تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

بمستوى واحد ، إذ نجده ـ أحيانا ـ يضعف القراءات المشهورة لأن ظاهرها يخالف قواعد اللغة ، فهو حين وقف عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (١) ، ذكر أنّ القراءة بالجرّ أولى من القراءة بالنصب «لأنّا إذا نصبنا الأرجل فلا بدّ من عامل في هذا النصب ، فامّا أن تكون معطوفة على الأيدي ، أو يقدر لها عامل محذوف ، أو تكون معطوفة على موضع الجار والمجرور في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا) (٢). ويرفض المرتضى أن تكون الأرجل معطوفة على الأيدي «لبعدها عن عامل النصب في الأيدي ، ولأن إعمال الأقرب أولى من أعمال الأبعد» (٣).

ثمّ يرفض أن تنصب بمحذوف مقدر لأنّه «لا فرق بين أن تقدر محذوفا هو الغسل ، وبين أن تقدر محذوفا هو المسح ، ولأن الحذف لا يصار إليه إلّا عند الضرورة» (٤).

فأمّا حمل النصب على موضع الجار والمجرور ، «فهو جائز وشائع إلّا أنّه موجب للمسح دون الغسل ، لأنّ الرؤوس ممسوحة ، فما عطف على موضعها يجب أن يكون ممسوحا مثلها» (٥). لكن المرتضى يعود ويرجّح أن تكون الأرجل معطوفة على لفظة «الرؤوس» ، لأنّ «إعمال أقرب العاملين أولى وأكثر في لغة القرآن والشعر» (٦). وهذا ـ كما يقول ـ «أولى من نصبها وعطفها على موضع الجار والمجرور ، لأنه أبعد قليلا ، فلهذا ترجحت القراءة بجر الأرجل على القراءة بنصبها» (٧).

وقد قرأ نافع وابن عامر والكسائي «وأرجلكم» بنصب اللام عطفا على «أيديكم» وقرأ الباقون «وأرجلكم» بالخفض عطفا ، على «رءوسكم» (٨). وقد

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦.

(٢ و ٣ و ٤) رسائل الشريف المرتضى ، ٣ : ١٦٣.

(٥ ـ ٦) نفسه ، ٣ : ١٦٤.

(٧) نفسه ، ٣ : ١٦٤ ، والانتصار : ٢١ وما بعدها ، والناصريّات : ٦١ وما بعدها.

(٨) ينظر اتحاف فضلاء البشر : ١٩٨ ، والنشر في القراءات العشر ، ٢ : ٢٥٥.

١٠١

استحسن الطبري قراءة الخفض مؤثرا لها قائلا : «وأعجب القراءتين إلى أن أقرأها قراءة من قرأ خفضا» (١) ، وقد أوّل جرّ لفظه «وأرجلكم» على أنها معطوفة على «رؤوسكم» ، لأن العطف على الرؤوس مع قربه منه «أي من الأرجل» أولى من العطف على الأيدي ، وقد فصّل بينه وبينها بقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) (٢). وإلى هذا المعنى ذهب ابن هشام الأنصاري ، فقد ذكر أن العطف لو كان على الوجوه والأيدي للزم ذلك أن يفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية وهي : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وإذا حمل العطف ، أعني عطف الأرجل ـ على الرؤوس لم يلزم الفصل بالأجنبي ، والأصل أن لا يفصل بين المتعاطفين بمفرد فضلا عن جملة (٣).

وذكر المرتضى الرأي القائل : إنّ الأرجل إنّما انجرت بالمجاورة لا لعطفها في الحكم على الرؤوس ، ورد هذا القول لأسباب منها : ان الإعراب بالمجاورة شاذّ نادر ... ولا يجوز حمل كتاب الله عزوجل على الشذوذ الّذي ليس بمعهود ولا مألوف. ومنها : انّ الإعراب بالمجاورة عند من أجازه إنّما يكون مع فقد حرف العطف ... ومنها انّ الإعراب بالمجاورة إنّما استعمل في الموضع الّذي ترتفع فيه الشبهة ويزول اللبس ...» (٤). وقد سبق أن اشار الزجاج إلى هذا التأويل ، فقد أنكر أن تكون هذه اللفظة مجرورة على الجوار ، وأبى أن يحمل عليه كتاب الله تعالى ذكره ، متأوّلا جرّ لفظة «وأرجلكم» عطفا على «رؤوسكم» (٥). وأنكر النحاس الجرّ على الجوار ، وعده غلطا عظيما في الكلام (٦). وأنكره ابن خالويه ، وحمله على الضرورة في الأمثال والشعر (٧). وهناك من ارتضى الجرّ على الجوار ، ومن هؤلاء أبو عبيدة (٨) ، وأبو البقاء ، إذ

__________________

(١) جامع البيان ، ٦ : ٨٤.

(٢) جامع البيان ، ٦ : ٨٤.

(٣) ينظر شرح شذور الذهب : ٣٣٢.

(٤) الانتصار : ٢١ ـ ٢٢.

(٥) ينظر معاني القرآن ، ٢ : ١٥٣ ، ونحو القرّاء الكوفيين : ١٢٥.

(٦) ينظر إعراب القرآن ، ٢ : ٩.

(٧) نظر الحجّة في القراءات : ١٢٩.

(٨) ينظر مجاز القرآن ، ١ : ١٥٥.

١٠٢

ذكر أن الجوار مشهور وأنه غير ممتنع أن يقع في القرآن الكريم (١). ومال إلى هذا الرأي الدكتور عبد الفتّاح الحموز (٢).

وعناية الشريف المرتضى بالقراءات لا تقف عند القراءات المشهورة ، بل نراه يذكر القراءات الشاذّة ، ويحتجّ لها أو يعلّلها ، ففي تفسيره لقوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) (٣) ، قال : «وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ : «أكاد أخفيها» فمعنى «أخفيها» على هذا الوجه أظهرها ؛ قال عبدة بن الطبيب يصف ثورا (٤).

يخفي التراب بأظلاف ثمانية

في أربع مسهن الأرض تحليل

أراد أنه يظهر التراب ويستخرجه بأظلافه ...» (٥).

وأعقب ذلك بقوله : «وقد روى أهل العربية : أخفيت الشيء يعني سترته ، وأخفيته بمعنى أظهرته ، وكأن القراءة بالضمّ تحتمل الأمرين : الإظهار والستر ، والقراءة بالفتح لا تحتمل غير الإظهار ...» (٦).

وقد قرأ الحسن وسعيد بن جبير بفتح الهمزة «أخفيها» ، وسائر القرّاء بالضمّ «أخفيها» (٧) وواضح ان المرتضى يعدّ قراءة «اخفيها» بالضمّ من الاضداد وسبق ان أشرنا إلى قول ابن جني في هذه اللفظة فهو يرى ان «اخفيها» بالضمّ لا تحتمل غير معنى الإظهار ، إذ قال في تأويل الآية : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ

__________________

(١) ينظر التبيان في إعراب القرآن ، ١ / ٤٢٢ ت ٤٢٣.

(٢) ينظر التأويل النحوي في القرآن الكريم ، ١ : ٣٠ ـ ٣١.

(٣) سورة طه ، الآية : ١٤٢.

(٤) ينظر ديوانه : ٧١ ، والتحليل ضد التحريم ، تقول : لم افعل ذلك إلّا تحلة القسم. أي القدر الّذي لا أحنث معه وأبالغ فيه. قال الخليل : «التحليل والتحلة من اليمين ، حللت اليمين تحليلا وتحلة ... اشتق من تحليل اليمين ثمّ أجرى في سائر الكلمات ...».

وقوله : بأظلاف ثمانية في أربع : يريد ثمانية أظلاف في أربع قوائم في كلّ قائم ظلفان. ينظر العين ، ٣ : ٢٧ وحاشية محقّق الديوان : ٧١.

(٥) أما لي المرتضى ، ١ : ٣٣٣.

(٦) نفسه ، ١ : ٣٣٤.

(٧) ينظر معاني القرآن ، ٢ : ٤٣. ومختصر شواذّ القراآت : ٨٧ ، والكشّاف : ٢ : ٥٣٢.

١٠٣

أُخْفِيها): تأويله والله أعلم عند أهل النظر : أكاد أظهرها. وتلخيص حال هذه اللفظة : أي أكاد أزيل عنها خفاءها وخفاء كلّ شيء ؛ غطاؤه ... فأخفيها في أنه «أزيل خفاءها» : بمنزلة قوله «لو أننا نشكيها» : أي نترك لها ما تشكوه (١) ، وكأن ابن جني يرى الهمزة في قراءة «أخفيها» بالضمّ هي همزة سلب ، ذلك بأن سلبت معنى الفعل الثلاثي ونقلته إلى المعنى المضاد (٢) ، فالضدية لا تعود إلى اللفظة ذاتها ، وإنّما تعود إلى اختلاف الصيغة الصرفية بين «فعل وأفعل».

وخلاصة القول : انّ السيّد المرتضى قد اهتمّ بالقراءات وبيان حججها ، واختلافها وذكر من قرأ بها ، وعلاقتها باللغة والنحو والدلالة ، وكان وهو يحتجّ بها يذكر من كلام العرب والشواهد الشعرية ما يؤيّدها ، فدلّ بذلك على علم بالقراءات وإحاطة بالمشهور منها والشاذّ وكانت عنايته بالقراءات المشهورة أكثر ، والشهرة عنده سبب من أسباب قوّة القراءة عند الموازنة بينها ـ وإن لم يلتزم ذلك ـ كما رأينا ذلك في ترجيحه لقراءة (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٣) ، وقراءة (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (٤) بفتح العين والباء.

ومع قوله بشذوذ طائفة من القراءات وعدم جواز القراءة بها ، لا يغفل مالبعض منها ـ الشاذّة ـ من اعتبارات وقيم معنوية ولغوية ، ولا يهمل توجيهها والاحتجاج لها ، كما رأينا ذلك في توجيهه لقراءة سعيد بن جبير (أَكادُ أُخْفِيها) (٥) بفتح الهمزة ، والاحتجاج لها بالشعر وتخريجها دلاليا.

وعلى الرغم من عناية المرتضى بالقراءات المشهورة ، إلّا أن ذلك لم يمنع من الموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض من دون أن يعني هذا الترجيح إسقاط المرجوح وقبول الراجح وحده ، فالمرتضى لم يقف عند توجيه القراءات المشهورة وبيان عللها وحجج القراء فيها فحسب ، بل أبدى رأيه في طائفة منها ، بترجيح بعضها على بعض ، واختيار ما رآه الأقوى منها ، مستعينا على ذلك باللغة

__________________

(١) سرّ صناعة الاعراب ، ١ : ٤٣.

(٢) ينظر الاضداد في اللغة : ١٩٠.

(٣) سورة الضحى ، الآية : ٧.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٦٠.

(٥) سورة طه ، الآية : ١٥.

١٠٤

والشواهد القرآنية والشعرية ، ناقلا أراء غيره ومبديا رأيه ، وكأنه ينظر إلى قول ابن مجاهد «ما روي من الآثار في حروف القرآن ، منها المعرب السائر الواضح ، ومنها المعرب الواضح غير السائر ، ومنها اللغة الشاذّة القليلة ، ومنها الضعيف المعنى في الإعراب ... وبكلّ قد جاءت الآثار» (١). وقد بنى المرتضى توجيهه وترجيحه القراءات المشهورة على معايير متنوّعة أظهرها :

ـ معيار أسلوبي ، كما رأينا ذلك في ترجيحه لقراءة (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (٢) ، بتقديم المفعولين على الفاعلين ؛ لأن ذلك ـ عنده ـ أبلغ في وصفهم وأمدح لهم ، وأدل على شجاعتهم.

ـ ومعيار عقلي ، كما رأينا في توجيهه لقراءة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (٣).

فالمرتضى الّذي يقول بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام يرى أن الهاء في الآية لا يجب أن تكون راجعة إلى السؤال بل إلى الابن ، ويكون تقدير الكلام : إن ابنك ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

ـ ومعيار نحوي ، كما رأينا ذلك في ترجيحه لقراءة

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [أقول :] (٤) بجر لفظة (وَأَرْجُلَكُمْ).

ـ ومعيار صرفي ، كما رأينا ذلك في توجيهه لقراءة (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) (٥) ، بالتخفيف ، حيث رفض قول الكسائي بأن بين أكذبه فرقا ، فمعنى هذه اللفظة ـ عنده ـ مشددة يعود إلى معناها مخفّفة ، لأنه ـ كما يقول ـ «ليس بين فعلت وأفعلت في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى» (٦).

الشاهد الشعري

الصلة بين الدلالة القرآنية والدلالة الشعرية صلة قوية ، فالشعر ديوان

__________________

(١) كتاب السبعة في القراءات : ٤٩.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ١١١.

(٣) سورة هود ، الآية : ٤٦.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٦.

(٥) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٦٧.

(٦) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٦٧.

١٠٥

العرب ، والقرآن الكريم نزل بلسان العرب ، وقد أدرك العرب هذه الصلة ، وفهموا ما كان بين القرآن وهذه اللغة من صلة حميمة ، فاتجهوا إلى الشعر يدرسونه ويكشفون عن خصائصه لكي يعينهم ذلك على فهم النص القرآني وبيان دلالاته (١).

ولعلّ الصحابي الجليل عبد الله بن عبّاس (ت ٦٨ ه‍) من أقدم من نهج في تفسير القرآن الكريم هذا النهج اللغوي ، إذ كان يفسر غريبه بالشعر العربي القديم ، وفي إجابته عن سؤالات نافع بن الأزرق من هذا شيء كثير (٢). وقد ذكر السيوطي قوله : «إنّ الشعر ديوان العرب ، فإذا أخفى علينا الحرف من القرآن الّذي أنزله الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منها» (٣).

فلا غرابة ـ بعد ذلك ـ أن يسير بعض من المؤلّفين في الدلالة القرآنية على نهج ابن عبّاس ، فيهتّموا بالشاهد الشعري ، ولا غرابة أن يأخذ هذا الشاهد مكانه في المؤلّفات الأولى في اللغة والنحو (٤) ، فقد استشهد النحاة واللغويّون بالشعر والرجز ، البيت أو الأبيات ، الشطر وجزء الشطر ، المعروف القائل أو المجهول ، حتّى أخذ بعض الدارسين المحدثين على أولئك القدماء اعتمادهم الزائد على الشعر دون النثر (٥).

وقد ظهرت عند علماء العربية ضوابط ومعايير حددوها لهذا النوع من الشواهد لعلّ أبرزها معيار الفصاحة للقبائل أو للشعراء الّذين يحتجّ بشعرهم ، أو معيار الزمن الّذي يقف فيه عصر الاحتجاج إذ أخذ علماء اللغة والنحو مادتهم عن قبائل منها : «قريش ... ثمّ من اكتنفهم من ثقيف ، وهذيل ، وخزاعة ، وبني كنانة ، وبني أسد ، وبني تميم ، وأمّا من بعد عنهم فلم يؤخذ عنهم» (٦) ، ولم

__________________

(١) ينظر المدخل إلى البلاغة العربية : ١٦.

(٢) ينظر سؤالات نافع بن الازرق ، والتفسير والمفسّرون ، ١ : ٧٤.

(٣) الإتقان ، ١ : ١٩٩.

(٤) ينظر منهج الخليل في دراسة الدلالة القرآنية : ١٩٣.

(٥) ينظر الشواهد والاستشهاد في النحو : ١٣١ وما بعدها.

(٦) المقدّمة : ١٧٢.

١٠٦

يأخذوا عن القبائل المجاورة للحواضر «ولا عن سكان البراري ، ممّن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الّذين حولهم» (١) ، وقد فصل الأقدمون في بحث تلك الضوابط والمعايير وتابعهم المحدثون في ذلك (٢).

وكان المرتضى من أولئك العلماء الّذين اهتمّوا بالشاهد الشعري في بحثه التفسيري ، ونراه يوجه مجموعة كبيرة من تلك الشواهد لإيضاح الدلالة القرآنية. وقبل أن أقف على كيفيّة استعمال المرتضى الشاهد الشعري ، أحبّ أن أشير إلى النقاط الآتية لبيان منهجه في الاستشهاد :

١ ـ استشهد بشعر الجاهليين ، والأسلاميين ، الأمويين ، فمن الجاهليين : عنترة (٣) ، والمتلمس (٤) ، والأعشى (٥) ، وعدي بن زيد (٦) ، والنابغة (٧) ، وعروة بن الورد (٨) ، وعبيد بن الأبرص (٩) ، وعمرو بن كلثوم (١٠) ، وامرؤ القيس (١١) ، وطرفة (١٢) ، وزهير (١٣).

ومن المخضرمين : الحطيئة (١٤) ، والخنساء (١٥) ، ولبيد (١٦) ، وحسان بن ثابت (١٧) ، وكعب بن زهير (١٨) ، والشماخ (١٩) ، وابن مقبل (٢٠) ...

__________________

(١) المزهر ، ١ : ٢١١ ، وينظر الخصائص ، ٢ : ٥.

(٢) ينظر ، الاقتراح في علم أصول النحو : ١٦ ـ ٢٠ ، والمزهر ، ١ : ٥٨ ، وخزانة الأدب ، ٥ : ١ وما بعدها ، والشاهد واصول النحو في كتاب سيبويه ، والدراسات اللغوية عند العرب إلى نهاية القرن الثالث : ٣٦٣.

(٣) ينظر على سبيل المثال : أمالي المرتضى ، ١ : ٩.

(٤) نفسه ، ١ : ٥.

(٥) نفسه ، ١ : ٣١.

(٦) نفسه ، ١ : ٣٤.

(٧) نفسه ، ١ : ٣٦.

(٨) نفسه ، ١ : ٣٤.

(٩) نفسه ، ١ : ٥٦.

(١٠) نفسه ، ١ : ٥٧.

(١١) نفسه ، ١ : ٧١.

(١٢) نفسه ، ١ : ٩٢.

(١٣) نفسه ، ٢ : ١٠٩.

(١٤) ينظر على سبل المثال : أمالي المرتضى ، ١ : ٤٩.

(١٥) نفسه ، ١ : ٢٠١.

(١٦) نفسه ، ١ : ١١٢.

(١٧) نفسه ، ١ : ٣٤٢.

(١٨) نفسه ، ١ : ٤١٨.

(١٩) نفسه ، ١ : ٣٤٣.

(٢٠) نفسه ، ١ : ٢٠٢.

١٠٧

ومن الامويين : الفرزدق (١) ، وجرير (٢) ، وعمر بن أبي ربيعة (٣) ، وذو الرمة (٤) ، والأخطل (٥) ، وكثير (٦) ، وعبيد الله بن قيس الرقيات (٧) ، والكميت ابن زيد الأسدي (٨) ، والطرماح (٩).

٢ ـ لم يستشهد بشعر المولدين أو المحدثين ، وليس في شواهده شعر لبشار ابن برد ، وأبي تمام والبحتري ، والمتنبّي ، وغيرهم من شعراء العصر العبّاسي. وهذا يعني أن منهجه بالاستشهاد فيه شيء غير قليل من الصرامة. وكان الزمخشري استشهد بشعر أبي تمام (١٠) ، وجعل ما يقوله منزلة ما يرويه ، لأنه ـ كما يرى ـ من علماء العربية (١١) ، واستشهد الطبرسي في تفسيره بشعر المتنبّي (١٢).

٣ ـ استشهد بالشعر والرجز ، ومن الرجاز الّذين احتجّ بأرجازهم أبو النجم العجلي (١٣) ، ورؤبه بن العجاج (١٤).

٤ ـ استشهد بالبيت الواحد أو الأبيات ، كما استشهد بشطر البيت ، ومن ذلك ، ما جاء في إشارته إلى زيادة الباء في قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١٥) ، إذ قال : «الباء في مثل هذا الموضع غير منكر زيادتها ؛ وذلك موجود كثير في القرآن والشعر» (١٦) ، واحتجّ بقول أمرىء القيس (١٧) :

__________________

(١) ينظر على سبيل المثال : أمالي المرتضى ، ١ : ٧٢.

(٢) نفسه ، ٢ : ٣٦٣.

(٣) نفسه ، ١ : ٣٦٣.

(٤) نفسه ، ١ : ١٠٧.

(٥) نفسه ، ١ : ٢١٨.

(٦) نفسه ، ١ : ٣٥٢.

(٧) نفسه ، ١ : ٣٢٥.

(٨) نفسه ، ١ : ٣٦٣.

(٩) نفسه ، ١ : ٣٥١.

(١٠) ينظر الكشّاف ، ١ : ٢٢٠.

(١١) نفسه ، ١ : ـ ٢٢٠ : ٢٢١. وقد أنكر أبو حيّان على الزمخشري ذلك ورد عليه بقوله : كيف يستشهد بكلام من هو مولد ، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره. ينظر البحر المحيط ، ١ : ٩١.

(١٢) ينظر مجمع البيان ، ٦ : ٣٢٣ ، ٨ : ٤٧٤ ، والمباحث النحوية في تفسير مجمع البيان : ٩٧.

(١٣) ينظر أمالي المرتضى ، ٢ : ١٤٧.

(١٤) نفسه ، ١ : ٢١٦.

(١٥) سورة العلق الآية : ١.

(١٦) أمالي المرتضى ، ٢ : ١٠١.

(١٧) أمالي المرتضى ، ٢ : ١٠١ ، وديوان امرىء القيس : ٣٢.

وتنازعنا : تعاطينا واسمحت : لانت وانقادت ، والمشاريخ : خصائل الشعر.

١٠٨

هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

وما ذكره هو شطر من بيت :

فلمّا تنازعنا الحديث وأسمحت

هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

٥ ـ جاءت شواهد منسوبة أحيانا وغير منسوبة أحيانا أخرى ، وقد يكون الشاهد مجهول القائل أو لشهرة الأبيات أو لشهرة ممّن استشهد بشعرهم يهمل ذكر قائليها (١).

٦ ـ يكثر المرتضى من الاستشهاد بالشعر ، ويذكر أكثر من شاهد في المسألة الواحدة ، وهو يستطيع بسيطرته غير المألوفة على اللغة والشعر القديم ، «أن يبرهنّ على استاذية حقّة ، فهو لا يعتمد من وجوه التفسير سواء أكانت راجعة إلى قواعد النحو أم إلى مفردات إلّا ما يمكنه أن يؤيّده بالشواهد الكثيرة من المصادر القديمة للاستعمال اللغوي الأصيل» (٢).

أما عن كيفيّة استعمال المرتضى الشاهد الشعري لإيضاح الدلالة القرآنية فيمكن القول : إن الشاهد الشعري عند المرتضى كان ذا أثر كبير في الوصول إلى كثير من الدلالات سواء أكانت دلالة لفظة بعينها ، أم أسلوبا من أساليب التعبير القرآني ، أم بيان ظاهرة نحوية خاصّة بذلك التعبير ، أو بيان دلالة حرف من الحروف. وكان الشاهد الشعري عند المرتضى وسيلة مهمّة حاول من خلالها أن يوفّق بين بعض الآيات ، ويوضح انسجامها وترابطها وبعدها عن أي اختلاف أو تناقض كما يزعم بعض المتشكّكين ، وفي هذا «أبدى تفوّقا عجيبا ، وأبان عن ذهن وقّاد ، وذكاء متلهب ، وبصر نافذ وأعانه فيما فسّر وأوّل ووجه وفرة محفوظة من الشعر واللغة» (٣) وفي الأمثلة الآتية بيان ذلك :

__________________

(١) ينظر أمالي المرتضى ، ٢ : ١٤٧.

(٢) مذاهب التفسير الإسلامي ، جولد تسهير : ١٣٩ ، وينظر التفسير والمفسّرون ، للذهبي ، ٢ : ٤٠٣ وما بعدها ، والتراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة ، د. وليد القصّاب : ٢٢٠٢ وما بعدها.

(٣) مقدّمة محقّق أمالي المرتضى ، محمّد أبو الفضل إبراهيم ، ١ : ١٨.

١٠٩

ـ يستعمل الشاهد الشعري للوصول إلى دلالة لفظة مفردة في آية كريمة كما في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) (١) ، ففي بيانه لدلالة «ينعق» قال : «اختلف الناس في «يعنق» فقال أكثرهم : لا يقال نعق ينعق إلّا في الصياح بالغنم وحدها ، وقال بعضهم نعق ينعق بالغنم والإبل والبقر ؛ والأوّل أظهر في كلام العرب ، قال الأخطل (٢) :

فانعق بضأنك ، يا جرير فإنّما

منتك نفسك في الخلاء ضلالا (٣)

وفي كثير من الأحيان يستطرد المرتضى في شرح المفردات الشعرية وبيان دلالتها ، وقد دلّت هذه الشروح على تمكّن المرتضى من اللغة وإحاطته بشواردها ، وفي بيانه لمعنى اللفظة (ينعق) يستطرد المرتضى في ذكر دلالاتها ومختلف معانيها ، فيقول : «ويقال أيضا : نعق الغراب ونغق ، بالغين المعجمة ، إذا صاح من غير أن يمد عنقه ويحركها ، فإذا مدها وحركها ثمّ صاح قيل : نعب ، ويقال أيضا : نعب الفرس ينعب وينعب نعبا ونعيبا ونعبانا ، وهو صوته ، ويقال : فرس منعب ، أي جواد ، وناقة نعابة. إذا كانت سريعة» (٤). وقد فرق ابن فارس بين اللفظتين (نعق ونغق) ، فقال : «نعق» النون والعين والقاف كلمة تدلّ على صوت ، ونعق الراعي بالغنم ينعق وينعق إذا صاح به زجرا» (٥). وفي «نغق» قال : «النون والغين والقاف ليس فيه إلّا نغق الغراب نغيقا» (٦).

وقد يأتي بالشاهد الشعري ليوضح دلالة لفظة معيّنة أكسبها السياق دلالة جديدة ، ففي بيانه لدلالة لفظة «نسينا» في قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٧) ، يتساءل المرتضى : كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل الدعاء

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٧١.

(٢) ديوانه ، ١ : ١١٦.

(٣) أمالي المرتضى ، ١ : ٢١٨ ، وينظر تفسير الطبري (جامع البيان) ، ٢ : ٤٩ ، وغرائب القرآن ، ٢ : ـ ٦٥ ـ ٦٦.

(٤) أمالي المرتضى ، ١ : ٢١٩ ، وينظر أدب الكاتب : ١٣٥.

(٥) مقاييس اللغة ، ٥ : ٤٤٥.

(٦) نفسه ، ٥ : ٤٥١.

(٧) سورة البقرة ، الآية : ٢٩٦.

١١٠

بذلك ، وعندكم أن النسيان من فعله تعالى؟ ولا تكليف على الناس في حال نسيانه ، وفي الجواب يقول : «معنى النسيان هاهنا الترك ... وقد يقول الرجل لصاحبه : لا تنسني من عطيتك ، أي لا تتركني منها ، وأنشد ابن عرفة :

ولم أك عند الجود للجود قاليا

ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا

أي تاركا» (١).

وكان ابن قتيبة قد ذكر هذا المعنى فقال : «النسيان ضدّ الحفظ ... والنسيان الترك كقول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (٢).

وقوله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (٣) ، أي بما تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم» (٤).

وقد يأتي بالشاهد الشعري ليوضح دلالة حرف من الحروف ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٥) ، فقد ذكر أكثر من وجه لدلالة الحرف «أو» منها : أن يكون «أو» بمعنى الواو (٦) ، واستشهد لهذا المعنى بقول جرير (٧) :

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

وقوله توبة بن الحمير (٨) :

وقد زعمت ليلى بأني فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

ثمّ ذكر المرتضى أن بعضهم طعن على هذا الجواب وقال : «ليس بشيء يعلم أشدّ قسوة عند المخاطبين من الحجارة ، فينسق به عليها ، وإنّما يصحّ ذلك

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ٢ : ١٣١.

(٢) سورة طه ، الآية : ١١٥.

(٣) سورة السجدة ، الآية : ١٤.

(٤) تأويل مشكل القرآن : ٥٠٠.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٧٤.

(٦) ينظر أمالي المرتضى ، ٢ : ٥٧.

(٧) نفسه ، ٢ : ٥٧ ، وينظر ديوانه : ٢١١. والرواية فيه :

نال الخلافة اذ كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

(٨) أمالي المرتضى ، ٢ : ٥٧ ، وينظر ديوانه : ٣٧.

١١١

في قولهم : أطمتك تمرا أو أحلى منه ، لأن أحلى منه معلوم» (١). لكن المرتضى يرفض هذا القول ، ويرى أنه ليس بشيء ، لأنهم وإن لم يشاهدوا أو يعرفوا ما هو أشدّ قسوه من الحجارة فصورة قسوة الحجارة معلومة لهم «ويصحّ أن يتصوّروا ما هو أشدّ قسوة منها ، وما له الزيادة عليها ، لأن قدرا ما إذا عرف صحّ أن يعرف ما هو أزيد منه أو أنقص ، لأنّ الزيادة والنقصان إنّما يضافان إلى معلوم معروف ، على أن الآية خرجت مخرج المثل ، وأراد تعالى بوصف قلوبهم بالزيادة في القسوة على الحجارة أنها قد انتهت إلى حدّ لا تلين معه للخير ... فصارت من هذا الوجه كأنها أشدّ قسوة منها تمثيلا وتشبيها» (٢).

ولا شكّ أن هذا الكلام يتوافر فيه عنصر الاقناع والاقتناع ، وهو يدلّ على عمق ثقافة المرتضى ، وفهمه لأساليب العرب ، إذ لا يستطيع الخوض في هذا المضمار إلّا من أوتى حظّا وافرا من سعة اللغة ومعرفة بأساليبها ، وقد عرف المرتضى باتساعه بهذا الجانب ، وله تأمّلات طويلة في نصوص شعرية ، كشف ما غمض من لغتها (٣) ، ولولا إطّلاعه الواسع على الشعر واللغة لما استطاع أن يفسّر الرموز اللغوية ويتعرف على مختلف معانيها ، وهنا نلحظ أن النزعة العقلية لا تفترق عند المرتضى عن الشاهد الشعري ، فهو يحتج بالشاهد الشعري ، وفي الوقت نفسه «يقيم ردّه على أسّس قوية من الأدلّة المنطقية ، والبراهين العقليّة الّتي تؤيّدها الحقيقة ، ويقربها الواقع» (٤) ، وهذه من السمات الّتي طبعت اسلوبه وتميّز بها منهجه ، فالرجل كان عالما متمكّنا من علوم العربية ، واسع الإطّلاع ، قوي الحجّة.

وقد يأتي بالشاهد الشعري ليوضح ظاهرة نحوية خاصّة بالتعبير القرآني ، كما

__________________

(١) نفسه ، ٢ : ٥٨.

(٢) أمالي المرتضى ، ٢ : ٥٨ ـ ٥٩.

(٣) ينظر أمالي المرتضى في كثير من مواضعه ، وطيف الخيال في أغلب مواضعه ، والشهاب في الشيب والشباب في أغلب مواضعه ، وشرح القصيدة الذهبية.

وينظر أقوال المحدثين : مقدّمة طيف الخيار : ٢١ ، الشعراء العبّاسيون نقّادا ، منعم سالم الموسوي : ١٩٦ ، والرؤية النقدية عند الشريف المرتضى : ٤٦ ، (بحث).

(٤) رسالة طيف (لبهاء الدين الأربلي) ، مقدّمة المحقّق : ٣٤.

١١٢

في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) (١) ، فقد ذكر في عود الضمير أكثر من وجه منها : «أن ترجع الهاء إلى الإيتاء الّذي دلّ «وأتى» عليه ، والمعنى : وأعطى المال على حبّ الإعطاء ، ويجري ذلك مجرى قول القطامي (٢) :

هم الملوك وأبناء الملوك لهم

والآخذون به والساسة الأول

فكنى بالهاء عن الملك ، لدلالة قوله : «الملوك» عليه ، ومثله قول الشاعر :

إذا نهى السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف

أراد : جرى إلى السفه الّذي دلّ ذكر السفيه عليه» (٣).

وجاء في إعراب القرآن المنسوب للزجاج في الآية : «قيل : وآتى المال على حبّ الإعطاء. وقيل : وآتى المال على حبّ ذوي القربى ... وقيل على حبّ المال ، فعلى هذا يكون في موضع الحال ، أي آتاه محبّا له» (٤). وفي الكشّاف «على حبّه مع حبّ المال والشحّ به ... وقيل على حبّ الله ، وقيل على حبّ الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه ، وقدم ذي القربى لأنهم أحقّ» (٥). ولعلّ أصحّ الأقوال ـ والله أعلم ـ أن تكون الهاء ترجع إلى الله تعالى ، لأنّ ذكره تعالى قد تقدّم في الآية.

ومن ذلك تفسيره لدلالة لفظة الفرقان في قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٦) ، فقد ذكر أكثر من وجه منها : «أن يكون المراد بالفرقان القرآن ، ويكون تقدير الكلام : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الّذي هو التوراة و «آتينا محمّدا «الفرقان» ، فحذف ما حذف ممّا يقتضيه الكلام ؛ كما حذف الشاعر على قوله :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٧٧.

(٢) ديوانه : ٣٠.

(٣) أمالي المرتضى ، ١ : ٢٠٣ ، وينظر تفسير الطبري (جامع البيان) ، ٢ ـ ٥٦ ـ ٥٧.

(٤) اعراب القرآن المنسوب للزجاج ، ٢ ـ ٥٥٥ ـ ٥٥٦. وينظر التبيان في إعراب القرآن ، ١ : ١٤٤.

(٥) الكشّاف ، ١ : ٣٣٠.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ٥٣.

١١٣

علفتها تبنا وماء باردا

حتّى شتت همالة عيناها (١)

أراد وسقيتها ماء باردا ، فدلّ علفت على سقيت.

وقال الآخر (٢) :

يا ليت بعلك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

أراد حاملا رمحا» (٣).

ويذكر المرتضى أن أبا بكر بن الأنباري كان يرى أن الاستشهاد بهذه الأبيات لا يجوز على هذا الوجه ؛ «لأن الأبيات اكتفى فيها بذكر فعل عن ذكر فعل غيره ، والآية اكتفي فيها باسم دون اسم» (٤). لكن الشريف المرتضى يرفض هذا القول ، لأن الأمر وإن كان على ما قاله ابن الأنباري في الاسم والفعل ، «فإن موضع الاستشهاد صحيح ؛ لأن الاكتفاء في الأبيات بفعل عن فعل إنّما حسن من حيث دلّ الكلام على المحذوف والمضمر واقتضاه فحذف تعويلا على أن المراد مفهوم غير ملتبس ولا مشتبه. وهذا المعنى قائم في الآية ، وإن كان المحذوف اسما ؛ لأن اللبس قد زال» (٥).

وقد يأتي بالشاهد الشعري ليوضح أسلوبا من الأساليب القرآنية ، ويرد على المتشكّكين الّذين ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية تفتقر إلى علم باللغة ومعرفة

__________________

(١) البيت من شواهد النحاة الّتي لا يعرف قائلها ، وهو في باب المفعول معه على أنه إذا لم يكن عطف الإسم الواقع بعد الواو على ما قبله تعيّن النصب على المعية أو على اضمار فعل يليق به ، ينظر شرح ابن عقيل ، ٢ : ٢٠٧.

(٢) هو عبد الله بن الزبعرى ، ينظر ديوانه : ٣٢ ، والرواية فيه :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

وهذا البيت هو الآخر من شواهد النحاة في باب المفعول معه ، قال ابن يعيش : يريد متقلّدا سيفا ومعتلا رمحا ، لتعذر حمله على ما قبله ...

ينظر شرح المفصل ، ٢ : ٥٠.

(٣) أمالي المرتضى ، ٢ : ـ ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٤) نفسه ، ٢ : ٢٦٠.

(٥) أمالي المرتضى ، ٢ : ٢٦٠.

١١٤

بأساليبها ، فقد توقّف عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) (١) وقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (٣) ، وقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٤).

فعبارة (بِغَيْرِ حَقٍ) قد توهّم أن قتل الأنبياء قد يكون بحقّ ، وكذلك بقيّة الآيات قد يوهم ظاهرها ما ليس مقصودا وما لا يتّفق مع طبيعة الأمور. ولذا فإن المرتضى يطيل الوقوف عند هذه الآيات ويردها إلى المألوف والمستعمل من كلام العرب ، فيقول : «إنّ للعرب فيما جرى هذا المجرى من الكلام عادة معروفة ، ومذهبا مشهورا ... ومرادهم بذلك المبالغة في النفي وتأكيده ؛ فمن ذلك قولهم : فلان لا يرجى خيره ، ليس يريدون أن فيه خيرا لا يرجى ، وإنّما غرضهم أنه لا خير عنده على وجه من الوجوه ، ... وقال أمرؤ القيس (٥) :

على لا حب لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود الديافى جرجرا

يصف طريقا ، وأراد بقوله : «لا يهتدى بمناره» أنه لا منار له فيهتدى بها ... وقال النابغة (٦) :

يحفه جانبا نيق وتتبعه

مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد

أراد : ليس بها رمد فتكحل له ... وقال سويد بن أبي كاهل (٧) :

من أناس ليس من أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع

__________________

(١) سورة آل عمران الآية : ٢١.

(٢) سورة المؤمنون ، الآية : ١١٧.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٤١.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٣.

(٥) ديوانه : ٦٦. والرواية فيه :

على لا حبّ لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود النباطي جرجرا

والعود : المسن من الإبل ، والديافي : منسوب إلى دياف من قرى الشام وسافه : شمه ، والجرجرة مثل الهدير. والنباطي : منسوب إلى النبط ، أشدّ الإبل وأصبرها. وقيل : هو الضخم ، واللاحب : الطريق البين الّذي لحبته الحوافر ، أي أثرف فيه ، ينظر أمالي المرتضى ، ١ : ٢٢٩ ، وحاشية محقّق الديوان : ٦٦.

(٦) ديوانه : ٣٥.

(٧) ديوانه : ٢٧.

١١٥

ولم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا ، ولا جزعا ، وإنّما أراد نفي الفحش والجزع عن أخلاقهم» (١).

وفي ضوء هذا الفهم لأساليف العرب في التعبير يمضي المرتضى ويفصل القول في كلّ آية من هذه الآيات ، فقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) تغليط وتأكيد في تحذيرهم الكفر ، وهو أبلغ من أن يقول : «ولا تكفروا به» وكذلك قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) معناه لا مسألة تقع منهم ، وقوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)، معناه أن كلّ ثمن لها لا يكون إلّا قليلا وقوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) دلّ على أن قتلهم لا يكون إلّا بغير حقّ (٢). وهكذا فإنّ المرتضى يتوسّل بالنصّ الشعري لكي ينفذ إلى داخل النصّ القرآني ، أو بمعنى آخر فهو يجعل النصّ الشعري وسيلة لإبلاغ الفكرة القرآنية المقصودة.

ويقف المرتضى عند قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٣) ، ويتساءل : كيف يجوز أن يضيف البكاء إليهما ، وهو لا يجوز في الحقيقة عليهما؟ وفي الجواب يذكر أكثر من رأى منها : «أنه تعالى أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر ، وسقوط المنزلة ، لأن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت : كسفت الشمس لفقده ، وأظلم القمر ، ... يريدون المبالغة في عظم الأمر وشمول ضرره ؛ قال جرير (٤) يرثي عمر بن عبد العزيز :

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وهذا صنيعهم في وصف كلّ أمر جل خطبه ، وعظم موقعه ... قال النابغة (٥) :

تبدو كواكبه ، والشمس طالعة

لا النور نور ولا الإظلام إظلام» (٦)

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ١ : ـ ٢٢٨ ـ ٢٣٠.

(٢) ينظر أمالي المرتضى ، ١ : ٢٣١.

(٣) سورة الدخان الآية : ٢٩.

(٤) ديوانه : ٢٣٥. والرواية فيه :

فالشمس كاسفة ليست بطالعة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

(٥) ديوانه : ١٠٥.

(٦) أمالي المرتضى ، ١ : ٥ ـ ٥٢.

١١٦

وتبدو آثار منهج المرتضى في توجيه النصّ القرآني وبيان دلالته واضحة وهو يؤول النصّ الشعري ، أعني تلك الظاهرة الواضحة الّتي طبعت أسلوبه ، وهي كثرة الوجوه الّتي يقلب عليها المسألة الواحدة ، ويتّضح هذا الشيء بجلاء في بيانه لدلالة انتصاب النجوم والقمر في بيت جرير السابق ، قال : «فأمّا بيت جرير فقد قيل في انتصاب النجوم والقمر ، وجوه ثلاثة : أحدها أنه أراد أن الشمس طالعة ، وليس مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر ... ، والوجه الثاني أن يكون انتصاب ذلك كما ينتصب في قولهم : لا أكلمت الأبد ، والدهر ، ... فكأنّه أخبر بأن الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وظهر القمر. والوجه الثالث أن يكون القمر ونجوم الليل باكين الشمس على هذا المفقود ، فبكتهنّ ، أي غلبتهنّ بالبكاء ؛ كما تقول ... وكاثرني فكثرته ، أي غلبته وفضلت عليه» (١).

وليس مثل هذا النقد المعتمد على تحليل النصّ بالشيء الجديد ، فذلك هو طريق النقاد القدامى ، وهو طريق ربما شقه أمامهم عمل الفقهاء في تحليل النصّ القرآني تحليلا يمكن صاحبه من استخراج الأحكام ، اما من ظاهر الآيات ، أو من تأويلها ، فاصطنع النقاد شيئا كهذا في تحليل الشعر بيتا بيتا ، وكلمة كلمة ، إعرابا وتركيبا (٢). وهو منهج لغوي معروف و «لا يقتصر على إنارة مواطن الحسن والتقاط القيم النفسية والشعورية الّتي تنبض بها الأبيات ، وإنّما يتعدّى ذلك إلى النظر في تلك اللغة من حيث موافقتها أو مخالفتها لمواصفات اللغة ، ونظامها المتعارف» (٣).

ومن المعروف أن المرتضى شاعر وناقد وله في ميدان الشعر ونقده آثار مهمّة ، كالشهاب في الشيب والشباب ، وطيف الخيال ، وكتاب الأمالي غني بمباحثة النقدية والأدبية ، وقد التفت إلى جهوده النقدية أكثر من باحث وناقد (٤).

__________________

(١) أمالي المرتضى ، ١ : ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) ينظر في فلسفة النقد : ١٢٢.

(٣) النقد اللغوي عند العرب : ٢٢.

(٤) ينظر أدب المرتضى : المقدّمة ، ومقدّمة طيف الخيال : ص ٢١ ، ورسالة طيف : مقدّمة المحقّق : ٣٣ والشعراء العبّاسيون نقّادا : ١٩٦ ، والرواية النقدية عند الشريف المرتضى : ٢٤٥ (بحث).

١١٧

وخلاصة القول : إنّ الشاهد الشعري عند المرتضى وسيلة مهمّة من وسائل توثيق المعنى القرآني وبيان دلالته ، فهو يعرض لغة القرآن الكريم وأساليب تعبيره على لغة العرب ونصوصها الشعرية ، مشيرا إلى سمات التعبير العربي ، وإلى معاني النصّ القرآني ، وقد أبدى في ذلك مهارة منقطعة النظير ، وكان يمتلك دائما الحجج والأدلّة الّتي يستشهد بها على ما يقول ، وقد أعانه على ذلك وفرة محفوظاته من اللغة والشعر القديم ، وكثرة استيعابه لكلام العرب ، وفهمه لأساليبهم في التعبير.

١١٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[المقدّمة الأولى : في الخطاب وأقسامه وأحكامه وفيها أمور :]

[الأوّل : تعريف الخطاب]

والخطاب هو الكلام إذا وقع على بعض الوجوه ، وليس كلّ كلام خطابا ، وكلّ خطاب كلام. والخطاب يفتقر في كونه كذلك على إرادة المخاطب لكونه خطابا لمن هو خطاب له ومتوجّها إليه ، والّذي يدلّ على ذلك أنّ الخطاب قد يوافقه في جميع صفاته من وجود وحدوث وصيغة وترتيب ما ليس بخطاب ، فلا بدّ من أمر زائد به كان خطابا ، وهو قصد المخاطب. ولهذا قد يسمع كلام الرّجل جماعة ويكون الخطاب لبعضهم دون بعض لأجل القصد الّذي أشرنا إليه المخصّص لبعضهم من بعض ، ولهذا جاز أن يتكلّم النائم ، ولم يجز أن يخاطب ، كما لم يجز أن يأمر وينهى.

[الثاني : أقسام الخطاب]

وينقسم الخطاب إلى قسمين مهمل ومستعمل.

فالمهمل : ما لم يوضع في اللّغة الّتي أضيف أنّه مهمل إليها لشيء من المعاني ، والفوائد.

وأمّا المستعمل : فهو الموضوع لمعنى ، أو فائدة. وينقسم إلى قسمين.

أحدهما : ما له معنى صحيح وإن كان لا يفيد فيما سمّى به كنحو الألقاب مثل قولنا : زيد وعمرو ، وهذا القسم جعله القوم بدلا من الإشارة ولهذا لا

١١٩

يستعمل في الله تعالى. والفرق بينه وبين المفيد أنّ اللقب يجوز تبديله وتغييره ، واللغة على ما هي عليه ، والمفيد لا يجوز ذلك فيه ؛ ولهذا كان الصحيح أن لفظة شيء أليست لقبا ، بل من قسم مفيد الكلام ؛ لأنّ تبديلها وتغييرها لا يجوز ، واللغة على ما هي عليه.

وإنّما لم تفد لفظة شيء ، لاشتراك جميع المعلومات في معناها ، فتعذّرت فيها طريقة الإبانة والتّمييز. فلأمر يرجع إلى غيرها لم تفد ، واللقب لا يفيد لأمر يرجع إليه.

والقسم الثاني من القسمة المتقدّمة : هو المفيد الّذي يقتضى الإبانة. وهو على ثلاثة أضرب : أحدها : أن يبين نوعا من نوع ، كقولنا : لون ، وكون ، واعتقاد ، وإرادة. وثانيها : أن يبيّن جنسا من جنس كقولنا : جوهر ، وسواد ، وحياة ، وتأليف. وثالثها : أن يبيّن عينا من عين كقولنا : عالم ، وقادر ، وأسود ، وأبيض (١).

[الثالث : البحث في الحقيقة والمجاز]

وينقسم المفيد من الكلام إلى ضربين : حقيقة ومجاز. فاللفظ الموصوف بأنّه حقيقة هو ما أريد به ما وضع ذلك اللّفظ لإفادته إمّا في لغة ، أو عرف ، أو شرع. ومتى تأمّلت ما حدّت به الحقيقة وجدت ما ذكرناه أسلم وأبعد من القدح. وحدّ المجاز هو اللّفظ الّذي أريد به ما لم يوضع لإفادته في لغة ، ولا عرف ، ولا شرع.

ومن حكم الحقيقة وجوب حملها على ظاهرها إلّا بدليل. والمجاز بالعكس من ذلك ، بل يجب حمله على ما اقتضاه الدليل. والوجه في ثبوت هذا الحكم للحقيقة أنّ المواضعة قد جعلت ظاهرها للفائدة المخصوصة ، فإذا خاطب

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٨.

١٢٠