تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

الأعراض عنها فسادا أو اغترارا من جمع عظيم ، وقد كان يجب لما رأوا عاقبة اطراحهم المعارضة وما صاروا إليه من التعب أن يستأنفوها ويعلموا خطأهم من الكفّ عنها.

ومن لا يعارض احتقارا لشأنه وتعويلا على ظهور القدرة على المعارضة ، لا تنصب له الحروب وتجهز إليه الجيوش ، ولا يعارض بما لا شبهة في مثله ، ولا تبذل البذول لمن يهجوه ويقذفه ؛ لأن ذلك كلّه يدلّ على قوّة الاهتمام والاطراح ، والتهاون ضدّ ذلك.

والجواب عن سابعها : أنا لو قدرنا وقوع ما فرضوه على بعده لوجب على من لم يواطئه من الفصحاء أن يعارضوا بما يقدرون عليه ، فإنا وان فرضنا أنهم أدون فصاحة ممّن واطأه ، فليس يجوز بمجرى العادة أن يكون التفاضل بينهم وبين من هو أفصح منهم ينتهي إلى ارتفاع المقارنة والمداناة بين كلام الجماعة ، والإتيان بما يقارب في هذا الوجه كاف في الحجّة.

على أن التأمل يبطل هذه الشبهة ؛ لأن الفصحاء والبلغاء ووجوه الشعراء كانوا منحرفين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن طبقة أعدائه كان الأعشى ، وهو في الطبقة الاولى ، ومن أشبهه ممّن مات على كفره وخروجه عن الإسلام ، وكعب بن زهير أسلم في آخر الأمر ، وهو معدود في الطبقة الثانية ، وكان من أشدّ الناس عداوة الإسلام ، ولبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي وهما في الطبعة الثالثة أسلما بعد زمان طويل ، وما رأيناهما خطيبا في الإسلام برتبة ولا منزلة توهم مواطاة وقعت معهما.

ومن قوي ما يقال في حلّ هذه الشبهة : أن حال المتقدّمين في كلّ صناعة لا يجوز أن يخفى على أهل تلك الصناعة ، ولا بدّ من أن يعرفوهم بأعيانهم ، فكان يجب لما طولبوا بإيراد الكلام الفصيح أن يفزعوا إلى من يعلمون تقدمه فيهم ، فإذا رأوا منهم امتناعا علموا بالمواطأة ، فوافقوا عليها وبكتوا بها وأسقطوا الحجّة عن نفوسهم بذكرها ، وما رأيناهم تعرّضوا لذلك.

وبعد ؛ فإن تطرق هذه الشبهة يقتضي أن لا يقطع على تقدّم أحد في صناعة ولا

٣٢١

على أنه أفضل أهل زمانه فيها ؛ لأن غاية ما يقتضي ذلك أن يتحدّى أهل الزمان فلا يعارضوه ، وإذا جوّزنا المواطأة ارتفع طريق القطع الّذي قد علمنا أنه ثابت.

فصل في أن تعذر المعارضة كان على وجه خارق للعادة

اعلم أنه إنّما يمكن أن يدّعى دخول تعذّر المعارضة في العادة بأن يقال : إنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفصحهم فتأتى له ما لم يتأت لهم ، أو تعمّل زمانا طويلا ولم يتمكّنوا مع قصر الزمان عن معارضته ، أو منعهم المعارضة بالحروب وشغلهم بها ، أو أنهم لم يفعلوها خوفا من أصحابه وقوّة أمره ، وإذا بطلت هذه الوجوه فلم يبق إلّا أن التعذّر كان غير معهود.

والجواب عن الأوّل : أنا قد بيّنا المطلوب في المعارضة ما قارب في الفصاحة والأفصح يقاربه في كلامه وفصاحته من هو دون طبقته ، بهذا جرت العادات ، فإذا لم يماثلوا ولم يقاربوا فقد انتقضت العادة ، وإذا كان المذهب الصحيح الّذي يستدلّ على صحّته بمشيّة الله تعالى هو مذهب الصّرفة ، فإنّما وقع التحدّي بأن يأتوا من الكلام بما هو في تمكنهم منه ، وقدرتهم عليه معلوم من حالهم ، وأنه كان متأتيا غير متعذّر بمجرى عادتهم ، فإذا لم يفعلوا فلأنهم صرفوا.

وأيضا ؛ فإن الأفصح إنّما يمتنع مساواته في جميع كلامه أو أكثره ، وليس ممتنع مساواته في الجزء منه على من كان دون طبقته ، بهذا جرت العادات ، ولهذا ساوى أهل الطبقات المتأخّرة لأهل الطبقة الأولى من الشعراء في البيت والأبيات ، وربّما زادوا عليهم في القليل ، وإذا كان التحدّي وقع بسورة قصيرة بعرض القرآن وكونه أفصح لا يمتنع من مساواته بمجرى العادة في هذا القدر اليسير.

وأيضا فلو كان هكذا لكان العرب به أعلم وإليه أهدى ، فكان يجب أن

٣٢٢

يوافقوه عليه ، ويزول بموافقته حجّته ، ويقولوا له : لا حجّة في امتناع معارضتك كما لا حجّة في تقدّم فاضل (١) على مفضول.

ولا يجوز أن تلحقهم أنفة بالاعتراف له بالفضل بالفصاحة ؛ لأن هذا الاعتراف وتخلّصهم من غاية الضرر ونهاية الذلّ ، فلا أنفة فيه ، وإنّما الأنفة فيما يؤدي إليه تركه.

وأيضا فليس يظهر من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصاحة تزيد على فصاحة غيره من القوم ، ولو كان أفصحهم وكان القرآن من كلامه وتعذرت معارضته لهذه العلّة لظهرت المزيّة في كلامه على كلّ حال بفصاحته.

وليس لهم أن يقولوا : انه تعمد فلم يظهر فصاحته ؛ لعلمنا ضرورة بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحوال كثيرة قصد إلى إيراد أفصح كلام وأبلغه ، ومع ذلك فلم يكن كلامه في هذه الأحوال متميّزا من كلام غيره.

وأمّا الجواب عن الثاني من قولهم : إنه تعمّل القرآن زمانا طويلا ، فهو الوجوه الأربعة الّتي ذكرناها في جواب الشبهة الأولى.

وممّا يبطل التعلّق بالتعمّل ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ أنه كان ينبغي أن يتعملوا فيعارضوا مع امتداد الزمان وتطاول الأوقات ، فقد كانت لهم فسحة وعليهم مهلة.

وأمّا عن ثالث ما قدحوا به : فهو أن المعارضة كلام والحرب لا يمتنع (٢) من الكلام ، وقد كانوا ينشدون الشعر ويرتجلونه في حال الحروب ، فليست الحرب مانعة من المعارضة ؛ ومع هذا فإنّ الحرب لم تكن متّصلة وقد كانت تترك أحيانا ، فألّا وقعت المعارضة في حال الإمساك عن الحرب؟

وأيضا ؛ فلم يكن جميع الأعداء من العرب محاربين ، فألّا عارض من لم يحارب؟

__________________

(١) في النسختين «الفاضل».

(٢) كذا والظاهر «لا يمنع».

٣٢٣

وأيضا ؛ فإن مدّة مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة لم يكن محاربا ، فقد كان يجب أن تقع المعارضة في أحواله مدّة مقامه بمكّة ، ولو كان الأمر على ما ذكروه أيضا لواقف القوم عليه ، ولقالوا : طلبت منا معارضة شغلتنا عنها بالحرب ، فلا حجّة لك في امتناع معارضتنا.

والجواب عن رابع ما تعلقوا به قد مضى ، لما بينا أن المعارضة ما وقعت لمنع الخوف من الأنصار والاتباع من نقلها وإظهارها ، وبيّنا في إفساد أن تكون وقعت ولم تظهر للخوف ما هو بعينه مبطل ، لكون الخوف مانعا من فعلها ، وكلّ خوف ما منع من قود الجيوش إلى حربه ، وجمع الجموع في مقام بعد آخر ، وما منع أيضا من الهجاء والافتراء أو المعارضة بأخبار رستم واسفنديار ، لا يجوز أن يكون مانعا عند عاقل من فعل المعارضة.

فصل في جهة دلالة القرآن على النبوّة

اختلف الناس في ذلك ، فقال قوم : إن وجه دلالة القرآن على النبوّة أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته ، وسلبهم العلم الّذي به يتمكّنون من مماثلة في نظمه وفصاحته ، ولو لا هذا الصرف لعارضوا.

وإلى هذا الوجه أذهب ، وله نصرت في كتابي المعروف ب «الموضح عن جهة إعجاز القرآن». وقد حكي عن أبي إسحاق النظام القول بالصّرفة من غير تحقيق لكيفيّتها وكلام في نصرتها.

وقال قوم : إن القرآن اختصّ بمزيّة في الفصاحة خرقت العادات ، وتجاوزت كلّ غاية أجرى الله تعالى العادة أن ينتهي الفصحاء إليها. وان اختصاص الله تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إظهاره على يده مع خرقه العادة بفصاحة يدلّ على نبوّته ؛ لأن القرآن إن كان من فعله تعالى فهو دليل نبوّته ومعجزها ، وان فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يتمكّن من فعله مع خرقه للعادة بفصاحته ، إلّا لأن الله تعالى فعل فيه علوما

٣٢٤

بالفصاحة لم يجربه العادة بأن الله تعالى يفعلها ، فدلالة القرآن على هذا الوجه مستندة إلى خرق العادة بهذه العلوم. وإذا علمنا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ القرآن من فعل ربّه تعالى لا فعله قطعنا على الوجه الأوّل.

وإلى هذا المذهب كان يذهب أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ومن وافقهما.

وكان أبو القاسم يذهب إلى أن تأليف القرآن ونظمه غير مقدور من العباد ، واستحالة ذلك منهم كاستحالة إحداث الأجسام.

وقال قوم : إنه كان معجزا لاختصاصه بنظم مخالف للمعهود.

وأسند قوم إعجازه إلى ما تضمنه من الإخبار عن الغيوب.

وآخرون ذهبوا إلى أن وجه ذلك زوال التناقض عنه والاختلاف على وجه لم تجر العادة بمثله.

ونحن نبطل هذه المذاهب سوى القول بالصّرفة ، ونوجه كلامنا إلى مذهب القائلين بوجه الإعجاز من جهة الفصاحة ؛ فإن الكلام معهم أوسع ومذهبهم أقوى شبهة.

والّذي يدلّ على ما أخترناه من صرف القوم عن المعارضة وانها لم تقع لهذا الوجه ، لا لأن فصاحة القرآن خرقت العادة : أنه لو كان القرآن خارقا للعادة بفصاحته لوجب أن يكون بينه وبين كلّ كلام يضاف إليه التفاوت الشديد والشاق البعيد كما يكون بين ما هو معتاد وما هو خارق للعادة ، فكان لا يشتبه فصل ما بينه وبين ما يضمّ إليه من أفصح كلام العرب على ما لا يشتبه عليه الفصل بين الكلامين الفصيحين بينهما من التفاوت دون ما بين القرآن وغيره.

وقد علمنا أن أحدنا يفصل بلا رؤية ولا فكرة بين شعر الطبقة الاولى من الشعراء وبين شعر المحدثين ، ولا يحتاج في هذا الفصل إلى الرجوع إلى ذوي الغايات في علم الفصاحة. ومعلوم أنه ليس بين كلام فاضل الشعراء وبين كلام مفضولهم القدر الّذي بين المعتاد والخارق للعادة.

وإذا ثبت ذلك وكنا لا نفرق بين بعض قصار سور المفصّل وبين أفصح شعر العرب وأبرع كلامها ، ولا يظهر لنا تفاوت ما بين الكلامين الظهور الذي قد

٣٢٥

بيّنا ، فما بالنا نميّز الفصل القليل ولا نميز الكثير ، ويرتفع الالتباس علينا مع التفاوت ولا يرتفع مع التفاوت.

والتعلل منهم : بأن الفرق بين القرآن وأفصح كلام العرب إنّما يتجلى لمتقدمي الفحصاء الّذين تحدّوا به ، باطل ؛ لأنه لو وقف ذلك عليهم مع التفاوت الشديد لوقف عليه ما هو دونه ، وقد علمنا خلاف ذلك.

فأمّا من لعلّه ينكر العلم بالفرق بين أشعار الجاهلية والمحدثين ، فانا نقول له : ما تنكر أن يخفى من ادعيت أنك لا تعلمه على العوام ومن لا دربة له بشيء من الفصاحة ، كالأعاجم وغيرهم ، وإنّما اعتبرنا بمن يظهر له أحد الآمرين ويخفى عليه الآخر ، وبين ما ظهر له الفرق فيه دون ما التبس عليه أمره ، وهم كثير.

فإن قيل : بيّنوا كيفية مذهبكم في الصّرفة.

قلنا : الّذي نذهب إليه أن الله تعالى صرف العرب عن أن يأتوا من الكلام بما يساوي أو يضاهي القرآن في فصاحته وطريقته ونظمه ، بأن سلب كلّ من رام المعارضة العلوم الّتي يتأتي ذلك بها ؛ فإنّ العلوم الّتي بها يمكن ذلك ضروريّة من فعله تعالى فينا بمجرى العادة.

وهذه الجملة إنّما ينكشف بأن يدلّ على أن التحدّي وقع بالفصاحة بالطريقة في النظم ، وأنهم لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا فاعلين ما دعوا إليه ، وأن يدلّ على اختصاص القرآن بطريقة في النظم مخالفة لنظوم كلّ كلامهم ، وعلى أن القوم لو لم يصرفوا لعارضوا.

والّذي يدلّ على الأوّل : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطلق التحدّي وأرسله ، فيجب أن يكون إنّما اطلق تعويلا على عادة القوم في تحدّي بعضهم بعضا ، فإنّها جرت باعتبار الفصاحة وطريقة النظم ، ولهذا ما كان يتحدّي الخطيب الشاعر ولا الشاعر الخطيب ، وأنهم ما كانوا يرتضون في معارضة الشعر بمثله إلّا بالمساواة في عروضه وقافيته وحركة قافيته ، ولو شكّ القوم في مراده بالتحدّي لاستفهموه ، وما رأيناهم فعلوا ؛ لأنهم فهموا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جرى فيه على عاداتهم.

٣٢٦

وممّا يبيّن أن التحدّي وقع بالنظم مضافا إلى الفصاحة : أنا قد بيّنا مقارنة كثير من القرآن لافصح كلام العرب في الفصاحة ، ولهذا خفي الفرق علينا من ذلك ، وان كان غير خاف علينا الفرق فيما ليس بينهما هذا التفاوت الشديد ، فلولا أن النظم معتبر لعارضوا بفصيح شعرهم وبليغ كلامهم.

فأمّا الّذي يدلّ على أنهم لولا الصرف لعارضوا : أنا قد بيّنا في فصاحة كلامهم ما فيه كفاية ، والنظم لا يصحّ فيه التزايد والتفاضل ، ولهذا يشترك الشاعران في نظم واحد لا يزيد أحدهما فيه على صاحبه ، وان زادت فصاحته على فصاحة صاحبه.

وإذا لم يدخل في النظم تفاضل فلم يبق إلّا أن يكون الفضل في السبق إليه ، وهذا يقتضي أن يكون السابق ابتدأ إلى نظم الشعر قد أتى بمعجز ، وأن يكون كلّ من سبق إلى عروض من أعاريضه ووزن (١) من أوزانه كذلك. ومعلوم خلافه.

وليس يجوز أن يتعذّر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكّن من نظوم غيره ، ولا يحتاج في ذلك إلى زيادة علوم ، كما قلناه في الفصاحة ؛ ولهذا كان كلّ من يقدر من الشعراء على أن يقول في الوزن الّذي هو الطويل قدر على البسيط وغيره ، ولو لم يكن إلّا على الاحتذاء وان خلا كلامه من فصاحة. وهذا الكلام قد فرغناه واستوفيناه في كتابنا في جهة إعجاز القرآن.

فإن قيل : هذا المذهب يقتضي أن القرآن ليس بمعجز على الحقيقة ، وأن الصرف عن معارضته هو المعجز. وهذا خلاف الإجماع.

قلنا : لا يجوز ادّعاء الإجماع في مسأله فيها خلاف بين العلماء (٢) المتكلّمين ، ولفظة «معجز» وإن كان لها معنى معروف في اللغة بالمراد بالمعنى في عرفنا ماله حظّ في دلالة صدق من اختصّ به ، والقرآن على مذهب أهل الصرفة بهذه الصفة ، فيجوز أن يوصف بأنه معجز.

وإنّما ينكر العامّه وأصحاب الجمل القول بأن القرآن ليس بمعجز إذا أريد به

__________________

(١) غير واضح في النسخ.

(٢) في بعض النسخ «من العلماء».

٣٢٧

أنه لا يدلّ على النبوّة ، وأن البشر يقدرون على مثله ، فأمّا كونه معجزا بمعنى أنه في نفسه خارق للعادة دون ما هو مسند إليه ودالّ عليه من الصرف عن معارضته ، فممّا لا يعرفه من يراد الشناعة عندهم ، والكلام في تحقيق ذلك وقف على المتكلّمين.

وإذا شنّع على ذهب إلى خرق العادة بفصاحة بأنك تقول : إن العرب ، بل كلّ ناطق قادرون على فعل مثل القرآن في فصاحته وجميع صفاته ، بطلت شناعته واحتاج من تفصيل قوله إلى مثل ما احتجنا إليه.

ومن ذهب إلى [أن] القرآن موجود في السماء قبل النبوّة لا يمكنه أن يجعل القرآن هو العلم المعجز القائم مقام التصديق ؛ لأن العلم على صدق الدعوى لا يجوز أن يتقدّمها ، بل لا بدّ من حدوثه مطابقا لها.

فإذا قيل : نزول جبرئيل عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به جعله في حكم الحادث ، وإن كان متقدّم الوجود.

قلنا : يجب على هذا القول أن يكون هبوط الملك به هو العلم الدالّ على النبوّة ؛ لأنه الحادث عندها دون ما تقدّم وجوده.

فإن قيل : إذا كان الصرف هو المعجز فالواجب أن يخفى الحالة فيه على فصحاء العرب ؛ لأنهم إذا كان يتأتى منهم قبل التحدّي ما تعذر بعده وعند روم المعارضة ، فالحال في أنهم منعوا منها جلية ظاهرة ، فلا يبقى لهم بعد هذا ريبه في النبوّة ولا شكّ فيها ، فكيف لم ينقادوا وأقاموا على دياناتهم وتكذيبهم.

قلنا : لا يبعد أن يعلموا تعذر ما كان متأتيا ، ويجوز أن ينسبوه إلى الاتفاق ، أو إلى أنه سحرهم ، فقد كانوا يرمونه بالسحر ، وكانوا يعتقدون [أن] للسحر تأثيرا في أمثال هذه الأمور ، ومذاهبهم في السحر وتصديقهم لتأثيراته معروفة ، وكذلك الكهانة.

ولو تخلصوا من ذلك كلّه ونسبوا إلى الله تعالى جاز أن يدخل عليهم شبهة في أنه فعل للتصديق ، ويعتقدوا أنه ما فعله تصديقا ، بل لمحنة العباد ، كما

٣٢٨

يعتقده كثير من المبطلين ، أو فعل للجدّ والدولة ، فكأنّما نحصى وجود دخول الشبهات عليهم في هذا الباب حتّى نذكرها ، وإنّما ذكرنا ما سنح منها.

وإذا قلبنا السؤال على السائل عنه فقلنا : إذا كانت العرب علماء لخرق فصاحة القرآن لعاداتهم ، وان أفصح كلامهم لا يقاربه ، وأيّ شبهة بقيت عليهم في أنه من يفعل الله تعالى صدّق نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

فإذا قالوا : قد يتطرق عليهم في هذا العلم شبهات كثيرة ؛ لأنهم يجب أن يعلموا أن الله تعالى هو الخارق لهذه العادة بفصاحة القرآن ، وأن وجه خرقه لها تصديق الدعوة للنبوّة ، وفي هذا من الاعتراض ما لا يحصى.

قلنا : أجيبوا نفوسكم عن سؤالكم بمثل هذا فهو كاف.

فإن قيل : إن كان الصرف هو المعجز فألا جعل القرآن من أرك كلامه وأبعده من الفصاحة ليكون الصرف عن معارضته أبهر؟

قلنا : لا بدّ من مراعاة المصلحة في هذا الباب ، فربّما ما كان ما هو أظهر دلالة ، وأقوى في باب الحجّة من غيره ، وأصلح منه في باب الدين ، فما المنكر من أن يكون إنزال القرآن على هذا الرتبة من الفصاحة أصلح في باب الدين ، وإن كان لو قلّلت فصاحته مع الصرف عنه لكان الأمر فيه أظهر وأبهر.

ونقلّب هذا السؤال على السائل عنه ، فيقال له : الله تعالى قادر على ما هو أفصح من القرآن عندنا كلنا ، فألا فعل ذلك الأفصح ليظهر مباينة القرآن لكلّ فصيح من كلام العرب ، وتزول الشبهة عن كلّ أحد في أن القرآن يساوى ويقارب؟ فلا بدّ من ذكر المصلحة الّتي ذكرناها ، فإن ارتكب بعض من لا يحصّل أمره أن القرآن قد بلغ أقصى ما في المقدور من الفصاحة ، فلا يوصف تعالى بالقدرة على ما هو أفصح منه.

قلنا : هذا غلط فاحش ؛ لأن الغايات الّتي ينتهي الكلام الفصيح إليها غير

__________________

(١) كذا في المطبوعة.

٣٢٩

محصاة ولا متناهية ، ثمّ لو انحصرت على ما ادّعي لتوجّه الكلام ؛ لأن الله تعالى قادر بغير شبهة على أن يسلب العرب في أصل العادة العلوم الّتي يتمكّنون بها من الفصاحة الّتي نراها في كلامهم وأشعارهم لا يمكنهم من هذه الغاية الّتي هم الآن عليها ، فيظهر حينئذ مزية القرآن وخروجه عن العادة ظهورا تزول معه الشبهات ويجب معه التسليم ، فألا فعل ذلك إن كان الغرض ما هو أظهر وأبهر ، وألّا أحيى الله تعالى عنه دعوته الأموات أو أكثرهم وأمات الإحياء أو أكثرهم ، وألّا أحيى عبد المطّلب عليه‌السلام ، ونقل جبال مكّة من أماكنها كما اقترح القوم عليه ، فذلك كلّه أظهر وأبهر.

فإن قيل : إذا لم يكن القرآن خارقا للعادة بفصاحة كيف شهد له بالفصاحة متقدموا العرب فيها كالوليد بن مغيرة وغيره؟ وكيف انقاد له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجاب دعوته كبراء الشعراء ، كالنابغة الجعدي ، ولبيد بن ربيعة ، وكعب بن زهير ، ويقال : إن الأعشى الكبير توجّه ليدخل في الإسلام فغاظه أبو جهل بن هشام وقال : إنه يحرّم عليك الأطيبين الخمر والزنا ، وصدّه عن التوجّه؟ وكيف يجيب هؤلاء الفصحاء إلّا بعد أن بهرتهم فصاحة القرآن وأعجزتهم؟

قلنا : ما شهد الفصحاء من فصاحة القرآن وعظم بلاغته إلّا بصحيح ، وما أنكر أصحاب الصرفة علوّ مرتبة القرآن في الفصاحة ، قالوا : ليس بين فصاحة ـ وان علت على كلّ كلام فصيح ـ قدر ما بين المعجز والممكن ، والخارق للعادة والمعتاد ، فليس في طرب الفصحاء بفصاحته وشهادتهم ببراعته ردّ على للعادة والمعتاد ، فليس في طرب الفصحاء بفصاحته وشهادتهم ببراعته ردّ على أصحاب الصرفة ، وأمّا دخول فصحاء الشعراء في الدعوة فإنّما يجب أن يكون ذلك الأمر قهرهم وبهرهم ، وأيّ شيء أبلغ في هذا الباب من تعذّر المعارضة عليهم إذا راموها مع تسهّل الكلام الفصيح عليهم إذا لم يعارضوا.

فإن قيل : كيف لم يصرف مسيلمة عمّا أتى به من المعارضة؟

قلنا : لا شيء أبلغ في دلالة القرآن على النبوّة من تمكين مسيلمة من معارضته السخيفة ؛ لأنه لو لم يكن غيره من الفصحاء الّذين يقارب كلامهم

٣٣٠

ويشكل حالهم مصروفا لعارض ، كما عارض مسيلمة ، فتمكين مسيلمة من معارضته دليل واضح على ما نقوله في الصرفة.

وقد بيّنا في كتابنا في جهة إعجاز القرآن أن من لم يقل في جهته ما اخترناه من الصرفة يلزمه سؤالان لا جواب عنهما إلّا لمن ذهب إلى الصرفة :

السؤال الأول : أن يقال : ما أنكرتم أن يكون القرآن من فعل بعض الجنّ ألقاه إلى مدّعي النبوّة ، وخرق به عادتنا ، وقصد بنا إلى الاضلال لنا والتلبيس علينا ، وليس يمكن أن يدّعى الإحاطه بمبلغ فصاحة الجنّ وأنها لا يجوز أن يتجاوز عن فصاحة العرب ، ومع هذا التجويز لا يحصل الثقة بأن الله تعالى هو المؤيّد بالقرآن لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد يمكن إيراد معنى هذا السؤال على وجه آخر ، فيقال : إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدّع في القرآن أنه كلامه ، وإنّما ذكر أن ملكا هبط به إليه ، وقد يجوز أن يكون ذلك الملك كاذبا على ربّه ، وأن يكون القرآن الّذي نزل به من كلامه لا من كلام خالقه ؛ فإن عادة الملائكة في الفصاحة ممّا لا نعرفه ، وعصمة الملائكة قبل العلم بصحّة القرآن والنبوّة لا يمكن معرفتها ، فالسؤال متوجّه على ما ترويه.

وقد حكينا في كتابنا المشار إليه طرقا كثيرة لمخالفينا سلكوها في دفع هذا السؤال ، وبيّنا فسادها بما بسطناه وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات ، ونحن نذكر هاهنا ما لا بدّ من ذكره ممّا اعتمدوا عليه في دفع سؤال الجنّ أن قالوا : إن هذا استفساد للمتكلّمين وحكمته تعالى يقتضي المنع من الاستفساد.

وهذا غير صحيح ؛ لأن الّذي يمنعه أن يفعل الله تعالى الاستفساد ، فأمّا أن يمنع منه فليس بواجب ؛ لأن هذا يوجب أن يمنع الله تعالى كلّ ذي شبهة من شبهته ، وأن لا يمكن المتعبّدين المنخرقين من شيء دخلت منه شبهة على أحد.

وقد علمنا أن المنع من الشبهات وفعل القبائح في دار التكليف غير واجب ، وليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد ، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف.

٣٣١

ومن اشتبه عليه الموضع الّذي ذكرناه فإنّما أتى من قبل نفسه وتقصيره ؛ لأنه كان يجب أن لا يصدّق إلّا من علم أن الله تعالى صدّقه بذلك.

ثمّ يقال للمعلّق بهذا : أليس قد ضلّ بزرادشت وماني والحلاج ومن جرى مجراهم من المنخرقين والملتمسين جماعة وفسدت بهم أديانهم ، فألّا منعهم الله تعالى من هذا الاستفساد إن كان المنع منه واجبا؟

فإن قيل : كل من فسد وضلّ عند مخاريق هؤلاء الّذين ذكروا كان في معلوم الله تعالى أن سيضلّ ويفسد وان لم يدع هؤلاء إلى باطلهم.

قلنا : فما أنكرت أن يكون كلّ من أضلّ بما ألقته الجنّ من هذا الكلام الفصيح قد علم الله تعالى أنه كان يضلّ لو لم تلقه ، على أنا لو شئنا أن نقول لقلنا : إننا عالمون ضروره بأنه قد ضلّ بالحلاج وماني ومن أشبههما من أصحاب الحيل والمخاريق من لولاهم لما ضلّ ، ولبقي على الدين الصحيح ، لقلنا : وهذه الطريقة يختارها أبو عليّ الجبائي وزعم أنه إنّما ضلّ بدعاء إبليس لعنه الله ووسواسه ، من لولا دعاؤه لعلم الله تعالى أنه كان لا يضل.

ولأبي هاشم جواب آخر في استفساد إبليس ، وهو أن يقول : إن حقيقة الاستفساد هو ما وقع عنده الفساد ، ولولاه لما وقع من غير أن يكون تمكينا ولا له حظّ في التمكين ، فإذا علم الله سبحانه أن من امتنع من القبيح وفعل الواجب عليه مع غواية إبليس يكون ثوابه على فعل الواجب والامتناع من القبيح أعظم وأكبر ؛ لأن المشقّة عليه أكثر ، ويجريه مجرى زيادة الشهوة وإن وقع عندها من القبيح ما لو لا تقويها لما وقع ، ويجري هذا كلّه مجرى التمكين الخارج عن باب الاستفساد.

وعلى هذا المذهب لا يمتنع أن يقال في سؤال الجن مثله ، وأن ثواب من لم يتسرع إلى تصديق من ظهر على يده ما يجوز أن يكون من فعل الله تعالى أكبر وأعظم ، والمشقّة عليه في هذا التكليف أغلظ ، والمحنة آكد ، فلحق ذلك بالتمكين وخرج من أن يكون استفسادا ، فلا يجب منعه تعالى منه.

وممّا اعتمدوا أيضا في جواب مسألة الجنّ قالوا : إنه لا فرق في خرق

٣٣٢

العادة بالقرآن ودلالته على الاعجاز ، وبين أن يكون من فعله تعالى أو من فعل بعض الملائكة ؛ لأنه إنّما دلّ إذا كانت من فعله تعالى لخرق العادة ، لا لأنه من فعله تعالى ، فيجب أن يدلّ ، وإن كان من فعل الملك للاشتراك في خرق العادة.

والجواب عن ذلك : إن خرق العادة غير كاف إذا جوّزنا أن يخرقها غير الله تعالى ممّن يجوز أن يفعل القبيح ويصدّق الكذّاب ، وإنّما دلّ خرق العادة من فعله تعالى ؛ لأننا نأمن فيه وقوعه على وجه يقبح ، وإذا كنا نجوّز على الملائكة قبل العلم بصحّة النبوّة أن يفعلوا القبيح ، فلا يجوز أن يجرى تصديقهم لمن يصدّقوه وأن خرق العادة مجرى ما يفعله الله تعالى من ذلك ، وأيّ فرق بين ما نجوّز فيه من أن يكون من فعلنا ، وبين ما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّي أو ملك [في ارتفاع دلالته على النبوّة؟ وهل كان ما يجوز أن يكون من فعلنا غير دالّ على النبوّة إلّا من حيث جاز أن نفعل القبيح ونصدق الكذّاب؟ وهذا بعينه قائم فيما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّي أو ملك] (١) ، وان خرق العادة إذا جوّزنا أن يخرقها من لا يؤمن منه فعل القبيح.

وغير كاف في الدلالة على هذا الأصل الّذي قررناه تحرّك الشمس في غير جهة حركتها ، لما كان ذلك معجزا أو دالّا على صدق من يدعيه ، علما لتجويزنا أن يكون من فعل بعض من يفعل القبيح من الملائكة ، إلّا أن يتقدم ذلك دليل مقطوع به على أن الملائكة لا تعصي ولا تستفسد. وهذا ممّا اعتمده صاحب الكتاب المعروف بالمغني ونقضناه عليه في كتابنا الموسوم بالموضح عن جهة إعجاز القرآن.

ولا أدري كيف اشتبه على المحصّلين هذا الموضع ؛ لأنه لا خلاف في أن حركة الشمس لو جوزنا تغيّرها بفعل بعض البشر الّذين نجوز عليهم فعل القبيح لما أثبتنا هذا التغيير (٢) معجزا ، فأيّ فرق بين البشر والملائكة مع تجويز القبيح من الجميع؟

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من بعض النسخ.

(٢) في بعض النسخ «هذا التعجيز».

٣٣٣

وممّا اعتمدوا عليه في دفع سؤال الجنّ : ان هذا الطعن وان قدح في إعجاز القرآن قدح في سائر المعجزات.

والجواب عن ذلك : أن المعجزات على ضربين :

ضرب : يوصف القديم تعالى بالقدرة عليه نحو إحياء الميّت ، وإبراء الاكمه والأبرص ، واختراع الأجسام ، وهذا الوجه لا يمكن الاعتراض فيه بالجنّ والملائكة ؛ لخروجه عن مقدور كلّ محدث.

والضرب الثاني من المعجزات : ما دخل جنسه تحت مقدور البشر ، وهذا الوجه إنّما يدلّ إذا علم أن القدر الواقع منه أو الوجه الّذي وقع عليه لا يتمكّن أحد من المحدثين منه ، وإذا لا يعلم هذا فلا دليل فيه.

فإذا قيل : وما الطريق إلى العلم بأنه ليس في إمكان جميع المحدثين.

قلنا : غير ممتنع أن يخبرنا الله تعالى على لسان رسول يؤيّده بمعجزة ، ويختصّ تعالى بالقدرة عليها ، ويعلمنا أن عادة الجنّ أو الملائكة مساوية لعادتنا ، وإنّما يتعذّر علينا ما يتعذّر عليهم ، فمتى ظهر أمر يخرق عادتنا علمنا أن ذلك معجز ؛ لعلمنا بمشاركة الملائكة والجنّ لنا.

فإذا قيل : ما تنكرون من أن يكون الله تعالى أجرى عادة الجنّ أن يحيي الميّت عند أدنى جسم له صفة مخصوصة إليه ، كما أجرى العادة بحركة الحديد عند تقربه من الحجر المغناطيس ، وإذا جوّزنا ذلك لم يكن في ظهور احياء الميّت على يد مدّعي النبوّة دليل على صدقه ؛ لأنا لا نأمن أن يكون الجني نقل إلينا ذلك الجسم الّذي أجرى الله تعالى عادة الجنّ أن يحيي الموتى عنده ، وهذا طعن في جميع المعجزات.

قلنا : احياء الله تعالى الميّت عند تقريب هذا الجسم بيننا وفي عادتنا خرق منه تعالى لعادتنا بما يجري مجرى تصديق الكذّاب ، وهذا لا يجوز عليه تعالى. وليس إذا أجرى الله تعالى عادة الجنّ بأن يحيي ميّتا عند تقريب جسم إليه من حيث لا نعلم ذلك ولا نعرفه جاز أن يفعله في عادتنا ؛ لأنه إذا فعله في عادتهم فلا وجه للقبح ، وإذا نقض عادتنا فهو صدّق الكذّاب. وليس هذا يجري

٣٣٤

مجرى نقل الكلام ؛ لأن الجنّي إذا نقل إلينا كلاما ما جرت عادتنا بمثل فصاحته ، فبنفس نقله قد خرق عادتنا ، وليس لله تعالى في ذلك فعل يخرق عادتنا ، وإذا نقل الجسم المشار إليه فبنفس نقله الجسم لم يخرق عادتنا ، وإنّما الخارق لها من احياء الميّت عند تقريب الجسم منه ، والفرق بين الأمرين غير خاف على المتأمّل.

فإن قيل : سؤال الجن يطرق أن يجوز فيمن ظهر على يده احياء ميّت أن لا يكون صادقا ، بل يكون الجنّي أحضر من بعد حيّا وأبعد هذا الميّت ؛ لأن خفاء رؤيته وسعة حيلته يتمّ نعمها (١) قبل ذلك ، وان مدّعي النبوّة ادعى معجزا له نقل جبل أو اقتلاع مدينة ، ووقع ذلك ، جوّزنا أن يكون الجنّ تولّوه وفعلوه ، ولو أنّ المدّعي تولى ذلك بجوارحه جاز في الجنّي أن يتحمّل عنه ذلك النقل ، ولا يحصل عليه شيء من تكلّف ذلك النقل. وهذا قدح في جميع المعجزات أو الرجوع إلى أن الله تعالى يمنع من الاستفساد وأنتم لا ترتضون بذلك.

قلنا : معلوم أن أجسام الملائكة والجنّ لطيفة رقيقة متخلخلة ، ولهذا لا نراهم بعيوننا إلّا بعد أن يكيفوا ، ومن كان متخلخل البنية لا يجوز أن تحله قدر كثيرة ، لحاجة القدر في كثرتها إلى الصلابة وزيادة البنية ، ولهذه العلّة لا يجوز أن تحلّ النملة من القدر ما يحلّ الفيل ، فلا يجوز على هذا الأصل أن يتمكّن ملك ولا جني من حمل جبل ولا قلع مدينة إلّا بعد أن يكشف الله تعالى بنيّته ويعظم جثته ، وإذا حصل هذه الصفة رأته كلّ عين سليمة وميّزته.

فإذا ادعى النبوّة من جعل معجزة اقلاع مدينة أو نقل جبل ، فوقع ما ادعاه من غير أن يشاهد جسما كثيفا أعان عليه أو تولاه ، يبطل التجويز لأن يكون من فعل جنّي أو ملك ، وخلص فعلا لله تعالى.

ولا فرق في اعتبار هذه الحال بين الجنّ والبشر ؛ لأن مدّعي الإعجاز بحمل جبل ثقيل لا ينهض بحمله أحد منّا منفردا لا بدّ في الاعتبار عليه من أن يمنعه

__________________

(١) كذا.

٣٣٥

من الاستعانة بغيره ، ويسدّ باب كلّ حيلة يتمّ معها الاستعانة بالغير ، فالجنّي في هذا الباب كالإنسي ، إذا كنّا قد بيّنا أنه لا بدّ من أن يكون كثيفا مدركا.

فأمّا إبدال ميّت بحيّ أو احضار جسم من بعيد ، فليس يجوز أن يتمكّن منه أيضا إلّا من له قدر تحتاج إلى بنية كثيفة يتناولها الرؤية.

وأكثر ما يمكن أن يقال : جوّزوا أن يكون الحيّ الّذي أبدلها الجنّي بميّت من أصغر الحيوان جثّة كالذرّة والبعوضة.

والجواب عن ذلك : أن أقلّ الأحوال أن يكون حامل هذا الحيوان مكافئا له القدر ، ويجب تساويها في الجثّة والكثافة ، فيجب رؤيته ولا يخفى حاله.

وبعد ، فإن فرضنا أن رؤية هذا الحامل غير واجبة ، فلا بدّ من أن يكون ما يحمله وينقله مرئيا متميّزا ، وإلّا لم يفرق بين حضوره وغيبته ، وما هذه حاله لا يخفى على الحاضرين حاله ، ولا بدّ من أن يدركوه ويفطنوا بحاله ويتنبهوا على وجه الجملة فيه.

ويلحق هذا الوجه بالأوّل في مساواة الجنّ والبشر في الاعتبار عليهم والامتحان ، ولهذا نجد كثيرا من المشعبذين وأصحاب الحقّة يستترون جسما ويظهرون آخر ، ويبدلون ميّتا بحيّ وصغيرا بكبيره ، وإذا اعتبر عليهم المحصّلون ظهروا على مظانّ حيلهم ووجوهها ، ولا بدّ في مدّعي النبوّة من أن يأمن فيه ما جوّزناه في المشعبذ ، وليس يحصل الأمران إلّا بصادق البحث وقوى الامتحان.

وممّا أجاب به القوم عن سؤال الجنّ : أن القرآن لو كان من فعل الجنّ لوافقت العرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم على ذلك ، ولقالت له : ليس في عجزنا عن مقابلتك دليل على نبوّتك ؛ لأنه جائز أن يكون الجنّ ألقته إليك.

وهذا من ضعيف التعلّل ؛ لأنه ليس بواجب أن تعرف العرب هذا القدح ولا تهتدي إلى هذه الشبهة ، وكم أورد المبطلون في القرآن من الشبهات التي لم تخطر للعرب ببال ، ولا رأينا أحدا من المتكلّمين والمحصّلين جعل جواب هذه الشبهة أنها لو كانت صحيحة لواقف عليها العرب ، وإنّما تحيل على العرب

٣٣٦

وتوجب أن يواقفوا عليه فيما يختصّ بالفصاحة ، وما يجوز فيها من التقدّم والتأخّر وجهات التفاضل ، وما أشبه ذلك ممّا المرجع فيه إليهم والمعول عليهم ، فأمّا في الشبهات الّتي لا يخطر مثلها ببالهم ولا يهتدون إلى البحث عنها فلا معنى للحوالة عليهم بها.

ويقال لمن تعلّق بهذه الطريقة : خبرنا لو واقفت العرب على ذلك وادّعت في القرآن أنه من فعل الجنّ ، أكان ذلك دالّا على أنه من فعل الجنّ على الحقيقة؟ فإن قال نعم ، قيل له كيف ، وكيف يدلّ على ذلك ، وأيّ تأثير لدعواهم في تحقيق هذا الأمر؟ وان قال : لا يدلّ ، قيل له : كيف لم تدلّ المواقفة على أنه من فعلهم ، ودلّ تركها على أنه ليس من فعلهم ، وأيّ تأثير للترك ليس هو للفعل؟

على أنهم إذا جعلوا تلك المواقفة دليلا على أمان العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ ، فإنّا نقول لهم : ما الّذي أمنت العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ ، حتّى أمسكت لأجله عن المواقفة؟ أشيروا إليه بعينه حتّى نعلمه ، وتكون الحجّة به قائمة إن كان صحيحا ؛ فإنّ هذا ممّا لا يحسن الحوالة به على العرب ، وحال المتكلّمين فيه أقوى وهم إليه أهدى.

فإن قيل : بينوا الآن كيف لا يلزم سؤال الجنّ من قال بالصرفة؟

قلنا : إذا كان الصحيح في جهة إعجاز القرآن أن الله تعالى سلب كلّ من رام المعارضة العلوم الّتي بها يتمكّن منها ، وعلمنا أنّ أحدا من المحدثين لا يقدر أن يفعل في قلب غيره شيئا من العلوم ولا من أضدادها ، فلا فرق في هذا التعذّر بين ملك وجنّي وبشر ؛ لأن وجه التعذّر هو أننا قادرون بقدر ، فكلّ من شاركنا في القدر فلا بدّ من أن يتعذّر عليه ذلك ، وهذا يقتضي أن الصرف لا يقدر عليه إلّا الله تعالى ، ولا يدخل في مقدور أحد من المحدثين ، فسؤال الجنّ ساقط عمّن قال بالصرفة ومتوجّه إلى مخالفهم.

وأمّا السؤال الثاني الّذي وعدنا بذكره ، وقلنا : إنه لازم لمن لم يقل بالصرفة وغير لازم لمن ذهب إليها ، فهو أن يقال : إذا سلّم لكم تعذّر معاوضة القرآن على

٣٣٧

كلّ بشر وجنّي وملك ، وكلّ قادر من المحدّثين ، وسلّم أيضا أنه من فعله تعالى على غاية اقتراحهم ، ما المنكر من أن يكون أنزل هذا الكتاب على نبيّ من الأنبياء غير من ظهر من جهته تغلبه عليه وقتله الظاهر من جهته ، وادعى الإعجاز به؟

ولسنا نعرف للقوم جوابا سديدا عن هذا السؤال ؛ لأنهم إذا ذكروا الاستفساد وغيره ممّا حكيناه عنهم في جواب سؤال الجنّ ، فقد تكلمنا بما فيه كفاية ، وإذا قالوا : إن العلم الضروري حاصل بأنه لم يسمع من غيره ، أو قالوا : نعلم ضرورة أن المظهر له لم يأخذه من غيره قلنا : أمّا العلم بأنه لم يأخذ من أحد ظهر على يده وعرفت أخباره وانتشرت ، فثابت لا محالة ، وهو على خلاف ما تضمنه السؤال ؛ لأنه تضمن أنه أخذه ممّن لم يظهر له حال ، ولا وقف له على خبر سواه ، وكذلك العلم بأنه لم يأخذه من غيره لا بدّ من أن يكون مشروطا بما ذكرناه ، وكيف يدعى إطلاقا أنه لم يأخذه من غيره ، وهو يذكر أن الملك نزل به عليه ، فيجب أن يقولوا : انه لم يؤخذ من أحد من البشر ، وإذا فرضنا أن المأخوذ منه ذلك من البشر لم يطلع على حاله سواه لحق البشر في هذا بالملك.

وقد ذكروا في هذا السؤال : أن تجويز ذلك يؤدّي إلى تجويز مثله في سائر المعجزات ، قالوا : فإذا قيل لنا : إن باقي المعجزات يعلم حادثه في الحال على وجه يوجب الاختصاص ، قلنا : أليس المستدلّ قبل أن ينظر فيعلم حدوثها في الحال يجوز ما ذكرتموه ، وتجويزه ذلك منفر له عن النظر فيها.

فالجواب عن هذا الوجه الضعيف : أن تجويز المستدلّ الناظر في المعجزات أن تكون غير حادثة ولا مختصّة ، لا يقتضي التنفير عن النظر فيها ، وكيف يكون ذلك ويحسن أن كلّ ناظر في علم من أعلام الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجوز قبل نظره فيه أن يكون مخرقة وشعبذة ولم يقتض ذلك تنفيره عن النظر فيه ، بل واجب نظره لثبوت الخوف وتعدم الأمان من أن يكون المدعي صادقا.

فكذلك حكم الناظر في الأعلام مع تجويزه أن يكون غير حادثة ولا مختصّة ، ولا يجب أن يكون منفرا عن النظر ؛ لأن الخوف الموجب للنظر ثابت مازال.

٣٣٨

وممّا يمكن أن يتعلّقوا به : أن القرآن لو كان مأخوذا من نبيّ خصّه الله تعالى به لم يخل حاله من وجهين : إما أن يكون قد أدى الرسالة ، وظهر أمره وانتشر خبره أو لم يؤدّها ، وفي الوجه الأوّل استحالة أن يخفى خبره وينطوي حال من قتله وغلبه على كتابه ، لا سيّما مع البحث الشديد والتنفير الطويل ، وإن كان على الوجه الثاني وجب على الله تعالى أن يمنع من قتله وإلّا انتقض الغرض في بعثته.

والجواب عن ذلك : أنه غير ممتنع أن يكون ذلك النبيّ مبعوثا إلى الّذي قتله وأخذ الكتاب من يده ، فليس بمنكر بعثة نبي إلى واحد ، ونفرض أيضا أنه أوقع به القتل بعد أداء الرسالة حتّى لا يوجبوا على الله تعالى المنع من قتله.

فأمّا جواب أهل الصرفة عن هذا السؤال فواضح لا إشكال فيه ؛ لأنا قد بينا أن سبب تعذر المعارضة على العرب هو سلبهم في الحال العلوم بالفصاحة الّتي يتمكنون بها من المعارضة ، فلو كان مظهر القرآن غير مصدّق بهذا الكتاب وهو ناقل له عن نبيّ صدّق به ـ كما تضمنه السؤال ـ لم يحسن صرف من رام المعارضة ؛ لأن ذلك غاية التصديق والشهادة بنبوّته ؛ لأنه ما ادعى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علما له على نبوّته سوى الصرف عن معارضته ، فإذا وقع ذلك كان مطابقا لدعواه وتصديقا لها.

وقد كنا ذكرنا في كتابنا الموضح عن إعجاز القرآن جوابا سديدا عن هذا السؤال يمكن أن نجيب من ذهب فى القرآن إلى خرق العادة بفصاحته ، وان كنّا ما قرأناه لهم في كتاب ، ولا سمعناه في مناظرة ولا مذاكرة ، وإنّما أخرجناه فكرة ، وهو أن القرآن عند التأمّل له يدلّ على أن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المختصّ به والمظهر على يده دون غيره. ممّا تضمنه القرآن ممّا يدلّ على ذلك قوله تعالى في قصّة المجادلة : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) إلى قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) ، وجاءت الرواية المستفيضة بأن جملة زوجة أوس

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآيات : ١ ـ ٤.

٣٣٩

بن الصامت وقيل : خولة بنت ثعلبة ، ظاهر منها زوجها ، وقال لها : أنت عليّ كظهر أمّي. وكان هذا اللفظ ممّا يطلق به الجاهليّة زوجاتهم ، فأتت المرأة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكت حالها ، فأنزل الله تعالى كفّارة الظهار.

ومن ذلك قوله مخبرا عمّن انهزم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم أحد عنه وولي عن نصرته : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (١) والرواية واردة في هذه القصّة بما يطابق التنزيل.

ومن ذلك قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦)) (٢) ، وجاءت الأخبار بأن بعض الصحابة قال في ذلك اليوم : لم تغلب من قلّة ، وهو الّذي عني بقوله تعالى : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) وروي أن الناس جميعا تفرّقوا عنه وأسلموه ، ولم يثبت معه غير أمير المؤمنين عليه‌السلام والعبّاس بن عبد المطّلب ونفر من بني هاشم.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣) وجاءت الاخبار بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب يوم الجمعة على المنبر إذ أقبلت ابل لدحية الكلبي وعليها تجارة له ومعها من يضرب بالطبل ، فتفرّق الناس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإبل لينظروا إليها ، ولم يبق إلّا عدّة قليلة ، فنزلت الآية المذكورة.

ومن ذلك قوله تعالى : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٤) وجاءت الرواية بأن قائل ما حكي في الآية عبد الله بن أبي سلول.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣.

(٢) سورة التوبة ، الآيتان : ٢٥ ـ ٢٦.

(٣) سورة الجمعة ، الآية : ١١.

(٤) سورة المنافقون ، الآية : ٨.

٣٤٠