تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

بكر ، فإذا سلّم الإجماع باطنا وظاهرا عليها ، فغير مسلّم أنّه عن اجتهاد ، والبكريّة تزعم أنّها كانت عن نصّ من الرسول عليه‌السلام على إمامته.

وأجد كثيرا من مصنّفي أصول الفقه يمتنع من القول بجواز أن تجمع الأمّة على الشيء تبخيتا أو تقليدا. وفي الفقهاء من يجيز ذلك ، ويصرّح بأنّ إجماعهم قد يكون تارة عن توقيف ، وأخرى عن توفيق ، وعلى أصولهم يجب أن يكون ذلك جائزا لا يمنع منه مانع ، وإذا جاز الخطأ على كلّ واحد منهم ، وجاز أن يعلم الله تعالى في جماعتهم خلاف ذلك ، وجاز أيضا أن يكون قول كلّ واحد يسوّغ مخالفته ، ولم يجز ذلك في الجماعة ، فألّا جاز أن يجمعوا على القول بالتّبخيت والتقليد إمّا من كلّهم ، أو من بعضهم ، ويوجب الله سبحانه وتعالى اتّباعه ، وكونه حجّة؟! ؛ لأنّ المعوّل هو ما يعلمه الله سبحانه من المصلحة ، وهذا ممّا لا انفصال لهم عنه.

فإن قيل كيف لا يلزمكم أنتم مثل ذلك ، وأنتم تقولون : أنّ الإجماع حجّة؟

قلنا : يجوز أن يبخّت ويقلّد كلّ من عدا الإمام ، فأمّا الإمام نفسه فذلك لا يجوز عليه ؛ لأنّه قبيح ، والقبيح قد أمّنّاه منه لعصمته ، فبان الفرق بيننا وبينكم في ذلك.

[الثالث عشر :] فصل في القول إذا ظهر بين الصحابة

ولم يعرف له مخالف كيف حكمه؟

اعلم أنّ القول إذا ظهر وانتشر ، ولم يكن في الأمّة إلّا قائل به وعامل عليه ، أوراض بكون ذلك القول قولا له ، حتّى لو استفتي ، لم يفت إلّا به ، ولو حكم ، لم يحكم إلّا به ؛ فهو الإجماع الّذي لا شبهة في أنّه حجّة وحقّ.

فأمّا إذا انتشر القول ، ولم يكن فيه إلّا قائل به ، أو ساكت عن النكير عليه ؛ فقد اختلف الناس فيه : فذهب أكثر الفقهاء وأبو عليّ الجبّائي إلى أنّه إجماع وحجّة ،

٢٦١

وذهب أبو هاشم وجماعة من الفقهاء إلى أنّ ذلك حجّة ، وإن لم يكن إجماعا ، وقال آخرون من الفقهاء : ليس ذلك بحجّة ولا إجماع ، وإليه ذهب كثير من أهل الظّاهر ، وهو مذهب أبي عبد الله البصريّ ، وهو الصحيح الّذي لا شبهة فيه.

وإنّما قلنا : أنّه الصحيح دون ما عداه ؛ لأنّ السكوت عن الإنكار لا يدلّ على الرضا به ؛ لأنّه قد يكون لأمور مختلفة ، ودواع متبائنة ، من تقيّة ، ورهبة ، وهيبة ، وغير ذلك من الأسباب المعتادة في مثله ، وإنّما يقتضي الرضا إذا علمنا أنّه لا وجه له إلّا الرضا ، ولا سبب له يقتضيه سواه ، وإذا لم يدلّ الإمساك عن النكير على الرضا ، فلا دلالة فيه على وقوع الإجماع ، ومن رأى ممّن يطعن على هذه الطريقة أنّ كلّ مجتهد مصيب يقول زائدا على ما ذكرناه : إنّ الامساك عن النكير إنّما يدلّ على أنّ ذلك الفعل أو القول ليس بمنكر ، وقد يجوز أن لا ينكر القول على قائله ، لأجل أنّه صواب من القائل ، وإن لم يكن عند من أمسك عن النكير صوابا في حقّه ، وقد يستصوب عند أهل الاجتهاد بعض الأفعال من غيره ، وإن لم يعتقد أنّها صواب في حقّه ، وما يرجع إليه. ومن لا يرى صحّة الاجتهاد لا يفصّل بهذا التفصيل ، فإذا كان ترك النكير لا يدلّ على الرضا ، فلا يجب أن نستفيده منه ، وإذا لم يقطع عليه ، فلا إجماع في ذلك ولا حجّة.

فأمّا تعويل أبي هاشم وغيره في أنّه حجّة وإن لم يكن إجماعا على أنّ الفقهاء يعتمدونه ، ويعوّلون عليه ، ويحتجّون به فليس بشيء ؛ لأنّه غير مسلّم لهم أن جميع الفقهاء يحتجّون به. ثمّ لو سلّم ذلك ، لم يكن في فعلهم حجّة ؛ لأنّ تقليدهم غير جائز.

وممّا طعن به على هذه الطريقة زائدا على ما ذكرناه أن قيل : الإمساك عن النكير لا يدلّ على التصويب ؛ لأنّه غير منكر أن يكون الممسك شاكّا في كون ذلك منكرا ، أو متوقّفا ، وإنّما يجب أن ينكر المنكر إذا علمه منكرا.

وما يقال على هذه الطريقة من أنّه لا يجوز أن ينقرض العصر ، ويمتدّ الزمان على هذا الشكّ والتوقّف ، ليس بمعتمد أيضا ؛ لأنّ الشك قد يجوز أن يستمرّ

٢٦٢

لاستمرار أسبابه ، ولضعف الدواعي إلى تحقيق المسألة ، والقطع على الحقّ فيها. وكلّ هذه الأمور الّتي يتعلّلون بها تقريبات لا تقتضي قطعا ، ولا توجب علما.

[الرابع عشر :] فصل في حكم القول إذا وقع من الصحابيّ

ولم يظهر ولم يعرف له مخالف

اعلم أنّ في الفقهاء من يجري هذه المسألة مجرى الإجماع ، وهذا بعيد جدّا ؛ لأنّ القول إذا لم تقع الثقة بسماع كلّ واحد من العلماء له ، وجوّزنا أن يكون فيهم من لم يسمعه فكيف يقطع على رضاهم به ، أو وجوب إنكاره عليهم وهم لم يسمعوه؟! ولم يبق إلّا أن يقال : إذا نقل في الحادثة قول واحد ، ولم ينقل سواه ؛ وجب أن يكون هو الحقّ ؛ لأنّ الحقّ لو كان في غيره ، لنقل ، كما نقل هذا. وذلك أيضا لا يلزم ؛ لأنّه لا يمتنع أن يكون المحقّ في هذه المسألة ما دعاه داع إلى أن يفتي بالحقّ فيها ، فلا ينقل قوله ؛ لأنّه لم يكن له قول يجب نقله. فإن قدّرنا أنّ الحاجة ماسّة ، والدواعي متوفّرة إلى قول الحقّ فيها ، ومع هذا لم يظهر إلّا قول واحد ، فلا بدّ من شرط آخر زائدا على ما ذكروه ، وهو أن لا يكون للمحقّ مانع من إظهار الحقّ ؛ لأنّا إن جوّزنا أن يكون هناك مانع ، لم يقطع على أنّ الحق فيما ظهر ، دون ما لم يظهر. وهذه جملة كافية.

[الخامس عشر :] فصل في هل يجوز مع اختلاف الصحابة

اتّباع بعضهم دون بعض

اعلم أنّه قد ذهب قوم من الفقهاء وغيرهم إلى أنّه يجوز أن نأخذ مع اختلاف الصحابة بقول بعضهم دون بعض ، وجوّزوا أيضا للعالم أن يقلّد من هو

٢٦٣

أعلم منه ، وامتنع آخرون من ذلك كلّه ، وذهبوا إلى أنّه لا يجوز لمن يتمكّن من العلم أن يقلّد غيره ، وأن يتّبعه بغير دلالة ، وهو الصحيح. ومعلوم أنّ هذه المسألة مبنيّة على القول بصحّة الاجتهاد ، وأنّ كلّ مجتهد مصيب ، وأنّ الحق ليس في واحد من الأقوال ، وإذا كنّا لا نذهب إلى هذا الأصل ، فلا معنى للكلام في التفريع عليه. وقد أجمع كلّ من نفى القياس والاجتهاد في الشريعة على أن ذلك لا يجوز. والّذي نذهب إليه أنّ على السمعيّات أدلّة قاطعة توجب العلم كالعقليّات ، وكما لا يجوز لأحد أن يقلّد غيره في العقليّات ، كذلك لا يجوز في السمعيّات ، فالعلّة الجامعة بين الأمرين أنّه متمكّن من أن يكون كالعالم بالنّظر والفحص ، وإذا تمكّن من ذلك ؛ لم يجز له التقليد ، وإن جاز للمستفتي تقليد العالم ؛ لأنّه لا يتمكّن من العلم ، ولا ممّا يتمكّن منه العالم. وفي هذا القدر كفاية (١).

__________________

(١) الذريعة ، ٢ : ٦٠٣ إلى ٦٥٦.

٢٦٤

[المقدّمة السابعة : في أن الأنبياء والأئمّة كافة

منزّهون عن جميع المعاصي]

إختلف الناس في الأنبياء عليهم‌السلام ، فقالت الشيعة الإمامية : لا يجوز عليهم شيء من المعاصي والذنوب كبيرا كان أو صغيرا ، لا قبل النبوّة ولا بعدها ، ويقولون في الأئمّة مثل ذلك ، وجوّز أصحاب الحديث والحشوية على الأنبياء الكبائر قبل النبوّة ، ومنهم من جوّزها في حال النبوّة سوى الكذب فيما يتعلّق باداء الشريعة ، ومنهم من جوّزها كذلك في حال النبوّة بشرط الاستسرار دون الاعلان ، ومنهم من جوّزها على الأحوال كلّها ، ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفّة من الأنبياء عليهم‌السلام قبل النبوّة وفي حالها ، وجوّزت في الحالين وقوع ما لا يستخفّ من الصغائر ، ثمّ اختلفوا فمنهم من جوّز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد ، ومنهم من منع من ذلك وقال : إنّهم لا يقدمون على الذنوب الّتي يعلمونها ذنوبا ، بل على سبيل التأويل.

وحكي عن النّظام (١) ، وجعفر بن مبشر ، وجمّاعة ممّن تبعهما ، أنّ ذنوبهم لا تكون إلّا على سبيل السهو والغفلة ، وأنّهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعا عن أممهم ؛ لقوّة معرفتهم وعلوّ مرتبتهم. وجوّزوا كلّهم ومن قدّمنا ذكره من الحشوية وأصحاب الحديث على الأئمّة الكبائر والصغائر ، إلّا انّهم يقولون : إنّ بوقوع الكبيرة من الإمام تفسد إمامته ويجب عزله والاستبدال به.

واعلم أنّ الخلاف بيننا وبين المعتزلة في تجويزهم الصغاير على الأنبياء

__________________

(١) النظام : هو إبراهيم بن سيار (توفي ٢٣١ ه‍) تلميذ أبي الهذيل العلاف. متكلم معتزلي ، نشأ في البصرة وأقام في بغداد حيث توفي.

٢٦٥

صلوات الله عليهم يكاد يسقط عند التحقيق ؛ لأنّهم إنّما يجوّزون من الذنوب ما لا يستقرّ له استحقاق عقاب ، وإنّما يكون حظّه نقص الثواب ، على اختلافهم أيضا في ذلك ؛ لأنّ أبا علي الجبّائيّ (١) يقول : إنّ الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة ، فكأنّهم معترفون بأنّه لا يقع منهم ما يستحقّون به الذمّ والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى ؛ لأنّ الشيعة إنّما تنفي عن الأنبياء عليهم‌السلام جميع المعاصي من حيث كان كلّ شيء منها يستحقّ به فاعله الذمّ والعقاب ؛ لأنّ الاحباط باطل عندهم ، وإذا بطل الاحباط فلا معصية إلّا ويستحقّ فاعلها الذمّ والعقاب ، وإذا كان استحقاق الذمّ والعقاب منفيّا عن الأنبياء عليهم‌السلام وجب أن تنتفي عنهم ساير الذنوب ، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلّقا بالاحباط ، فإذا بطل الاحباط فلا بدّ من الاتفاق على أنّ شيئا من المعاصي لا يقع من الأنبياء عليهم‌السلام من حيث يلزمهم استحقاق الذمّ والعقاب ، لكنّه يجوز أن نتكلّم في هذه المسألة على سبيل التقدير ونفرض أنّ الأمر في الصغائر والكبائر على ما تقوله المعتزلة ، ومتى فرضنا ذلك لم نجوّز أيضا عليهم الصغائر لما سنذكره ونبيّنه إن شاء الله تعالى.

[تنزيه الأنبياء كافة عن الصغائر والكبائر :]

واعلم أنّ جميع ما تنزّه الأنبياء عليهم‌السلام عنه ، ونمنع من وقوعه منهم يستند إلى دلالة العلم المعجز إمّا بنفسه أو بواسطة ؛ وتفسير هذه الجملة : أنّ العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدّعي النبوّة والرسالة ، وجاريا مجرى قوله تعالى له : صدقت في أنّك رسولي ومؤدّ عني ، فلا بدّ من أن يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على الله سبحانه في ما يؤدّيه عنه ؛ لأنّه تعالى لا يجوز أن يصدق

__________________

(١) الجبائي : هو محمّد بن عبد الوهاب الجبائي يكنى بأبي علي وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره ، وإليه تنسب الطائفة الجبائية.

٢٦٦

الكذّاب ؛ لأنّ تصديق الكذّاب قبيح ، كما أنّ الكذب قبيح ، فأمّا الكذب في غير ما يؤدّيه عن الله وسائر الكبائر فإنّما دلّ المعجز على نفيها ، من حيث كان دالّا على وجوب اتّباع الرسول وتصديقه فيما يؤدّيه ، وقبوله منه ؛ لأنّ الغرض في بعثة الأنبياء عليهم‌السلام ، تصديقهم بالأعلام ، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به ، فما قدح في الامتثال والقبول وأثّر فيهما ، يجب أن يمنع المعجز منه ، فلهذا قلنا : إنّه يدلّ على نفي الكذب والكبائر عنهم في غير ما يؤدّونه بواسطة ، وفي الأوّل يدلّ بنفسه.

فإن قيل : لم يبق إلّا أن تدلّوا على أنّ تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال.

قلنا : لا شبهة في أنّ من نجوّز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الإقدام على الذنوب ، لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوّز عليه شيئا من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا : إنّ وقوع الكبائر منفّر عن القبول ، والمرجع فيما ينفّر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك ممّا يستخرج بالأدلة والقياس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وأنّه من أقوى ما ينفّر عن قبول القول ؛ فإن حظّ الكبائر في هذا الباب لم يزد على حدّ السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه.

فإن قيل : أو ليس قد جوّز كثير من الناس على الأنبياء عليهم‌السلام الكبائر مع أنّهم لم ينفّروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرّعوه من الشرايع ، وهذا ينقض قولكم : إنّ الكبائر منفرة.

قلنا : هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه ؛ لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق ، وأن لا يقع امتثال الأمر جملة. وإنّما أردنا ما فسّرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوّز ذلك عليه لا يكون على حدّ سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه ، وإنّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول ، كما إنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى قبول القول. وقد يقرّب من الشيء ما لا

٢٦٧

يحصل الشيء عنده ، كما يبعّد عنه ما لا يرتفع عنده ، ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه ، منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه؟ وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ، ولا يخرجه من أن يكون منفرّا ؛ وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسّمه يقرّب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من أن يكون مقرّبا ، فدلّ على أنّ المعتبر في باب المنفّر والمقرّب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفّر عنه أو ارتفاعه ، فان قيل : فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوّة ، فمن أين أنّها لا تقع منهم قبل النبوّة ، وقد زال حكمها بالنبوّة المسقطة للعقاب والذمّ ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير؟

قلنا : الطريقة في الأمرين واحدة ؛ لأنّا نعلم أنّ من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما ، وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله ، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاحوال ولا على وجه من الوجوه ، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب ، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه ، عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلّا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيرا ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدّمة بها وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثّرا. وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوّة منخفضا عن تجويزها في حال النبوّة ، وناقصا عن رتبته في باب التنفير ، وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ؛ لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه. ألا ترى أنّ كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفرّ لا محالة ، وأنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلّا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفّر أيضا ، وإن فارق الأوّل في قوّة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الأوّل من أن يكون منفّرا في نفسه؟

٢٦٨

فإن قيل : فمن أين قلتم أنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء في حال النبوّة وقبلها؟

قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمّل ؛ لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلا لكبيرة متقدّمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمّها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك. وكذلك نعلم أنّ من يجوز عليه الصغائر من الأنبياء عليهم‌السلام أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوّته أو قبلها ، وإن وقعت مكفّرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كلّ القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها. فأمّا الاعتذار في تجويز الصغائر بأنّ العقاب والذمّ عنها ساقطان فليس بشيء ؛ لأنّه لا معتبر في باب التنفير بالذمّ والعقاب حتّى يكون التنفير واقعا عليهما ، ألا ترى أنّ كثيرا من المباحات منفّر ولا ذمّ عليه ولا عقاب وكثيرا من الخلق والهيئآت منفّر وهو خارج عن باب الذمّ؟ على أنّ هذا القول يوجب على قائله تجويز الكبائر عليهم قبل البعثة ؛ لأنّ التوبة والاقلاع قد أزالا الذمّ والعقاب اللذين يقف التنفير على هذا القول عليهما.

فإن قيل : كيف تنفّر الصغائر وإنّما حظّها تقليل الثواب وتنقيصه؟ لأنّها بكونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذمّ والعقاب ، ومعلوم أنّ قلّة الثواب غير منفّرة. ألا ترون أنّ كثيرا من الأنبياء عليهم‌السلام قد يتركون كثيرا من النوافل ممّا لو فعلوه لاستحقّوا كثيرا من الثواب ، ولا يكون ذلك منفّرا عنهم.

قلنا : إنّ الصغاير لم تكن منفّرة من حيث قلّة الثواب معها ، بل إنّما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى ، وقد بيّنا أنّ الملجأ في باب المنفّر إلى العادة والشاهد. وقد دللنا على أنّهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح على الوجه الّذي بيناه.

وبعد : فإنّ الصغائر في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل ؛ لأنّها تنقص

٢٦٩

ثوابا مستحّقا ثابتا ، وترك النوافل ليس كذلك. وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقّت ، وبين قوّتها ، وأن لا تكون حاصلة جملة. ألا ترى أنّ من ولي ولاية جليلة وارتقى إلى رتبة عالية ، يؤثّر في حالة العزل عن تلك الولاية والهبوط عن تلك الرتبة ، ولا يكون حاله هذه كحاله لو لم ينل تلك الولاية ولا ارتقى إلى تلك الرتبة؟ وهذا الكلام الّذي ذكرناه يبطل قول من جوّز على الأنبياء عليهم‌السلام الصغائر على اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلك عليهم على سبيل العمد أو التأويل ؛ إلّا أنّ أبا علي الجبّائيّ ومن وافقه في قوله : إنّ ذنوب الأنبياء لا تكون عمدا ، وإنّما يقدمون عليها تأويلا ، ويمثّل لذلك بقصة آدم عليه‌السلام ، فإنّه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأوّل فظنّ أنّ النهي يتناول العين ، فلم يقدم على المعصية مع العلم بأنّها معصية ، قد ناقض ؛ فإنّه إنّما ذهب إلى هذا المذهب تنزيها للأنبياء عليهم‌السلام ، واعتقادا أنّ تعمّد المعصية مع العلم يوجب كبرها ، فنزّهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين ؛ لأنّه مخطىء على مذهبه في الاعراض عن تأمّل مقتضى النهي ، وهل يتناول الجنس أو العين ؛ لأنّ ذلك واجب عليه ومخطىء في التناول من الشجرة ، وهاتان معصيتان.

وبعد : فإنّ تعمّد المعصية ليس يجب أن يكون مقتضيا لكبرها لا محالة ؛ لأنّها لا يمتنع أن يكون مع التعمّد لصاحبها من الخوف والوجل ما يوجب صغرها ، ويمنع من كبرها. وليس له أن يقول : إنّ النظر فيما كلّفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يكن واجبا عليه ؛ لأنّ ذلك إن لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلّفا؟ وكيف يكون تناوله معصية؟ ولا بدّ على هذا من أن يخطر الله تعالى بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلك عليه. وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمّد الإخلال بالواجب ، ولا فرق في باب التنفير بين الاقدام على المعصية والاخلال بالواجب ، فإذا جاز عنده أن يتعمّد الاخلال بالواجب ولا يكون منه كبيرا ، جاز أن يتعمّد منه نفس التناول ولا يكون منه كبيرا.

فأمّا ما حكيناه عن النظّام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما ، من أنّ ذنوب الأنبياء عليهم‌السلام تقع منهم على سبيل السهو والغفلة ، وأنّهم مع ذلك مؤاخذون بها ،

٢٧٠

فليس بشيء ؛ لأنّ السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من أن يكون ذنبا مؤاخذا به ، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم. وحصول السهو في أنّه مؤثّر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والأدلّة ، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء في صحّة تكليفهم مع السهو ، جاز أن يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه وهذا واضح.

فأمّا الطريق الّذي به يعلم أنّ الأئمة عليهم‌السلام ، لا يجوز عليهم الكبائر في حال الإمامة ، فهو أنّ الإمام إنّما احتيج إليه لجهة معلومة ؛ وهي أن يكون المكلّفون عند وجوده أبعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب على ما دلّلنا عليه في غير موضع ، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة فيه ، وموجبة وجود إمام يكون إماما له ، والكلام في إمامته كالكلام فيه ، وهذا يؤدّي إلى وجود ما لا نهاية له من الأئمة وهو باطل ، أو الانتهاء إلى إمام معصوم وهو المطلوب.

وممّا يدلّ أيضا على أنّ الكبائر لا تجوز عليهم ، أنّ قولهم قد ثبت أنّه حجّة في الشرع كقول الأنبياء عليهم‌السلام بل يجوز أن ينتهي الحال إلى أنّ الحقّ لا يعرف إلّا من جهتهم ، ولا يكون الطريق إليه إلّا من أقوالهم على ما بيّناه في مواضع كثيرة ، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الأنبياء عليهم‌السلام فيما يجوز عليهم وما لا يجوز ، فإذا كنّا قد بيّنا أنّ الكبائر والصغائر لا يجوز ان على الأنبياء عليهم‌السلام قبل النبوّة ولا بعدها ، لما في ذلك من التنفير عن قبول أقوالهم ، ولما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم ، فكذلك يجب أن يكون الأئمة عليهم‌السلام منزّهين عن الكبائر والصغائر قبل الإمامة وبعدها ؛ لأنّ الحال واحدة (١).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ، والأئمّة : ١٥.

٢٧١

[المقدّمة]

سألتم أيّدكم الله وأحسن توفيقكم إملاء كتاب في متشابه القرآن والكلام على شبه سائر المبطلين الذين تعلّقوا بآياته ، كالمجبّرة والمشبّهة والملحدة ، ومن عداهم من أعداء الاسلام الطاعنين فيه.

وذكر أنّ ما صنّف من الكتب في هذا الباب لا يحيط به المعاني أجمع ؛ لأنّ أكثر من تكلّم على متشابه القرآن إنّما تشاغل بالمجبّرة والمشبّهة ولم يعرض لمن عداهم.

والتفاسير الكاملة ربّما لم يستوف مصنّفوها الكلام على هذه الأغراض ومن استوفى شيئا منها فهو من خلال كلام طويل وبحر عميق يتعذّر على المستفيد إدراكه ويتعذّر عليه إصابته.

وأنا أجيب إلى ما التمسوه مستعينا بالله تعالى ومستمّدا منه توفيقه وتأييده ، وهو حسبي ونعم الوكيل).

٢٧٢

سورة الفاتحة

[متشابه فاتحة الكتاب]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

إن سأل سائل فقال : ما الوجه في تكرير قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وكلاهما يفيد معنى واحدا ، واشتقاقهما من الرحمة ، وقد كان في ذكر أحدهما كفاية عن الآخر.

الجواب :

قلنا : في ذلك وجوه :

أوّلها : أنّ قولنا : «الرحمن» أبلغ في المعنى وأشدّ قوة من قولنا : «الرحيم» وهذا المثال ممّا وضعه أهل اللغة للمبالغة والقوّة ، ألا ترى أنّهم يقولون : سكران وغضبان وعطشان [وجوعان] لمن امتلىء سكرا وغضبا وعطشا واشتدّ جوعه؟ وهذا الوجه ذكره المبرّد.

وثانيها : أنّ «الرحمن» يفيد عموم الرحمة بالعباد في الدنيا ، و «الرحيم» يختصّ بالمؤمنين في الأخرة ، يقوّى هذا الوجه في قوله تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (١) ، فإذا كان بينهما هذا الفرق فذكرهما واجب.

وثالثها : أنّ قولنا : «رحمن» يشترك فيه اللغة العربية والعبرانية والسريانية ، وقولنا : «رحيم» يختصّ بالعربية ، فأراد تعالى أن يصف ، فعبّر بالرحمة بالوصف الخاصّ والمشترك حتى لا تبقى شبهة.

ورابعها : أنّ «الرحمن» من الأوصاف التي يختصّ بها القديم تعالى ، ولا

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٣.

٢٧٣

يجوز أن يسمّى بها غيره ، و «الرحيم» يختصّ به وبغيره يشترك بينه وبين غيره ، فأراد تعالى أن يصف نفسه بما يختصّ به ، ويشارك فيه من أوصاف الرحمة وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأوّل ؛ لأنّه لما اختصّ «الرحمن» به تعالى لقوّته ومبالغته.

وخامسها : أن يكون المعنى وإن كان واحدا ، فالمراد به التوكيد ، والشيء قد يؤكّد على مذاهب العرب ، بأن يعاد لفظه بعينه ، كقول الشاعر :

ألا سألت جموع كندة

إذ تولّوا أين أينا (١)

وقد تؤكد أيضا بأن يخالف بين اللفظين وإن كان المعنى واحدا ، كقول الشاعر :

وهند أتى من دونها النأي والبعد (٢)

وهذا التأكيد المختلف اللفظ أحسن عندهم ، ونظائره وشواهده أكثر من أن تحصى ، والتأكيد في قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أحسن وجهي التأكيد وأبلغهما.

وهذا الجواب على مذهب من يقول : إنّ التأكيد لا يفيد إلّا معنى المؤكّد ، وفي هذا خلاف ليس هذا موضع ذكره.

مسألة : فإن قال قائل : فما الوجه في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا الكلام لا يخلو من أن يكون خبرا وتحميدا منه تعالى لنفسه أو أمرا ، فان كان خبرا فأيّ فائدة في أن يحمد هو تعالى لنفسه ويشكرها ، وإن كان أمرا فليس بلفظا لأمر.

__________________

(١) كذا في المطبوعة ، وفي الأغاني هكذا :

«هلا سألت جموع كندة

يوم ولوا أين أينا»

ونسبه إلى عبيد بن الأبرص. الأغاني ، ٥ : ٤٧٧.

(٢) البيت لحطيئة ، انظر اللسان مادة «سند».

٢٧٤

الجواب :

قلنا قد قيل في ذلك : أنّه أمر ، وأنّ المعنى فيه قولوا : «الحمد لله» وروي أنّ جبرائيل لمّا نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه السورة ، قال له : قل يا محمد! وأمر أمتك بأن يقولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وحذف القول.

وفي القرآن واللغة أمثاله كثيرة ، قال الله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) (١) وقال تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢) والمعنى : أنّهم قالوا كذلك.

وقال الشاعر :

وقفت يوما به أسائله

والدمع ملي الحبيب تستبق

بأربع ان تقول لهم سلكوا

أم أيّ وجه تراهم انصفقوا

وإنّما أراد : أقول بأربع. فحذف.

جواب آخر : وهو أن يكون الكلام مستقلا بنفسه لا حذف فيه ، والغرض به أن يخبرنا أنّ الحمد كلّه له ، وأنّه يستحقّ له بكلّ نعمة ينالها الحمد والشكر.

ألا ترى أنّ كلّ نعمة وصلت إلينا من قبل العباد ، فهي مضافة إليه وواصلة من جهته ؛ لأنّه تعالى جعلنا على الصفات التي لو لم يجعلنا عليها لما انتفعنا بتلك النعمة ، كالحياة والشهوة وضروب الألات وغير ذلك.

ولو لم يجعل لنا أيضا تلك الأجسام التي نتناولها وننتفع بها على ما هي عليه من الطعوم والصفات لما كانت نعمة ، فقال : إنّ المرجع بالنعم كلّها إليه والحمد كلّه يستحقّه.

مسألة : فإن قال : فما الوجه في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولم يقل : الحمد لي ، وهو أخصر وأقرب وأولى في الاختصاص.

__________________

(١) سورة الرعد الآيتان : ٢٣ و ٢٤.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٣.

٢٧٥

الجواب :

قلنا : للخطاب موافق يتّفق في المعنى ، ويختلف في الفخامة والتعظيم والجلالة والنباهة ، فيكون العدول إلى ما اقتضى التفخيم أولى ، وإن كان المعنى واحدا ، وجدناهم يفرّقون بين خطاب الوالد لابنه والرئيس لرعيّته ، وبين خطاب النظيرين ، فيقول الوالد لابنه يجب أن تطيع أباك فلأبيك عليك الحقّ ، ويكون هذا أولى في خطابه الدالّ على تقدّمه عليه ، من أن يقول له يجب أن تطيعني ولا تعصيني.

ويكتب الخليفة في الكتب النافذة عنه : أمير المؤمنين يقول كذا وكذا وما يرتكب كذا وكذا ، وربّما شافهه بمثل هذا الخطاب.

وكلّ هذا يقتضي جلالة هذه السورة وفخامة موضعها.

وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ، فالعدول عن القول الذي ذكروه أولى ، وما اختاره الله في كتابه هو الواجب.

مسألة : فإن قيل : فما الوجه في قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو تعالى مالك ليوم الدين ولغير يوم الدين ولكلّ شيء من المملوكات؟

وما السبب في هذا الاختصاص في الموضع الذي يقتضي العموم والشمول.

الجواب :

أحد ما قيل في هذا الموضع : إنّ وجه اختصاص الملك ليوم الدين من حيث كانت الشبهات في ذلك اليوم زائلة عن تفرّده بالملك ؛ لأنّ من يدعي أنّ الملك في الدنيا لغيره ويدعو من دونه أضدادا وأندادا تزول هناك شبهته وتحصل معرفته على وجه لا يدخله الشكّ ولا يعترضه الريب ، فكأنّه أضاف الملك إلى يوم الدين لزوال الريب فيه وانحسار الشبهات عنه.

ووجه آخر : وهو أنّ يوم الدين إذا كان أعظم المملوكات وأجلّها خطرا وقدرا ، فالاختصار (١) عليه يغني عن ذكر غيره ؛ لأنّ ملك العظيم الجليل يملك

__________________

(١) خ ل : فالاقتصار.

٢٧٦

الحقير الصغير [بطريق] أولى ، ومن عادة العرب إذا أرادوا العظيم والمبالغة أن يعلّقوا الكلام بأعظم الأمور وأظهرها ، ويكتفون بذلك عن ذكر غيره شمولا أو عمومه (١).

ألا ترى أنّهم إذا أرادوا أن يصفوا رجلا بالجود ويبالغوا في ذلك ، قالوا : هو واهب الألوف والقناطير ، ولم يفتقروا أن يقولوا : هو واهب الدوانيق والقراريط ؛ للاستغناء عنه ولدلالة الكلام عليه؟

ووجه آخر : وهو أن يكون في الكلام حذف ، ويكون تقديره : مالك يوم الدين وغيره ، كما قال تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢) فحذف اختصارا.

وهذا الجواب يضعف وإن كان قوم من المفسّرين قد اعتمدوه في هذا الموضع ؛ لأنّ الحذف إنّما يحتاج إليه عند الضرورة بتعذّر التأويل ، فأمّا مع إمكانه وتسبله (٣) فلا وجه لذكر الحذف.

والمثال الذي مثّلوا به غير صحيح ؛ لأنّ قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ما يرد (٤) والبرد ، ثم حذفه ، بل الوجه فيه أنّه خاطب قوما لا يمسّهم إلّا الحرّ ، ولا مجال للبرد عليهم ؛ لأنّ بلادهم يقتضي ذلك ، فنفى الأذى الذي يعتادونه (٥).

ويمكن أن يكون إرادة نفي الامرين ، فدلّ على نفي أضعفهما ، كما ذكرناه قبل.

مسألة : فإن قيل : فما الوجه في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وما الفائدة في هذا التكرار؟ ويغني أن يقول : إيّاك نعبد ونستعين.

الجواب :

قلنا : قد قيل في ذلك : إنّ الكناية لو تأخّرت عن القائل فيها لتكرّرت ،

__________________

(١) كذا والظاهر : عموما.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٨١.

(٣) كذا والظاهر : وتسيره.

(٤) كذا والظاهر : ما أراد.

(٥) راجع أيضا الذخيرة : ٥٧٩.

٢٧٧

فكذلك يجب إذا تقدّمت. ألا ترى أنّه لو قال : نعبدك ونستعينك ، لكان يجب من تكرار الكناية ما يجب مثله إذا تقدّمت؟.

وهذا ليس بشيء ؛ لأنّه يجوز أن يقول القائل : نعبدك ونستعين ، ويقول : أمّا زيد فانّي أحبّه وأكرم ، فلا تكرّر الكناية ، فسقط هذا الوجه.

وقيل أيضا في جواب هذه الشبهة : إنّ الفائدة في تكرار لفظ «إياك» التأكيد ، وإن كان المعنى واحدا.

وهذا الجواب إنّما يتمّ على مذهب من يقول بالتأكيد ، وأنّ معناه معنى المؤكّد في اللغة.

وأصحّ ما أجيب عن هذه الشبهة أنّه تعالى لو قال : إياك نعبد ونستعين ، لكان الكلام موهما ؛ لأنّ الاستعانة تكون لغيره ، لأنّه لم يعلّقها في الكلام به تعليقا يمنع من هذا التوهّم والاحتمال ، فإذا قال : وإياك نستعين ، زال الاحتمال وتخصّص الكلام.

مسألة : فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون أمره لنا بأن نعبد دليلا على أنّه ما فعل المعونة ، وأنّه يجوز أن لا يفعلها ، منها (١) على أنّ القدرة مع الفعل حتى يصحّ أن يدعوه بأن يجدّدها في كلّ حال.

الجواب :

قلنا : ليس الأمر على ما توهّموه في معنى الأية ؛ لأنّه يجوز بأن يكون قد أعاننا ... (٢).

ورابعها : أن يكون الصراط هاهنا معناه الطريق إلى الجنّة ؛ لأنّ الأصل في تسمية الصراط بأنّ الصراط هو الطريق ، قال الشاعر :

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوج الموارد مستقيم

فكان دعوناه تعالى بأن يدخلنا الجنّة أن يهدينا إلى طريق الثواب ، وهذا أمر

__________________

(١) كذا في المطبوعة.

(٢) قال في الهامش : هذا المقام فيه سقط.

٢٧٨

مرجوّ مستقبل ما تقدّم مثله ، ويكون التماسه باطلا ، وقد سمّى الله تعالى الإيصال إلى الثواب وإلى العقاب بأنّه هداية إليهما ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)) (١) ونحن نعلم أنّ الهداية التي تكون في الأخرة بعد انقطاع التكليف لا يليق إلّا بالثواب وطريقه دون غيره.

وقال تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢) وقال عزّ من قائل في موضع آخر : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) (٣).

وهذا كلّه يوضح ما ذكرناه ، من أنّ الهداية قد تكون إلى الثواب وإلى العقاب ، فسقطت الشبهة من كلّ وجه.

مسألة : فان قيل : فما الوجه في قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهو يعني المؤمنين لا محالة ، وليس هذا (٤) يقتضي أن يكون منعما عليهم بالإيمان والدين ؛ لأنّه لو أراد غير ذلك لما كان فيه تخصيص للمؤمنين من الكافرين الضالّين ؛ لأنّ نعم الدنيا تشتمل الجميع ، وكذلك النعمة بالتكليف ، والتعريض شاملة للجميع ، فلم يبق ما يختصّ به المؤمنون إلّا الإيمان ، وإذا كان منعما بالإيمان وجب أن يكون من فعله تعالى ؛ لأنّ المنعم لا يكون منعما إلّا بما يفعله.

الجواب :

قلنا : غير مسلّم لكم أنّ المراد بالإنعام هاهنا الإيمان والدين ؛ لأنّه تعالى قد ينعم على المؤمنين بأشياء يخصّهم دون الكافر بالخواطر والبواعث السهلة الشارحة للصدور ، ولهذا قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٥) فبيّن أنّه قد خصّهم لمكان هداهم وإيمانهم بما لم يعمّ به الكافرين.

ثم يجوز أن يريد بالنعمة هاهنا الثواب ؛ لأنّ الثواب من فعله ، وإذا كان إنّما

__________________

(١) سورة محمّد ، الآيتان : ٤ و ٥.

(٢) سورة الصافات ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة النساء ، الآيتان ١٦٨ و ١٦٩.

(٤) وهذا.

(٥) سورة محمّد ، الآية : ١٧.

٢٧٩

استحقّ بتعريضه وتكليفه كان نعمة منه تعالى ومنسوبا إلى تفضّله ورحمته.

ثم لو سلّمنا أنّ المراد بالأية (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالإيمان حسب ما اقترحوا لم تكن فيه دلالة على أنّ الإيمان من فعله عزّ اسمه ؛ لأنّه إذا كان بتفويضه وتكليفه وتوفيقه وألطافه ومعونته ، فهو نعمة منه.

ألا ترى أنّ أحدنا إذا دفع إلى غيره مالا عظيما تفضّلا عليه ، فصرفه ذلك الغير في ضروب المنافع وابتياع العبيد والضياع ، لم يمتنع أحد من أن ينسب تلك الضياع بأنّها نعمة من دافع المال من حيث وصل إليها بنعمته ومعونته ، وهذا واضح لا شبهة فيه (١).

[بحث فقهي :]

وممّا انفردت به الإمامية إيثار ترك لفظة آمين بعد قرائة الفاتحة ؛ لأنّ باقي الفقهاء يذهبون إلى أنّها سنّة (٢). دليلنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة على أنّ هذه اللفظة بدعة وقاطعة للصلاة ، وطريقة الاحتياط أيضا ؛ لأنّه لا خلاف في أنّه من ترك هذه اللفظة لا يكون عاصيا ، ولا مفسدا لصلاته ، وقد اختلفوا فيمن فعلها ، فذهبت الإمامية إلى أنّه قاطع لصلاته والأحوط تركها.

وأيضا فلا خلاف في أنّ هذه اللفظة ليست من جملة القرآن ، ولا مستقلة بنفسها في كونها دعاء وتسبيحا ، فجرى التلفّظ بها مجرى كلّ كلام خارج عن القرآن والتسبيح ، فإذا قيل هي تأمين على كلّ دعاء سابق لها وهو قوله عزوجل : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

قلنا : الدعاء إنّما يكون دعاء بالقصد ، ومن يقرأ الفاتحة إنّما قصده التلاوة دون الدعاء ، وقد يجوز أن يقرأ من قصد الدعاء ، ومخالفنا يذهب إلى أنّها مسنونة لكلّ فصل من غير اعتبار قصده إلى الدعاء ، وإذا ثبت بطلان إستعمالها فيمن لم يقصد إلى الدعاء ثبت ذلك في الجميع ؛ لأنّ أحدا لم يفرق بين الأمرين (٣).

__________________

(١) الرسائل ، ٣ : ٢٨٧ إلى ٢٩٦.

(٢) المحلّى ، ٣ : ٢٦٤.

(٣) الانتصار : ٤٢.

٢٨٠