تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

١

٢

٣
٤

سورة ابراهيم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩].

[إن سأل سائل] فقال : أيّ معنى لردّ الأيدي في الأفواه؟ وأيّ مدخل لذلك في التكذيب بالرسل عليهم‌السلام؟

الجواب : قلنا في ذلك وجوه :

أوّلها : أن يكون إخبارا عن القوم بأنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم ، عاضّين عليها غيظا وحنقا على الأنبياء ، كما يفعل المتوعّد لغيره ، المبالغ في معاندته ومكايدته ؛ وهذه عادة معروفة في المغيظ المحنق أنّه يعضّ على أصابعه ، ويفرك أنامله ، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى ؛ وما شاكل ذلك من الأفعال.

وثانيها : أن تكون الهاء في الأيدي للكفّار المكذّبين ، والهاء التي في الأفواه للرسل عليهم‌السلام ؛ فكأنّهم لمّا سمعوا وعظ الرسل ودعاءهم وإنذارهم أشارو بأيديهم إلى أفواه الرسل ، مانعين لهم عن الكلام كما يفعل المسكّت منّا لصاحبه ، الرّادّ لقوله.

وثالثها : أن تكون الهاء في الأيدي والتي في الأفواه معا للرسل ؛ والمعنى أنّهم كانوا يأخذون أيدي الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم ، ويقطعوا كلامهم.

٥

ورابعها : أن تكون الهاءان جميعا يرجعان إلى الكفّار لا إلى الرسل ؛ فيكون المعنى أنّهم إذا سمعوا وعظهم وإنذارهم وضعوا أيدي أنفسهم على أفواههم ؛ مشيرين إليهم بذلك إلى الكفّ عن الكلام والإمساك عنه ؛ كما يفعل من يريد منّا أن يسكت غيره ، ومنعه عن الكلام ، من وضع إصبعه على في نفسه.

وخامسها : أن يكون المعنى : فردّوا القول بأيدي أنفسهم إلى أفواه الرّسل ، أي أنّهم كذّبوهم ، ولم يصغوا إلى أقوالهم ، فالهاء الأولى للقوم ، والثانية للرسل ؛ والأيدي إنّما ذكرت مثلا وتأكيدا ؛ كما يقول القائل : أهلك فلان نفسه بيده ، أي وقع الهلاك به من جهته ، لا من جهة غيره.

وسادسها : أنّ المراد بالأيدي النعم و «في» محمولة على الباء ، والهاء الثانية للقوم المكذّبين والتي قبلها للرّسل ، والتقدير : فردّوا بأفواههم نعم الرّسل ؛ أي ردّوا وعظهم وإنذارهم وتنبيههم على مصالحهم الذي لو قبلوه لكان نعما عليهم.

ويجوز أيضا أن تكون الهاء التي في الأيدي للقوم الكفّار ، لأنّها نعم من الله تعالى عليهم ، فيجوز إضافتها إليهم وحمل لفظة «في» على معنى الباء جائز لقيام بعض الصّفات مقام بعض ؛ يقولون : رضيت عنك ، ورضيت عليك وحكي في لغة طيء : أدخلك الله بالجنة ، يريدون في الجنة ، فيعبّرون بالباء عن معنى «في» كذلك أيضا يصحّ أن يعبّروا بفي عن الباء ؛ قال الشاعر :

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه

ولكنّني عن سنبس لست أرغب

أراد : وأرغب بها فحمل «في» علي الباء.

وسابعها : وهو جواب اختاره أبو مسلم بن بحر ، وزعم أنّه أولى من غيره ـ قال : المضمرون في قوله : (أَيْدِيَهُمْ) الرسل ، وكذلك المضمرون في «أفواههم» ، والمراد باليد هاهنا ما نطق به الرسل من الحجج والبيّنات التي ذكر الله تعالى أنّهم جاؤوا بها قومهم ؛ واليد في كلام العرب قد تقع على النعمة وعلى السلطان أيضا ، وعلى الملك ، وعلى العهد والعقد ؛ ولكلّ ذلك شاهد من كلامهم ؛ والذي أتى به الأنبياء قومهم هو الحجّة والسلطان ، وهو النعمة ، وهو

٦

العهد ، وكلّ ذلك يقع على اسم اليد. ولمّا كان ما يعظ به الأنبياء قومهم وينذرونهم به إنّما يخرج من أفواههم ، فردّوه وكذّبوه قيل : إنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم ، أي إنّهم ردّوا القول من حيث جاء. قال : ولا يجوز أن يكون الضمير في ذلك للمرسل إليهم كما تأوّله بعض المفسّرين ، وذكر أنّ معناه أنّهم عضّوا عليهم أناملهم غيظا ؛ لأنّ رافع يده إلى فيه ، والعاضّ عليها لا يسمّ رادّا ليده إلى فيه ، إلّا إذا كانت يده في فيه فيخرجها ثمّ يردّها».

[أقول] : وليس ما استنكره أبو مسلم من ردّ الأيدي إلى الأفواه بمستنكر ولا بعيد ، لأنّه قد يقال : ردّ يده إلى فيه ، وإلى وجهه ، وعاد فلان يقول كذا ، ورجع يفعل كذا ؛ وإن لم يتقدّم ذلك الفعل منه. ولو لم يسغ هذا القول تحقيقا ، لساغ تجوّزا واتّساعا ؛ وليس يجب أن تؤخذ العرب بالتحقيق في كلامها ؛ فإن تجوّزها واستعاراتها أكثر ، على أنّه يمكن أن يكون المراد بذلك أنّهم فعلوا ذلك الفعل شيئا بعد شيء ، وتكرّر منهم ، فلهذا جاز أن يقول : ردّوا أيديهم في أفواههم ، لأنّه قد تقدّم منهم مثل هذا الفعل ، فلمّا تكرّر جازت العبارة عنه بالرّد ، وهذا يبطل استضعافه للجواب إذا صرنا إلى مراده (١).

ـ (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم : ١١].

أنظر يونس : ٩٤ من الأمالي ، ٢ : ٣١٧.

ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ...) [إبراهيم : ٢٢].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) [إبراهيم : ٢٥].

وممّا يجوز أن يظن انفراد الإمامية به ، أنّ من حلف أن لا يكلّم زيدا حينا وقع على ستة أشهر ، وقد وافق الإمامية أبو حنيفة في ذلك (٢) ، والشافعي يذهب

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٥٢.

(٢) الفتاوى الهندية ، ٢ : ١٠٥.

٧

إلى أنّ الحين يقع على الأبد (١) ، وقال مالك : الحين سنة واحدة (٢) ، والذي يجب تحقيقه : أنّ هذا القائل إذا كان عني بالحين زمانا بعينه فهو على ما نواه ، وإن أطلق القول عاريا من نيّة كان عليه ستة أشهر.

دليلنا على صحة مذهبنا الاجماع المتردد ، وإذا كان إسم الحين يقع على أشياء مختلفة فيقع على الزمان ، كما في قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (٣) وإنّما أراد زمان الصباح والمساء كلّه ، ورأيت بعض متقدّمي أصحاب أبي حنيفة (٤) يحمل هذه الآية على أنّ المراد بها ساعة واحدة ، فكأنّه قال : سبحانه ساعة تمسون وساعة تصبحون ، وهذا غلط فاحش منه لا يخفى ، ومما يقع عليه أيضا إسم الحين أربعون سنة ، قال الله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) (٥) ، فذكر المفسّرون (٦) أنّه تعالى أراد أربعين سنة ، ويقع أيضا إسم الحين على وقت مبهم ، قال الله تعالى : (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٧) ، ويقع على ستة أشهر ، قال الله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها).

وروي عن ابن عباس أنّ المراد بذلك ستة أشهر (٨) ، وقال غير ابن عباس سنة (٩) ، ومع اشتراك اللفظ لا بدّ من دلالة في حمله على البعض ، ولمّا نقلت الإمامية عن أئمتهم أنّه ستة أشهر ، وأجمعوا عليه كان ذلك حجّة في حمله على ما ذكرناه ، وأبو حنيفة مع إعترافه باحتمال اللفظ للمعاني المختلفة كيف حمله على ستة أشهر بغير دليل مرجح؟ واللفظ يحتمل ذلك ويحتمل غيره ، وكذلك مالك ، وأمّا الشافعي فهو أعذر منهما ؛ لأنّه لمّا رأى الاشتراك حمله على التأبيد (١٠).

ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) [إبراهيم : ٣٠].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ٣٠٢.

(٢) نفس المصدر.

(٣) سورة الروم : الآية ، ١٧.

(٤) أحكام القرآن ، ٣ : ١٩٢.

(٥) سورة الإنسان ، الآية : ١.

(٦) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٣ : ١٨٢.

(٧) سورة الصافات ، الآية : ١٤٨.

(٨) نفس المصدر ، ٣ : ١٨٣.

(٩) نفس المصدر ، ٣ : ١٨٣.

(١٠) الانتصار : ١٦٠.

٨

ـ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ...) [إبراهيم : ٣٤].

أنظر المائدة : ٦٠ من الأمالي ، ٢ : ١٦١.

ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥].

إذا كان من مذهبكم انّ دعاء الأنبياء عليه‌السلام لا يكون إلّا مستجابا ، وقد دعا إبراهيم عليه‌السلام ربّه فقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ). وقد عبد كثير من بنيه الأصنام وكذلك السؤال عليكم في قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (١).

الجواب : قيل له أمّا المفسرون فإنّهم حملوا هذا الدعاء على الخصوص وجعلوه متناولا لمن أعلمه الله تعالى أنّه يؤمن ولا يعبد الأصنام حتّى يكون الدعاء مستجابا ، وبيّنوا أن العدول عن ظاهره المقتضي للعموم إلى الخصوص بالدلالة واجب ، وهذا الجواب صحيح.

ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يريد بقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي افعل بي وبهم من الألطاف ما يباعدنا عن عبادة الاصنام ويصرف دواعينا عنها. وقد يقال فيمن حذر من الشيء ورغب في تركه وقويت صوارفه عن فعله : إنّه قد جنبه. ألا ترى أنّ الوالد قد يقول لولده إذا كان قد حذّره من بعض الأفعال وبيّن له قبحه وما فيه من الضرر ، وزيّن له تركه وكشف له عما فيه من النفع : انّني قد جنّبتك كذا وكذا ومنعتك منه ، وإنّما يريد ما ذكرناه.

وليس لأحد أن يقول : كيف يدعوا إبراهيم عليه‌السلام بذلك وهو يعلم أنّ الله تعالى لا بدّ أن يفعل هذا اللطف المقوّي لدواعي الإيمان ؛ لأنّ هذا السؤال أوّلا يتوجّه على الجوابين جميعا ؛ لأنّه تعالى لا بدّ أن يفعل هذا للّطف الّذي يقع الطاعة عنده لا محالة ، كما لا بدّ أنّ يفعل ما يقوّي الدواعي إلى الطاعات.

والجواب عن هذه الشبهة : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمتنع أن يدعو بما يعلم أن الله

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٤٠.

٩

تعالى سيفعله على كلّ حال ، على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والتذلّل له والتعبّد. فأمّا قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فالشبهة تقلّ فيه ؛ لأنّ ظاهر الكلام يقتضي الخصوص في ذرّيّته الكثير ممن أقام الصلاة (١).

ـ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) [إبراهيم : ٤٠].

أنظر إبراهيم : ٣٥ من التنزيه : ٥٨.

ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١].

قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه‌السلام أنّه قال : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) والذي أخبرنا الله تعالى أنّه وعد أباه بالاستغفار دون أمّه ، فقال : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (٢) وقال : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) (٣) وقال : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (٤).

فما وجه استغفاره لوالديه؟ وهل لأحد أن يقرأ : «رب اغفر لي ولوالدي» بياء ساكنة غير مشدودة؟ فيكون ذلك موافقا لقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٥) ومحقّقا لما وعده به من الاستغفار؟.

الجواب : إعلم أنّا قد بيّنا في كتابنا الموسوم ب «تنزيه الأنبياء والأئمة» القول في استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه ، بسطناه وشرحناه وفرعناه ، فمن أراد النهاية وقف عليه من هناك (٦).

وفي قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وجهان :

أحدهما : أنّ عند الشيعة الإمامية أنّ الاب الكافر الذي وعده إبراهيم عليه‌السلام بالاستغفار لما وعده ذلك بالإيمان ، إنّما كان جدّه لأمّه ، ولم يكن والده على الحقيقة ، وأنّ والده كان مؤمنا. ويجوز أن يكون الأمّ أيضا مؤمنة كوالده ، ويجعل دعاء إبراهيم عليه‌السلام لها بالمغفرة دليلا على إيمانها.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٥٨.

(٢) سورة الممتحنة ، الآية : ٤.

(٣) سورة مريم ، الآية : ٤٧.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ١١٣.

(٥) سورة الشعراء ، الآية : ٨٦.

(٦) تقدّم في سورة التوبة ، الآية : ١١٤.

١٠

والوجه الاحسن : أنّا لا نجعل ذلك دعاء لنفسه ، بل تعليما لنا كيف ندعوا لنفوسنا وللوالدين المؤمنين منّا ، كما تعبّد الله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (١) وهو عليه‌السلام لا يخطىء للعصمة وانّما قال ذلك تعليما لنا.

فأمّا القراءة بتسكين الياء ، فان كانت مروية وقد روي بها جازت (٢) ، وإلّا فالإبداع غير جائز (٣).

ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ...) [إبراهيم : ٤٨].

أنظر هود : ١٠٦ ، ١٠٨ من الأمالي ، ٢ : ٧٧.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦.

(٢) في هامش النسخة : وقد قرىء بها جازت القراءة بالتخفيف.

(٣) الرسائل ، ٣ : ٨٥.

١١

سورة الحجر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩]

أنظر الأنبياء : ٢ من الملخص ، ٢ : ٤٢٣ والمائدة : ٥٥ من الشافي ، ١ : ٢١٧ والتوبة : ٤٠ من الشافي ، ٤ : ٢٥.

ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر : ١٩].

[قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهانيّ في هذه الآية] : إنّما خصّ الموزون دون المكيل بالذّكر لوجهين :

أحدهما : أنّ غاية المكيل تنتهي إلى الوزن لأنّ سائر المكيلات إذا صارت طعاما دخلت في باب الوزن وخرجت عن باب الكيل ؛ فكأنّ الوزن أعمّ من الكيل.

والوجه الآخر : أنّ في الوزن معنى الكيل ؛ لأنّ الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء ومقايسته إليه ، وتعديله به ؛ وهذا المعنى ثابت في الكيل ، فخصّ الوزن بالذّكر لاشتماله على معنى الكيل.

هذا قول أبي مسلم ، ووجه الآية وما يشهد له ظاهر لفظها غير ما سلكه أبو مسلم ، وإنّما أراد الله تعالى بالموزون المقدّر الواقع بحسب الحاجة ؛ فلا يكون ناقصا عنها ، ولا زائدا عليها زيادة مضرّة أو داخلة في باب العبث. ونظير ذلك من كلامهم قولهم : كلام فلان موزون ، وأفعاله مقدّرة موزونة ؛ وإنّما يراد ما أشرنا إليه ، وعلى هذا المعنى تأوّل المفسرون ذكر الموازين في القرآن على أحد

١٢

التأويلين ، وأنها التعديل والمواساة بين الثّواب والعقاب ، قال الشاعر (١) :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

والهراء : الكثير ، والنزر : القليل ؛ وكأنّه قال : إنّ حديثها لا يقلّ عن الحاجة ولا يزيد عليها ؛ وهذا يجري مجرى أن تقول : هو موزون. وقال مالك بن أسماء بن خارجة الفزاريّ :

وحديث ألذّه هو ممّا

ينعت الناعتون يوزن وزنا (٢)

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وهذا الوجه الذي ذكرناه أشبه بمراد الله تعالى في الآية ، وأليق بفصاحة القرآن وبلاغته الموفيتين على فصاحة سائر الفصحاء وبلاغتهم ؛ فأمّا قول الشاعر الذي استشهدنا بشعره : «وتلحن أحيانا» فلم يرد اللّحن في الإعراب الذي هو ضد الصواب ؛ وإنّما أراد الكناية عن الشيء والتعريض بذكره والعدول عن الإفصاح عنه ؛ على معنى قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣) ، وقول الشاعر (٤) :

ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا

ولحنت لحنا ليس بالمرتاب

وقد قيل : إنّ اللحن الذي عني به في البيت هو الفطنة وسرعة الفهم ؛ على ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته» أي أفطن لها ، وأغوص عليها.

ومما يشهد بما ذكرناه ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزبانيّ قال حدثنا أحمد بن عبد الله العسكريّ قال حدثنا العنزيّ قال حدثنا

__________________

(١) وهو ذو الرمة والبيت في ديوانه : ٢١٢.

(٢) في حاشية بعض النسخ حديث معطوف على كلام قبله ؛ أي لها وجه ، ولها حياء ، ولها حديث ، أو مثل ذلك وقوله : «ألذه» ، أي استلذه ؛ يقال : لذذت به ولذذته ، وقوله : «مما ينعت الناعتون» ، أي مما ينعته الناعتون. وقوله : «مما يوزن وزنا» ، أي موزونا ، فهو في موضع الحال.

(٣) سورة محمّد ، الآية : ٣٠.

(٤) هو القتال الكلابي ؛ والبيت في (الأمالي : ١ / ٥ ، واللسان ـ لحن) ، وقبله :

هل من معاشر غيركم أدعوهم

فلقد سئمت دعاء يا لكلاب!

١٣

علي بن إسماعيل اليزيديّ قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال : تكلّمت هند بنت أسماء بن خارجة فلحنت ، وهي عند الحجاج ، فقال لها : أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس؟! فقالت : أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال :

وما هو؟ قالت : قال :

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

فقال لها الحجاج : إنّما عنى أخوك اللحن في القول ؛ إذا كنّى المحدّث عمّا يريد ، ولم يعن اللحن في العربية ، فأصلحي لسانك.

وقد ظنّ عمرو بن بحر الجاحظ مثل هذا بعينه وقال : إن اللّحن مستحسن من النساء الغرائر (١) وليس بمستحبّ منهن كلّ الصواب والتشبّه بفحول الرجال ، واستشهد بأبيات مالك بعينها ، وظنّ أنّه أراد باللحن ما يخالف الصواب. وتبعه على هذا الغلط عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ ، فذكر في كتابه المعروف بعيون الأخبار أبيات الفزاريّ ، واعتذر بها من لحن أصيب في كتابه.

[أقول] : وأخبرنا المرزبانيّ قال أخبرني محمّد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني يحيى بن علي المنجّم قال حدّثني أبي قال : قلت للجاحظ : مثلك في عقلك وعلمك بالأدب ينشد قول الفزاريّ ويفسّره علي أنّه أراد اللحن في الإعراب! وإنّما أراد وصفها بالظّرف والفطنة وأنها تورّي بما قصدت له وتتنكّب التصريح به ، فقال له : قد فطنت لذلك بعد ، قلت : فغيّره من كتابك ، فقال : كيف بما سارت به الركبان! قال الصّوليّ : فهو في كتابه على خطئه (٢).

ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١)) [الحجر : ٣٠ ـ ٣١]

أنظر المقدّمة الثانية ، الأمر السادس.

ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣].

__________________

(١) حاشية بعض النسخ : جمع غريزة ؛ وهي التي لم تجرب الأمور.

(٢) الأمالي ، ١ : ٤٠.

١٤

قال الجاحظ : نازع رجل عمرو بن عبيد في القدر فقال له عمرو : إنّ الله تعالى قال في كتابه ما يزيل الشّكّ عن قلوب المؤمنين في القضاء والقدر قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١) ، ولم يقل : لنسألنّهم عمّا قضيت عليهم أو قدرته فيهم ، أو أردته منهم ، أو شئته لهم ؛ وليس بعد هذا الأمر إلّا الإقرار بالعدل أو السكوت عن الجور الذي لا يجوز على الله تعالى (٢).

ـ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩].

أنظر المجادلة : ٣ من الناصريات : ٣٥٦.

__________________

(١) سورة الحجر ، الآيتان : ٩٢ ، ٩٣.

(٢) الأمالي ، ١ : ١٨٧.

١٥

سورة النّحل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨].

وممّا انفردت به الإمامية ـ وإن كان الفقهاء رووا عن ابن عباس رحمه‌الله (١) موافقتها في ذلك ـ تحليل لحوم الحمر الأهلية ، وحرّمها سائر الفقهاء (٢) وانتهوا في ذلك إلى أنّ ابن أبي القسم روى عن مالك أنّ الحمار الوحشي إذا استأنس فصار يعمل عليه ، كما يعمل على الحمار الأهلي ، فانه لا يؤكل (٣) ، وإن خالف مالك سائر الفقهاء في ذلك.

دليلنا ـ بعد الاجماع المتردد ـ أنّ الأصل فيما فيه منفعة ولا مضرّة فيه الاباحة ، ولحوم الحمر الأهلية بهذه الصفة ، فان ادّعوا مضرّة آجلة من حيث الحظر لها والنهي عنها ، فانهم يفزعون إلى أخبار آحاد ليست حجة في مثل هذا ، وهي معارضة بأمثالها.

ويمكن أيضا أن يستدلّ على ذلك بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية (٤).

فإن إحتجوا عليه بقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، وأنّه تعالى أخبر أنّها للركوب والزينة ، لا للأكل. قلنا لهم : قوله تعالى : أنّها للركوب والزينة لا يمنع أن يكون لغير ذلك ، ألا ترى إلى قول القائل : قد أعطيتك هذا الثوب لتلبسه لا يمنع من جواز بيعه له ، وهبته ، والانتفاع به من

__________________

(١) المحلى ، ٧ : ٤٠٧.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ٦٥.

(٣) المدونة الكبرى ، ٢ : ٦٤.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥.

١٦

وجوه شتّى ؛ ولأنّ المقصود بالخيل والحمير الركوب والزينة ، وليس أكل لحومها مقصودا فيها ، ثمّ انّه لا يمنع من الحمل على الحمير والخيل ، وإن لم يذكر الحمل وإنّما خصّ الركوب والزينة بالذكر.

وأكثر الفقهاء (١) يجيزون أكل لحوم الخيل ، ولم يمنع تضمّن الآية ذكر الركوب والزينة خاصّة ، من أكل لحوم الخيل ، وكذلك الحمير ... (٢).

ـ (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل : ٩].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل : ١٠].

[إن سأل سائل] فقال : إذا كان الشجر ليس ببعض للماء كان كما الشراب بعضا له ؛ فكيف جاز أن يقول : (وَمِنْهُ شَجَرٌ) بعد قوله : (مِنْهُ شَرابٌ)؟ وما معني (تُسِيمُونَ)؟ وهل الفائدة في هذه اللفظة هي الفائدة في قوله : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) (٣) ، وقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) (٤)؟

الجواب : قلنا في قوله تعالى : (وَمِنْهُ شَجَرٌ) وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد منه سقى شجر ، وشرب شجر ؛ فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ؛ وذلك كثير في لغة العرب ، ومثله قوله تعالى :(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (٥) ، أي حبّ العجل.

والوجه الآخر : أن يكون المراد : ومن جهة الماء شجر ، ومن سقيه وإنباته شجر ؛ فحذف الأوّل وخلفه الثاني ؛ كما قال عوف بن الخرع :

__________________

(١) اختلاف الفقهاء (للطحاوي) ، ١ : ٧٧.

(٢) أجاب السيد رحمه‌الله عمّا يرويه المخالفون على خلاف ظاهر القرآن ، بأنّها أخبار آحاد والعمل بها في الشريعة غير جائز ، راجع الانتصار : ١٩٣ و ١٩٤ وأيضا الناصريات : ٤٤٠.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٤.

(٤) سورة هود ، الآيتان : ٨٢ ، ٨٣.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٩٣.

١٧

أمن آل ليلى عرفت الدّيارا

بجنب الشّقيق خلاء قفارا (١)

أراد : من ناحية آل ليلى.

وقال زهير :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

بحومانة الدّرّاج فالمتثلّم (٢)

أراد : من ناحية أم أوفى.

وقال أبو ذؤيب :

أمنك البرق أرقبه فهاجا

فبتّ إخاله دهما خلاجا (٣)

وقال أيضا :

أمنك برق أبيت اللّيل أرقبه

كأنّه في عراض الشّام مصباح (٤)

وقال الجعديّ :

لمن الدّيار عفون بالتّهطال

بقيت على حجج خلون طوال

أراد بقيت على مرّ حجج ، وتكرار حجج.

فأمّا قوله تعالى : (فِيهِ تُسِيمُونَ) فمعناه ترعون ، وترسلون أنعامكم ؛ يقال : أسام الإبل يسيمها أسامة ؛ إذا أرعاها وأطلقها فرعت منصرفة حيث شاءت ؛ وسوّمها أيضا يسوّمها من ذلك ؛ وسامت هي إذا رعت ؛ فهي تسوم ، وهي إبل

__________________

(١) المفضليات ٤١٢ (طبعة المعارف) ، والرواية هناك :

أمن آل ميّ عرفت الدّيارا

بحيث الشقيق خلاء قفارا

والشقيق : ماء لبني أسيد بن عمرو بن تميم.

(٢) أول المعلقة ، ديوانه : ٤. الدمنة آثار الناس وما سودوا من الرماد وغيره. لم تكلم : ولم تبين. وحومانة الدراج والمتثلم : موضعان.

(٣) ديوان الهذليين : ١ / ١٦٤ ؛ وفي حاشية بعض النسخ : «شبه السحاب بإبل سود ، وصوت الرعد بجنينها ؛ ولم يذكر السحاب إلا أن البرق دل عليه ، وخلاج : جمع خلوج ؛ وهي الناقة التي خلج ولدها ؛ وهو فعول في معنى مفعول ، كالركوب والحلوب».

(٤) ديوان الهذليين : ١ / ٤٧ ، واللسان (عرض) ، وعراض الشام نواحيه ؛ الواحد عرض.

١٨

سائمة ؛ ويقال : سمتها إذا قصرتها على مرعى بعينه ؛ وسمتها الخسف ؛ إذا تركتها على غير مرعى ؛ ومنه قيل لمن أذلّ واهتضم : سيم فلان الخسف ؛ وسيم خطّة الضّيم ؛ قال الكميت بن زيد في الإسامة التي هي الإطلاق في الرّعي :

راعيا كان مسجحا ففقدنا

ه وفقد المسيم هلك السّوام

وقال آخر :

وأسكن ما سكنت ببطن واد

وأظعن إن ظعنت فلا أسيم

وذهب قوم إلى أنّ السّوم في البيع من هذا ؛ لأنّ كلّ واحد من المتبايعين يذهب فيما يبيعه من زيادة ثمن أو نقصانه إلى ما يهواه ، كما تذهب سوائم المواشي حيث شاءت.

وقد جاء في الحديث : «لا سوم قبل طلوع الشّمس» فحمله قوم على أنّ الإبل وغيرها لا تسام قبل طلوع الشّمس ؛ لئلا تنتشر وتفوت الراعي ويخفى عليه مقاصدها.

وحمله آخرون على أنّ السوم قبل طلوع الشّمس في البيوع مكروه ، لأنّ السّلعة المبيعة تستتر عيوبها أو بعضها ، فيدخل ذلك في بيوع الغرر المنهيّ عنها.

فأمّا الخيل المسوّمة ، فقد قيل : إنّها المعلّمة بعلامات ؛ مأخوذ من السّيماء وهي العلامة.

وروي عن الحسن البصريّ في قوله تعالى : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) قال : سوّم نواصيها وأذنابها بالصوف.

وقيل أيضا : إنّ المسوّمة هي الحسان.

وروي عن مجاهد في قوله تعالى : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) قال : هي المطهّمة الحسان.

وقال آخرون : بل هي الراعية ؛ روي ذلك عن سعيد بن جبير ؛ وكلّ يرجع إلى أصل واحد ، وهو معنى العلامة ، لأنّ تحسين الخيل يجري مجرى العلامة فيها ؛ التي تعرف بها وتتميز لمكانها ؛ وقد قيل : إنّ السّوم من الرّعي يرجع إلى

١٩

هذا المعنى أيضا ، لأنّ الراعي يجعل في المواضع التي يرعاها علامات أو كالعلامات بما يزيله من نباتها ، ويمحوه من آثارها ؛ فكأنّ الأصل في الكلّ متّفق غير مختلف.

وقال لبيد في التوسيم الذي هو التعليم :

وغداة قاع القرنتين أتينهم

رهوا يلوح خلالها التسويم (١)

أراد التعليم.

وأمّا قوله في الملائكة : (مُسَوِّمِينَ) ؛ فالمراد به المعلمين ، وكذلك قوله تعالى : (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً) أي معلمة ؛ وقيل : إنّه كان عليها كأمثال الخواتيم (٢).

ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥].

أنظر المائدة : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ١ : ٤٣ ويونس : ٨٨ من التنزيه : ١٠٦.

ـ (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦].

[إن سأل سائل] فقال : ما الفائدة في قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) ؛ وهو لا يفيد إلّا ما يفيده قوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) ؛ لأنّ مع الاقتصار على القول الأوّل لا يذهب وهم أحد إلى أنّ السقف يخرّ من تحتهم؟

الجواب : قيل له في ذلك أجوبة :

أوّلها : أن يكون «على» بمعنى «عن» ، فيكون المعنى : فخرّ عنهم السقف من فوقهم ؛ أي خرّ عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته ، كما يقول القائل : اشتكى فلان عن دواء شربه ، فيكون «على» و «عن» بمعني من أجل الدّواء ؛ وكذلك يكون معنى الآية فخرّ من أجل كفرهم السّقف من فوقهم ؛ قال الشاعر :

__________________

(١) ديوانه : ١٠٤ / ١ وفي حاشية بعض النسخ : بعد هذا البيت :

بكتائب رجح تعوّد كبشها

نطح الكباش كأنهنّ نجوم

والقرنتان : موضع ، ورهان في السير رهوا أي رفق.

(٢) الأمالي ، ١ : ٥٧٦.

٢٠