تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

الاجماع المتردّد قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) والطلاق لا يقع إلّا في النكاح الصحيح ، فلو لم يكن النكاح صحيحا مع فقد ذكر المهر لكان الطلاق باطلا ، ولا فرق في عدم ذكر المهربين السكوت عنه وبين أن يشرط ألّا مهر.

والذي يدلّ على وجوب المتعة قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). وفي آية أخرى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً).

وظاهر الأمر يقتضي الوجوب (١).

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٧].

اعلم أنّ من المتكلّمين في أصول الفقه من ذهب إلى أنّ الشرط إذا تعقّب عموما ، وكان الشرط يتعلّق ببعض ذلك العموم ، فإنّه غير واجب أن يحمل العموم على أن المراد به بعض ما تناوله لفظه ، بل يحمل على ظاهر عمومه ، وضربوا لذلك مثلا ، من قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إلى قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ومعلوم أنّ العفو لا يصحّ من كلّ مطلّقة ، وإنّما يصحّ من البالغات الكاملات ، وهنّ بعض من تقدّم ذكره ، ومع هذا ، القول الأوّل على عمومه وذكروا مثالا آخر ، وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٢) فإنّه عامّ في جميع المطلّقات ، وإن تعقّبه ما يقتضي الاختصاص ، من قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (٣) وذلك لا يتأتّى إلّا في الرجعيّة.

__________________

(١) الناصريات : ٣٣٤.

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ١.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ٢.

٥٤١

والّذي نقوله في هذا الباب : أنّ الشرط الخاصّ إذا تعقّب عموما فجائز أن يتعلّق ببعض ما تناوله العموم ، ويكون اللّفظ الأوّل على عمومه ، وجائز أن يكون المخاطب بالعموم إنّما أراد به بعض ما تناوله اللفظ ، وهو الّذي تعلّق الشرط به ، ومع الاحتمال للأمرين لا بدّ من دليل يعلم به أيّهما وقع.

والّذي يبيّن ما ذكرناه أنّ القائل إذا قال : «اضرب الرّجال إلّا من افتدى ضربك له بماله» وإن شئت : «اضرب الرجال إن لم يفتدوا ضربك بمالهم» حتّى يكون قد أثبت بحرف الشرط وإن كان المثال الأوّل فيه معنى الشرط ، وهذا شرط خاصّ لا يليق بجميع الرجال ؛ لأنّ لفظ الرجال يدخل فيه الحرّ والعبد ، والعبد لا يملك ، فالشرط الّذي تعقّب الكلام مخصوص لا يتعلّق إلّا بالأحرار ولا يجب أن يقطع على أن المخاطب بذلك أراد بقوله «الرجال» الأحرار والعبيد ، وإن خصّ بالشرط الأحرار ، كما لا يجب أن يقطع على أنّه أراد باللّفظ الأوّل الأحرار ، دون العبيد ، بل ذلك موقوف على الدلالة ، ومع فقدها لا يجب القطع على أحد الأمرين.

يوضح ما ذكرناه أنّ في كلّ واحد من الأمرين مجازا أو عدولا عن الظاهر ، ألا ترى أنّا إذا حملنا لفظة الرجال على الأحرار دون غيرهم ؛ كان مجازا ، وإذا حملناها على العموم ، وحملنا الشرط على بعض ما دخل تحتها ؛ كان ذلك أيضا مجازا وعدولا عن الظاهر من وجه آخر ؛ لأنّ تقدير الكلام إلّا أن يفتدي بعضهم بماله ضربك ، والظاهر يقتضي أن المفتدي هو المأمور بأن تضربه.

والكلام في الآية يجري على مثل ذلك ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) متى حملنا الشرط على بعض المطلّقات ، صار تقدير الكلام إلّا أن يعفو بعضهنّ ، وظاهر الكلام يقتضي أنّ العفو يقع من جميع المطلّقات ، فبان أنّ القول محتمل للأمرين ، وما في كلّ واحد منهما إلّا ضرب من المجاز والعدول عن الظاهر.

فان قيل : فانّ الأمّة كلّها إنّما عملت في كلّ مطلّقة طلّقت قبل الدخول بها

٥٤٢

بأنّ لها نصف المهر من هذه الآية ، فهي عامّة في المطلّقات ، وإن اختصّ الشرط.

قلنا : إن كانت الأمّة قد أجمعت على ذلك ، فاجماعها دليل يثبت به أحد المحتملين ، وقد قلنا : إنّ الخطاب محتمل للأمرين معا.

على أنّ الأمّة إنّما أجمعت في كلّ مطلّقة طلّقت قبل الدخول بأنّ لها نصف المهر ، وإجماعها على هذا الحكم حجّة ، وإن لم يكن مستفادا من عموم الآية ، فمن أين رجوعهم في عموم هذا الحكم إلى عموم لفظ الآية؟

فأمّا المثال الثاني من قوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)، وأنّه عامّ في المطلّقات كلّهنّ ، وان اختصّ الشرط الّذي هو قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فإنّه لا يليق إلّا بالرجعيّة ، فالكلام في هذه الآية كالكلام في الّتي قبلها ، فلا معنى لإعادته.

وذهب من أشرنا إليه أيضا إلى أنّ الجملتين إذا عطف إحديهما على الأخرى ؛ فخصوص إحديهما لا يقتضي خصوص الأخرى ، مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (١) فالجملة الثانية خاصّة ؛ لأنّها لا تليق إلّا بالرجعية ، والأولى عامّة في كلّ مطلّقة ، والشبهة في ذلك أنّ كلّ جملة لها حكم نفسها ، ولا يتعدّى إليها التخصيص من غيرها.

والصحيح أن يجري الكلام في هذه الآية مجرى ما تقدّم ، ونقول : إنّ قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) يحتمل أن يريد به الرجعيّات ، ليطابق الجملة الثانية ، ويحتمل أن يريد به العموم ، ويكون تقدير الكلام وبعولة بعضهنّ أحقّ بردّهنّ ؛ لأنّ في كلا الأمرين وجها من المجاز والعدول عن الظاهر ، فلا بدّمن دليل يقتضي القطع على أحد الأمرين. وإنّما كان يترجّح حمل الأوّل على عمومه لو لم يكن في الثاني تجوّز وعدول عن الظاهر ، فلا بدّ من دليل يقتضي

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٨.

٥٤٣

القطع على أحد الأمرين. ويكون لكلّ جملة حكم نفسها إذا لم يتعلّق كلّ واحدة بالأخرى هذا التعلّق ، مثل أن يقول القائل : «ضربت القوم ، وأكرمت العلماء» فأمّا إذا قال بعد ذكر المطلّقات : (وَبُعُولَتُهُنَ) فالظاهر يقتضي أنّ الكناية عائدة إلى كلّ من تقدّم ذكره ، والصفة تكشف عمّا قلناه ، فإنّ القائل إذا قال : «اضرب الرجال السودان» فهذه الصفة تعود إلى جميع الرجال ، ولا يجوز أن يحمل محصّل الصفة بالسودان على أنّها لبعض الرجال المضروبين ، وأنّ لفظ الرجال على عمومه ؛ لأنّه لا فرق بين أن يقول : «اضرب الرجال السودان» وبين أن يقول : «اضرب سودان الرجال» فمتى حمل هذا اللّفظ على أنّ المراد به اضرب الرجال الذين السودان بعضهم وجعل لفظ الرجال عامّا ؛ فذلك جار مجرى أن يحمل قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) على أنّ المراد به إلّا أن يعفو بعضهنّ في أنّه عدول عن الظاهر ، وإن كان في الصفة أقبح وأفحش ، فأمّا الاستثناء فتعليقه ببعض ما تناوله العموم الصحيح أنّه جائز لا يقتضى تخصيص العموم ، والقضاء بأنّه ما أريد به إلّا الجنس الّذي تناول الاستثناء بعضه ؛ لأنّ القائل إذا قال : «اضرب الرجال إلّا فلانا الأسود» فلفظ الرجال عامّ في البيضان والسودان ، وإن كان الاستثناء خاصّا ، وإنّما الإشكال هو في الشرط والصفة ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وبسطناه (١).

ـ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨].

وممّا ظنّ انفراد الإمامية به القول بأنّ القنوت في كلّ صلاة والدعاء فيه بما أحبّ الداعي مستحب وهو قول الشافعي ؛ لأنّ الطحاوي حكى عنه في كتاب الاختلاف أنّ له أن يقنت في الصلوات كلّها عند حاجة المسلمين إلى الدعاء (٢) ، والحجّة لنا مضافا إلى الاجماع قوله جلّ ثناؤه : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فإذا قيل : القنوت هاهنا هو القيام الطويل ، قلنا : المعروف في الشريعة أنّ هذا الاسم يختصّ بالدعاء ، ولا يعرف من إطلاقه سواه ، وبعد فانّا نحمله على الأمرين (٣).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٢٩٨.

(٢) المحلّى ، ٤ : ١٤٥ و ١٤٦.

(٣) الانتصار : ٤٦ وراجع أيضا الناصريات : ٢٣٠.

٥٤٤

ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) [البقرة : ٢٣٩].

أنظر المقدّمة الرابعة ، الأمر الثالث عشر.

ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٤٥].

أنظر البقرة : ٢١٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٦.

ـ (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧].

أقول : استدلّ السيّد بهذه الآية على أن القوّة في الجسم فضل (١).

ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٣].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥].

[فيها أمران :

الأوّل :] إذا كان الحيّ من لا يتعذر كونه عالما قادرا ، أو من لا يصحّ أن يكون عالما قادرا إلّا هو ، وعلمنا أنه تعالى على هذه الحال ، فواجب أن نصفه بأنه حيّ لحصول المعنى فيه.

ونصفه تعالى بأنه راء ومدرك وسامع ومبصر ؛ لأن ذلك كلّه واجب عن كونه حيّا ، وإنّما نصفه بذلك عند وجود المدركات ؛ لأن الوجود شرط في تعلّق الإدراك ، ولا نصفه بذلك كلّه فيما لم يزل ؛ لأنه يقتضي وجود المدرك.

ونصفه تعالى بأنه «سميع بصير فيما لم يزل» ؛ لأن فائدة ذلك أنه على حال يجب معها أن يدرك المسموعات والمبصرات إذا وجدت ، وليس له تعالى بكونه سميعا بصيرا صفة زائدة على كونه حيّا ، وقد بينا ذلك فيما مضى من الكتاب.

ولا يوصف تعالى بأنه «ناظر» ؛ لأن معنى هذه اللفظة تقليب الحدقة في جهة

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ١٤٣.

٥٤٥

المرئي طلبا لرؤيته. وان وصفناه تعالى بأنه ناظر أي راحم إذا قيّدناه.

ولا يوصف تعالى بأنه «شامّ» و «ذائق» ؛ لأنا قد بيّنا في صدر هذا الكتاب أن ذلك ليس بعبارة عن الإدراك وإنّما هو عبارة عن تقريب الجسم إلى الحاسة ، وأنهم يقولون : شمته فلم أجد له ريحا ، وذقته فلم أجد له طعما (١).

[الثاني :] ويوصف تعالى بأنه «عليّ» و «عال» و «متعال» ، ويراد بذلك أنه قاهر للأشياء قادر عليها ، كما قال الله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٢) ، أراد تعالى غلّب بعضهم بعضا وقهره ، وقال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٣) أي قهر أهلها.

وقد قيل : إن معنى ذلك التنزّه عن القبائح نحو قوله تعالى : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤) (٥).

ـ (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧].

[إن سأل سائل] فقال : أليس ظاهر هذه الآية يقتضى أنّه هو الفاعل للإيمان فيهم؟ لأنّ النور هاهنا كناية عن الإيمان والطاعات ، والظلمة كناية عن الكفر والمعاصي ، ولا معنى لذلك غير ما ذكرناه. وإذا كان مضيفا للإخراج إليه فهو الفاعل لما كانوا به خارجين ، وهذا خلاف مذهبكم.

الجواب : قلنا : أمّا النور والظلمة المذكوران في الآية فجائز أن يكون المراد بهما الإيمان والكفر ، وجائز أيضا أن يراد بهما الجنّة والنار ، والثواب والعقاب فقد تصحّ الكناية عن الثواب والنعيم في الجنّة بأنّه نور ، وعن العقاب في النار بأنّه ظلمة ، فإذا كان المراد بهما الجنّة والنار ساغت إضافة إخراجهم من الظلمات إلى النور إليه تعالى ؛ لأنّه لا شبهة في أنّه جلّ وعزّ هو المدخل للمؤمن الجنّة ، والعادل به عن طريق النار. والظاهر بما ذكرناه أشبه ؛ لأنّه يقتضى أنّ

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٥.

(٢) سورة المؤمنون ، الآية : ٩١.

(٣) سورة القصص ، الآية : ٤.

(٤) سورة يونس ، الآية : ١٨.

(٥) الذخيرة : ٥٨١.

٥٤٦

المؤمن الذي ثبت كونه مؤمنا يخرج من الظلمة إلى النور ؛ ولو حمل على الإيمان والكفر لتناقض المعنى ، ولصار تقدير الكلام : أنّه يخرج المؤمن الذي قد تقدّم كونه مؤمنا من الكفر إلى الإيمان ؛ وذلك لا يصحّ.

وإذا كان الكلام يقتضي الاستقبال في إخراج من ثبت كونه مؤمنا كان حمله على دخول الجنة والعدول به عن طريق النار أشبه بالظاهر.

على أنّا لو حملنا الكلام على الإيمان والكفر لصحّ ، ولم يكن مقتضيا لما توهّموه ، ويكون وجه إضافة الإخراج إليه تعالى ـ وإن لم يكن الإيمان من فعله ـ من حيث دلّ وبيّن وأرشد ولطّف وسهّل ؛ وقد علمنا أنه لولا هذه الأمور لم يخرج المكلّف من الكفر إلى الإيمان ، فيصحّ إضافة الإخراج إليه تعالى لكون ما عددناه من جهته. وعلى هذا يصحّ من أحدنا إذا أشار على غيره بدخول بلد من البلدان ورغّبه في ذلك ، وعرّفه ما فيه من الصلاح ، أو بمجانبة فعل من الأفعال أن يقول : أنا أدخلت فلانا البلد الفلانيّ ، وأنا أخرجته من كذا وأنتشته منه ؛ ويكون وجه الإضافة ما ذكرناه من الترغيب ، وتقوية الدواعي.

ألا ترى أنّه تعالى قد أضاف إخراجهم من النور إلى الظلمات ، إلى الطواغيت ، وإن لم يدلّ ذلك على أنّ الطاغوت هو الفاعل للكفر في الكفّار ؛ بل وجه الإضافة ما تقدّم ؛ لأنّ الشياطين يغوون ويدعون إلى الكفر ، ويزيّنون فعله ، فتصحّ إضافته إليهم من هذا الوجه ، والطاغوت هو الشيطان وحزبه ، وكلّ عدو لله تعالى صدّ عن طاعته ، وأغرى بمعصيته يصحّ إجراء هذه التّسمية عليه ؛ فكيف اقتضت الإضافة الأولي أنّ الإيمان من فعل الله تعالى في المؤمن ، ولم تقتض الإضافة الثانية أنّ الكفر من فعل الشياطين في الكفّار ؛ لولا بله المخالفين وغفلتهم!.

وبعد ، فلو كان الأمر على ما ظنّوه لما صار الله تعالى وليّا للمؤمنين ، وناصرا لهم على ما اقتضته الآية ، والإيمان من فعله تعالى لا من فعلهم ؛ ولم كان خاذلا للكفّار ومضيفا لولايتهم إلى الطاغوت ، والكفر من فعله تعالى فيهم؟ ولم فصل

٥٤٧

بين الكافر والمؤمن في باب الولاية ، وهو المتولّي لفعل الأمرين فيهما؟ ومثل هذا لا يذهب على أحد ، ولا يعرض عنه إلّا معاند مغالط لنفسه (١).

ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٢٥٨].

[فان قيل :] هذا يدلّ على إنقطاع إبراهيم عليه‌السلام وعجزه عن نصرة دليله الأول ولهذا انتقل إلى حجة أخرى ، وليس ينتقل المحتجّ من شيء إلى غيره إلّا على وجه القصور عن نصرته.

الجواب : قلنا ليس هذا بانقطاع من إبراهيم عليه‌السلام ولا عجز عن نصرة حجّته الأولى ، وقد كان إبراهيم عليه‌السلام قادرا لمّا قال له الجبّار الكافر : أنا أحيي وأميت في جواب قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، ويقال : إنّه دعا رجلين فقتل أحدهما واستحى الآخر ، فقال عند ذلك : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). وموّه بذلك على من بحضرته على أن يقول له : ما أردت بقولي : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ما ظننته من استبقاء حيّ ، وإنّما أردت به انّه يحيي الميت الّذي لا حياة فيه إلّا أنّ إبراهيم عليه‌السلام علم أنّه إن أورد ذلك عليه التبس الأمر على الحاضرين وقويت الشبهة ؛ لأجل اشتراك الاسم ، فعدل إلى ما هو أوضح ، وأكشف وأبين وأبعد من الشبهة ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ولم يبق عنده شبهة.

ومن كان قصده البيان والإيضاح فله أن يعدل من طريق إلى آخر لوضوحه وبعده عن الشبهة ، وإن كان كلا الطريقين يفضي إلى الحق ، على انّه بالكلام الثاني ناصر للحجّة الأولى وغير خارج عن سنن نصرتها ؛ لأنّه لمّا قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، فقال له في الجواب : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، فقال له إبراهيم : من شأن هذا الّذي يحيي ويميت أن يقدر على أن يأتي بالشمس من

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ١٤.

٥٤٨

المشرق ويصرفها كيف يشاء. فإن ادّعيت أنت القادر على ما يقدر الربّ عليه فائت بالشمس من المغرب كما يأتي هو بها من المشرق ، فإذا عجزت عن ذلك علمنا أنّك عاجز عن الحياة والموت ومدّع فيهما ما لا أصل له.

فإن قيل : فلو قال له في جواب هذا الكلام : وربّك لا يقدر أن يأتي بالشمس من المغرب ، فكيف تلزمني أن آتي بها من المغرب؟

قلنا : لو قال له ذلك لكان إبراهيم عليه‌السلام يدعو الله أن يأتي بالشمس من المغرب فيجيبه إلى ذلك ، وإن كان معجزا خارقا للعادة. ولعلّ الخصم إنّما عدل عن أن يقول له ذلك علما بأنه إذا سأل الله تعالى فيه أجابه إليه (١).

ـ (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٦٠].

[فان قيل : ما معنى هذه الآية] أو ليس هذا الكلام والطلب من إبراهيم عليه‌السلام يدلّان على أنّه لم يكن موقنا بأنّ الله تعالى يحيي الموتى؟ وكيف يكون نبيا من يشكّ في ذلك؟ أو ليس قد روى المفسّرون أنّ إبراهيم عليه‌السلام مرّ بحوت نصفه في البرّ ونصفه في البحر ، ودوابّ البرّ والبحر تأكل منه ، فأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلّفا ، مع تفرّق أجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البرّ والبحر؟ فشكّ ، فسأل الله تعالى ما تضمّنته الآية ، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم عليه‌السلام.

الجواب : قيل له : ليس في الآية دلالة على شكّ إبراهيم في إحياء الموتى ، وقد يجوز أن يكون عليه‌السلام إنّما سأل الله تعالى ذلك ليعلمه على وجه يبعد عن الشبهة ، ولا يعترض فيه شكّ ولا ارتياب ، وإن كان من قبل قد علمه على وجه للشبهة فيه مجال ، ونحن نعلم أنّ في مشاهدة ما شاهده إبراهيم من كون الطير حيّا ثمّ تفرّقه وتقطّعه وتباين أجزائه ثمّ رجوعه حيّا كما كان في الحال الأولى ،

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٤٨.

٥٤٩

من الوضوح وقوّة العلم ونفي الشبهة ما ليس لغيره من وجوه الاستدلالات ، وللنّبي عليه‌السلام أن يسأل ربّه تخفيف محنته وتسهيل تكليفه.

والّذي يبيّن صحة ما ذكرناه قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.) فقد أجاب إبراهيم بمعنى جوابنا بعينه ، لأنّه بيّن أنّه لم يسأل ذلك لشكّ فيه وفقد إيمان به ، وإنّما أراد الطمأنينة ، وهي ما أشرنا إليه من سكون النفس وإنتفاء الخواطر والوساوس والبعد عن إعتراض الشبهة.

ووجه آخر : وهو أنّه قد قيل : انّ الله تعالى لمّا بشّر إبراهيم عليه‌السلام بخلّته واصطفائه واجتبائه ، سأل الله تعالى أن يريه إحياء الموتى ليطمئنّ قلبه بالخلّة ؛ لأنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يعلمون صحة ما تضمّنه الوحي إلّا بالاستدلال ، فسأل إحياء الموتى لهذا الوجه لا للشكّ في قدرة الله تعالى على ذلك.

ووجه آخر : وهو أن نمرود بن كنعان لمّا قال لإبراهيم عليه‌السلام : إنّك تزعم أنّ ربّك يحيي الموتى ، وأنّه قد قال : أرسلك إليّ لتدعوني إلى عبادته ، فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا ، فإن لم يفعل قتلتك. قال إبراهيم عليه‌السلام :

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فيكون معنى قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على هذا الوجه ، أي لآمن من القتل ويطمئنّ قلبي بزوال الروع والخوف. وهذا الوجه الّذي ذكرناه وإن لم يكن مرويا على هذا الوجه فهو مجوّز ، وإن جاز صلح أن يكون وجها في تأويل الآية مستأنفا متابعا.

ووجه آخر : وهو أنّه يجوز أن يكون إبراهيم إنّما سأل إحياء الموتى لقومه ليزول شكّهم في ذلك وشبهتهم. ويجري مجرى سؤال موسى عليه‌السلام الرؤية لقومه ، ليصدر منه تعالى الجواب على وجه يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالى ، ويكون قوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على هذا الوجه ، معناه أنّ نفسي تسكن إلى زوال شكّهم وشبهتهم ، أو ليطمئنّ قلبي إلى إجابتك إياي فيما أسألك فيه. وكل هذا جائز ، وليس في الظاهر ما يمنع منه ؛ لأنّ قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ما تعلّق في ظاهر الآية بأمر لا يسوغ العدول عنه مع التمسّك بالظاهر ،

٥٥٠

وما تعلّقت هذه الطمأنينة به غير مصرّح بذكره ، قلنا : إنّ تعلقه بكلّ أمر يجوز ان يتعلّق به.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ وهذا اللفظ استقبال ، وعندكم أنّه كان مؤمنا فيما مضى.

قلنا : معنى ذلك أو لم تكن قد آمنت؟ والعرب تأتي بهذا اللفظ ، وإن كان في ظاهره الاستقبال ، وتريد به الماضي ، فيقول أحدهم لصاحبه : أو لم تعاهدني على كذا وكذا ، وتعاقدني على أن لا تفعل كذا وكذا؟ وإنّما يريد الماضي دون المستقبل.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، قلنا : قد اختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ،) فقال قوم : معنى قوله فصرهن : أدنهنّ وأملهنّ.

قال الشاعر في وصف الإبل :

تظلّ معقلات السّوق خرصا

تصور أنوفها ريح الجنوب (١)

أراد انّ ريح الجنوب تميل أنوفها وتعطفها.

وقال الطرمّاح :

عفايف اذيال أوأن يصرّها

هوى والهوى للعاشقين صؤر

ويقول القائل لغيره : صر وجهك إليّ ، أي أقبل به عليّ.

ومن حمل الآية على هذا الوجه لا بدّ أن يقدّر محذوفا في الكلام يدلّ عليه سياق اللفظ ، ويكون تقدير الكلام : خذ أربعة من الطير فأملهنّ إليك ثمّ قطّعهن ثمّ اجعل على كل جبل منهنّ جزءا.

__________________

(١) راجع مجالس ثعلب ١ : ١٠ ، وفيه :

تظلّ معقلات السوق خوصا

تنازع أنفها ريح الجنوب

٥٥١

وقال قوم : إنّ معنى صرهنّ أي قطّعهنّ وفرّقهنّ ، واستشهدوا بقول توبة بن الحميّر :

فلمّا جذبت الحبل لطّت نسوعه

بأطراف عيدان شديد أسورها

فأدنت لي الأسباب حتّى بلغتها

بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

وقال الآخر :

يقولون إنّ الشّام يقتل أهله

فمن لي إن لم آته بخلود

تغرّب آبائي فهلّا صراهم

من الموت إن لم يذهبوا وجدودي

أراد : قطعهم. والأصل صرى يصري صريا ، من قولهم : يأت يصري في حوضه إذا استسقى ثمّ قطع ، والأصل صرى ، فقدّمت اللام وأخّرت العين. هذا قول الكوفيّين ، وأمّا البصريّون فإنّهم يقولون : إنّ صار يصير ، ويصور بمعنى واحد ، أي قطع. ويستشهدون بالأبيات الّتي تقدّمت ، وبقول الخنساء :

«فظلّت الشمّ منها وهي تنصار» (١)

وعلى هذا الوجه لا بدّ في الكلام من تقديم وتأخير ، ويكون التقدير : فخذ أربعة من الطير إليك فصرهنّ أي قطّعهنّ. فإليك من صلة «خذ» ؛ لأنّ التقطيع لا يعدّى بإلى.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) وهل أمره بدعائهنّ وهنّ أحياء أو أموات؟ وعلى كلّ حال فدعاؤهنّ قبيح ؛ لأنّ أمر البهائم الّتي لا تعقل ولا تفهم قبيح. وكذلك أمرهنّ وهنّ أعضاء متفرّقة أظهر في القبح.

قلنا : لم يرد ذلك إلّا حال الحياة دون التفرّق والتمزّق ، فأراد بالدعاء الإشارة إلى تلك الطيور ، فإنّ الانسان قد يشير إلى البهيمة بالمجيء أو الذهاب

__________________

(١) في حاشية اللسان (صور) : في العباب ونسبه إلى الخنساء بنت زهير بن أبي سلمى وروايته فيه :

فلو يلاقى الذى لاقيته حضن

لظلت الشم منه وهى تنصار

ج ٧ : ص ٤٣٨.

٥٥٢

فتفهم عنه. ويجوز أن يسمّي ذلك دعاء إمّا على الحقيقة أو على المجاز. وقد قال أبو جعفر الطبري (١) : إنّ ذلك ليس بأمر ولا دعاء ، ولكنّه عبارة عن تكوين الشيء ووجوده ، كما قال تعالى في الذين مسخهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢) وإنّما أخبر عن تكوينهم كذلك من غير أمر ولا دعاء ، فيكون المعنى على هذا التأويل. ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، فإنّ الله تعالى يؤلّف تلك الأجزاء ويعيد الحياة فيها ، فيأتينك سعيا ، وهذا وجه قريب.

فإن قيل : على الوجه الأوّل كيف يصحّ أن يدعوها وهي أحياء؟ وظاهر الآية يشهد بخلاف ذلك ؛ لأنّه تعالى قال : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً). وقال عقيب هذا الكلام من غير فصل : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً). فدلّ ذلك على انّ الدعاء توجّه إليهن وهنّ أجزاء متفرّقة.

قلنا : ليس الأمر على ما ذكر في السؤال ؛ لأنّ قوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) لا بدّ من تقدير محذوف بعده ، وهو : فإنّ الله يؤلفهن ويحييهن (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً). ولا بدّ لمن حمل الدعاء لهنّ في حال التفرّق وانتفاء الحياة من تقدير محذوف في الكلام عقيب قوله : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ)؛ لأنّا نعلم أنّ تلك الأجزاء والأعضاء لا تأتي عقيب الدعاء بلا فصل ، ولا بدّ من أن يقدّر في الكلام عقيب قوله : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ)، فإنّ الله تعالى يؤلّفهنّ ويحييهنّ فيأتينك سعيا.

فأمّا أبو مسلم الاصفهاني فإنّه فرارا من هذا السؤال حمل الكلام على وجه ظاهر الفساد ؛ لأنّه قال إنّ الله تعالى أمر إبراهيم عليه‌السلام بأن يأخذ أربعة من الطيور ، ويجعل على كل جبل طيرا ، وعبّر بالجزء عن الواحد من الأربعة ، ثمّ أمره بأن يدعوهنّ وهنّ أحياء من غير إماتة تقدّمت ولا تفرّق من الأعضاء ، ويمرّنهنّ على الاستجابة لدعائه ، والمجيء إليه في كل وقت يدعوها فيه. ونبّه

__________________

(١) تفسير الطبرى ٣ / ٤٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٦٥ ؛ وسورة الأعراف ، الآية : ١٦٦.

٥٥٣

ذلك على أنّه تعالى إذا أراد إحياء الموتى وحشرهم أتوه من الجهات كلّها مستجيبين غير ممتنعين ، كما تأتي هذه الطيور بالتمرين والتعويد.

وهذا الجواب ليس بشيء ؛ لأنّ إبراهيم عليه‌السلام إنّما سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى ، وليس في مجيء الطيور وهنّ أحياء بالعادة والتمرين ، دلالة على ما سئل عنه ولا حجة فيه ، وإنّما يكون في ذلك بيانا لمسألته إذا كان على الوجه الّذي ذكرناه.

فإن قيل : إذا كان إنّما أمره بدعائهن بعد حال التأليف والحياة ، فأيّ فايدة في الدعاء وهو قد علم ـ لمّا رآها تتألف أعضاءها من بعد وتتركّب ـ أنّها قد عادت إلى حال الحياة؟ فلا معنى في الدعاء إلّا أن يكون متناولا لها وهي متفرّقة.

قلنا : للدعاء فائدة بيّنة ؛ لأنّه لا يتحقق من بعد رجوع الحياة إلى الطيور وإن شاهدها متألفة ، وإنّما يتحقّق ذلك بأن تسعى إليه وتقرب منه (١).

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤].

أنظر هود : ١١٤ من الذخيرة : ٣١١.

ـ (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧].

[فيها أمران :

الأوّل :] [وممّا يلحق بالعموم] ما تعلّق قوم به في انّ الرقبة في كفّارة الظهار يجب أن تكون مؤمنة لقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ). وأنكر آخرون ذلك عليهم ، من أنّ الكافر ليس بخبيث على التحقيق ، وأنّ العتق لا يسمّى نفقة.

وليس ما أنكروه بمستبعد ؛ لأنّ الخبيث لا خلاف بين الأمّة في إطلاقه على كلّ كافر ، كما أطلقوا الطهارة في كلّ مؤمن. وغير ممتنع أن يسمّى العتق إنفاقا

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٤٩.

٥٥٤

في سبيل الله تعالى ؛ لأنّهم يسمّون من أعتق عبده لوجه الله تعالى أنّه منفق لماله في سبيل الله تعالى ، والإنفاق اسم لاخراج الأموال في الوجوه المختلفة ، فلا وجه لاستبعاد ذلك (١).

[الثاني :] وممّا يظنّ إنفراد الإمامية به القول : بأنّ ولد الزنا لا يعتق في شيء من الكفارات ، وقد روى وفاقها عن عبد الله بن عمر وعطاء والشعبي وطاووس (٢) ، وباقي الفقهاء يخالفون ذلك (٣) ، دليلنا ـ بعد إجماع الطائفة ـ قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وولد الزنا يطلق عليه هذا الاسم.

وقد رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لا خير في ولد الزنا ، لا في لحمه ، ولا في دمه ، ولا في جلده ، ولا في عظمه ، ولا في شعره ، ولا في بشره ، ولا في شيء منه ، وإجزاؤه في الكفارات ، وإسقاط الحكم به عن الجاني ضرب كثير من الخير وقد نفاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن تعلّقوا بظاهر من قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)، قلنا : «نخصّص ذلك بدليل كما خصّصنا كلّنا أمثاله بدليل» (٤).

ـ (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧٠].

أنظر غافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤.

ـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣].

أنظر آل عمران : ٢١ من الأمالي ، ١ : ٢٣٣.

ـ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (٥) [البقرة : ٢٧٥].

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٥٧.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ٣٧٢.

(٣) نفس المصدر.

(٤) الانتصار : ١٦٦.

(٥) أقول : فسّر السيّد رحمه‌الله عليه هذه الآية ضمن تفسيره للرواية الآتية.

٥٥٥

روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من تعلّم القرآن ثمّ نسيه لقى الله وهو أجذم».

قال أبو عبيد القاسم بن سلّام مفسّرا لهذا الحديث في كتابه غريب الحديث : الأجذم : المقطوع اليد ، واستشهد بقول المتلمّس (١) :

وما كنت إلّا مثل قاطع كفّه

بكفّ له أخرى فأصبح أجذما

وقد خطّأ عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبا عبيد في تأويله هذا الخبر وقال : الأجذم وإن كان المقطوع اليد ؛ فإنّ هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع. قال : لأنّ العقوبات من الله تعالى لا تكون إلّا وفقا للذّنوب وبحسبها ، واليد لا مدخل لها في نسيان القرآن ، فكيف يعاقب فيها! واستشهد بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (٢) ، وزعم أن تأويل الآية أنّ الرّبا إذا أكلوه ثقل في بطونهم ، وربا في أجوافهم ، فجعل قيامهم مثل قيام من يتخبّطه الشيطان تعثّرا وتخبّلا. واستشهد أيضا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «رأيت ليلة أسري بي قوما تقرض شفاههم ، وكلّما قرضت وفت ، فقال لي جبريل : هؤلاء خطباء أمتك ، تقرض شفاههم ؛ لأنّهم يقولون ما لا يفعلون». قال : والأجذم في الخبر إنّما هو المجذوم ؛ وإنّما جاز أن يسمّى المجذوم أجذم ؛ لأنّ الجذام يقطع أعضاءه ويشذّ بها ؛ والجذم هو القطع.

[أقول :] وقد أخطأ الرجلان جميعا ، وذهبا عن الصواب ذهابا بعيدا ، وإن كان غلط ابن قتيبة أفحش وأقبح ؛ لأنّه علّل غلطه ، فأخرجه إلى أغاليط كثيرة ؛ ونحن نبيّن معنى الخبر ثمّ نتكلّم على ما أورداه.

__________________

(١) هو جرير بن عبد المسيح الضبعي ، والبيت من قصيدة له أولها :

يعيّرني امّي رجال ولا أرى

أخا كرم إلّا بأن يتكرّما

وهي في (ديوانه ١٦٩ ، والأصميات ٦٤ ـ ٦٥ ، ومختارات ابن الشجري ٢٨ ـ ٢٩) ؛ وخبر القصيدة في (الخزانة ٤ / ٢١٥ ـ ٢١٦).

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥.

٥٥٦

أمّا معنى الخبر فهو ظاهر لمن كان له أدنى معرفة بمذاهب العرب في كلامها ؛ وإنّما أراد عليه‌السلام بقوله : يحشر أجذم ؛ المبالغة في وصفه بالنقصان عن الكمال ، وفقد ما كان عليه القرآن من الزينة والجمال. والتشبيه له بالأجذم من حسن التشبيه وعجيبه ؛ لأنّ اليد من الأعضاء الشريفة التي لا يتمّ كثير من التصرّف ولا يوصل إلى كثير من المنافع إلّا بها ؛ ففاقدها يفقد ما كان عليه من الكمال ، وتفوته المنافع والمرافق التي كان يجعل يده ذريعة إلى تناولها ؛ وهذه حال ناسي القرآن ومضيّعه بعد حفظه ، لأنّه يفقد ما كان لابسا له من الجمال ، ومستحقّا له من الثواب ، وهذه عادة للعرب في كلامهم معروفة ؛ يقولون فيمن فقد ناصره ومعينه : فلان بعد فلان أجدع ، وقد بقي بعده أجذم ؛ قال الفرزدق يرثي مالك بن مسمع :

تضعضع طودا وائل بعد مالك

وأصبح منها معطس العزّ أجدعا

وإنّما أراد المعنى الذي ذكرناه. وللعرب ملاحن في كلامها ، وإشارات إلى الأغراض ، وتلويحات بالمعاني ، متى لم يفهمها ويسرع إلى الفطنة بها من تعاطى تفسير كلامهم ، وتأويل خطابهم كان ظالما نفسه ، متعدّيا طوره.

ونعود إلى الكلام على ما ذكره الرجلان ؛ أمّا أبو عبيد فإنّ خطأه من حيث لم يفطن للغرض من الخبر ، وضلّ عن وجهه ، وإلّا فالأجذم هو الأقطع لا محالة ـ كما قال ـ إلّا أنّه لا يليق بهذا الموضع ، فإذا حمل عليه لم يفد شيئا ؛ وإن كانت شبهته الّتي أوقعته في هذا التأويل ظنّه أنّ ذلك يكون على سبيل العقوبة على نسيان القرآن فليس كما ظن ، لأنّ الجذم أوّلا ليس بعقوبة ، لأنّ الله تعالى قد يجذم أولياءه والصالحين من عباده ، ويقطّع أعضاءهم بالأمراض ، وقد يبتدىء خلق من هو ناقص الأعضاء ، فليس بلازم في الجذم أن يكون عقوبة. ثمّ لو كان يستحقّ ناسي القرآن عقوبة على نسيانه لكان حفظ القرآن بأسره فرضا واجبا وحتما لازما ؛ لأنّ العقوبة لا تستحقّ بترك ما ليس بواجب ، وليس حفظ جميع القرآن كذلك.

وأمّا ابن قتيبة فإنّه غلط من حيث لم يفطن للوجه في الخبر الذي ذكرناه ؛ من

٥٥٧

حيث ظنّ أن العقوبة لا تكون إلّا في محلّ الذّنب ، وهذا القول يوجب عليه ألّا يجلد ظهر الزاني ، وتختص العقوبة بفرجه ، وكذلك القاذف كان يجب أن يعاقب في لسانه دون سائر أعضائه ؛ والخبر الذي استشهد به حجّة عليه ، لأنّا نعلم أنّ اللسان أقوى حظأ في باب الكلام من الشّفة ، فلم لم يخصّ بالعقوبة وحلّت بالشفاه دونه؟ ثم غلطه في تأويل الآية التي أوردها أقبح من كل ما تقدّم ؛ لأنّه توهّم أنّ ما تضمّنته الآية من تخبّط آكل الربا وتعثّره عند القيام إنّما هو في الدنيا من حيث يثقل ما أكله في معدته فيمنعه من النّهوض ؛ ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك ، ونجد كثيرا من آكلي الربا أخفّ نهوضا ، وأسرع قياما وتصرّفا من غيرهم ؛ ممّن لم يأكل الربا قطّ ؛ والمعنى في الآية هو ما ذكره المفسّرون من أنّ ما وصفهم الله تعالى به يكون عند قيامهم من قبورهم ، فليحقهم العثار والزّلل والتّخبّل على سبيل العقوبة لهم ، وليكون ذلك أيضا أمارة لمن يعاقبهم من الملائكة والخزنة على الفرق بين الوليّ والعدوّ ، ومستحقّ الجنة ومستحقّ النار. وليس بمعروف ولا ظاهر أنّ الأجذم هو المجذوم ؛ وردّ ابن قتيبة معناه واشتقاقه إلى الجذم الذي هو القطع يوجب عليه أن يكون كلّ داء يقطّع الجسد ويفرّق أوصاله كالجدريّ والأكلة وغيرهما ، يسمّى جذاما ، ويسمّى من كان عليه أجذم ، وهذا باطل.

وأمّا قول الشاعر (١) :

حرّق قيس علي البلا

د حتّى إذا اضطرمت أجذما

فليس من هذا الباب ؛ بل هو من الإجذام الذي هو الإسراع ؛ فكأنّه قال : لمّا اضطرمت أسرع عني ، وتباعد مني. والإجذام ، بالذال المعجمة والدال غير المعجمة جميعا : الإسراع ؛ فأمّا قول عنترة في وصف الذّباب (٢) :

__________________

(١) هو الربيع بن زياد العبسي ، من أبيات في (الحماسة بشرح التبريزي ٢ / ٦١ ـ ٦١ / ٦٣) ، واللسان (جذم).

(٢) من المعلقة بشرح التبريزي ص ١٨٠ ، وقبله :

وخلا الذّباب بها فليس ببارح

غردا كفعل الشّارب المترنّم

٥٥٨

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

قدح المكبّ على الزّناد الأجذم

الأجذم من صفة المكبّ (١) لا من صفة الزّناد ؛ فكأنّه قال : قدح المكبّ الأجذم على الزّناد ، وهذا من أحسن التشبيه وأوقعه (٢).

ـ (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥].

وممّا انفردت به الإمامية القول : بجواز بيع أمّهات الأولاد بعد وفاة أولادهن ، ولا يجوز بيع أم الولد وولدها حيّ ، وهذا هو موضع الانفراد ، فان من يوافق الإمامية في جواز بيع أمّهات الأولاد يخالفها في التفصيل الذي ذكرناه ...

والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وهذا عامّ في امّهات الأولاد وغيرهنّ.

فإن قيل : قد أجمعنا على أنّ قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مشروط بالملك فإن بيع ما لا يملكه لا يجوز. قلنا : الملك باق في أم الولد بلا خلاف ؛ لأنّ وطئها مباح له ولا وجه لإباحته إلّا بملك اليمين ...

ويدلّ أيضا على ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٦) (٣) ، وقد علمنا أنّ للمولى أن يطأ أم ولده وإنّما يطأها بملك اليمين ؛ لأنّه لا عقد هاهنا ، وإذا جاز أن يطأها بالملك جاز له أن يبيعها ، كما جاز له مثل ذلك في سائر جواريه ... (٤)

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)) [البقرة : ٢٧٨].

إنّ كثيرا من أصحابنا قد ذهبوا إلى نفي الربا بين الوالد وولده ، وبين الزوج

__________________

(١) في حاشية بعض النسخ : هذا من باب إجراء الصفة على غير من هي له ، كقولنا : مررت برجل حسن غلامه.

(٢) الأمالي ، ١ : ٣٣.

(٣) سورة المؤمنون ، الآيتان : ٥ ـ ٦.

(٤) الانتصار : ١٧٦ وراجع أيضا الناصريات : ٣٦٧.

٥٥٩

وزوجته ، والذمّي والمسلم. وشرط قوم من فقهاء أصحابنا في هذا الموضع شرطا ، وهو أن يكون الفضل مع الوالد ، إلّا أن يكون له وارث أو عليه دين.

وكذلك قالوا : إنّه لا ربا بين العبد وسيده إذا كان لا شريك له فيه ، وإن كان له شريك حرم الربا بينهما. وكذلك العبد المأذون له في التجارة ، حرم الربا بينه وبين سيده إذا كان العبد قد استدان مالا عليه.

وعوّلوا في ذلك على ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله : ليس بين الرجل وبين ولده ربا ، وليس بين السيد وبين عبده ربا (١). ورووا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ليس بين المسلم وبين الذمّي ربا ، ولا بين المرأة وزوجها (٢). وأمّا العبد وسيده فلا شبهة في انتفاء الربا بينهما.

ويوافقنا على ذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث والحسن بن صالح ابن حيّ والشافعي. ويخالف مالك الجماعة في هذه المسألة ؛ لأنّ مالك يذهب إلى أنّ العبد يملك ما في يده مع الرقّ ، والجماعة التي ذكرناها تذهب إلى أن الرقّ يمنع من الملك ، وهو الصحيح.

وإذا كان ما في يد العبد ملكا لمولاه لم يدخل الربا بينهما ؛ لأنّ المالين في الحكم مال واحد والمالك واحد ، ولهذا يتعب (٣) حكم المأذون له في التجارة ، يتعلق على (٤) الغرماء بما في يده ، وكذلك يتغيّر في هذا الحكم حال العبد بين شريكين ، فالشبهة في انتفاء الربا بين العبد وسيده مرتفعة.

وإنّما الكلام في باقي المسائل التي ذكرناها ، فالأمر فيها مشكل.

والذي يقوى في نفسي أنّ الربا محرم بين الوالد وولده والزوج وزوجته والذمي والمسلم ، كتحريمه بين غريبين.

فأمّا الأخبار التي وردت وفي ظاهرها أنّه لا رباء في هذه المواضع ، إذا جاز العمل بها جاز أن نحملها على تغليظ تحريم الربا في هذه المواضع ، كما

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ / ٤٣٦ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٢ / ٤٣٧ ح ٥.

(٣) ظ : يتغير.

(٤) ظ : ويتعلق حق الغرماء بما في يده.

٥٦٠