تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

علم الله سبحانه أنّه لا يفعل القبيح منفردا ولا مجتمعا ، وأنّه لو انفرد لكان قوله الحجّة ، وإنّما نفتي بأنّ قول الجماعة الّتي قوله فيها وموافق لها حجّة لأجل قوله ، لا لشيء يرجع إلى الاجتماع معهم ، ولا يتعلّق بهم. ومن خالفنا يعلّل مذهبه بأنّ الله تعالى علم أنّ جميع هذه الأمّة لا تتّفق على خطأ ، وإن جاز الخطأ على كلّ واحد منها بانفراده ، فللإجماع تأثير بخلاف قولنا أنّه لا تأثير له. فأمّا نحن فنستدلّ على صحّة الإجماع وكونه حجّة في كلّ عصر بأنّ العقل قد دلّ على أنّه لا بدّ في كلّ زمان من إمام معصوم ، لكون ذلك لطفا في التّكليف العقليّ ـ وهذا مذكور مستقصى في كتب الإمامة ، فلا معنى للتعرّض له هيهنا (١) ـ وثبوت هذه الجملة يقتضي أن الإجماع في كلّ عصر حجّة ، وهذه الطريقة من الاستدلال لا توافق مذاهب مخالفينا ؛ لأنّ الأصل الّذي بنينا عليه هم يخالفون فيه ، ولو تجاوزوا عنه لكان ثبوت الحجّة بالإجماع على هذا الوجه ينافي مذاهبهم في أنّ لإجماع الأمّة تأثيرا في كونه حجّة ، وأنّ بعضهم في هذا الحكم بخلاف كلّهم. فأمّا ما يستدلّون هم به على كون الإجماع حجّة فإنّما نطعن فيه نحن ؛ لأنّه لا يدلّ على ما ادّعوه ، ولو دلّ على ذلك لم يضرّنا ، ولا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ شهادة القرائن أو الآيات بأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلال ، نحن نقول بفحواه ومعناه وليس في الشهادة بذلك تعليل ينافي مذهبنا ، كما كان ذلك في تعليل قولنا : إنّ الاجماع حجّة واستدلالنا عليه ، فبان بهذا الشرح الّذي أطلناه هيهنا ما يحتاج إليه في هذا الباب ، وإذا كنّا قد دللنا على كيفيّة كون الإجماع حجّة على مذهبنا ، فينبغي أن نعطف إلى ما تعلّق به مخالفونا فنورده ، ثمّ نتكلّم عليه ، ونحن لذلك فاعلون.

__________________

(١) راجع الشافي ، ١ : ٤٧.

٢٤١

[في أدلّة المخالفين على حجّيّة الإجماع والجواب عنها]

وقد تعلّقوا في ذلك بأشياء :

أوّلها : قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١). فتوعّد على اتّباع غير سبيلهم ، وفي ذلك إيجاب لاتّباع سبيلهم ، فلولا أنّ الإجماع حجّة لم يوجب اتّباعهم.

وثانيها : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢). ومعنى «وسطا» أي عدلا ، فكما يجب في شهادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون حجّة ، فكذلك القول في شهادتهم ؛ لأنّ الله تعالى قد أجراهم مجراه.

وثالثها : قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣). وهذه صفات لا تليق إلّا بمن قوله حجّة (٤).

ورابعها : ما يروونه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لا تجتمع أمّتي على خطأ» (٥).

فيقال لهم فيما تعلّقوا به أوّلا : إنّ ظاهر الآية يقتضي إيجاب اتّباع من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا وباطنا ؛ لأنّ من يظهر الإيمان إنّما يوصف بذلك مجازا ، والمؤمن من فعل الإيمان ، وهذا يقتضي إيجاب اتّباع من قطعنا على عصمته من المؤمنين ، دون من جوّزنا أن يكون باطنه خلاف ظاهره ، فكيف يحمل ذلك على أنّه إيجاب لاتّباع من أظهر الإيمان ، وليس كلّ من أظهر الإيمان كان مؤمنا؟!.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١١٥.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٤٣.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠.

(٤) سيأتي تفصيل الشبهات والجواب عنها ذيل الآيات إن شاء الله تعالى.

(٥) انظر سنن ابن ماجة ، ٢ : ١٣٠٣.

٢٤٢

فإن ادّعوا أنّ هذه اللفظة تجري على من أظهر الإيمان حقيقة ، واستدلّوا عليه بقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (١) ، وقوله عزوجل : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) (٢) ، طولبوا بالدلالة على ما ادّعوه ، فإنّه يتعذّر عليهم. والآيتان اللّتان ذكروهما إنّما علمنا أنّ المراد بهما من أظهر الإيمان بدلالة ، والظاهر يقتضي خلاف ما حملناهما عليه.

وأيضا ؛ فإنّ الآية تضمّنت حظر اتّباع غير سبيل المؤمنين ، ولم يجر لسبيل المؤمنين ذكر ، ودليل الخطاب غير صحيح عندنا وعند أكثرهم ، فلا يجوز الرجوع إليه في هذه الآية.

وليس لأحد أن يقول : إنّ المراد بلفظة «غير» هيهنا الاستثناء ، كأنّه قال : «لا تتّبع إلّا سبيل المؤمنين» ، كما يقول أحدنا لغيره : «لا تأكل غير هذا الطعام» ، أي لا تأكل إلّا هذا الطعام ، ولا تلق غير زيد ، الّذي يفهم منه إيجاب لقائه.

وذلك أنّ لفظة «غير» هي بالصفة أحقّ منها بالاستثناء ، وإنّما استثني بها في بعض المواضع تشبيها لها بلفظة «إلّا» ، كما وصفوا في بعض المواضع بلفظة «إلّا» تشبيها لها بغير. وبعد ، فلو احتملت لفظة «غير» الصفة والاستثناء احتمالا واحدا ، ـ وليس الأمر كذلك ـ لكانوا يحتاجون في حملها على الاستثناء دون الصفة إلى دلالة. والّذي يبيّن الفرق بين ما جمعوا بينه أنّه يحسن أن يقول أحدنا لغيره : «لا تأكل غير هذا الطعام ولا هذا الطعام» ولا يجوز أن يقول : «لا تأكل إلّا هذا الطعام ولا تأكل هذا الطعام».

فإن قيل : متى لم يتبع غير سبيل المؤمنين ، فبالضرورة لا بدّ من كونه متّبعا لسبيلهم فحظر أحد الأمرين إيجاب للآخر.

قلنا : ليس الأمر كذلك ؛ لأنّه قد يجوز أن يحظر عليه اتّباع سبيل كلّ أحد ، ويلزم التعويل على الأدلّة ؛ لأنّ المفهوم من هذه اللّفظة أن يفعل المتّبع الفعل لأجل فعل المتّبع ، وقد يمكن أن ينهى عن ذلك كلّه.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٩٢.

(٢) سورة الممتحنة ، الآية : ١٠.

٢٤٣

وأيضا فليس يخلو قوله تعالى : (الْمُؤْمِنِينَ) من أن يريد به المستحقين للثواب ، والّذين باطنهم في الإيمان كظاهرهم ، أو يريد به من أظهر التصديق والإيمان ، وإن جاز في الباطن أن يكون بخلافه ، فإن كان الأوّل ، فالظاهر يقتضي تناول اللفظة لجميع المؤمنين إلى أن تقوم الساعة ، فكيف يحملونها على مؤمني كلّ عصر ، وإنّما هم بعض المؤمنين لا كلّهم ، وإن جاز لهم حمل اللفظة على خلاف عموم ظاهرها جاز لنا حملها على الأئمّة المعصومين ، ففي كلّ واحد من الأمرين ترك للظاهر. وإن كان المراد بالآية الوجه الثاني فهو باطل من وجهين :

أحدهما : ما قلناه من أن ذلك يقتضى الجميع إلى أن تقوم الساعة ، ولا يختصّ بأهل كلّ عصر.

والثاني : أنّ الكلام خارج مخرج المدح والتعظيم ، من حيث الأمر بالاتّباع والاقتداء ، وذلك لا يليق إلّا بمن يستحقّ التعظيم على الحقيقة ، دون من يجوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره ، ممّن يستحقّ الاستخفاف والإهانة.

وأيضا ؛ فإنّه تعالى علّق وجوب الاتّباع بكونهم مؤمنين ، فمن أين لهم أنّهم لا يخرجون من هذه الصفة؟ فلا يلزم اتّباعهم ، وإنّما يقولون في أنّهم لا يخرجون عن الإيمان على ما هو مبنيّ على أن الحق لا يخرج عنهم ، والكلام في ذلك.

ثمّ من أين لهم في الأصل أنّه لا بدّ في كلّ زمان من وجود مؤمنين ، حتّى يلزم اتّباعهم؟! وليس يمكن التعلّق في إثبات مؤمنين في كلّ حال بأنّه إذا أمر باتّباعهم ، فلا بدّ من حصولهم ، ليمكن الاتّباع ؛ لأنّ ذلك تكليف مشروط بغيره ، يجب إذا وجد الشرط ، وليس يقتضي أنّ الشرط لا بدّ من حصوله في كلّ حال ، ألا ترى أنّه تعالى قد أمر بقطع السارق وجلد الزاني ، ولا يقتضي ذلك القطع على أنّه لا بدّ في كلّ حال من وجود سرّاق وزناة ، حتّى يمكن إقامة الحدود عليهم؟.

وأيضا ؛ فإنّ الآية كالمجملة ؛ لأنّه تعالى لم يوجب اتّباع سبيلهم في كلّ الأحوال ، ولا في حال مخصوص فمن أين لهم عموم الأحوال ، وليس هيهنا

٢٤٤

لفظ عموم؟!. وليس لهم أن يقولوا : لو أراد التخصيص لبيّن ؛ لأنّ ذلك يمكن عكسه عليهم. وهي أيضا مجملة من وجه آخر ؛ لأنّ لفظة «سبيل» منكرة ، فمن أين لهم وجوب اتّباعهم في كلّ شيء عموما؟!.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثانيا : هذه الآية يقتضي ظاهرها وصف الأمّة بالعدالة والشهادة أيضا وهذا الوصف يقتضي ظاهره أن يكون كلّ واحد منهم بهذه الصفة ، ومعلوم بيننا خلاف ذلك. فإذا حملوا الآية على بعض الأمّة دون بعض الّذين هم العدول ، لم يكونوا بذلك أولى منّا إذا حملناها على المعصومين من الأئمّة ، فإن قالوا : لم نحملها على الجميع للوصف الّذي لا يليق بالجميع ، فحملناها على كلّ من يليق به الوصف. قلنا : ليس هيهنا لفظ عموم ، كما كان في الآية الأولى ، واللفظ محتمل للأمرين ، فإذا جاز أن يحملوه على بعض دون بعض ، جاز لنا مثل ذلك وقمنا فيه مقامكم. على أنّهم إذا حملوها على العموم في كلّ من كان ظاهره العدالة ، لزمهم توجّه الآية إلى جميع من هو بهذه الصفة إلى يوم القيامة على سبيل الاجتماع ، فيبطل قولهم : إنّ إجماع أهل كلّ عصر حجّة.

وأيضا ؛ فإنّ وصفهم بالعدالة ليكونوا شهداء إنّما يقتضي أن يجتنبوا ما أخرج من العدالة ، والصغائر عندهم لا تخرج عن العدالة ، فيجب أن تجوّز عليهم ، وهم لا يجوزون أن يجمعوا على قبيح صغير ولا كبير.

وأيضا ؛ فإنّ الآية كالمجملة ؛ لأنّها غير متضمّنة بأنّهم جعلوا عدولا في كلّ شيء ، وفي جميع أفعالهم وأقوالهم ، ومن ادّعى عموم ذلك فعليه الدلالة ، والرسول عليه‌السلام لم تجب عصمته من القبائح كلّها ، لكونه شهيدا بل لنبوّته.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثالثا : إنّ التأمّل لما تكلّمنا به على الآيتين المتقدّمتين يبطل تعلّقهم بهذه الآية ؛ لأنّ وصفهم بأنّهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يليق بجميع الأمّة ، فلا بدّ من حمله على بعضهم ، وإذا فعلوا ذلك لم يكونوا أولى منّا إذا حملناها على من ثبتت عصمته وطهارته.

٢٤٥

وبعد ، فليس في الآية ما يقتضي أنّهم لا يأمرون إلّا بذلك وليس يمتنع خروج من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في بعض الأحوال عن ذلك ، ولأنّ الآية لا تقتضي أنّ إجماع كلّ عصر حجّة ، فمن أين أن هذا الوصف واقع على أهل كلّ عصر على انفرادهم؟!.

ويقال لهم فيما تعلّقوا به رابعا : من الخبر هذا الخبر يجب أن تدلّوا على صحّته ، فهي الأصل. ثمّ على اقتضائه عصمة الأمّة وكون إجماعهم حجّة على ما تدّعون ، فلا شبهة في أنّ هذا الخبر إنّما رواه الآحاد ، وليس من الأخبار الموجبة للعلم.

وإنّما يفزع مخالفونا في تصحيحه إلى أمور كلّها عند التأمّل مبنيّة على أنّ إجماعهم حجّة ، وقبولهم للشيء يقتضي صحّته ، وما أشبه ذلك ، وهذا هو استدلال على الشيء بنفسه ، وتمحّل وتعلّل ، ونحن نبيّن ذلك. وربما ادّعى مخالفونا أنّ معناه متواتر ، وإن كانت ألفاظه من جهة الآحاد ، وأجروه مجرى شجاعة عمرو وسخاء حاتم.

أمّا الطريقة الأولى ؛ فأكثر ما فيها أنّ الأمّة أطبقت ، وأجمعت على تصحيحه ، والرضا به ، ودون صحّة ذلك خرط القتاد ؛ لأنّ ذلك غير معلوم ولا مسلّم ، وكلّ من خالف في الإجماع من العلماء قديما وحديثا ينكر ذلك غاية الإنكار ، فمن أين أنّهم في ذلك مصيبون؟! ونحن قبل هذا الخبر الّذي هو الحجّة في صحّة الإجماع نجيز عليهم الخطأ ، فلعلّ قبولهم هذا الخبر من جملة ما هو جائز عليهم من الخطأ ، وادّعاؤهم أن لامّتنا عادة ألفت منهم في ردّ الباطل وقبول الحقّ ، ممّا لا نوافقهم عليه ، ولا يجابون إليه. وإذا طولبوا بتصحيح هذه العادة لم يحصلوا إلّا على مجرّد الدعوى ، وليس كلّ من عرف منه أنّه ردّ باطلا وقبل حقّا لا يجوز عليه بالشبهة أن يقبل باطلا ويردّ حقّا ، وأكثر ما يقتضيه حسن الظنّ بهم أن يكونوا عندنا ممّن لا يدفع إلّا ما اعتقد بطلانه ، وأدّاه اجتهاده إلى وجوب ردّه ، ولا يقبل أيضا إلّا ما اعتقد بحجّة أو شبهة صحّته ، فأمّا تجاوز ذلك إلى ما يقتضي عصمتهم ، ونفي القبيح عنهم من غير دلالة

٢٤٦

قاطعة ، فلا سبيل إليه ، وقد استقصينا هذه النكتة في الكتاب الشافي (١) غاية الاستقصاء ، وتكلّمنا على ما يلزمه مخالفونا في هذا الموضع ، ممّا هو عائد كلّه عند الكشف والفحص عنه إلى استيلاف عصمة القوم بغير دلالة.

ثمّ إذا سلّمنا صحّة الخبر لم يكن فيه دلالة على ما يدّعون ؛ لأنّه كالمجمل ، من حيث إنّه نفى خطأ منكرا ، فمن أين لهم عمومه في جنس الخطأ ، ولا بدّ في حمله على ذلك من دليل ولن يجدوه؟!.

وبعد ؛ فإن حملوا لفظة «أمّتي» على جميع الأمّة ، أو على المؤمنين لزمهم أن يدخل فيه كلّ من كان بهذه الصفة إلى أن تقوم الساعة على سبيل الاجتماع ، ويبطل أن يكون إجماع كلّ عصر حجّة ، على ما تقدّم بيانه.

وربما قيل لهم في الخبر : من أين لكم أنّه خبر دون أن يكون نهيا ، ولعلّ العين من لفظة «تجتمع» ساكنة غير مرفوعة؟ ومن الّذي ضبط في إعرابه الرفع من التسكين؟.

وربما قيل لهم ما أنكرتم أن يكون خبرا معناه معنى النهي ، كما جرى في نظائره ، من قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الزعيم غارم» (٣) و «العارية مردودة» (٤) وما لا يحصى كثرة. وهذا لا يلزمهم ، ولهم أن ينفصلوا عنه بأنّ اللفظ الّذي ظاهره موضوع للخبر لا يجوز حمله على الأمر أو النهى إلّا بدلالة ، والظاهر في الخبر معنا ، وعلى من ادّعى ما نقلنا عن ظاهره الدلالة.

فأمّا الكلام على من أحال أن يجوز على كلّ واحد منهم من الخطأ ما لا يجوز على جماعتهم ، وضرب لذلك الأمثال بأن الجماعة إذا كان كلّ واحد منها أسود ، فلا يجوز أن تكون الجماعة ليست سودا ، وما أشبه ذلك ، فهو اعتماد من لم يحصل ولم يتأمّل ؛ لأنّ مراد من نفي الخطأ عن الجماعة ليس هو نفي

__________________

(١) راجع الشافي ، ١ : ٢٣٦ وما بعدها.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٩٧.

(٣) مسند أحمد ، ٥ : ٢٦٧.

(٤) عوالي اللآلي ، ١ : ٣١٠.

٢٤٧

القدرة ؛ بل هو نفي التجويز والشكّ ، وليس يمتنع أن تقوم دلالة ترفع الشكّ في الجماعة لا يقوم مثلها في الآحاد ، ولو فرضنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى عشرة ، فقال : «كلّ واحد منهم يجوز أن يخطئ منفردا ، وإذا اجتمعوا ، فإنّ الخطأ لا يقع منهم» ، لكان ذلك صحيحا غير مستحيل ، ولم يجر مجرى السواد والطول اللّذين الآحاد فيه كالجماعة ، وكيف يمتنع من ذلك من يذهب إلى أنّ الأنبياء والملائكة عليه‌السلام قد علم الله تعالى أنّهم لا يفعلون القبائح ، وإن كانوا قادرين عليها ومتمكّنين منها؟! فارتفع التجويز والشكّ مع القدرة والتمكّن.

وممّا قيل في ذلك : أنّه غير ممتنع أن يجوز على الآحاد ما لا يجوز على الجماعات ، كسهو الواحد عن شيء مخصوص ، وإن كان الجماعات الكثيرة لا يجوز عليها مثل ذلك ، وخروجه في وقت مخصوص بهيأة مخصوصة ، أو تشويهه بنفسه ، وإن كان ذلك كلّه لا يجوز على الجماعات مع القدرة عليها.

وأمّا من نفي صحّة الإجماع من جهة أنّهم لا يجوز أن يجمعوا على الشيء الواحد قياسا مع اختلاف الهمم والأغراض ، فباطل ؛ لأنّ الجماعات الكثيرة قد تجتمع على الفعل الواحد والمذهب الواحد ، إمّا بحجّة ، أو بشبهة ، كاجتماع المسلمين على مذاهب كثيرة ، مع الكثرة وتباين الهمم ، لأجل الحجّة ، واجتماع اليهود والنصارى والمبطلين على المذاهب الكثيرة بالشبهة ، وكما أجمعوا مع كثرتهم على القول بقتل المسيح عليه‌السلام وصلبه ، وإن كان ذلك باطلا.

وأمّا قول من نفى الاجماع لتعذّر الطريق إليه ، فجهالة ؛ لأنّا قد نعلم اجتماع الخلق الكثير على المذهب الواحد ، وترتفع عنّا الشبهة في ذلك ، إمّا بالمشاهدة ، أو النقل. ونعلم من إجماعهم واتّفاقهم على الشيء الواحد ما يجرى في الجلاء والظهور مجرى العلم بالبلدان والأمصار والوقائع الكبار. ونحن نعلم أنّ المسلمين ، كلّهم متّفقون على تحريم الخمر ووطئ الأمّهات وإن لم نلق كلّ مسلم في الشرق والغرب والسهل والجبل. ونعلم أيضا أن اليهود والنصارى متّفقون على القول بقتل المسيح وصلبه وإن كنّا لم نلق كلّ يهوديّ ونصرانيّ في الشّرق والغرب. ومن دفع العلم بما ذكرناه كان مكابرا مباهتا. وقد استقصينا

٢٤٨

الكلام على هذه الشبهة في الجواب عن المسائل التبانيّات ، وبلغنا فيه الغاية (١) ، وفيما أشرنا إليه كفاية.

وأرى كثيرا من مخالفينا يعجبون من قولنا : «إنّ الإجماع حجّة» ، مع أنّ المرجع في كونه حجّة إلى قول الإمام ، من غير أن يكون للإجماع تأثير ، وينسبونا في إطلاق هذه اللفظة إلى اللّغو والعبث ، وقد بيّنّا في الكتاب الشافي (٢) في هذه النكتة ما فيه كفاية ، وفي الجملة فلستا نحن المبتدئين بالقول بأنّ الإجماع حجّة ، لكنّا إذا سئلنا وقيل لنا : ما تقولون في إجماع المسلمين على أمر من الأمور ، فلا بدّ من أن نقول : إنه حقّ وحجّة ؛ لأنّ قول الإمام المعصوم الّذي لا يخلو كلّ زمان منه لا بدّ من أن يكون داخلا في هذا الإجماع ، فجوابنا بأنّه حقّ وحجّة صحيح ، وإن كانت علّتنا في أنّه حجّة غير علّتهم ، ولو أنّ سائلا سألنا عن جماعة فيهم نبيّ : هل قول هذه الجماعة حقّ وحجّة؟ لما كان لنا بدّ من أن نقول : إنّه حجّة ، لأجل قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نمتنع من القول بذلك لأجل أنّه لا تأثير لقول باقي الجماعة.

وقد بيّنّا في كتاب الشافي (٣) أنّه غير ممتنع أن يلتبس في بعض الأحوال قول إمام الزمان إمّا لغيبته ، أو لغيرها ، فلا نعرف قوله على التعيين ، فنفزع في هذا الموضع إلى إجماع الأمّة أو إجماع علمائنا ، لنعلم دخول الإمام المعصوم فيه ، وإن كنّا لا نعرف شخصه وعينه ، ففي مثل هذا الموضع نفتقر إلى معرفة الإجماع على القول لنعلم دخول الحجّة فيه ، إذا كان قول الإمام ـ هو الحجّة ـ ملتبسا أو مشتبها ، وهذا يجري مجرى قول المحصّلين من مخالفينا : إنّ الإجماع الّذي هو الحجّة هو إجماع المؤمنين من الأمّة ، دون غيرهم ؛ لأنّ قول المؤمنين لمّا لم يكن متميّزا ، وجب اعتبار إجماع الكلّ ليدخل ذلك فيه.

__________________

(١) راجع الرسائل ، ١ : ١١.

(٢) الشافي في الإمامة ، ١ : ٢٨١.

(٣) الشافي في الإمامة ، ١ : ٢٨٠.

٢٤٩

[الثاني] : فصل في الإجماع هل هو حجّة في شيء

مخصوص أو في كلّ شيء؟

اعلم أنّ كلّ شيء أجمعت عليه الأمّة لا بدّ من كونه غير خطأ ، وإن لم يكن خطأ ، فلا بدّ من كونه صوابا ، وما هو صواب على ضربين : فمنه ما يصحّ أن يعلم بإجماعهم ، وهذا القسم هو الّذي يكون إجماعهم حجّة فيه. فأمّا ما لا يمكن أن يعلم بإجماعهم ، فقولهم ليس بحجّة فيه وإن كان صوابا ، وكون الشيء حجّة كالمنفصل من كونه صوابا ؛ لأنّ كونه صوابا يرجع إليه ، وكونه حجّة يرجع إلى غيره.

فأمّا الّذي يكون إجماعهم فيه حجّة فهو كلّ أمر صحّ أن يعلم بإجماعهم. والّذي لا يصحّ أن يعلم بإجماعهم ما يجب أن تتقدّم معرفته على معرفة صحّة الإجماع ، كالتوحيد والعدل وما أشبههما وإذا كنّا إنّما نرجع في كون الإجماع حجّة إلى قول الإمام المعصوم الّذي لا يخلو كلّ زمان منه ، فيجب أن نقول : كلّ شيء تقدّمت معرفة وجوب وجود الإمام المعصوم في كلّ زمان له ، فقول الإمام حجّة فيه ، والإجماع الّذي يدخل هذا القول فيه أيضا حجّة في مثله. فأمّا ما لا يمكن المعرفة بوجود الإمام المعصوم قبل المعرفة به ، فقوله ليس بحجّة فيه ، كالعقليّات كلّها.

والّذي يمكن على أصولنا المعرفة به من طريق الإجماع أوسع وأكثر ممّا يمكن أن يعلم بالإجماع على مذهب مخالفينا ؛ لأنّهم إنّما يعلمون بالإجماع الأحكام الشرعيّة خاصّة ، ونحن نتمكّن من أن نعلم بالإجماع زائدا على ذلك فرضا وتقديرا النبوّة والقرآن وما شاكل ذلك من الأمور الّتي يصحّ أن يتقدّمها العلم بوجوب الإمامة. ولو أجمعت الأمّة في شخص بعينه أنّه نبيّهم ، وفي كلام بعينه أنّه كلام الله سبحانه ، لعلمنا صحّتهما ؛ لسلامة الأصل الّذي أشرنا إليه ، وصحّة تقدّمه على هذه المعرفة. وعلى هذا يصحّ على مذاهبنا أن يعلم صحّة الإجماع وكونه حجّة من يجهل صحّة القرآن ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ أصل كونه

٢٥٠

حجّة لا يفتقر إلى العلم بالنبوّة والقرآن ، وعلى مذهب مخالفينا لا يصحّ ذلك ؛ لأنّ الكتاب والسنّة عندهم هما أصل كون الإجماع حجّة.

واختلفوا في إجماعهم على ما يرجع إلى الآراء في الحروب وما جرى مجراها : فذهب قوم إلى أنّ خلافهم في ذلك لا يجوز أيضا ، واعتمدوا على أنّ الأدلّة حرمت مخالفتهم عموما ، وجوّز آخرون أن يخالفوا فيه ، وقالوا ليس يزيد حالهم على حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والصحيح أنّ كلّ ما لا يجوز خلاف الرسول أو الإمام فيه لا يجوز خلاف الإجماع أيضا فيه ؛ لأنّ المرجع في أنّ الإجماع حجّة لا تجوز مخالفته إلى أنه مشتمل على قول الحجّة من الإمام أو من جرى مجراه ، وخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آراء الحروب لا يجوز ؛ لأنّها صادرة عن وحي ، ولها تعلّق قويّ بالدين ، ولو رجعت إلى آرائه في نفسه لم يجز مخالفته فيها ، لأجل التّنفير ، وكذلك آراء الإمام فيما يتعلّق بالسياسات الدينيّة والدنيويّة لا يجوز مخالفتها ؛ لأنّها تنفّر عنه وتضع منه.

وينقسم الإجماع إلى أقسام : وهي أن يجمعوا على الشيء قولا أو فعلا أو اعتقادا أو رضا به. وقد ينفرد كلّ واحد من هذه الأقسام ، وقد يجتمع مع غيره. ولا يجوز أن يجمعوا على الذهاب عن علم ما يجب أن يعلموه ، والوجه في ذلك أنّ إخلالهم بالواجب يجري في استحقاق الذمّ والعقاب به مجرى فعل القبيح ، وإذا كان المعصوم لا يجوز عليه الأمران منعنا ذلك في كلّ جماعة يكون هذا المعصوم فيها. فأمّا من استدلّ من مخالفينا على صحّة الإجماع بالخبر ، وطعن في دلالة الآيات ؛ فيلزمه تجويز الذهاب عمّا يجب علمه عليهم ؛ لأنّ الخبر إنّما نفى أن يجمعوا على خطأ ، ولم يتضمّن نفي الإخلال بالواجب ، ولفظه لا يقتضيه. فأمّا ما لا يجب أن يعرفوه ، ولم ينصب لهم دليل عليه ، فيجوز ذهابهم عن علمه.

٢٥١

[في أن المسألتين كمسألة واحدة

في عدم جواز اجتماع الأمّة على الخطأ]

ولا يجوز أن تجتمع الأمّة على الخطأ في مسألتين ، كما لا يجوز أن تجتمع على الخطأ في مسألة واحدة. ودليل هذه المسألة على مذهبنا واضح ؛ لأنّ تجويز ذلك يؤدّي إلى خطأ المعصوم ؛ لأنّه إذا كان لا بدّ من أن يكون إمّا في هذه الطائفة أو في الأخرى ، وكلّ واحدة منهما مخطئة ، فهو مخطئ. وأمّا مخالفونا في علّة الإجماع ، فإنّما يعتمدون في نفى الخطأ عن الأمّة ، وإن كان في مسألتين على أن يقولوا : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفى الخطاء عن أمّته نفيا عامّا ، ولم يفرّق بين المسألة والمسألتين ، فيجب نفي الكلّ.

[الثالث :] فصل في ذكر من يدخل في الإجماع الّذي هو حجّة

اعلم أنّ الكلام في هذه المسألة ـ على أصولنا في علّة كون الإجماع حجّة ـ كالمستغنى عنه ؛ لأنّ الإجماع إذا كان علّة كونه حجّة كون الإمام فيه ، فكلّ جماعة ـ كثرت أو قلّت ـ كان قول الإمام في جملة أقوالها ، فإجماعها حجّة ؛ لأنّ الحجّة إذا كانت ، هو قوله ، فبأيّ شيء اقترن ، لا بدّ من كونه حجّة لأجله ، لا لأجل الإجماع. وقد اختلف قول من خالفنا في هذه المسألة : فمنهم من قال : إنّ الإجماع الّذي هو حجّة هو إجماع جميع الأمّة المصدّقة بالرسول عليه‌السلام ، ومنهم من قال : بل هو إجماع المؤمنين خاصّة ، وفيهم من ذهب إلى أنّ الإجماع الّذي هو حجّة هو إجماع الفقهاء. ولا معنى لخوضنا في هذا الخلاف ؛ لأنّ أصولنا تقتضي سواه ، وقد بيّنا ما يجب أن يعتمد.

واختلفوا في الواحد والاثنين إذا خالفا ما عليه الجماعة : فمنهم من قال : لا يعتدّ بخلاف واحد واثنين ؛ لأنّه شاذّ خارج عن قول الجماعة ، ومنهم من قال : إنّ خلاف الواحد والاثنين يخرج القول من أن يكون إجماعا. وهذا القول الثاني

٢٥٢

أشبه بالصواب على مذاهبهم ؛ لأنّ الإجماع الّذي هو حجّة إذا كان هو إجماع الأمّة أو المؤمنين ، فخروج بعضهم عنه يخرجه عن تناول الاسم. والّذي يجب أن نعوّل عليه في هذه المسألة أن نقول : ليس يخلو الواحد والاثنان المخالفان لما عليه الجماعة من أن يكون إمام الزّمان المعصوم أحدهما قطعا أو تجويزا ، أو يعلم أنّه ليس بأحدهما قطعا ويقينا.

والقسم الأوّل يقتضي أن يكون قول الجماعة ـ وإن كثرت ـ هو الخطأ ، وقول الواحد والاثنين ـ لأجل اشتماله على قول الإمام ـ هو الحقّ والحجّة.

فأمّا القسم الثاني ؛ فإنّا لا نعتدّ فيه بقول الواحد والاثنين ، لعلمنا بخروج قول الإمام عن قولهما ، وأنّ قوله في أقوال تلك الجماعة ، بل نقطع على أنّ إجماع تلك الجماعة ـ وإن لم تكن جميع الأمّة ـ هو الحقّ والحجّة ، لكون الإمام فيه ، وخروجه عن قول من شذّ عنها ، وخالفها.

ومن تأمّل كلامنا في هذا الفصل ، وما حقّقناه وفصّلناه من سبب كون الإجماع حجّة وعلّته ، علم استغناءنا عن الكلام فيما تكلّم مخالفونا عليه في كتبهم من أقسام الإجماع ، وما يراعى فيه إجماع الأمّة كلّها ، أو العلماء ، أو الفقهاء ، وما بينهم في ذلك من الخلاف ؛ فإنّ خلافهم في ذلك إنّما ساغ ؛ لأنّ أصولهم في علّة كون الإجماع حجّة غير أصولنا ، ففرّعوا الكلام بحسب أصولهم ، ونحن مستغنون عن الكلام في تلك الفروع ؛ لأنّ أصولنا لا تقتضيها ، وقد بيّنا من ذلك ما يرفع الشبهة.

[الرابع :] فصل في أنّ إجماع أهل كلّ الأعصار حجّة

اعلم أنّ القطع على أنّ إجماع كلّ عصر فيه الحجّة لا يتمّ إلّا على أصولنا ؛ لأنّ تعليل كون الإجماع حجّة يقتضي عندنا استمرار حكمه في كلّ عصر. ومخالفونا في تعليل كون الإجماع حجّة لا يتمّ لهم ذلك ؛ لأنّهم يرجعون فيه إلى

٢٥٣

أن الله تعالى علم من حال جماعتهم من نفي الخطأ ما لم يعلمه من الآحاد ، فمن أين لهم استمرار هذا الحكم في كلّ عصر؟! وقد ألزمناهم ـ إذا كانوا مستدلّين بالآية ـ أن يراد بلفظة «المؤمنين» إذا حملت على العموم ـ كلّ مؤمن إلى أن تقوم الساعة على الإجماع ، ومتى خصّوا بذلك أهل كلّ عصر كانوا تاركين للظاهر ، وغير منفصلين ممّن حمل ذلك على بعض مؤمني كلّ عصر. وكذلك الكلام عليهم إذا استدلّوا بالخبر. فوضح ما قلناه.

[الخامس :] فصل في أنّ انقراض العصر غير معتبر في الإجماع

اعلم أن علّة كون الإجماع فيه الحجّة ـ على ما ذهبنا ـ يبطل اعتبار انقراض العصر ، ولمن ذهب من مخالفينا إلى أنّ للإجماع تأثيرا أن يقول : الدلالة قد دلّت على أنّه إنّما كان حجّة لكونه إجماعا ، وهو قبل انقراض العصر بهذه الصفة ، فلا معنى لاعتبار غيرها.

[السادس] : فصل في أن الإجماع بعد الخلاف هل يزيل

حكم الخلاف أم لا؟

اختلف الناس في هذه المسألة : فذهب قوم إلى أنّ حكم الخلاف باق لا يزول بالإجماع الثاني ، وقال آخرون : إنّ الإجماع على أحد القولين يمنع من القول بالآخر ، ويجرونه مجرى الإجماع المبتدأ في المنع من خلافه ، وفيهم من فصّل بين أن يكون المجمعون ثانيا هو المختلفون أولا ، فقال : إذا كان المجمعون هم المختلفون كان إجماعا يمنع من القول الآخر ، وإن كانوا غيرهم لم يكن كذلك. وقد حكي عن بعضهم أنّه منع من وقوع إجماع بعد اختلاف أصلا. والصحيح أنّ الإجماع بعد الخلاف كالإجماع المبتدأ في أنّه حجّة يمنع

٢٥٤

من الخلاف على كلّ حال ؛ لأنّ علّتنا في كون الإجماع حجّة تقتضي ذلك ، ولا تفرّق بين إجماع تقدّمه خلاف أو كان مبتدأ ، وإنّما ضاق الكلام وقويت الشبهة في هذه المسألة على مخالفينا ، لقولهم بصحّة الاجتهاد ؛ لأنّ عمدة من نفي أن يكون الإجماع بعد الخلاف قاطعا للخلاف هي أنّ الخلاف الأوّل متضمّن لإجماعهم على جواز القول بكلّ واحد من المذهبين مطلقا ، فإذا حرمنا ذلك بالإجماع الثاني نقضنا كون الإجماع الأوّل حجّة ، وإذا ادّعي كون الأوّل مشروطا جاز أن يدّعى في الثاني أيضا الشرط ، فيقف الكلام هيهنا ، أو يشتبه. وعلى مذهبنا لا يلزم شيء من ذلك ؛ لأنّا لا نعلم أنّ المختلفين على قولين مجمعون على جواز القول بكلّ واحد منهما ؛ لأنّ عندنا أنّ الاجتهاد باطل ، وأنّ الحقّ مدلول عليه ، وأنّ من جهله غير معذور ، فمن سوّغ لمخالفه أن يقول بخلاف مذهبه من المختلفين مخطئ عندنا. فبطل ما ادّعاه من إجماع المختلفين على جواز القول بكلّ واحد من القولين ، وبطلت الشبهة الّتي هي أمّ شبههم. وأمّا من منع وقوع إجماع بعد اختلاف ، فإنّه متى طولب بدلالة على ما ادّعاه لم يجدها ، وإنّما هو تحكم محض. وقد أبطل هذا القول بأن ذكرت مسائل كثيرة في الشريعة وقع فيها خلاف ، ثمّ اجتمعوا على قول واحد فيها.

[السابع :] فصل في أن الأمّة إذا اختلفت على قولين أو أكثر

فإنّه لا يجوز إحداث قول آخر

اعلم أنّ أكثر الناس على أنّه لا يجوز إحداث قول زائد ، وذهب قوم من المتكلّمين وأصحاب الظاهر من الفقهاء إلى أن ذلك يجوز ، ويعتلّون بأنّه لو لم يجز لكان الاختلاف في أنّه حجّة كالإجماع. ويقولون أيضا : إذا جاز في الوقت إحداث قول زائد ، فكذلك فيما بعد. وعلى مذهبنا المنع من ذلك بيّن ؛ لأنّ الأمّة إذا اختلفت على قولين ، فالحقّ واحد منهما ، والآخر باطل ، وإذا كان

٢٥٥

الثاني بهذه الصفة ؛ فأولى أن يكون كذلك الثالث وما زاد عليه. ولأنّه لا يخلو من أن يكون الحقّ في جملة أقوال المختلفين ، أو فيما عداها ، والأوّل يقتضي أنّ الزيادة باطلة ؛ لأنّها خلاف الحقّ ، والقسم الثاني يقتضي أن يكونوا قد أجمعوا على الذهاب عن الحقّ ، وذلك أيضا باطل. ومن يقول بالاجتهاد يضيق عليه هذا الموضع ؛ لأنّه لا يسلّم له أنّ الأمّة إذا اختلفت على قولين فإنّها محرّمة للقول الثالث على كلّ حال ، بل إنّها محرّمة بشرط أن لا يؤدّي الاجتهاد إليه ، ويجب أن يجوّزه إذا أدّى الاجتهاد إليه. وهذه جملة كافية.

[الثامن :] فصل في أنّ الصحابة إذا اعتلت بعلّتين أو استدلّت بدليلين

هل يجوز لمن بعدهم أن يعتل أو يستدلّ بغير ذلك

اعلم أنّ الدلالة بخلاف المذهب ، والصحيح أنّه يجوز أن يستدلّوا في المسألة بدليل أو اثنين ، فيزيد من بعدهم على ذلك طريقة أخرى ؛ لأنّ الدليل الثاني كالأوّل في أنّه يدلّ على الحكم ويوصل إليه ، فلو أبطلناه لذهابهم عنه لكان ذلك مبطلا لدليلهم أيضا ، وقد يجوز أن يستغنوا عنه بدليل غيره ، لقيامه مقامه. ولا يجوز ذلك في المذهب ؛ لأنّ الحقّ واحد لا يختلف ، ولا يقوم غيره مقامه. وكذلك القول في القدح وإبطال الاستدلال : إنّه يجوز أن يزيد المتأخّرون على ما سطره المتقدّمون.

فأمّا تأويل الآي ، وتخريج معاني الأخبار ؛ فكلّ من صنّف أصول الفقه يجعل حكم ذلك حكم المذاهب ، لا حكم الأدلّة ، ولا يجوز أن يزيد المتأخّر على ما بلغ إليه المتقدّم. والأقوى في نفسي أن ذلك جائز ، كما جاز في الأدلّة ، فإنّ تأويل الآي لا يجري مجرى المذهب ، بل هو بالأدلّة أشبه. والّذي يوضح عمّا ذكرناه أنّا إذا تأوّلنا قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) (١)

__________________

(١) سورة القيامة ، الآيتان ، ٢٢ ـ ٢٣.

٢٥٦

على أنّ المراد بها الانتظار ، لا الرؤية ، وفرضنا أنّه لم ينقل عن المتقدّمين إلّا هذا الوجه ، دون غيره ، جاز للمتأخّر أن يزيد على هذا التأويل ، ويذهب إلى أن المراد أنهم ينظرون إلى نعم الله ؛ لأنّ الغرض في التأويلين جميعا إنّما هو إبطال أن يكون الله تعالى في نفسه مرئيا ، والتأويلان معا مشتركان في دفع ذلك ، وقد قام كلّ واحد مقام صاحبه في الغرض المقصود ، وجرت التأويلات مجرى الأدلّة في أنّه يغني بعضها عن بعض ، وخالفت في هذا الحكم المذاهب.

[التاسع :] فصل في الإجماع على أنّه لا فصل بين المسألتين

هل يمنع من الفصل بينهما

اعلم أنّ هذه المسألة تنقسم إلى قسمين :

أحدهما : أن يجمعوا على أنّه لا فصل بين مسألتين في حكم معيّن من تحليل أو تحريم.

والقسم الآخر : أن يجمعوا على أنّه لا فصل بينهما في الحكم أيّ حكم كان :

والقسم الأوّل لا شبهة في تحريم المخالفة فيه ؛ لأنّ إجماعهم على أنّه لا فصل بين مسألتين في تحريمه هو إجماع على حكم من الأحكام ، ويجري مجرى إجماعهم على تحريم أو تحليل ، فمن فرّق بين المسألتين فقد خالف إجماعهم لا محالة ، ويجري مجرى مخالفي كلّ إجماع.

وأمّا المسألة الثانية ، وهي أن يجمعوا على أنّه لا فصل بينهما في الحكم من غير تعيين ، فهو أيضا جار مجرى الأوّل في تحريم المخالفة ، وإن استند ذلك إلى دليل سوى الإجماع ؛ لأنّه إذا علم بدليل آخر أنّ ذلك الحكم هو التحريم ، صار كنصّهم على أن لا فرق في التحريم بينهما. ومثال هذا الوجه الأخير ما روي عن ابن سيرين من أنه قال في زوج وأبوين : أنّ للأمّ ثلث ما بقي ، وقال في امرأة وأبوين : أن للامّ ثلث جميع المال ، فخالف كلّ من تقدّم ؛ لأنّ الناس قبله

٢٥٧

كانوا بين مذهبين : أحدهما : أنّ للامّ ثلث المال في المسألتين ، والمذهب الآخر : أنّ لها ثلث ما بقي في المسألتين ، ففرّق ابن سيرين بين ما لم يفرّقوا بينه. وحكي عن الثوريّ : أنّه كان يقول : إنّ الجماع مع النسيان يفطر ، وإنّ الأكل مع النسيان لا يفطر ، ففصّل بينهما ، وجميع الفقهاء على خلافه ؛ لأنّ من فطّر بأحدهما ، فطّر بالآخر ، ومن لم يفطّر بأحدهما لم يفطر بالآخر.

[العاشر] : فصل في أن إجماع أهل المدينة ليس بحجّة

وتجوز مخالفته

حكي عن مالك أنّه كان يجعل إجماع أهل المدينة حجّة ، وفي أصحابه من ينكر ذلك ، ويقول : إن روايتهم مرجّحة على رواية غيرهم. والّذي نقوله أنّه إن كان إمام الزمان الّذي قد دلّت الأدلّة على عصمته مقيما في المدينة ، فإجماع أهلها حجّة لهذه العلّة ، لا لشيء يرجع إليها ؛ لأنّه لو انتقل عنها إلى غيرها ، زال هذا الحكم ، فلا تأثير للمدينة. ومن خالفنا في ذلك يقول : إنّ الله تعالى جعل الإجماع حجّة ، وليس أهل المدينة كلّ الأمّة ، ولا هم أيضا كلّ المؤمنين ولا كلّ العلماء ، فيما يراعى فيه إجماع العلماء. وما يروى من تفضيل النبيّ لها ، والثناء عليها لا يدلّ على أنّ إجماع أهلها هو الإجماع ، وأنّ الخطأ لا يجوز عليهم ، ولا تعلّق له بذلك.

فإن قيل : فلو فرضنا أنّ الرسول عليه‌السلام قال : «إجماع أهل المدينة حجّة» كيف كان يكون الحكم؟

قلنا : لو وقع هذا القول ، لدلّ على أن إجماعهم حجّة ، وإن انتقلوا إلى الكوفة.

فإن قيل : فلو قال عليه‌السلام : الخطا لا يقع منهم ما داموا في المدينة.

قلنا : ليس ينكر ذلك غير أنّه ما جرى هذا الّذي قدرتموه.

٢٥٨

[الحادي عشر :] فصل في أنّ موافقة إجماع الأمّة لمضمون خبر

هل يدلّ على أنّهم عملوا به ومن أجله

اعلم أنّه لا يجوز أن تجمع الأمّة على حكم من الأحكام إلّا بحجّة توجب العلم ، لأنّ من جملة المجمعين من لا يجوز عليه الخطأ ، ولا ترك الواجب ، فإذا ظهر بينهم خبر واحد وعملوا بما يوافق مضمونه فليس يجوز أن يقطع على أنّ جميعهم إنّما عمل لأجله ، للعلّة الّتي ذكرناها ، وإن كان متواترا يوجب العلم ، ولم يظهر سواه بينهم ؛ فالأولى أن يكون عملهم لأجله. ومخالفونا في علّة كون الإجماع حجّة يقولون : يمكن أن يكونوا ذهبوا إلى ذلك الحكم المخصوص لأجل اجتهاد أدّاهم إليه ، أو لأجل خبر آخر لم يظهر بينهم ، للاستغناء بالإجماع عنه ، فلا يجب القطع على أنّهم عملوا لأجل هذا الخبر الظاهر. وهذا منهم قريب.

[الثاني عشر :] فصل في [أنّه] هل يجوز أن يجمعوا على الحكم

من طريق الاجتهاد أو لا يجوز ذلك

اعلم أنّ هذه المسألة فرع على القول بصحّة الاجتهاد ، وأنّه طريق إلى العلم بالأحكام ، وأنّ الله تعالى قد تعبّدنا به ، ومن دفع العبادة بالاجتهاد ، وأن يكون طريقا إلى العلم بالأحكام ؛ لا كلام له في هذا الفرع. وإنّما يتكلّم في هذه المسألة من ذهب إلى العبادة بالاجتهاد.

وليس لأحد أن يقول : لم لا تجوّزون وإن لم نتعبّد بالاجتهاد أن يجمعوا مخطئين على حكم من الأحكام من جهة الاجتهاد.

قلنا : يمنع من ذلك أنّه إجماع منهم على الخطأ ، وقد بيّنّا أنّهم لا يجمعون على خطأ ؛ لأنّ في جملتهم من لا يجوز عليه الخطأ ، وإذا كان بين الأمّة اختلاف في صحّة الاجتهاد ، وأنّه طريق إلى العلم بطل تقدير هذه المسألة ؛ لأنّ

٢٥٩

الإجماع إذا كان هو إجماع جميع الأمّة ، وفيهم من ينفي القياس والاجتهاد ، فلا سبيل إلى أن يكونوا مجمعين ، وهذه حالتهم على حكم واحد من طريق الاجتهاد.

واعتلال المخالفين في هذا الموضع بقولهم : «إنّ نفاة القياس قد تناقض ، وتستعمل القياس وهي لا تشعر» تعلّل منهم بالباطل ؛ لأنّ هذا إن جاز ، فإنّما يجوز على الواحد والاثنين ، ولا يجوز على الجماعة الّتي تحصّل ، وتفطن ، وتشقّق الشعر في التدقيق والتحقيق ، وهذا رمى منهم للقوم بالغفلة ، وقلّة الفطنة.

وتعلّلهم أيضا بأن الخلاف في خبر الواحد كالخلاف في القياس ، وقد يجمعون لأجله ، باطل أيضا ؛ لأنّا لا نجيز على من يخالف في خبر الواحد أن يجمع على حكم من الأحكام لأجله في موضع من المواضع ، فالمسألتان واحدة.

فأمّا العموم ، وإن وقع خلاف في أن وضع اللّغة يقتضي الاستغراق ؛ فلا خلاف في أنّ العرف الشرعي يقتضيه ، ومن ارتكب أنّه لا عرف في العموم لغويّ ولا شرعيّ لا يصحّ أن يستدلّ بظاهر العموم ، بل بقرينة ودلالة.

فأمّا تعلّق من أبى الإجماع على الحكم من طريق الاجتهاد بأنّ الإجماع مقطوع به ، وما طريقه الاجتهاد لا يقطع عليه فليس بشيء ؛ لأنّه غير ممتنع أن يصير على بعض الوجوه ما ليس بمقطوع به مقطوعا عليه ، ويتغيّر الحال فيه ؛ لأنّ الحاكم إذا حكم بما طريقه الاجتهاد ، اقتضى حكمه القطع ، وإن كان الأصل الّذي هو الاجتهاد ليس بمقطوع به.

فأمّا ادّعاؤهم في أحكام كثيرة أنّهم أجمعوا عليها من طريق الاجتهاد ، كإجماعهم على قتال أهل الردّة بعد الاختلاف ، وأن الاتّفاق لا وجه له إلّا الاجتهاد ، وكذلك الاتّفاق على إمامة أبي بكر بعد الاختلاف ، وطريقها الاجتهاد ؛ فليس بمرضيّ ، ومن أين لهم أنّ الاتّفاق على قتال أهل الردّة لم يكن إلّا عن اجتهاد ، وله وجه في نصوص القرآن قد تعلّق بها؟!. وأمّا إمامة أبي

٢٦٠