فقد شاعت في الإمامية روايته وإن كانوا في بعض الأحوال غير متظاهرين بها ، فإن جرت المعارضة مجراه فيجب أن نجد نقلها في جماعة تقوم بنقلها الحجّة ، ولا يكون الخوف موجبا لانقطاع نقلها ، كما لم يكن الخوف في النصّ قاطعا لنقله.

على أنا ندعي العلم الضروري بأن المعارضة لم تقع ، ولم لا يمكن مخالفي النصّ أن يدّعي العلم الضروري بأن النصّ لم يقع.

فإن قيل : فبم تدفعون وقوع معارضة لم يتّفق أن يعلمها إلّا واحد أو اثنان من الصحابة ، وان من علم ذلك قتل هذا المعارض ، فانكتم المعارضة ولم يظهر؟

قلنا : المعارضة إذا كانت غير واقعة من الخطباء والشعراء والبلغاء المعروفين المشهورين من الّذين كانوا يتمكّنون من إظهار المعارضة لو قدروا عليها وفعلوها ، وما كان يتمّ عليهم ما ذكر من القتل وطي ما عارضوا به فقد ذلك كاف في الدلالة على صحّة النبوّة ؛ لأنهم إما أن يكونوا مصروفين عن المعارضة على ما يقوله أصحاب الصّرفة أو يكونوا إنّما لم يعارضوا لخرق فصاحة القرآن لعادتهم ، وأيّ الأمرين كان فلا بدّ من العلم بتساوي الخلق فيه ،

٣١٦

وان أحدا غير ما ذكرناه غير متمكّن من المعارضة ، وذلك مانع من التجويز الّذي قدّروه في السؤال في أن جهة انتفاء المعارضة هي التعذّر.

اعلم أن ارتفاع الفعل من فاعله مع علمنا من توفّر دواعيه إليه ، وقوّة بواعثه عليه دليل على تعذّره ، ولهذه الطريقة قطعنا على أن الألوان والجواهر وما جرى مجراهما من الأجناس غير مقدورة لنا ، وإذا انضاف إلى ارتفاع الفعل مع قوّة الدواعي علمنا بارتفاع الموانع قضينا بأن الفعل غير مقدور لمن تعذر عليه ، وإذا تعذرت هذه الجملة وعلمنا أن العرب تحدّوا بالقرآن فلم يعارضوه مع قوّة الدواعي وشدّة الحاجة إلى المعارضة علمنا أنها متعذّرة عليهم ، فإذا انضاف إلى العدول عن المعارضة تكلّف الأمور الشاقّة ، كالحرب وما يجري مجراها ممّا لا حاجة لهم فيه ـ ولو بلغوا إلى كلّ غاية منهم ـ قوي علمنا بتعذّر المعارضة عليهم.

وقد طعن المخالفون فيما ذكرناه بطعون رجوعها إلى أصل واحد ، وهو توفّر دواعي المعارضة وتلفيق صوارف عنها إن طالبوا بالدلالة على أن دواعيهم إليها كانت قوية وموجبة لأن يفعلوها لا محالة إن كانوا قادرين عليها :

الأوّل : أن قالوا : جوّزنا دخول الشبهة عليهم في المعارضة وأن تركها أولى من فعلها من غير تعيين لوجه هذه الشبهة.

والثاني : قولهم : لعلّهم اعتقدوا أن الحرب أولى من المعارضة ؛ لأنها مريحة ومنجية والمعارضة ليست كذلك.

والثالث : أن يكونوا خافوا أن يعارضوا فيقع خلاف فيما يعارضون به ، وهل هو في موقعه أو غير موقعه ، ويتردّد خوض ونزاع يقوى معه الشوكة ، وتكثر معه العدّة وينتهي الأمر إلى الحرب ، فقدموا إلى ما لا بدّ من المصير إليه.

الرابع : أن المماثلة الّتي دعوا إلى الإتيان بها أشكل عليهم المراد بها ، وهل أريد بها المماثلة في الفصاحة أو في النظم أو فيهما أو في غيرهما ، فعدلوا إلى الحرب لهذا الاشتباه؟

٣١٧

الخامس : أنهم عوّلوا على أنّ في أشعارهم المنظومة وخطبهم المنثورة ما يماثل ، بل يزيد على بلاغة القرآن وفصاحته ، وأن ما يستأنفوه من المعارضة لا يزيد على ما تقدّم ، وجروا في ذلك مجرى من تحدّى غيره وقوعه بالعجز عن المشي والحركة في حال هو فيها ماش متصرف.

السادس : أن قالوا : جوّزوا أن يكون المتمكّنون من المعارضة جماعة قليلة العدد ، وأنها واطأته على إظهار المعجز لتشاركه فيما يتمّ من رياسته.

والجواب عمّا ذكرناه :

أوّلا : أنا لا نحتاج إلى تعاطي استدلال على قوّة دواعي القوم إلى المعارضة ؛ لأن ذلك معلوم ضرورة لكلّ من سمع أخبارهم ؛ وكيف لا يكون ذلك معلوما وقد طالبهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم ذوو الحميّة والعصبيّة والأنفة ، وبالامتناع من الذلّة بالرجوع عن دياناتهم والنزول عن رياساتهم ، وان يصيروا اتباعا بعد أن كانوا متبوعين ، وأمرهم بالبراءة من آبائهم وأبنائهم ، وجهاد كلّ من خالف دينه من حميم ونسيب ، وعلموا أن بالمعارضة يزول ذلك كلّه ويبطل ويضمحلّ ، فأيّ داع هو أقوى من داعي المعارضة ؛ وكيف لا يكونون مدعوّين إليها ومبعوثين عليها ، وقد خرجوا اهتماما بما دهمهم إلى ضروب من تحمّل المشاق بالمحاربة والمغالبة ، وبذل الأموال ، وتحمّل الاثقال ، وتنظم الهجاء ، واستعمال السبّ والقذف ، وكلّ ذلك لا يغني ولا فيه طائل ، فلولا أن المعاضة متعذّرة لبادروا إليها ، فهي أسهل وأمثل وأقطع للمادّة من كلّ شيء تكلّفوه.

والجواب عن ثانيها : أن الشبهة إنّما يجوز دخولها فيما يشتبه ويلتبس على العقلاء ، فأمّا ما هو ظاهر لكلّ عاقل فما جرت العادة بأن يدخل فيه شبهة ، وفعل المتحدّي ما تحدى به لا يدخل على عاقل شبهة في أنه واجب ، بل ملجأ إليه إذا حصلت القدرة عليه ، وما لا يدخل الشبهة على الصبيان والعوام فيه ؛ لأن أحدهم لودعا غيره إلى رمي غرض أو طفر جدول لبادر إلى فعله لو كان قادرا عليه ، ولا يجوز أن يدخل عليه شبهة فيعدل عن الفعل مع القدرة. وما لا تدخل الشبهة فيه على ما ذكرناه كيف تدخل على الحكماء الرحجان على أن للعرب

٣١٨

عادة في تحدّي بعضهم عن بعض ، وما كانوا يفزعون عند التحدّي إلّا إلى المعارضة دون غيرها من ضروب الأفعال ، فلو صحّ دخول الشبهة على غيرهم في هذا الباب لم يجز دخولها عليهم للعادة الّتي بيناها.

والجواب عن ثالثها : أن القوم لا يجوز أن يعتقدوا أن الحرب أولى من المعارضة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ادعى الابانة منهم بالغلبة والقهر ، وأنهم لا يتمكنون من قتاله ، وفزعوا إلى الحرب التي هي أبلغ في هذا الباب ، وإنّما تحدّاهم وادّعى البينونة منهم بأن معارضة القرآن الّذي أظهره يتعذّر عليهم ، فلا شبهة في أن المعارضة أولى من الحرب لو وثقوا بالظفر ، فكيف وهم فيه على خطر ولا خطر في معارضته.

ولو بدأوا أمام الحرب لكانوا بين أحد حسنيين : إما أن يتفرّق جمع عدوّهم فيستريحوا منه من أقرب الطرق وأخصرها ، أو أن يقيم قوم عنادا أو خلافا بعد سماع المعارضة على التمسّك بنصرته ، فيستعملوا حينئذ الحرب في موضعها وعند أوانها ، وعقيب الاعذار ، واقام الحجّة ، ولو كانوا جمعوا بين المعارضة والحرب ؛ فإن الحرب لا يمنع من المعارضة الّتي هي كلام مسموع وقول منقول ، لأخذوا الصواب من طرفيه.

على أنهم لما جربوا الحرب مرارا كثيرة ولم يبلغوا بها غرضا ، كان يجب أن يرجعوا إلى المعارضه لزوال الشبهة الصارفة عنها.

على أن الحرب إنّما وقعت بعد الهجرة وبعد مضي ثلاثة عشر سنة ، فما علّة امتناعهم من المعارضة طول المدّة المتقدّمة للحرب؟ وكيف خلوا في تلك الأحوال من المعارضة والحرب معا؟

والجواب عن رابعها : أن التحدّي إذا ثبت أنه إنّما كان بأن يأتوا بما يقارب القرآن ، ويشتبه به بالفصاحة ؛ لأن المماثلة على التحقيق لا تضبط ، وما جرت العادة بأن يتحدّى بعضهم بضعا في أشعارهم وخطبهم إلّا كذلك ، فكيف يخافون من وقوع الاشتباه والالتباس فيما يعارضون به ، وذلك إذا وقع فهو المطلوب المبتغى ؛ لأنهم ما دعوا إلّا إليه.

٣١٩

وبعد ، فقد كان يجب أن يعارضوا على كلّ حال وإن خافوا التباس ذلك ؛ لأنهم كانوا عند من لا يشتبه ذلك عليه ـ وهم الأكثر ـ معذورين خارجين ، فما دعوا إليه ؛ فإن العاقل لا يختار ما معه عند جميع العقلاء مغلوبا محجوجا لخوفه من أن يشتبه ما يأتي به على بعضهم ، فكأنهم خافوا ظنّ العجز من بعض الناس ففعلوا ما يوجب العلم بعجزهم عند جميع الناس.

على أنه لو اعتذر عاقل تحدى بفعل فلم يأت به بمثل هذا العذر لكان عند جميع العقلاء ملوما.

والجواب عن خامسها : أن المثل الّذي دعوا إليه لا يجوز أن يشتبه عليهم المراد به ، وقد جرت عادتهم أن يتحدّى بعضهم بعضا ، ولو اشتبه ذلك عليهم لاستفهموه مع تطاول الأيّام.

وبعد ؛ فإن القرآن إذا لم يكن دالّا على النبوّة فليس بمتعذر مماثلته ومعارضته من جميع الوجوه ، فألّا فعلوا ذلك ما يقدرون عليه.

والجواب عن سادسها : أن هذه الشبهة لا يصحّ أن يسأل عنها من ذهب إلى أن الله تعالى صرف عن المعارضة ، وأن التحدّي على التحقيق إنّما هو بالصّرفه ، وإنّما سأل عنها من ذهب إلى أن العادة انحرفت بفصاحة القرآن.

فإذا قيل : إنّما عوّلوا في أنهم غير مصروفين عن المعارضة ، على ما تقدّم من كلامهم الفصيح في شعر وغيره.

قلنا : لا معوّل على ذلك ؛ لأن التحدّي وقع بأن الله تعالى يصرفهم مستقبلا عن المعارضة ، فلو كان موجودا في كلامهم الموجود المتقدّم ما يماثله في الفصاحة لكان مؤكّدا لحجّته لصرفهم عما هو ممكن مقدور ، كما لو ادعى أن دليل نبوّته امتناع حركتهم في وقت مخصوص لم يكن فيما تقدّم من حركاتهم حجّة في دفع.

وبعد ؛ فإن العقلاء إنّما يعرضون عن معارضته من تحدّاهم بأمر للوجه الّذي ادعوه إذا كانت الشبهات مرتفعة والأمر ظاهر غير ملتبس ، وأمنوا من أن يعقب

٣٢٠