تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

وقال : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) (١) يعني بوسوسته وخديعته.

وقال عزوجل : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)) (٢) فأخبر أنّ الشيطان أضلّهم عن الحقّ.

وقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) (٣) وقال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٤) ولم يقل فلا تلوموني ولوموا ربّكم ، لأنّه أفسدني وأفسدكم ، وكفّرني وكفّركم.

ولو قصدنا إلى الاخبار عمّا أضافه الله تعالى إلى الشيطان من معاصي العباد لكثر ذلك وطال به الكتاب.

فصل

الفرق بين صنع الخالق والمخلوق ودلالة الكتاب

فإن قال قائل : ما الدليل على أنّ الله تعالى لم يفعل أفعال عباده ، وأنّ فعل العبد غير فعل ربّ العالمين؟

قيل له : الدليل على ذلك من كتاب الله تعالى ، ومن أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن إجماع الامّة ، ومن حجج العقول :

فأمّا ما يدلّ على ذلك من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٥) فلما لم يكن الكفر بمتقن ولا بمحكم علمنا أنّه ليس من صنعه.

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة يس ، الآيات : ٦٠ ـ ٦٢.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ٥٣.

(٤) سورة إبراهيم ، الآية : ٢٢.

(٥) سورة النمل ، الآية : ٨٨.

٣٦١

وقال تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١) وقد علمنا أنّ الله تعالى قد جعل وخلق الشاة والبعير ، وانّما ينفي عن نفسه ما جعلوه من الشقّ الذي فعلوه في آذان أنعامهم ، فعلمنا أنّ ما نفاه الله تعالى عن نفسه هو كفر العباد وفعلهم.

وقال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٢) فلمّا كان الكفر متفاوتا متناقضا علمنا أنّه ليس من خلق الله تعالى ، وقال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣) ، فلما لم يكن الكفر بحسن علمنا انه ليس من خلقه ولا من فعله ؛ لأنّ خلق الله هو فعله ، وقد قال : إنّه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) (٤) وقال (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٥) وأخبر أنّ خلقه وفعله واحد.

فإن قال قائل منهم : إنّ الكفر حسن لأنّ الله خلقه.

قيل له : لو جاز أن يكون حسنا لأنّ الله تعالى خلقه ، جاز أن يكون حقّا وصدقا وعدلا وصلاحا ، فلما لم يجز أن يكون الكفر حقّا ولا صدقا ولا عدلا ولا صلاحا لم يجز أن يكون حسنا ، ولو كان الكفر حسنا كان الكافر محسنا ، إذ فعل حسنا ، فلمّا كان الكافر مسيئا مفسدا كاذبا جائرا مبطلا ، علمنا أنّ فعله ليس بحسن ولا حقّ ولا صدق ولا عدل ولا صلاح.

وقال الله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (٦) ولو كان فاعلا لها لكان قد أنزل بها أعظم السلطان والحجّة.

وقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) (٧) تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وقال : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٨) والله قد جعل الأجسام كلّها ، وإنّما نفى عن نفسه أن يكون قولهم لأزواجهم وقولهم لأولادهم أنتن

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة الملك ، الآية : ٣.

(٣) سورة سجدة ، الآية : ٧.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ٤٧.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ٤٠.

(٦) سورة النجم ، الآية : ٢٣.

(٧) سورة مريم ، الآية : ٨١.

(٨) سورة الأحزاب ، الآية : ٤.

٣٦٢

أمهاتنا ، وأنتم أبناؤنا ، ثمّ أخبر أنّه لا يقول إلّا حقا وأنّ الكذب ليس من قوله ولا من فعله.

وقال عزّ من قائل : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١) فأخبر أنّهم جعلوا له شركاء ، ولو كان الجاعل لما كان قد جعل لنفسه شركاء ، ولا يخلو من أن يكون هو جعل لنفسه شركاء دونهم ، أو يكونوا هم الذين جعلوا له شركاء ، وهو عن ذلك متعال لم يفعله ولم يجعله ، ولو كان هو الذي جعل لنفسه شركاء دون عباده أو إن كان هو جعل ما جعلوا كان قد جعل لنفسه شركاء كما جعل ذلك عباده. فكان قد شارك ، عباده في شركهم وكفرهم ، ومن جعل لله شريكا فقد أشرك بالله غيره وقال : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) (٢) وقال : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) (٣) وقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) (٤) فلو كان جاعلا ما جعلوه من الكفر كان قد جعل لنفسه ما يكرهه ، وجعل لنفسه أندادا ، جلّ الله عن ذلك.

وقال عزوجل : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٥) فنفى أن يكون جعل من دونه آلهة ، فعلمنا أنّ اتّخاذ الاله من دون الله لم يجعله الله.

وقال عزوجل : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) (٦) فلو كان هو الذي جعل الحميّة في قلوبهم لم يقل هم الذين جعلوا الحميّة.

فإن قالوا : ما أنكرت أن يجعل ما جعل العباد.

قيل لهم : لو جاز أن يكون جاعلا لما جعله العباد لكان عادلا بعدل العباد ، ومصلحا بصلاح العباد ، وجائرا بجور العباد ، ومفسدا بفساد العباد ، وكاذبا بكذبهم ؛ إذ كان لكذبهم وفسادهم وجورهم فاعلا ، فلمّا لم يجز ما ذكرناه علمنا أنّ الله لم يجعل لما جعله العباد.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٠٠.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٥٧.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٦٢.

(٤) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٠.

(٥) سورة الزخرف ، الآية : ٤٥.

(٦) سورة الفتح ، الآية : ٢٦.

٣٦٣

وقال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (١) فنفى عن نفسه أن يكون كفرهم من عنده تعالى.

وقال عزوجل : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) (٢) وقال تعالى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) (٣) فلو كان الله فعل الكيد والمكر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد مكر بنبيّه وكاده ، تعالى الله عن ذلك.

وقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) (٤) ولو كان اتّخاذهم الولد فعل الله كان قد اتّخذ ولدا ، ولو كان قد فعل عباده فعله كان له شريك في الملك ، تعالى عن ذلك.

ولو قصدنا إلى استقصاء ما يدلّ على مذهبنا في أنّ الله لم يفعل الظلم والجور والكذب وسائر أفعال العباد لطال بذلك الكتاب ، وفيما ذكرناه كفاية ، والحمد لله ربّ العالمين.

الأخبار المانعة من نسبة الشر إلى الله تعالى

وأمّا ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إضافة الحسن إلى الله والسوء إلى العباد ما روي عن أبي امامة الباهلي (٥) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اضمنوا لي أشياء أضمن لكم الجنّة. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : لا تظلموا عند قسمة مواريثكم ، ولا تجبنوا عند قتال عدوّكم ، وامنعوا ظالمكم من مظلومكم ، وانصفوا الناس من أنفسكم ، ولا تغلوا غنائمكم ، ولا تحملوا على الله ذنوبكم.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٧٩.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٣٠.

(٣) سورة الطارق ، الآية : ١٥.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ١١١.

(٥) أبو إمامة الباهلى واسمه صدى بن عجلان الصحابى ، كان من المشاهير سكن مصر ثمّ حمص وبها توفي سنة ٨١ ، وهو آخر من توفى من الصحابة بالشام. (أسد الغابة : ٥ / ١٣٨).

٣٦٤

وروي عن أبي هريرة (١) أنّه قال : قام رجل من خثعم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله متى يرحم الله عباده؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يرحم الله عباده ما لم يعملوا بالمعاصي ثمّ يقولون هي من الله.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : خمسة لا تطفأ نيرانهم ولا تموت ديدانهم : رجل أشرك بالله ، ورجل عق والديه ، ورجل سعى بأخيه إلى سلطان جائر فقتله ، ورجل قتل نفسا بغير نفس ، ورجل حمل على الله ذنبه.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : أتاني جبرئيل فقال : يا محمد خصلتان لا ينفع معهما صوم ولا صلاة : الإشراك بالله ، وأن يزعم عبد أن الله يجبره على معصيته.

ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود (٢) أنّه سئل عن امرأة توفّي عنها زوجها ولم يفرض لها صداقا؟ فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.

وروي عن أبي هريرة أنّه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قام بالليل إلى الصلاة قال : لبيك وسعديك ، الخير في يديك ، والشرّ ليس إليك.

وروي عن حذيفة (٣) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إذا دعي بي يوم القيامة أقوم فأقول : لبّيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك.

__________________

(١) اختلفوا في اسمه كثيرا ، كان من كبار وضاعي الحديث طمعا فيما بيد معاوية ، وكان يلعب بالشطرنج ويقامر ، وكانت عائشة تتهمه بوضع الأحاديث وترد ما رواه ، واستعمله عمر على البحرين فجمع أموالا كثيرة (الكنى والألقاب : ١ / ١٧٢).

(٢) أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي حليف بنى زهرة ، كان اسلامه قديما ، وكان سببه أنه كان يرعى غمنا. فمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واخذ شاة حائلا من تلك الغنم فدرت عليه لبنا غزيرا ، بعثه عمر إلى الكوفة مع عمار بن ياسر وقال فيه «كنيف ملىء علما» ، مات بالمدينة سنة ٣٢ ودفن بالبقيع وكان عمره حين مات بضع وستين سنة (الاستيعاب : ٣ / ٩٨٧).

(٣) حذيفة بن اليمان العبسي ، عد من الأركان الأربعة ، ذكر أنه لما حضرته الوفاة قال لابنته : أية ساعة هذه؟ قالت : آخر الليل. قال : الحمد لله الذى بلغنى هذا المبلغ ولم اوال ظالما على صاحب حق ولم اعاد صاحب حق. سكن الكوفة ومات بالمدائن بعد بيعة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام (منتهى المقال ص ٨٨).

٣٦٥

وروي عن أنس (١) أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيكون في هذه الأمّة أقوام يعملون بالمعاصي ويزعمون أنّها من الله ، فإذا رأيتموهم فكذّبوهم ثمّ كذّبوهم.

وما أشبه هذه الأخبار كثير ، ولو قصدنا إلى ذكرها لطال بها الكتاب وإنّما نذكر من الباب الذي ينبّه به على الحقّ.

الأدلة العقلية على تنزيه الله من خلق الشرور

وأمّا حجة القول على أنّ الله لم يفعل أفعال العباد ، وأنّ فعل الخلق غير فعل ربّ العالمين ، فهو أنّا وجدنا من أفعال العباد ما هو ظلم وعبث وفساد ، وفاعل الظلم ظالم ، وفاعل العبث عابث ، وفاعل الفساد مفسد ، فلمّا لم يجز أن يكون الله مفسدا علمنا أنّه لم يفعل الظلم ولا العبث ولا الفساد.

وأيضا ؛ فإنّ أفعالهم التي هي محكمة منها ما هو طاعة وخضوع وفاعل الطاعة مطيع ، وفاعل الخضوع خاضع ، فلمّا لم يجز أن يكون الله مطيعا ولا خاضعا علمنا أنّه لا يفعل الطاعة ولا الخضوع.

وأيضا ؛ فانّ الله لا يجوز أن يعذّب العباد على فعله ، ولا يعاقبهم على صنعه ، ولا يأمرهم بأن يفعلوا ما خلقه ، فلمّا عذّبهم على الكفر ، وعاقبهم على الظلم ، وأمرهم بأن يفعلوا الإيمان ، علمنا أنّ الكفر والظلم والإيمان ليست من فعل الله ولا من صنعه.

وممّا يبيّن ما قلنا : أنّه لا يجوز أن يعذّب العباد على طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم ؛ لأنّ هذه الامور فعله وخلقه فيهم ، فلو كان الكفر والفجور فعل الله لم يجز أن يعذّبهم على ذلك ولا ينهاهم عنه ولا يأمرهم بخلافه ، فلمّا

__________________

(١) أنس بن مالك بن النضر الانصارى الخزرجى النجارى ، خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من المكثرين في الرواية ، وتوفى بالبصرة سنة ٩٣ ، وقيل في تاريخ وفاته غير ذلك (أسد الغابة : ٢ / ١٢٧).

٣٦٦

أمر الله العباد بالإيمان ونهاهم عن الكفر ولم يجز أن يأمرهم بأن يفعلوا طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم علمنا أنّ هذه الامور فعل الله ، وأنّ الطاعة والمعصية والإيمان والكفر فعل العباد.

وأيضا فلو جاز أن يفعل العبد فعل ربّه ، وأن يكسب خلق إلهه ـ كما قال مخالفونا إنّ العباد فعلوا فعل ربّهم ـ لجاز أن يكون كلامهم كلام الله ، فيكون كلام العبد كلام ربّه كما كان كسب العبد فعل خالقه ، فلمّا لم يجز أن يكون كلام العبد كلام خالقه لم يجز أن يكون فعل العبد فعل إلهه ، ولا كسب العبد صنع خالقه ، فثبت أنّ أفعال العباد غير فعل ربّ العالمين.

وأيضا ؛ فإنّه لا يخلو الظلم في قولهم وفعلهم من أن يكون بخلقه تعالى [فيكون الظالم لا ظالما ومصيبا بذلك لا مخطئا] (١) فلو كان الله بخلقه الظلم عادلا أيضا كان الظلم عدلا وصوابا ؛ لأنّه لا يجوز أن يصيب إلّا بفعل الصواب ، ولا يعدل إلّا بفعل العدل ، ولو كان الكفر والظلم صوابا وعدلا كان الكافر والظالم مصيبين عادلين بالظلم ولا مصيب بفعل الكفر والظلم ، فثبت أنّ الله لا يجوز أن يفعل الظلم والخطأ والفسوق والفجور بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب.

وأيضا فلو جاز أن يفعل الله الظلم ولا يكون ظالما لجاز أن يخبر بالكذب بقوله ولا يكون كاذبا ، فلمّا لم يجز أن يكون الله يقول الكذب ؛ لأنّ القائل المخبر بالكذب كاذب ، كذلك لم يجز أن يفعل الظلم ؛ لأنّ الفاعل للظلم ظالم ، فلمّا لم يجز أن يكون «عزوجل» ظالما لم يجز أن يكون للظلم فاعلا ، فثبت أنّ الظلم ليس من فعل الله ولا الكذب من قوله سبحانه.

وأيضا ؛ فإنّ الله سخط الكفر وعابه وذمّ فاعله ولا يجوز على الحكيم أن يذمّ العباد على فعل ولا يعيب صنعه ولا يسخط ، بل يجب أن يرضى بفعله ؛ لأنّ

__________________

(١) هذه الجملة جاءت في بعض النسخ هكذا : بخلقه الظلم عادلا او ظالما أو مصيبا بذلك أو مخطئا.

٣٦٧

من فعل ما لا يرضى به فهو غير حكيم ، ومن يعيب ما صنع ويصنع ما يعيب فهو معيب والله يتعالى عن هذه الصفات علوّا كبيرا ، فلمّا لم يجز على ربّنا أن يعيب ما صنع ولا يسخط ما يفعل علمنا أنّ أفعال العباد غير فعل ربّ العالمين.

وأيضا ؛ فإنّ الله قال في كتابه : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (١) وقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) (٢) فالله أحكم وأعدل من أن يسخط في فعله ، ويغضب من خلقه ، ويفعل ما لا يرضى به.

وأيضا فإنّ الفاعل للفاحشة والظلم والكفر أكثر استحقاقا للذمّ من الأمر بالفاحشة أو الكفر ، فلمّا كان الأمر بالكفر والظلم والفواحش غير حكيم كان الفاعل لذلك والمحدث له غير حكيم ، فلمّا كان الله أحكم الحاكمين علمنا أنّه غير فاعل للكفر ، ولا محدث للظلم ، ولا مبتدع للقبائح ، ولا مخترع للفواحش ، وثبت أنّ الظلم فعل الظالمين ، والفساد فعل المفسدين ، والكذب فعل الكاذبين وليس شيء من ذلك فعل ربّ العالمين.

وأيضا ؛ فإنّه لا تخلو أفعال العباد من أن تكون كلّها فعل ربّ العالمين لا فاعل لها غيره ، أو أن تكون فعله وفعل خلقه وكسبهم ، أو أن تكون فعل العباد وليست بفعل الله ، فلمّا لم يجز أن يكون الله تعالى منفردا بالافعال ولا فاعل لها غيره ؛ لأنّه لو كان كذلك كان لا يجوز إرسال الرسل وإنزال الكتب ولبطل الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحمد والذمّ ؛ لأنّه لا فعل للعباد ، وأوجب أيضا أن يكون هو الفاعل لشتم نفسه ، وللعن أنبيائه ، وللفسوق والفجور ، والكذب والظلم ، والعبث والفساد ، فلو كان ذلك منه وحده كان هو الظالم والكاذب والعابث والمفسد ، إذ كان لا فاعل للظلم والعبث والكذب والفساد غيره ، ولو كان فاعلا لما فعله العباد كان هو الفاعل للظلم الذي فعله العباد والكذب والعبث والفساد وكان يجب أن يكون ظالما كما أنّهم ظالمون ، وكان عابثا مفسدا إذ لم يكونوا الفاعلين لهذه الامور دونه ، ولا هو الفاعل لها دونهم.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٧.

(٢) سورة محمّد ، الآية : ٣٨.

٣٦٨

فلمّا بطل هذان الوجهان ثبت الثالث ، وهو أنّ هذه الأفعال عمل العباد وكسبهم ، وأنّها ليست من فعل ربّ العالمين ولا صنعه ، ولو قصدنا إلى استقصاء أدلة أهل العدل في هذا الباب لطال بذلك الكتاب.

فصل

اللوازم الفاسدة للقول بخلق أفعال العباد

وممّا يسأل عنه ممّن زعم أنّ فعل العباد هو فعل الله وخلقه أن يقال لهم : أليس من قولكم أنّ الله محسن إلى عباده المؤمنين ، إذ خلق فيهم الإيمان وبين لهم بفعل الإيمان؟.

فإن قالوا : لا نقول ذلك ، زعموا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يحسن في تبليغ الرسالة ، وكفى بهذا خزيا لهم.

فإن قالوا : إنّ الانسان المؤمن محسن بفعل الإيمان وكسبه. يقال لهم : فقد كان إحسان واحد من محسنين بفعل الإيمان وكسبه من الله ومن العبد.

فإن قالوا : بذلك. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون إساءة واحدة من مسيئين ، فيكون الله «عزوجل» مسيئا بما فعل من الإساءة التي العبد بها مسيء ، كما كان محسنا بالاحسان الذي به العبد محسن.

فإن قالوا : إنّه مسيء بإساءة العباد لزمهم أن يكون ظالما بظلمهم ، وكاذبا بكذبهم ، ومفسدا بفسادهم ، كما كان مسيئا بإساءتهم.

فإن قالوا : لا يجوز أن تكون إساءة واحدة بين مسيئين. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون إحسان واحد بين محسنين ، ولا يجدون من هذا الكلام مخرجا والحمد لله رب العالمين ؛ وكلّما اعتلّوا بعلّة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله نافعا للمؤمنين بما خلق فيهم من الإيمان. فمن قولهم : نعم. فيقال لهم : والعبد نافع لنفسه بما فعل من الإيمان. فإذا قالوا :

٣٦٩

نعم. قيل لهم : قد ثبت أنّ منفعة واحدة من نافعين هي منفعة من الله بالعبد بأن خلقها ، ومنفعة من العبد بأن اكتسبها.

فإن قالوا : نعم. قيل لهم : وكذلك الكفر قد ضرّ الله به الكفّار بأن خلقه ، وضرّ الكافر نفسه بأن اكتسب الكفر.

فإن قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله قد أفسد الكافر بأن خلق فساده ويكون الكافر هو أفسد نفسه بأن اكتسب الفساد.

فإن قالوا : نعم. قيل : فما أنكرتم أن يكون الكافر جائرا على نفسه بما اكتسب من الجور. فإن قالوا : جائر ، قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله جائرا على نفسه بما فعل من الجور أيضا كما قلتم في الكافر ، فإن قالوا : جائر خرجوا من دين أهل القبلة ، وإن قالوا : لا يجوز أن يكون الله جائرا بما فعله العباد من الجور ، قيل لهم : وكذلك ما أنكرتم أن لا يكون مفسدا بفسادهم ، ولا ضارّا لهم بضررهم.

فإن قالوا بذلك ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون فاعلا لما فعلوه من الكفر والفساد وأن يكون فعله غير فعلهم ، وكلّما اعتلّوا بعلّة في هذا الكلام عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله نافعا للعباد [المؤمنين] بما خلق فيهم من الإيمان.

فمن قولهم : نعم. فيقال : وكذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نفعهم بما دعاهم إلى الإيمان.

فإن أبوا ذلك وزعموا أنّ النبي ما نفع أحدا ولا أحسن إلى أحد ؛ قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجب على المؤمنين شكره ولا حمده ، إذ كان غير نافع لهم ولا محسن إليهم.

وإن قالوا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نفعهم بدعائه إياهم إلى الإيمان. قيل لهم : أفليس الله بما خلق فيهم من الإيمان أنفع لهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ دعاهم إلى الإيمان ، فلا بدّ لهم من نعم ؛ لأنّ النبي قد يجوز أن يدعوهم إلى الإيمان ، فلا بدّ لهم من نعم يجيبون إليه ولا يجوز أن يخلق الله فيهم الإيمان إلّا وهم مؤمنون.

٣٧٠

فيقال : أفليس قد ضرّ الله الكافر في قولهم بما خلق فيه من الكفر؟ فمن قولهم : نعم. يقال لهم : وكذلك إبليس قد ضرّهم بدعائه إياهم إلى الكفر ، فلا بدّ من نعم وإلّا لزمهم أن لا يكون إبليس وسوس إلى أحد بمعصيته ولا يجب أن يذمّ على شيء من أفعاله ، وردّوا أيضا مع ذلك كتاب الله ؛ لأنّ الله يقول :

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) (١). ويقال لهم : فأيّما أعظم المضرّة التي فعلها الله تعالى بالكافر من خلق الكفر فيه أو المضرّة التي فعلها إبليس من دعائه إيّاهم إلى الكفر؟ فإن قالوا : المضرّة التي فعلها بهم إبليس من دعائه إيّاهم إلى الكفر أعظم. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون منفعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين أعظم بدعائه إيّاهم إلى الإيمان.

فإن قالوا : إنّ المضرّة التي خلقها الله فيهم أعظم. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون مضرّة الله للكافرين في خلق الكفر فيهم أعظم من مضرّة إبليس بدعائه إيّاهم إلى الكفر.

فإن قالوا ذلك قيل لهم : فقد وجب عليكم أنّ إلهكم أضرّ على الكافرين من إبليس. فإذا قالوا : إنّه أضرّ عليهم من إبليس. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون شرّا عليهم من إبليس كما كان أضرّ عليهم من إبليس كما قلتم : إنّ الله أنفع المؤمنين من النبي وخير لهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإن قالوا : إن إلههم شرّ من إبليس فقد خرجوا من دين أهل القبلة ، وإن أبوا ذلك لم يجدوا منه مخرجا مع التمسّك بقولهم.

ويقال لهم : أتقولون : إنّ الله قد ضرّ الكفّار في دينهم؟ فمن قولهم : نعم.

فيقال لهم : فما أنكرتم أن يغرّهم في دينهم كما أنّه ضرّهم في دينهم. فإن قالوا : إنّ الله لا يغرّ العباد في أديانهم. قيل لهم : والله لا يضرّهم في إيمانهم.

وإن قالوا : إنّ الله يغرّهم في أديانهم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يموّه عليهم

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٦٨.

٣٧١

ويخدعهم عن أديانهم؟ فإن قالوا بذلك شتموا الله أعظم الشتيمة. وإن قالوا : إن الله لا يخدع أحدا عن دينه ولا يغرّ أحدا عن دينه. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجوز أن يضرّه في دينه ؛ وكلّما اعتلوا بعلّة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أتقولون : إنّ الله ضرّ النصراني في دينه إذ جعله نصرانيا وخلق فيه الكفر ، وكذلك اليهودي؟ فإن قالوا : نعم ـ وهو قولهم ـ فيقال لهم : فما أنكرتم أن يفسده في دينه فيكون مفسدا لعباده في أديانهم. فان قالوا : إنّه مفسد لهم في أديانهم. قيل لهم : أفيجب عليهم شكره وهو في قولهم مفسد لهم؟ فإن قالوا : لا يجب أن يشكر صحّ كفرهم ، وإن قالوا : إنّه يجب أن يشكر. قيل لهم : على ماذا يشكر؟ فإن قالوا : على الكفر فقد افتضحوا وبان خزيهم. وإن قالوا : إنّه يشكر على ما خلق فيهم من الصحّة والسلامة. قيل لهم : أو ليس هذه الامور عندكم قد فعلها مضرّة عليهم في دينهم ليكفروا ويصيروا إلى النار ، فكيف يكون ما به هلاكهم نعمة عليهم؟! فإذا جاز ذلك يكون من أطعمني خبيصا مسموما ليقتلني به منعما عليّ ومحسنا إلى فإن قالوا : لا يكون محسنا إلى الكافر بهذه الامور إذ إنّما فعلها فيهم ليكفروا ويصيروا إلى النار ، فلا بدّ لهم أن لا يروا الشكر لله على العباد واجبا ، فيخرجوا من دين أهل القبلة.

ويقال لهم : أليس الله بفعله للصواب مصيبا؟ فمن قولهم : نعم يقال لهم : فإذا زعمتم أنّه قد جعل الخطأ فما أنكرتم أن يكون مخطئا؟ فإن قالوا : إنّه مخطيء ، بان كفرهم ، وإن قالوا : لا يكون بفعله للخطأ مخطئا. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون بفعله للصواب مصيبا كما لم يكن بفعله للخطأ مخطئا؟ وكلّما اعتلوا بعلّة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله «عزوجل» مصلحا للمؤمنين بما خلق فيهم من الصلاح؟ فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون مفسدا للكافرين بما خلق فيهم من الكفر والفساد؟ فإن قالوا بذلك. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون ظالما بما خلق فيهم من الظلم؟ فإن أبوا ذلك يسألوا الفصل بينهما ولن يجدوه ، وإن قالوا : إنّه ظالم ، فقد وضح شتمهم الله تعالى.

٣٧٢

ويقال لهم : أتقولون إنّ الله مصيب عادل في جميع ما خلق؟ فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون جميع ما خلق صوابا وعدلا إن كان عادلا مصيبا في خلقه. فإن قالوا : إنّ جميع ما خلق عدل وصواب. قيل لهم : أفليس من قولكم إنّ الظلم والكفر والخطأ عدل وصواب. فإن قالوا : إنّ ذلك عدل وصواب. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون ذلك حقّا وصلاحا.

فإن قالوا : بذلك فقد وضح فساد قولهم ولزمهم أن يكون الكافر عادلا بفعله الكفر وأن يكون مصيبا محقّا مصلحا أكان فعله عدلا وصوابا وحقّا وصلاحا.

فإن أبوا أن يكون الكفر صلاحا وصوابا وحقّا وعدلا قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون بفعله الجور عادلا ، ولا بفعله الخطأ مصيبا ولا بفعله الفساد مصلحا إذا ، فإن قالوا بذلك ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون الخطأ والجور من فعله إذ كان مصيبا عادلا في جميع فعله. فإن قالوا بذلك ، تركوا قولهم وصاروا إلى قول أهل الحقّ : إن الله لا يفعل خطأ ولا جورا ولا باطلا ولا فسادا.

ويقال لهم : أتقولون إنّ الله يفعل الظلم ولا يكون ظالما؟ فمن قولهم : نعم. يقال لهم : فما الفرق بينكم وبين من قال : إنّه ظالم وإنّه لم يفعل ظلما؟ وإن قالوا : إنّه لا يجوز أن يكون ظالما إلّا من فعل ظلما ، قيل لهم : وكذلك لا يجوز أن يكون للظلم فاعلا ولا يكون ظالما ، بل يجب أن يكون من كان للظلم فاعلا أن يكون ظالما.

ويقال لهم : أليس من قولكم إنّ الله خلق الكفر في الكافرين ثمّ عذّبهم عليه؟ فإذا قالوا : نعم. يقال لهم : فما أنكرتم أن يضطرّهم إلى الكفر ثمّ يعذّبهم عليه؟ فإن قالوا : لو اضطرّهم إلى الكفر لم يكونوا مأمورين ولا منهيين ؛ لأنّه لا يجوز أن يؤمروا ولا ينهوا بما اضطرّهم إليه. قيل لهم : ولو كان الكفر قد خلق فيهم لم يكونوا مأمورين ولا منهيين ؛ لأنّه لا يجوز أن يؤمروا وينهوا بما خلق الله فيهم ، وكلّما اعتلوا بعلّة عورضوا بمثلها.

وإن قالوا : إنّ الله اضطرّهم إلى الكفر. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون قد

٣٧٣

حملهم عليه وأجبرهم عليه وأكرههم. فإن قالوا بذلك فقد صاروا إلى قول جهم : إنّه لا فعل للعباد وإنّما هم كالحجارة تقلب وإن لم تفعل شيئا [و] كالأبواب تفتح وتغلق وإن لم تفعل شيئا ، ولزمهم ما لزم جهما.

فإن صاروا إلى قول جهم ، قيل لهم : إذا جاز عندكم أن يعذّب الله العباد على ما لم يكن منهم بل يعذّبهم على ما اضطرّهم إليه وحملهم عليه فما أنكرتم أن يعذّبهم على ألوانهم وصورهم وطولهم وقصرهم.

فإن قالوا بذلك ، قيل لهم : فلم لا يجوز أن يعذّبهم من خلقهم وخلق السماوات والأرض. فإن قالوا بذلك سقطت مؤنتهم ولم يؤمنوا لعلّ الله سيعذّب قوما على ما ذكرنا ، وإن قالوا : لا يجوز أن يعذّبهم على ما ذكرتم ، قيل لهم : فما أنكرتم أن يجوز أن يعذّبهم على ما اضطرّهم إليه وأجبرهم عليه.

ويقال لهم إن صاروا إلى قول جهم : إذا زعمتم أن لا فاعل إلّا الله فما أنكرتم أن يكون لا قائل إلّا الله؟ فإن قالوا بذلك : قيل لهم فما أنكرتم أن يكون هو القائل إنّي ثالث ثلاثة ، وأن لي ولدا ، وهو الكاذب بقول الكاذب ، ولزمهم أن يكون جميع أخباره كذبا ، وإن قالوا : لا يجب أن يكون لا قائل إلّا الله ؛ لأنّ هذا يوجب أنّه ظالم عابث إذ لم يفعل الظلم والعبث غيره.

وإن امتنع القوم من أن يقولوا : إنّه اضطرّهم إلى الكفر ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون قد خلق فيهم الكفر كما لم يضطرّهم إليه ويحملهم عليه.

ويقال لهم : أليس الله تعالى خلق الكفر والإيمان ، وأمر بالإيمان ونهى عن الكفر ، وأثاب على الإيمان وعاقب على الكفر؟ فإذا قالوا : نعم ، قيل لهم فقد أمر الله تعالى العباد أن يفعلوا خلقه ونهاهم وغضب من خلقه ؛ لأنّ الله تعالى غضب من الكفر وسخط وهو خلقه. فإن قالوا بذلك قيل لهم : فلم لا يجوز أن يغضب من كلّ خلقه كما غضب من بعض خلقه ، ولم لا يجوز أن يأمر وينهى العباد ويثيبهم ويعاقبهم على السواد والبياض والطول والقصر ، كما أمرهم بخلقه ونهاهم عن خلقه وأثابهم وعاقبهم على خلقه.

٣٧٤

ويقال لهم : أليس الله تعالى قد فعل الظلم وليس بظالم؟ فمن قولهم : نعم ، يقال لهم : فما أنكرتم أن يخبر بالكذب ولا يكون كاذبا؟ فإن قالوا بذلك لم يؤمنوا أنّ جميع أخباره عن الغيب والحساب والجنّة والنار كذب وإن لم يكن كاذبا ، وإن قالوا : لا يجوز أن يخبر بالكذب إلّا كاذب ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يفعل الظلم إلّا ظالم.

فإن قالوا : لا يجب أن يكون الله ظالما ؛ لأنّه إنّما فعل ظلم العباد ، قيل : فما أنكرتم أن لا يكون كاذبا ؛ لأنّه إنّما قال كذبا للعباد ، ولم يجدوا ممّا سألناهم عنه مخلصا.

ويقال لهم : أليس الله تعالى قد فعل عندكم شتم نفسه ولعن أنبيائه؟ فإن قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون شاتما لنفسه لاعنا لأنبيائه ، فإن قالوا : إنّه شاتم لنفسه لاعن لأنبيائه ، فقد سقطت مؤنتهم وخرجوا عن دين أهل القبلة ؛ وإن قالوا : إنّ الله لا يجوز أن يشتم نفسه ويلعن أنبياءه ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجوز أن يفعل شتم نفسه ولا لعن أنبيائه. وكلّما اعتلوا بعلّة عورضوا بمثلها.

فصل

التنديد بالقائلين بخلق الأفعال

قد كان الأولى أن لا ندلّ على مثل هذه المسألة ـ أعني أن أفعال العباد فعلهم وخلقهم ـ لأنّ المنكر لذلك ينكر المحسوسات التي قد تبيّن صحّتها ، ولولا ما رجوته من زوال شبهة ، ومن وضوح حجّة تحصل لقاريء كتابي هذا لما كان هذا الباب ممّا ينتشر فيه القول.

ولا أعجب ممّن ينفي فعله مع علمه بأنّه يقع بحسب اختياره ودواعيه ومقاصده ، نعوذ بالله من الجهل ، فأنّه إذا استولى وغمر طبّق وعمّ ، وقد قال الرسول الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حبّك الشيء يعمي ويصم.

٣٧٥

وقد قال الله سبحانه في قوم عرفوا ثمّ عاندوا : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)) (١).

فصل

تنزيهه تعالى عن القضاء بغير الحق

فإن قال منهم قائل : ماذا نفيتم أن يكون الله فاعلا لأفعالكم ، أفتقولون : إنّه قضى أعمالكم؟

قيل له : إن الله تعالى قضى الطاعة إذ أمر بها ولم يقض الكفر والفجور والفسوق.

فإن قال : فما الدليل على ما قلتم؟

قيل له : من الدليل على ذلك قول الخالق الصادق «عزوجل» : (لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٢) فعلمنا أنّه يقضي بالحقّ ولا يقضي بالباطل ؛ لأنّه لو جاز أن يتمدّح بأنّه يقضي بالحقّ وهو يقضي غير الحقّ ويقضي بالباطل لجاز أن يقول : والله يقول الحقّ وهو يقول غير الحقّ ، فلمّا كان قوله والله يقول الحقّ دليلا على أنّه لا يقول غير الحقّ كان قوله يقضي الحقّ دليلا على أنّه لا يقضي غير الحقّ.

ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) (٣) ، فعلمنا أنّه يقضي بالحقّ ولا يقضي بالجور.

ويدلّ على ذلك أيضا قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٤) ، فعلمنا أنّه لم يقض عبادة الأصنام والأوثان ولا عقوق الوالدين.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ١٤.

(٢) انتقت النسخ على هذا ، والاية في سورة الانعام ٥٧ هكذا : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ).

(٣) سورة غافر ، الآية : ٢٠.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ٢٣.

٣٧٦

وممّا يبيّن ذلك أيضا أنّ الله أوجب علينا أن نرضى بقضائه ولا نسخطه ، وأوجب علينا أن نسخط الكفر ولا نرضاه ، فعلمنا أنّ الكفر ليس من قضاء ربّنا.

وممّا يبيّن ذلك أنّ الله تعالى أوجب علينا أن ننكر المنكر وأن نمنع الظلم ، فلو كان الظلم من قضاء ربّنا كان أوجب علينا أن ننكر قضاءه وقدره ، فلمّا لم يجز أن يوجب الله تعالى إنكار قضائه ولا ردّ قدره ، علمنا أنّ الظلم ليس من قضائه ولا قدره.

وأيضا قال الله تعالى في كتابه : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (١) وقال : (يَقْضِي بِالْحَقِ) (٢) فعلمنا أنّ ما كان بغير الحقّ غير ما قضي بالحقّ ، فلو كان قتل الانبياء من قضاء الله كان حقّا ، وكان يجب علينا الرضا به ، لأنّه يجب علينا الرضا بقضاء الله ، وقد أمر الله تعالى أن لا يرضى بغير الحقّ ولا يرضى بقتل الأنبياء ، فعلمنا أنّ قتلهم ليس بقضاء ربّنا ولا من فعل خالقنا.

وممّا يبين أنّ الله تعالى لم يقدّر الكفر قوله تعالى في كتابه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) (٣) ولم يقل : إنّه قدّر الضلال على خلقه ، ولا قدّر الشقاء على خلقه ؛ لأنّه لا يجوز أن يتمدّح بأنّه قدّر الضلال عن الحقّ ، وكلّ ضلال عن الحقّ فمن تقديره ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

فصل

معنى خلق الأشياء كلها

فإن قيل : فما معنى قول الله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٤) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٥)؟

قيل له : إنّما أراد به خلق السماوات والارض والليل والنهار والجنّ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٦١.

(٢) سورة غافر ، الآية : ٢٠.

(٣) سورة الأعلى ، الآيات : ١ ـ ٣.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٠٢.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١٠١.

٣٧٧

والانس وما أشبه ذلك ولم يرد أنّه خلق الكفر والظلم والكذب ، إذ لم يجز أن يكون ظالما ولا كاذبا «عزوجل» وقد بيّن الله لنا صنعه فقال : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) فلمّا لم يكن الكفر بمتقن ولا بمحكم ولا بحقّ ولا بعدل علمنا أنّه ليس من صنعه ؛ لأنّه متفاوت متناقض ، وقد قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢) فأخبر أنّ الاختلاف لا يكون من عنده ، وقال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٣) والكفر متفاوت فاسد متناقض ، فثبت أنّه ليس من خلقه وأنّه عمل الكافرين.

فإن قال : فلم زعمتم أنّ قوله : (كُلِّ شَيْءٍ) قد خرج منه بعض الاشياء؟ قيل له : قد قال الله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (٤) ولم يخلقها ، والإيمان الذي أمر الله به فرعون والكافرين لم يخلقه ، فثبت أنّ الأشياء أطلق في بعض دون بعض ، وقد قال الله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (٥) ولم تؤت من ملك سليمان شيئا ، وإنّما أراد ممّا اوتيته هي دون ما لم تؤته.

وقال تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٦) وقد علمنا أنّه لم تجب إليه ثمرات الشرق والغرب ، وإنّما أراد ممّا يجبى إليه وكذلك قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٧) ممّا خلقه تعالى.

وقال تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (٨) وإنّما أراد ما فتح عليهم.

وقال تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٩) ولم يرد تبيان عدد النجوم وعدد الانس والجنّ ، وإنّما أراد تبيان كلّ شيء ممّا بالخلق إليه حاجة في دينهم.

وقال تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) (١٠) ولم يرد أنّها تدمّر هودا والذين معه ، وإنّما أراد تدمّر من أرسلت لتدميره.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة الملك ، الآية : ٣.

(٤) سورة الحج ، الآية : ١.

(٥) سورة النمل ، الآية : ٢٣.

(٦) سورة القصص ، الآية : ٥٧.

(٧) سورة الأنعام ، الآية : ١٠٢.

(٨) سورة الأنعام ، الآية : ٤٤.

(٩) سورة النحل ، الآية : ٨٩.

(١٠) سورة الأحقاف ، الآية : ٢٥.

٣٧٨

وقال : (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) ولم ينطق الحجارة والحركة والسكون.

وما أشبه ما ذكرناه كثير ، كذلك أيضا قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢) أراد الأزواج والأولاد والأجسام ؛ لأنّ هذا ردّ على النصارى ولم يرد الفجور والفسوق.

وما ذكرناه في اللغة مشهور ، قال لبيد بن ربيعة (٣) :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل

ولم يرد أنّ الحقّ باطل ، ولا أنّ شعره هذا الذي قاله باطل ، وقد قال كلّ شيء وإنّما أراد بعض الاشياء ، ويقول القائل : «دخلنا المشرق فاشترينا كلّ شيء ورأينا كلّ شيء حسن» ، وإنّما أراد كلّ شيء ممّا اشتروا ، وكلّ شيء ممّا رأوا ، وكذا : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ممّا خلقه لا ممّا فعله عباده ؛ لأنّه لا يجوز أن يفعل العباد خلق ربّ العالمين.

ويقال لهم : إن كان يجب أن تكون أعمال العباد خلق الله لقول الله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٤) ، فيجب أن يكون كلّ خلقه حسنا لقوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٥) فيجب أن يكون الشرك حسنا ، وكذلك الظلم والكذب والفجور والفسوق ؛ لأنّ ذلك عندهم خلق الله تعالى.

فإن قالوا : إنّ قوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) إنّما أراد بعض الاشياء.

قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إنّما وقع على كلّ شيء خلقه دون ما لم يخلقه ممّا يقدر عليه ويعلم أنّه لا يفعله وممّا يفعله عباده من الطاعة والمعصية.

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٢١.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١٠١.

(٣) لبيد بن ربيعة العامرى الشاعر ، قدم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة وفد قومه فأسلم وحسن اسلامه ، وترك الشعر منذ اسلامه حتى موته ، وعمر طويلا ومات وهو ابن مائة واربعين سنة ، وقيل انه مات وهو ابن سبع وخمسين ومائة سنة ، وكانت وفاته سنة ٤١ ه‍ على اشهر الاقوال (استيعاب : ٣ / ١٣٣٥).

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٠٢.

(٥) سورة السجدة ، الآية : ٧.

٣٧٩

فإن قال قائل : فما معنى قول الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟) (١).

قيل له : إنّما خبّر الله عن إبراهيم أنّه حاجّ قومه فقال لهم : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) (٢) يقول نحتم خشبا ثمّ عبدتموه ، على وجه التوبيخ ، ثمّ قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يقول خلقكم وخلق الخشب الذي عملتموه صنما ، فسمّى الصنم الذي عملوه عملا لهم وإن كان الذي حلّ فيه من التصوير عملهم.

ولما ذكرناه نظائر من القرآن واللغة : فأمّا القرآن فقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٣) وإنّا عملهم حلّ في هذه الامور ، فأمّا الحجارة فهي خلق الله لا فاعل لها غيره.

ومن ذلك أيضا قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) (٤) فالخشب خلق الله والعباد نجروه وعملوه فلكا وسفنا.

ومن ذلك أيضا قوله : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) (٥) فالحديد خلق الله ولكن العباد عملوه دروعا ، فعمل داود عليه‌السلام حلّ في الحديد والحديد خلق الله.

وقال في الحيّة : (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) (٦) وإنّما يريد أنّها تلقف الحبال والعصي التي فيها صنعهم ، فكذلك قال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) خلق الخشب الذي يعملون منه صنما ، لا أنّ العباد عملوا خلق الله ، ولا ان الله خلق أعمالهم.

وقد يقول القائل : فلان يعمل الطين لبنا ، ويعمل الحديد أقفالا ، ويعمل الخوص زبلا ، كذلك أيضا عملوا الخشب أصناما ، فجاز أن يقال : إنّها عمل لهم ، كما قيل : إنّهم يعملون الخوص والطين والحديد.

ثمّ إنّا نردّ هذا الكلام عليهم فنقول لهم : إذا زعمتم أنّ كفرهم خلقهم ،

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٩٦.

(٢) سورة الصافات ، الآيتان : ٩٥ ، ٩٦.

(٣) سورة سبأ ، الآية : ١٣.

(٤) سورة هود ، الآية : ٣٧.

(٥) سورة سبأ ، الآية : ١١.

(٦) سورة طه ، الآية : ٦٩.

٣٨٠