تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

أمّا الوجه الأوّل ، فلا يصحّ على إطلاقه ؛ لأنّه غير ممتنع أن تتفق دواعي الأمّة إلى كتمان حادث من الحوادث ، أو حكم من الأحكام ، حتّى لا ينقله منهم إلّا الآحاد ، فلا يجب إذا أن يقطع على بطلان خبر الواحد عنه من حيث لم ينقله الجميع إلّا بعد أن يعلم انتفاء دواع عن طيّه وكتمانه ، وأنّه مع العادة لا يجوز ذلك فيه ، فأمّا إذا لم يعلم ذلك جوّزنا كون الخبر صادقا ، وإن لم ينقله الجميع أو الأكثر. وقولهم : لا يجوز أن يكلّف الله تعالى ما لم تقم الحجّة عليه صحيح ، إلّا أنّه ليس كلّ حجّة على هذا الحكم هو إخبار الجماعات ، وغير ممتنع أن تكون الحجّة به قائمة وإن كتمه الأكثر من جهة قول إمام الزمان إذا بيّنه وأوضح عنه.

والوجه الثاني يجري مجرى الأول في فساد إطلاق القول فيه ، ووجوب تقييده بما أشرنا إليه.

وأمّا الوجه الثالث ، فلا شبهة في أنّا إذا علمنا أنّ الدواعي إلى نقله ثابتة ، والصوارف عن ذلك مرتفعة ، ثمّ لم ينقل علمنا بطلانه ، وبقي أن يكون ذلك معلوما ، وربما ادّعيت هذه الحال فيما هو بخلافها ، ولهذا يكذب الواحد إذا أخبرنا بأنّ بين بغداد وواسط مدينة هي أكبر من بغداد وأكثر أهلا ويكذّب من ادّعى أن القران عورض ، وعوّل على رواية الواحد ؛ لأنّا نعلم كثرة أعداء الدين وانتشارهم في الشرق والغرب ، فكان يجب ظهور نقل هذه المعارضة فيهم إن منع من انتشارها بين المسلمين خوف منهم.

والوجه الآخر شرط فيه أن تكون العادة تمنع من ضعف مثله ، وتوجب استمرار الشياع والإذاعة فيه ، ومع هذا الشرط الأمر على ما ذكر.

[السادس] : فصل فيما لا يعلم كونه صدقا ولا كذبا من الأخبار

اعلم أنّ كلّ خبر روي ولا طريق من ضرورة ولا اكتساب إلى العلم بكونه صدقا ولا كذبا ، فالتجويز للأمرين قائم فيه.

٢٢١

وقد قطع قوم على أنّ في الأخبار المرويّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذبا ، وتعلّقوا بما روى عنه عليه‌السلام من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» (١) وبما يروى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكثر الكذّابة عليّ» (٢).

وليس ذلك بمعتمد : أمّا الخبر الأوّل فيتضمّن الوعيد ، ولا يعلم وقوع الفعل لا محالة ، والخبر الثّاني خبر واحد لا يوجب القطع على صحّة مخبره ، فالصحيح ما قلناه من التجويز من غير قطع ، وإنّما يعلم كذب بعض الأخبار المرويّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سبيل الوصف دون التعيين ، فنقول : كلّ خبر دلّ ظاهره على إجبار أو تشبيه أو ما جرى مجرى ذلك ، ممّا علمنا استحالته ، من غير قرينة ، ولا على وجه الحكاية ، وكان احتماله للصواب بعيدا متعسّفا وجب الحكم ببطلانه ؛ لأنّ الحكمة والدين يمنعان من الخطاب بما يحتاج إلى تعسّف وتكلّف شديد حتّى يحتمل الصواب ، وأمّا كون الخبر صدقا فمخالف لكونه كذبا ؛ لأنّه لا خبر روي إلّا ويحتمل الصدق والكذب ، وليس يجوز أن يجعل وجوب العمل به دليلا على كونه صدقا ؛ لأنّا قد نعمل بما يجوز كونه كذبا من شهادة الشاهدين بلا خلاف.

[السابع] : فصل في أنّ الخبر الواحد لا يوجب العلم

اعلم أنّ الصحيح أنّ خبر الواحد لا يوجب علما ، وإنّما يقتضي غلبة الظّنّ بصدقه إذا كان عدلا. وكان النّظّام يذهب إلى أنّ العلم يجوز أن يحصل عنده وإن لم يجب ؛ لأنّه يتبع قرائن وأسبابا ، ويجعل العمل تابعا للعلم ، فمهما لم يحصل علم فلا عمل. وقال بعضهم : إنّ خبر الواحد يوجب العلم الظّاهر ، ويقسّم العلم إلى قسمين. وفي الناس من يقول : إنّ كلّ خبر وجب العمل به فلا بدّ من إيجابه العلم ، ويجعل العلم تابعا للعمل.

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٢ : ٨١.

(٢) الكافي ، ١ : ٦٢.

٢٢٢

وأقوى ما أبطل به قول النّظّام أن الخبر مع الأسباب الّتي يذكرها لو حصل عندها العلم ـ كما ادّعى ـ لما جاز انكشافه عن باطل ، وقد علمنا أنّ الخبر عن موت إنسان بعينه مع حصول الأسباب الّتي يراعيها من البكاء عليه والصراخ وإحضار الجنازة والأكفان قد ينكشف عن باطل ، فيقال : إنّه أغمي عليه ، أو لحقته السكتة ، أو ما أشبه ذلك ، والعلم لا يجوز انكشافه عن باطل. ويلزم على هذه الطريقة الفاسدة أن يجوز أن لا يقع العلم بالتواتر لفقد هذه الأسباب ، فكنّا نصدّق من خبّرنا بأنّه لا يعلم شيئا بالأخبار بأن لا تكون الأسباب حاصلة. وأمّا إلزام النّظّام أنّه لو أوجب خبر الواحد العلم في موضع ، لأوجبه في كلّ موضع ، فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغني عن علم معجز ، والحاكم متى لم يعلم صدق المدّعي ضرورة ، أن يعلم أنّه كاذب ، فإنّ ذلك لا يلزمه ؛ لأنّ له أن يقول : من أين لكم أن كلّ خبر يجب عنده العلم؟ بل لا بدّ من وجوب ذلك عند أمثاله. ثمّ العلم عند النّظّام لا يجب عند مجرّد الخبر ، بل عنده وعند أسباب يذكرها ، وليس مثل ذلك في خبر مدّعي النبوّة ، ولا في الحاكم.

فأمّا من يقول : إنّه يقتضي العلم الظّاهر فخلافه في عبارة ؛ لأنّه سمّى غالب الظّنّ علما.

وأمّا من جعل العلم تابعا للعمل فقوله باطل ؛ لأنّه عكس الشيء ، والعمل يجب أن يتبع العلم لا أن يتبع العلم العمل ، وقد وجب العمل بأخبار كثيرة من غير حصول العلم كالمخوّف من سبع في طريق والشهادات وغيرها.

[الثّامن] : فصل في ذكر الدّلالة على جواز التعبّد بالعمل بخبر الواحد

إعلم أنّ في المتكلّمين من يذهب إلى أنّ خبر الواحد لا يجوز من جهة العقل ورود العبادة بالعمل به ، والصحيح أنّ ذلك جائز عقلا ، وإن كانت العبادة ما وردت به على ما سنبيّنه في الباب الّذي يلي هذا الباب بمشيّة الله تعالى.

٢٢٣

والّذي يدلّ على جواز ورود العبادة بالعمل به أن يبيّن أن خبر الواحد يمكن أن يكون طريقا إلى معرفة الأحكام ، وأنّه يجري في جواز كونه دلالة مجرى الأدلّة الشرعيّة كلّها من كتاب وسنّة وإجماع ، وإن اختلف وجه دلالته كما اختلف وجوه هذه الأدلّة الشرعيّة ولم تخرج بهذا الاختلاف من كونها أدلّة ، وإنّما جاز أن يكون خبر الواحد دلالة بأن يدلّ القرآن أو السنّة على وجوب العمل به إذا كان المخبر به على صفة مخصوصة ، ألا ترى أنّه لا فرق في العلم بتحريم الشيء بأن يقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه حرام» وبين أن يقول : «إذا أخبركم عنّي بتحريمه فلان فحرّموه» ولا فرق بين ذلك ، وبين أن يقول : «إذا أخبركم عنّي بتحريمه من صفته كيت وكيت فحرّموه» ؛ لأنّه على الوجوه كلّها يعلم التحريم وإن اختلف.

وليس لأحد أن يقول : فامنعوا الغلط من الواحد إذا كان الأمر على ما ذكرتم ، وذلك أنّه غير ممتنع أن يجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول الواحد دلالة مع جواز الغلط عليه. مثال ذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو قال : «إذا أخبركم عنّي أبو ذرّ بشيء ، فهو حقّ» ، لكانت الثقة حاصلة عند خبره ، ولو قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اعملوا بما يخبركم به فلان ، فهو صلاح لكم» ، وجب العمل به ، وإن لم يحصل الثقة ، ويجري مجرى تعبّد الحاكم بأن يعمل بعلمه ، فتحصل له الثّقة ، وتعبّده بأن يعمل بالإقرار ، فلا تحصل الثّقة ، وان كان الحال إليها أقرب ، وتعبّده بأن يعمل بالبيّنة ، وهي عن الثقة أبعد من الإقرار.

وممّا يدلّ أيضا على جواز التعبّد بخبر الواحد أنّ العمل في كثير من العقليّات قد يتبع غلبة الظنّ فما الّذي يمنع عن مثل ذلك في الشرعيّات.

ويدلّ عليه أيضا ورود التعبّد بقبول الشهادات ، والاجتهاد في جهة القبلة ، وقبول قول المفتي ، وكلّ هذا من باب واحد.

٢٢٤

[في أدلّة من منع من جواز التعبّد بخبر الواحد]

وقد تعلّق من منع من جواز التعبّد بخبر الواحد بأشياء :

أوّلها : قولهم : إنّ الشرائع لا تكون إلّا مصالح لنا ، وبخبر الواحد لا نعلم أنّ ذلك مصلحة ، ولا نأمن كونه مفسدة.

وثانيها : أن قالوا : إذا لم يجز أن نخبر بما لا نأمن كونه كذبا ، كذلك لا يجوز أن نقدم على ما لا نأمن من كونه مفسدة.

وثالثها : أن قول الواحد وصلة إلى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا لم يجز قبول قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا بمعجز ودليل على القطع على صدقه ، فغيره أولى بذلك.

ورابعها : أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما لم يجز العمل بقوله إلّا بمعجزة تدلّ على صدقه لجواز الغلط عليه ، وهذه العلّة قائمة في خبر الواحد.

وخامسها : أنّ العمل من حقّه أن يتبع العلم ، وإذا لم يعلم صدق الواحد لم يعمل بخبره ، ولو جاز العمل ولا علم لجاز تبخيتا وتخمينا.

وسادسها : أنّه لو جاز العمل بخبر الواحد في بعض الأحكام ، جاز في سائرها ، حتّى في الأصول ، وإثبات القرآن ، والنبوّات. وفرّقوا بين العمل بخبر الواحد وبين الشهادة بأن الشهادة تقتضي ما يتعلّق بمصالح الدنيا ، ودفع المضارّ فيها ، وإجلاب المنافع ، وما يجوز فيه البدل والصلح ، ويتعلّق بالاختيار ، ويخالف المصالح التي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، ويخالف ذلك أيضا المعاملات الّتي تجري مجرى الإباحات ، وترجع إلى الرضا والسخط ، وتطيّب النفس.

وسابعها : أنّه لو جاز التعبّد بخبر العدل لجاز ذلك في خبر الفاسق ؛ لأنّه لا فرق في العقول بينهما في أنّ الثقة لا تحصل عند خبره.

فيقال لهم فيما تعلّقوا به أوّلا : الشرائع لا بدّ من كونها مصالح ، على ما ذكرتم ، ولا بدّ من طريق للمكلّف إلى العلم بذلك إمّا على الجملة ، أو التفصيل. فإذا دلّ الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان على صفة ،

٢٢٥

وإذا غلب في الظنّ صدقه علمنا كون ما أخبر به صلاحا ، وأمنّا من الإقدام على المفسدة ، كما نعلم كون قطع يد السارق عند البيّنة أو الإقرار صلاحا ، ولو لا ذلك لكان مفسدة. وتنتقض أيضا هذه الطريقة بالشهادات إذا عمل بها في الحدود.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثانيا : لو جاز في الخبر أن تثبت أمارة للمكلّف يأمن بها من كونه كذبا جاز أن يكلّف في الأخبار ما كلّفه في الأفعال. وينتقض ذلك عليهم بالإقرار والبيّنات في الحدود وغيرها.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثالثا ورابعا ـ فإنّ الوجهين متقاربان ـ : إنّ الرسول لو كان لنا طريق غير المعجز يعلم به كون ما تحمّله مصلحة ، لجاز فيه ما جاز في خبر الواحد. وإنّما لم يعمل بخبر مدّعي النبوّة قبل ظهور المعجز ؛ لأنّه لا طريق إلى العلم بقوله إلّا العلم المعجز ، وليس كذلك الخبر ؛ لأنّ لنا طريقا نأمن به كون الفعل مفسدة ، وهو ما بيّنّاه من قيام الدلالة على وجوب العمل بخبره. وتنتقض هذه الطريقة أيضا بالشهادات والإقرارات وكلّ شيء عمل به مع ارتفاع الثقة بالصدق.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به خامسا : لا شبهة في أنّ العمل يتبع العلم ، لكن من أين قلتم : أنّه يتبع العلم بصدق المخبر؟! ، وما أنكرتم أنّه يتبع العلم تارة بصدق المخبر ، وأخرى يتبع العلم بوجوب العمل بقوله مع تجويز الغلط عليه؟!. وتنتقض هذه الطريقة أيضا بالشهادات ، والإقرارات ، والرجوع إلى قول المفتي ، والحاكم.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به سادسا : ليس بممتنع فرضا وتقديرا أن يثبت جميع أصول الشريعة بأخبار الآحاد بعد أن يعلم بالمعجز صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعلم من جهة ذلك ، وإن كان قد ثبت الشرع الآن بخلاف ذلك ، والكلام الآن إنّما هو على الجواز ، وقد بيّنّا جوازه. ثمّ يعارضون بالشهادات ، والإقرارات ، ويلزمون جواز مثل ذلك في سائر الأصول.

٢٢٦

[في الفرق بين الأصول والفروع في جواز التعبّد بخبر الواحد]

فأمّا القرآن فإثباته ـ وهو معجز دالّ على صدق الرسالة ـ بخبر الواحد لا يجوز ؛ لأنّ الثّقة بنبوّته وصدقه لا تحصل إلّا مع الثقة بمعجزته ، ولو فرضنا أنّ نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت بغير القرآن من المعجزات لجاز إثبات القرآن بخبر الواحد.

فأمّا إثبات النبوّات بخبر الواحد فإنّه غير جائز ؛ لأنّ ذلك ينتقض بخبر الواحد ، ولأنّه لا طريق إلى وجوب العمل بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا العلم المعجز الدالّ على الصدق وحصول الثقة.

وأمّا تفريقهم بين قبول الشهادة وقبول خبر الواحد فليس بصحيح ؛ لأنّا نقبل الشهادة في الحدود ، وهي مختصّة بمصالح الدين ، وخارجه عمّا يجوز فيه الصلح والتراضي. وكذلك يقبل قول المفتي فيما يختصّ بمصالح الدين.

وبعد ؛ فإنّ العقل يحظر انتزاع ملك زيد ودفعه إلى عمرو ، وبالشهادة يفعل ذلك.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به سابعا : إنّه جائز من جهة العقل أن يتعبّد الله تعالى بالعمل بخبر الفاسق ، ولا فرق في الجواز بين العدل والفاسق ، وإذا جعلنا قول المخبر كالسبب أو الشرط في العبادة جازت العبادة عقلا بالعمل بقول من يغلب في الظّنّ كذبه ، كما يجعل زوال الشمس وطلوع الفجر سببا للأحكام.

فإن قيل : إذا كان لا بدّ من تمييز الحجّة من الشبهة ، فكيف يتميّز ذلك في خبر الواحد؟.

قلنا : بأن يجعل لأحد الخبرين أمارة يميّز بها من الآخر.

[التاسع] : فصل في إثبات التعبّد بخبر الواحد أو نفي ذلك.

الصحيح أنّ العبادة ما وردت بذلك ، وإن كان العقل يجوز التعبّد بذلك ، وغير محيل له ، على ما مضى في الباب الأوّل ، ووافق على ذلك كلّ من منع

٢٢٧

عقلا من العبادة به من النّظّام وغيره من المتكلّمين. وذهب الفقهاء وأكثر المتكلّمين إلى أنّ العبادة قد وردت بالعمل بخبر الواحد في الشريعة. وكان أبو علي الجبائي لا يعمل بخبر الواحد في الشريعة ، ويعمل بخبر الاثنين فصاعدا ، ويجريه مجرى الشهادة.

والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه أنّه لا خلاف بيننا وبين محصّلي مخالفينا في هذه المسألة أن العبادة بقبول خبر الواحد والعمل به طريقة الشرع والمصالح ، فجرى مجرى سائر العبادات الشرعيّة في اتّباع المصلحة ، وأن العقل غير دالّ عليه ، وإذا فقدنا في أدلّة الشرع ما يدلّ على وجوب العمل به ؛ علمنا انتفاء العبادة به ، كما نقول في سائر الشرعيّات والعبادات الزائدة على ما أثبتناه وعلمناه ، وعلى هذه الطريقة نعوّل كلّنا في نفي صلاة زائدة وصوم شهر زائد على ما عرفناه ، وفي أنّ مدّعي النبوّة ولا معجز على يده ليس بنبي. وليس لأحد أن يقول : إنّما علمت أنّه لا صلاة زائدة على الخمس مفروضة ، ولا صيام مفروض زائد على شهر رمضان بالاجماع ؛ لأنّا نعلم أنّهم لو لم يجمعوا على ذلك ، وخالف بعضهم فيه ؛ لكان المفزع فيه إلى هذه الطريقة الّتي ذكرناها ، وقد بيّنّا صحّة الاعتماد على هذه الطريقة ، وإبطال شبهة من اشتبه عليه ذلك في مواضع من كلامنا ، واستقصيناه.

ويمكن أن يستدلّ بمعنى هذه الطريقة بعبارة أخرى ، وهو أن نقول : العمل بالخبر لا بدّ من أن يكون تابعا للعلم ، فإمّا أن يكون تابعا للعلم بصدق الخبر ، أو العلم بوجوب العمل به مع تجويز الكذب ، وقد علمنا أنّ خبر الواحد لا يحصل عنده علم بصدقه لا محالة ، فلم يبق إلّا أن يكون العمل به تابعا للعلم بالعبادة بوجوب العمل به ، وإذا لم نجد دليلا على وجوب العمل به نفيناه.

٢٢٨

[في أدلّة القائلين بورود التعبّد بخبر الواحد والجواب عنها]

وقد تعلّق مخالفونا بأشياء :

أوّلها : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١). وليس يكونون منذرين لهم إلّا ويلزمهم القبول منهم. وربما قالوا : إنّ معنى الآية ولينذر كلّ واحد منهم قومه. وإذا صحّ لهم ذلك استغنوا عن التشاغل بأنّ اسم طائفة يقع على الواحد ، كما يقع على الجماعة ، وتعلّقهم في ذلك بقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) وقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٣).

وثانيها : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) (٤) وحظر الكتمان يقتضي وجوب الإظهار ، ولا يجب الإظهار إلّا للقبول.

وثالثها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) (٥) ، والظاهر يقتضي أنّ العدل في هذا الحكم بخلاف الفاسق.

ورابعها : أنّ الله تعالى قد أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالابلاغ في مواضع من الكتاب لا تحصى ، والإبلاغ يكون بالتواتر والآحاد معا ؛ لأنّه لو اختصّ بالتواتر وما يوجب العلم لوجب أن يكون العلم بفروع العبادات كالعلم بأصولها ، وكذلك فروع المعاملات كلّها ، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك.

وخامسها : وهو الطريقة الّتي بها يصولون ، وعليها كلّهم يعوّلون ، وإيّاها يرتضون ، وترتيبها أن الصحابة مجمعة على العمل بأخبار لا تبلغ التواتر ، وذلك أظهر فيما بينهم من كلّ شيء كان ظاهرا ، ويذكرون رجوعهم في وجوب الغسل بالتقاء الختانين إلى أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند اختلافهم في ذلك ، وعمل عمر بن الخطّاب بعد التوقّف والتردّد في جزية المجوس على خبر عبد الرحمن ، ثمّ

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١٢٢.

(٢) سورة النور ، الآية : ٢.

(٣) سورة الحجرات ، الآية : ٩.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٥٩.

(٥) سورة الحجرات ، الآية : ٦.

٢٢٩

أجمعوا على ذلك ، ونحو عمله في دية الجنين على خبر حمل بن مالك ، ونحو عمل أبي بكر في ميراث الجدّة على قول الواحد والاثنين ، ونحو ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله : «كنت إذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثا نفعني الله ما شاء أن ينفعني به ، وإذا حدّثني عنه غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدّقته ، وحدّثني أبو بكر ، وصدق أبو بكر» (١) ، ورجع في حكم المذي إلى خبر المقداد ، قالوا ووجدناهم بين عامل بهذه الأخبار ، وبين تارك للنكير عليه ، ولو كان ذلك خطأ ، لكان قد أجمعوا على الخطأ ، وهذا غير جائز عليهم.

وسادسها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبعث عمّاله ورسله إلى البلاد للدعاء إلى شريعته ، وإنّما كانوا يعملون على مجرّد أقوالهم في كونهم رسلا ، وفي العمل بما يروونه.

وسابعها : حمل قبول خبر الواحد مع تجويز الغلط عليه على قبول قول المفتي مع تجويز ذلك عليه. وربما حملوا ذلك على الشهادات وأخبار المعاملات.

وثامنها : أنّ الضرورة تقود إلى قبول أخبار الآحاد إذا حدثت الحادثة وليس فيها حكم منصوص.

وتاسعها : طريقة وجوب التحرّز من المضارّ ، كما يجب التحرّز من سلوك الطريق إذا أخبر مخبر بأنّ فيه سبعا وما أشبهه.

فيقال لهم فيما تعلّقوا به أوّلا : إذا سلّمنا أن اسم الطائفة يقع على الواحد والاثنين فلا دلالة لكم في الآية ؛ لأنّه تعالى سمّاهم منذرين ، والمنذر هو المخوّف المحذّر الّذي ينبّه على النظر والتأمّل ، ولا يجب تقليده ولا القبول منه بغير حجّة ، ولهذا قال تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ومعنى ذلك ليحذروا ، ولو أراد ما ادعوا لقال تعالى : «لعلّهم يعملون أو يقبلون» والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن سمّيناه منذرا ، وكان قبول قوله واجبا ، فمن حيث كان في ابتداء دعوته يكون مخوّفا ، ثمّ إذا استقرّ دليل نبوّته ؛ وجب العمل بقوله.

__________________

(١) مسند أحمد ، ١٠ : ١.

٢٣٠

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثانيا : أمّا الكتمان فلا يستعمل إلّا فيما يجب إظهاره ، أو تقوى الدواعي إلى ذلك فيه ، فمن أين لكم أنّ خبر الواحد له هذه الصفة ، حتّى يطلق فيه الكتمان؟! والآية تدلّ على الاختصاص بنقل القرآن ؛ لأنّه قال : (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) (١) ، وما أنزل الله تعالى هو القرآن.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثالثا : هذه الطريقة مبنيّة على دليل الخطاب ، وقد بيّنّا فيما تقدّم فساد ذلك. وبعد ، فالتّعليل في الآية أولى أن يعوّل عليه من دليل الخطاب ، وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) (٢) ، وهذه العلّة قائمة في خبر العدل. وقد قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ، وقد ولّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقات بعض العرب ، فعاد إليه يذكر أنّهم منعوا الصدقات ، فهمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرسال الجيوش إليهم ، فنزلت الآية بيانا له ، وليعلم الرسول عليه‌السلام أنّ الوليد بهذه الصفة ؛ لأنّه إنّما ولّاه على ظاهر أمره.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به رابعا : ليس يجوز أن يؤمر بأن يبلغ إلّا بما هو حجّة في نفسه يجب العمل به ، وهذا يقتضى أن يدلّ على أنّ الخبر الواحد بهذه الصفة حتّى يصحّ الإبلاغ به ، ومن مذهب من خالفكم في هذه المسألة أنّ الإبلاغ لا يصحّ إلّا بما هو حجّة توجب العلم ، أو بتواتر ، أو إجماع ، أو قول إمام معصوم نائب عنه عليه‌السلام وخليفة له بعد وفاته.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به خامسا : أنتم تعلمون بأيّ شيء تدفع الإماميّة هذه الطريقة ، وهو أنّها تقول إنّما عمل بأخبار الآحاد من الصحابة المتأمّرون الّذين يحتشم التصريح بخلافهم ، والخروج عن جملتهم ، فالإمساك عن النكير عليهم لا يدل على الرضا بما فعلوه ؛ لأنّنا كلّنا نشترط في دلالة الإمساك على الرضا أن لا يكون له وجه سوى الرضا من تقيّة وخوف وما أشبه ذلك ، فبطل أن يكون ما ذكرتموه إجماعا ، غير أنّا نعدل عن استعمال هذه الطريقة في هذا الكتاب ؛ لأنّها تحوج إلى الكلام في الإمامة ، وينتقل من أصول الفقه إلى أصول الدين ، ولأنّها

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ٦.

٢٣١

تثقل على الفقهاء ، وتوحشهم ، وما تؤثّر ما ينفرون منه ، وإن تعمّد كثير من مخالفينا إيحاشنا ، وتسلّقوا ، وتوصّلوا إلى كلّ ما يثقل علينا من غير حاجة بهم في الموضع إليه. فأمّا من خالف في كون الإجماع حجّة من النّظّام وغيره ، ممّن أحال العلم بصحّة إجماع الأمّة على شيء ، أو أجاز ذلك وذكر أنّه لا دليل يدلّ على أنّ إجماع الأمّة حجّة ، فإنّه يدفع أيضا هذه الطريقة بأن يقول : أكثر ما فيها الإجماع على العمل بقبول أخبار الآحاد ، ولا حجّة في الإجماع. وهذه الطريقة لا نرتضيها ؛ لأنّنا نذهب إلى أنّ في إجماع الأمّة الحجّة ، ولا يجوز أن يجمعوا على باطل.

ولنا بعد ذلك كلّه على هذه الطريقة وجهان من الكلام : أوّلهما : أن جميع ما وضعوا أيديهم عليه إنّما هي أخبار آحاد لا توجب علما ، فإنّهم دلّوا على أنّ خبر الواحد حجّة بأخبار آحاد ، وكيف يعوّلون على ما أحسن أحواله أن يوجب الظنّ فيما طريقه العلم والقطع ؛ لأنّهم يدّعون القطع والعلم بأنّ الله تعالى تعبّدهم بالعمل بأخبار الآحاد في الشريعة ، فلا يجب أن يعوّلوا على ما لا يوجب العلم.

وقد حملهم سماع هذا الطعن منّا على أن ادّعوا أنّهم يعلمون ضرورة عمل الصحابة على أخبار لا تبلغ حدّ التواتر ، وأنّهم لم يعوّلوا هيهنا على خبر الواحد حتّى يدخل أبو علي الجبّائي معهم ؛ فإنّه لا يعمل بخبر الواحد إذا انفرد ، ويذكرون أنّ العلم بذلك يجري مجرى العلم بأنّهم كانوا يرجعون في الأحكام إلى القرآن والسنّة المتواترة بها ، وكما يعلم رجوع العوامّ منهم إلى فتوى المفتي ، قالوا : نذكر الأخبار ليتطابق الجملة والتفصيل ، وربما قالوا كما نعلم ضرورة سخاء حاتم وإن لم نعلم تفاصيل ما يروى من عطاياه وجوائزه ، وكذلك شجاعة عمرو بن معد يكرب.

والجواب عن هذا الّذي حملوا نفوسهم عند ضيق الحيلة عليه أنّ الضرورة لا تختصّ مع المشاركة في طريقها ، والإماميّة وكلّ مخالف لهم في خبر الواحد من النّظّام وتابعيه وجماعة من شيوخ متكلّمي المعتزلة كالقاساني بالأسر يخالفونهم فيما ادّعوا فيه الضرورة مع الاختلاط بأهل الاخبار ، ويقسمون على

٢٣٢

أنّهم لا يعلمون ذلك بل ولا يظنّونه ، فإن كذّبتموهم فعلتم ما لا يحسن ، وكلّموكم بمثله. والفرق بين الرجوع إلى القرآن والتواتر وبين خبر الواحد واضح ؛ لأنّ ذلك لمّا كان معلوما ضرورة لم يخالف فيه عاقل ، والخلاف فيما ادّعوه ثابت ، وكذلك القول في رجوع العاميّ إلى الفتوى ، وكذلك القول في سخاء حاتم وشجاعة عمرو ، ولأنّ من خالف في ذلك كلّه لا يناظر ويقع على بهته ومكابرته ، وليست هذه صفة من خالف في أخبار الآحاد.

وبعد ، فإذا كنتم تعلمون على الجملة أنّ القوم عملوا على أخبار الآحاد ، فلا فائدة في ذكر هذه الأخبار المعيّنة وتدوينها في الكتب ؛ لأنّها تقتضي الظنّ على أجلّ أحوالها ، وأيّ تأثير للظّنّ مع العلم الضروريّ؟! وقولهم : «ليطابق التفصيل الجملة» كلام لا محصول له ؛ لأنّ التفصيل الّذي جاءت به هذه الأخبار غير معلوم ، والجملة هي الّتي يدّعون العلم بها ، فلا تطابق بين معلومين.

ثمّ يقال لهم : كما احترزتم لأبي عليّ في عبارتكم عمّا يتعلّق به في العلم الضروريّ ، وقلتم : نعلم ضرورة أنّهم عملوا على ما لا ينتهي إلى التواتر من الأخبار ، ألّا احترزتم للنّظّام ومن وافقه ممّن نفى العمل بأخبار الآحاد كلّها ممّا لا يحصل عنده علم ويقين؟! فليس النّظّام ومن وافقه بدون أبي عليّ وأصحابه. ومن العجب قولهم : إنّهم إنّما عملوا على العمل بأخبار الآحاد لنصّ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاطع على ذلك ، وإنّما لا يوجد هذا النصّ المعيّن في النقل ؛ لأنّ الإجماع قد أغنى عن نقله ، وهذا فاسد ؛ لأنّ قيام حجّة ودلالة لا يغني عن أخرى ، ولو كان الرّسول عليه‌السلام قد نصّ لهم على وجوب العمل بخبر الواحد نصّا معيّنا مفصّلا ، لوجب كون نقل هذا النصّ والتواتر به مستمرّا وأن ينعقد الإجماع على مضمونه ؛ لأنّ الحجج قد تترادف ، وتتضاعف. وبعد ؛ فقد بيّنّا أنّه لا إجماع على ما ذكروه ، فيغني عن التواتر بالنّصّ عليه.

وأمّا الوجه الثّاني في الكلام على هذه الطريقة ـ إذا سلّمنا صحّة كلّ شيء رووه من هذه الأخبار المعيّنة ، ولم نقدح فيها ، ولا طالبنا بدلالة على صحّتها ـ فهو أن نقول : المعلوم أنّهم عملوا عند هذه الأخبار ، والعمل عندها يحتمل أن

٢٣٣

يكون عملوا بها ولأجلها ، كما يحتمل أن يكونوا ذكروا عند ورودها سماعهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك ، ويحتمل أيضا أن يكون الخبر نبّههم على طريقة من الاجتهاد تقتضي إثبات ذلك الحكم ، فكان العمل على الاجتهاد ، لا بالخبر ، وإنّما كان للخبر حظّ التذكير والإيقاظ.

فإن قالوا : هذا يقتضي العدول عن المعلوم إلى المجهول ؛ لأنّ رواية الخبر معلومة ، وعملهم عنده معلوم أيضا ، وما تدّعونه من علم بذلك سبق أذكر (١) هذا الخبر مجهول ، وكذلك تنبيهه على طريقة من الاجتهاد أيضا مجهول ، ولا يعدل عن المعلوم إلى المجهول.

قلنا : المعلوم رواية الخبر وعملهم عنده ، وتعليل هذا العمل بأنّه من حيث قامت الحجّة عليهم بوجوب العمل بأخبار الآحاد مجهول غير معلوم ، وإنّما هو وجه مجوّز كما أنّ صرف عملهم إلى الذكر والعلم السابق أو التنبيه على طريقة من الاجتهاد أيضا مجهول ، ومن باب الجائز ، فما فينا إلّا من أحال على أمر مجهول جائز كونه كما أنّه جائز كون غيره ، فكيف رجّحتم قولكم على قولنا ، والتساوي حاصل بين الوجوه ، والشكّ فرض من فقد الدليل القاطع؟!.

وليس لهم أن يقولوا : ما يذكرونه يقتضي أنّه لا تأثير للخبر ، على كلّ حال ، فإمّا أن يكون حجّة في وجوب العمل على ما تدّعون ، أو يكون مذكّرا لسماع تقدّم وعلم سبق ، أو يكون منبّها على طريقة من الاجتهاد ، والتأثير حاصل على كلّ حال.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به سادسا : أمّا الرسل والعمّال الّذي كان ينفذهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البلدان ، فأوّل كلّ شيء كانوا يدعون إليه بلا خلاف بيننا وبينهم المعرفة بالله تعالى ثمّ تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نبوّته ودعوته ، ثمّ يدعون إلى الشرائع ، ومعلوم أنّ قول الرسل ليس بحجّة في توحيد الله وعدله ، ولا في العلم بنبوّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف أمر الرسل بالدعاء إلى ما ليس قولهم فيه حجّة؟! فإذا قالوا

__________________

(١) كذا ولعلّ الأصل «أذكره».

٢٣٤

لدعائهم حظّ الإنذار والتنبيه على النظر في الحجج والأدلّة. قلنا : فأجروا الشرائع هذا المجرى وقولوا : إنّ هؤلاء الرسل إنّما دعوهم إلى الشرائع ، لا لأنّ قولهم حجّة فيها ، بل للتنبيه على النظر في إثباتها ، والرجوع إلى التّواتر وما جرى مجراه في العمل بها ، ولا فرق بين الأمرين.

ويقال لهم : لا بدّ من أن يكون الّذين في أطراف الأرض قد قامت عليهم الحجّة بالعمل بأخبار هؤلاء الرسل حتّى يجب عليهم العمل بأخبارهم ، وليس يجوز أن يعلموا ذلك من جهة هؤلاء الرسل ؛ لأنّ أخبار هؤلاء الرسل أكثر ما يوجبه الظّنّ ، وهي غير موجبة للعلم ، ووجوب العمل بأقوالهم يجب أن يكون معلوما مقطوعا عليه. فإذا قيل : يعلمون ذلك بالأخبار المتواترة الّتي ينقلها إليهم الصادر والوارد ، قلنا فأجيزوا أيضا أن يعلموا الشرائع الّتي يطالبهم بالعمل بها هؤلاء الرسل من جهة التواتر والنقل الشائع الذائع ، ويكون حكم ما تحمّلوه من الشرع في طريق العمل حكم العلم بأنّهم متعبّدون بالعمل بأقوالهم ، ولن يجدوا بين الأمرين فرقا.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به سابعا : هذه الطريقة إنّما تدلّ على جواز ورود التعبّد بالعمل بأخبار الآحاد ، ولا تدلّ على ثبوته ، والجواز لا خلاف بيننا فيه ، وإنّما الخلاف في الوقوع ، فإن قستم قبول خبر الواحد على المفتي بعلّة فقهيّة جامعة بينهما كان لنا قبل النظر في صحّة هذه العلّة أن نقول لكم : التعبّد بالعمل بخبر الواحد عندكم معلوم مقطوع عليه ، ولا يجوز إثبات مثله بطريقة الاجتهاد الّتي لا تقتضي إلّا الظنّ. وقد فرّق بين المفتي والمخبر الواحد بأنّ المفتي يجب أن يختصّ بشروط : مثل أن يكون من أهل الاجتهاد ، ولا يجب مثل ذلك في الخبر الواحد. والمفتي يخبر عن نفسه ، والمخبر الواحد يحكي عن غيره. والمستفتي يخبر في العلماء ، وليس كذلك سامع خبر الواحد. والكلام على حمل ذلك على الشهادة يجري مجرى الكلام على من حمله على قول المفتي ، من أنّه قياس ، والقياس لا يسوغ في مثل هذا الموضع. وقد قال بعض المحصّلين من العلماء : أنّ الشهادة أصل في بابها ، فكلّ فرع منها أصل في بابه ، فكما لا يقاس

٢٣٥

بعضها على بعض ، فكذلك لا تقاس الأخبار على الشهادة ، وكما لم يقس عليها الفتيا ، فكذلك لا يقاس خبر الواحد على ذلك ، ولو قيس خبر الواحد على الشهادات ؛ لوجب أن يكون العدد فيه مطلوبا ، كما أنّه مطلوب في الشهادات على كلّ حال. وأمّا أخبار المعاملات فلا تشبه ما نحن فيه ؛ لأنّها منقسمة إلى أمرين :

أحدهما يلحق بالعقليّات ، وهو قبول الهدايا ، والإذن في دخول الدار ، والشرع ورد بإقرار ذلك ، لا باستيناف حكم له ، ولذلك لم يميّز العدل فيه من غيره ، ولا البالغ من الصبيّ ؛ لأنّ المعوّل في ذلك على غلبة الظّنّ وما يقع في القلب.

والقسم الثاني ما يجري مجرى الشرع ، من قبول قول الواحد في طهارة الماء ونجاسته وفي القبلة ودخول الوقت ، وهذا فرع من فروع خبر الواحد ، فلا الأوّل يجوز أن يجعل أصلا ؛ لأنّه عقليّ ، ولا الثّاني ؛ لأنّه فرع وتابع.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثامنا : الضرورة إنّما تقود في الحوادث إلى ما هو حجّة في نفسه ، فدلّوا على أنّ خبر الواحد حجّة في الشريعة حتّى يرجع إليه في الحوادث ، ومن يخالفكم في هذه المسألة يذهب إلى أنّه لا ضرورة به تدعوه إلى خبر الواحد ؛ لأنّه ما من حادثة إلّا وعلى حكمها دليل يوجب العلم ، وفيهم من يقول إذا فقدنا الدليل رجعنا إلى حكم العقل ، فلا ضرورة هيهنا كما تدعون.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به تاسعا : لا يجوز العمل على خبر الواحد في الأحكام الشرعيّة بالتحرّز من المضارّ ، كما وجب مثل ذلك في المضارّ العقليّة ؛ لأنّ المضارّ في الدّين يجب على الله تعالى مع التكليف لنا أن ينبّهنا ويدلّنا عليها بالأدلّة القاطعة ، فإذا فقدنا ذلك ؛ علمنا أنّه لا مضرّة دينيّة ، فنحن نأمن أن يكون فيما أخبر به الواحد مضرّة دينيّة بهذا الوجه ، وليس كذلك المخبر عن سبع في الطريق ؛ لأنّا لا نأمن من أن يكون صادقا ، وإن لم يجب قيام دلالة على كون السبع فيه ، فيجب علينا التحرّز من المضرّة بالعدول عن سلوك الطريق.

وبعد ؛ فهذه الطريقة توجب عليهم أن يكون الفاسق كالعدل ، والمؤمن

٢٣٦

كالكافر ، وأن يكون المعتبر حصول الظّنّ ، من غير اعتبار الشروط الّتي يوجبونها في خبر الواحد ، ولا أحد يقول بذلك ، على أنّ العقول مانعة من الإقدام على ما يجوّز المقدم عليه أن يكون مفسدة ، فلم صاروا بأن يوجبوا العمل بخبر الواحد تحرّزا بأولى ممّن قال : إنّه لا يحسن الإقدام على ما أخبر به مع تجويز كونه مفسدة.

وهذه الطريقة أيضا توجب العمل على قول مدّعي الرسالة لهذا الضرب من الاحتياط والتحرّز.

فأمّا الخبر الّذي رووه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فمخالف لأصولهم ؛ لأنّه تضمّن أنّه كان يستحلف من يخبره ، فإذا حلف صدّقه ، وعندهم أنّ الاستحلاف غير واجب ، والتصديق بعد الاستحلاف لا يجوز ؛ لأنّ معنى التصديق هو القطع على صدقه ، وخبر الواحد لا يقطع على صدقه وإن حلف ، ثمّ قال : وحدّثني أبو بكر وصدق أبو بكر ، وعندهم أن من يعمل على قوله لعدالته لا يقطع على صدقه ، فليس يشبه هذا الخبر ما يذهبون إليه. وقد بيّنّا في الكتاب الشافي ـ لمّا تعلّق صاحب الكتاب المغني به ـ تأويله ، وقلنا : إنّه غير ممتنع أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام سمع ما خبّره به أبو بكر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سمعه أبو بكر ، فلهذا صدّقه (١).

[في الجواب عن قول أبي علي الجبائي في العمل بقول الاثنين]

فأمّا الكلام على أبي علي الجبّائيّ في العمل بقول الاثنين والامتناع من العمل بخبر الواحد ، فهو جار مجرى الكلام على أصحاب خبر الواحد ؛ لأنّنا نقول له : من أين علمت أنّ الصحابة عملت بخبر الاثنين؟! وإنّما يرجع في ذلك إلى روايات الآحاد ، وما طريقه العلم لا يرجع فيه إلى ما يقتضي غلبة الظنّ ، فإن

__________________

(١) الشافي ، ٢ : ٣٨.

٢٣٧

ادّعى ما تقدّم ذكره من العلم الضروريّ على سبيل الجملة ؛ فالكلام على ذلك قد تقدّم.

ثمّ إذا سلّمنا له هذه الأخبار الّتي رواها ، واعتمد عليها ، من خبر الجدّة ، وأنّ المغيرة بن شعبة خبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ لها السدس ، فلم يعمل أبو بكر بقوله ، حتّى خبّره محمّد بن مسلمة مثله ، فأعطاها السدس ، وكما فعله عمر بن الخطّاب في امتناعه من قبول قول أبي موسى الأشعريّ في الاستيذان ، حتّى جاءه أبو سعيد الخدريّ ، فقبل ذلك ، واستدلاله بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقبل خبر ذي اليدين في الصلاة حتّى سأل أبا بكر وعمر.

وكان لنا أن نقول له ما قلناه لمن عمل بخبر الواحد : ما تنكر أن يكون خبر الثاني أذكر ، فوقع العمل على الذكر دون قوله ، أو نبّه على طريقة من الاجتهاد كان التعويل عليها ، حسب ما بيّنّاه في كلامنا المتقدّم ، ولو لم يذكر الخبر الثاني أو ينبّه ، ما عمل به ، كما أنّ ذلك لمّا لم يحصل عند خبر الواحد ، لا يعمل به. وهذا الّذي قلناه أشبه بالحال ؛ لأنّ كلّ من روى عنه أبو عليّ أنّه ردّ خبر الواحد وعمل بخبر الاثنين قد عمل في مواضع أخر عند خبر الواحد مع عدالته وظهور أمانته ، فعلمنا أنّه لم يتوقّف لشكّه فيه ، وإنّما توقّف إمّا لمراعاة العدد على ما ادّعى أبو علي أو لأنّه لم يذكر ، أو ينبّه على ما قلناه. ولا يجوز أن يكون التوقّف لأجل العدد ؛ لأنّه قد عمل عند خبر الواحد في مواضع شتّى ، فثبت ما ذكرناه.

وأما خبر ذي اليدين فخبر باطل مقطوع على فساده ؛ لأنّه يتضمّن أنّ ذا اليدين قال له عليه‌السلام : «أقصّرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت» وأنّه قال عليه‌السلام : كلّ ذلك لم يكن» ، وهذا كذب لا محالة ؛ لأنّ أحدهما قد كان على قولهم ، والكذب بالقول لا يجوز عليه. وكذلك السهو في الصلاة. على أنّه يلزم أبا عليّ أيضا أن لا يعمل بخبر الاثنين ؛ لأنّ النبيّ عليه‌السلام لم يعمل بخبر ذي اليدين وخبر أبي بكر ، حتّى انضاف إليهما عمر.

٢٣٨

[العاشر] : فصل في أنّ عدم العمل بخبر

الواحد يغنينا عن الكلام في فروعه

اعلم أنّا إذا كنّا قد دللنا على أن خبر الواحد غير مقبول في الأحكام الشرعيّة ، فلا وجه لكلامنا في فروع هذا الأصل الّذي دللنا على بطلانه ؛ لأنّ الفرع تابع لأصله ، فلا حاجة بنا إلى الكلام على أن المراسيل مقبولة أو مردودة ، ولا على وجه ترجيح بعض الأخبار على بعض ، وفيما يردّ له الخبر أو لا يردّ في تعارض الأخبار ، فذلك كلّه شغل قد سقط عنّا بإبطالنا ما هو أصل لهذه الفروع ، وإنّما يتكلّف الكلام على هذه الفروع من ذهب إلى صحّة أصلها ، وهو العمل بخبر الواحد (١).

__________________

(١) الذريعة ، ٢ : ٤٧٧ إلى ٥٥٥.

٢٣٩

المقدّمة السادسة : باب الكلام في الإجماع

[وفيها أمور :]

[الأوّل] : اختلف الناس في هذه المسألة : فقال أكثر المتكلّمين وجميع الفقهاء :

إنّ إجماع أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة ، وإنّهم لا يجوز أن يجمعوا على باطل ، وخالف النّظّام ومن تابعه في ذلك ، ونفى كون الإجماع حجّة ، وحكي عن قوم من الخوارج مثل ذلك ، وحكي أيضا عن بعضهم أنّه أحال كون الإجماع حجّة ، وذهب إلى أنّه لا يجوز في جماعة يجوز الخطأ على كلّ واحد منها أن ينتفي عن جماعتها ، وآخرون نفوا كونه حجّة ، بأن قالوا : إن أجمعوا على الشيء تبخيتا ، فذلك لا يجوز اتّباعه ، وإن كان توقيفا عن نصّ ، فيجب ظهور الحجّة بذلك ، ويغني عن الإجماع ، وإن كان عن قياس ؛ فلن يجوز مع اختلاف الهمم وتباين الآراء واختلاف وجوه القياس أن يتّفقوا على ذلك. وفي الناس من نفى الإجماع ، لتعذّر العلم باتّفاق الأمّة ، مع أنّها غير معروفة على مذهب من المذاهب.

والصحيح الّذي نذهب إليه أن قولنا «إجماع» إمّا أن يكون واقعا على جميع الأمّة ، أو على المؤمنين منهم ، أو على العلماء فيما يراعي فيه إجماعهم ، وعلى كلّ الأقسام لا بدّ من أن يكون قول الإمام المعصوم داخلا فيه ؛ لأنّه من الأمّة ، ومن أجلّ المؤمنين ، وأفضل العلماء ، فالاسم مشتمل عليه ، وما يقول به المعصوم لا يكون إلّا حجّة وحقّا ، فصار قولنا موافقا لقول من ذهب إلى أنّ الاجماع حجّة في الفتوى ، وإنّما الخلاف بيننا في موضعين ؛ إمّا في التعليل ، أو الدلالة ؛ لأنّا نعلّل كون الإجماع حجّة بأنّ العلّة فيه اشتماله على قول معصوم قد

٢٤٠