تفسير الشريف المرتضى - ج ١

تفسير الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

والقسم الثاني ممّا يحتاج إلى بيان ما يحتاج إليه في معرفة ما أريد به ، وهو على ضروب : فمنه ما يكون كذلك لوضع اللّغة ، ومنه ما يؤثّر فيه النّقل أو حصول مقدّمة ، أو مؤخّرة ، أو قرينة.

فالّذي يرجع إلى الوضع فهو أن يكون اللّفظ وضع في اللغة محتملا. ثمّ احتماله ينقسم ، فربما احتمل أمرا من جملة أمور ، مثل قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) (١) و (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (٢) وربّما احتمل شيئا من جملة أشياء معيّنة ، أو شيئين ، كقولنا قرء ، وجون ، وشفق ، وقوله تعالى : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (٣).

فأمّا ما يرجع إلى النّقل ، فكالأسماء الشرعيّة ، كقولنا صلاة ، وزكاة ؛ لأنّ المراد بها في الشرع غير ما وضعت له في اللغة.

وأمّا مثال ما يرجع إلى مقدّمة ، فهو كلّ عموم يعلم بأمر متقدّم أنّه لا يراد به إلّا البعض ، ولا دليل على التّعيين ، فما هذه حاله لا بد فيه من بيان ، نحو قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٤).

وأمّا ما يرجع إلى مؤخّرة وقرينة ؛ فهو كلّ ظاهر يعلم أنّه مشروط بشرط مجمل ، أو استثناء مجمل ، كقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (٥) ، وتفصيل ذلك وذكر جميع أمثلته فيه طول. وخلاف ذلك في الأمثلة ؛ لأنّ الأمر ربما اشتبه فيها. وفيما ذكرناه كفاية (٦).

[الثاني] : فصل في ذكر معاني الألفاظ التي يعبر بها في هذا الباب

اعلم أنّ النصّ هو كلّ خطاب أمكن معرفة المراد به. وقد ذهب قوم إلى أنّ النصّ ما لا تعترض الشبهة في المراد به. ومنهم من قال كلّما تناول الحكم

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٤١.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٣٣.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) سورة النمل ، الآية : ٢٣.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ١.

(٦) الذريعة ، ١ : ٣٢٣.

١٦١

بالاسم فهو نصّ. ولا يجعل المجمل نصّا. وما قلناه في حدّ النصّ أولى ؛ لأنّه لا خلاف بين الأمّة في أنّ الله تعالى قد نصّ على الصّلاة والزّكاة مع حاجتهما إلى البيان. ويسمّون اللّفظ نصّا ، وإن كان فيه احتمال واشتباه.

وأمّا المفسّر ؛ فهو الّذي يمكن معرفة المراد به.

وأمّا المجمل في عرف الفقهاء ؛ فهو كلّ خطاب يحتاج إلى بيان ، لكنّهم لا يستعملون هذه اللّفظة إلّا فيما يدلّ على الأحكام. والمتكلّمون يستعملون فيما يكون له هذا المعنى لفظ المتشابه ، ولا يكادون يستعملون لفظ المجمل في المتشابه.

وأمّا قولنا «ظاهر» ؛ فالأولى أن يكون عبارة عمّا أمكن أن يعرف المراد به ، ولا معنى لاشتراط الاحتمال أو التقارب على ما اشترطه قوم ، فقد يطلق هذا الاسم مع فقد الاحتمال (١).

[الثالث] : فصل في حقيقة البيان

اعلم أنّ البيان هو الدّلالة على اختلاف أحوالها ، وإلى ذلك ذهب أبو عليّ وأبو هاشم. وذهب أبو عبد الله الحسن بن عليّ البصري إلى أن البيان هو العلم الحادث الّذي به يتبيّن الشيء. وللفقهاء في ذلك حدود مختلفة مضطربة لا معنى للتطويل بذكرها. والمحصّل هذان المذهبان.

والّذي يدلّ على أنّ البيان هو الدلالة وقوع الاتّفاق على أنّ الله تعالى قد بيّن جميع الأحكام ؛ لأنّه تعالى بنصب الأدلّة في حكم المظهر لها ، وقد يوصف الدّالّ بأنّه مبيّن ، وقد يجري هذا الوصف مع فقد حدوث العلم ، فكيف يقال : إنّه عبارة عن حدوث العلم. وكان يجب على هذا القول أن يكون من لم يعلم الشيء فما بيّنه الله تعالى له ، ولا نصب له دلالة عليه ، ولا شبهة في بطلان

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٩٨.

١٦٢

ذلك ، ولهذا يقولون : قد بيّنت لك هذا الشيء ، فما تبيّنته ، فلو كان البيان هو العلم ؛ لكان هذا الكلام متناقضا. وهذا خلاف في عبارة ، والخلاف في العبارات ليس من المهمّات (١).

[الرابع] : فصل في أنّ تخصيص العموم لا يمنع من التعلّق بظاهره

اختلف العلماء في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) وما أشبهه : فقال قوم : بأيّ شيء خصّ صار مجملا يحتاج إلى بيان ، وإلى ذلك ذهب عيسى بن أبان. وقال آخرون : يصحّ مع التّخصيص التعلّق بظاهره ، وهو قول الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة. ومنهم من قال : متى خصّ باستثناء ، أو بكلام متّصل ؛ صحّ التعلّق به ، وإذا كان التّخصيص بدليل منفصل فلا تعلّق به ؛ وهو قول أبي الحسن الكرخيّ. وكان أبو عبد الله الحسن بن عليّ البصري يقول. إذا كان التخصيص لا يخرج الحكم من أن يكون متعلّقا بالاسم على الحدّ الّذي تناوله الظّاهر ؛ فإنّه يحلّ محلّ الاستثناء في أنّه لا يمنع من التعلّق بالظاهر. فمتى كان التخصيص مانعا من أن يتعلّق الحكم بالاسم ، بل يحتاج إلى صفة أو شرط حتّى يتعلّق الحكم به ، فيجب أن يمنع ذلك من التعلّق بظاهره. ويقول في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (٣) : قد ثبت أنّ القطع لا يتعلّق بالاسم ، بل يحتاج إلى صفات وشرائط حتّى يتعلّق القطع ، وتلك الشرائط والصفات لا تعلم إلّا بدليل ، فجرت الحاجة إلى بيان هذه الصفات والشروط مجرى الحاجة إلى بيان المراد بقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٤). ويقول : لا شبهة في أنّ القطع محتاج إلى أوصاف سوى السرقة ، فجرى ذلك مجرى أن يحتاج القطع إلى أفعال سوى السرقة ، ولو كان كذلك ؛ لمنع من

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٢٩.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٤٣.

١٦٣

التعلّق بالظاهر ، فكذلك الأوصاف. وهذه الطريقة أقوى شبهة من كلّ شيء قيل في هذا الباب.

والّذي نقوله : انّ كلّ خطاب لو خلّينا وظاهره لكنّا نفعل ما أريد منّا ، وإنّما كنّا نخطىء في ضمّ ما لم يرد منّا إلى ما أريد ؛ فيجب أن يكون المحتاج إليه في بيانه التّخصيص ، والأصل ممكن التعلّق بظاهره ، وكلّ خطاب لو خلّينا مع ظاهره ، لما أمكن تنفيذ شيء من الأحكام على وجه ولا سبب ؛ فيجب أن يحتاج في أصله إلى بيان. ومثال الأوّل قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)؛ لأنّا لو خلّينا وظاهره ؛ لقطعنا من أراد منّا قطعه ومن لم يرد. وكذلك قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) ؛ لأنّا لو عملنا بالظّاهر لقتلنا من أراد قلته ومن لم يرد ، فاحتجنا إلى تمييز من لا يقتل ولا يقطع ، دون من يقتل أو يقطع. ومثال الثّاني قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)، وقوله جلّ اسمه : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)) (٢) ؛ لأنّا لو خلّينا والظّاهر ، لما أمكننا أن نعلم شيئا ممّا أريد منّا ، فاحتجنا إلى بيان ما أريد منّا ؛ لأنّا غير مستفيدين له من ظاهر اللفظ ، وفي الأوّل الأمر بخلافه ، وجرى ذلك مجرى الاستثناء إذا دخل على العموم ، أو غيره من الأدلّة المنفصلة ، في أنّه وإن جعل الكلام مجازا ، فالتعلّق بالظّاهر في الباقي صحيح ممكن.

وإنّما دخلت الشبهة في هذا الموضع ، من جهة أنّ البيان في آية السّرقة وقع فيمن يقطع ، لا فيمن لا يقطع ، وفي صفات السّرقة الّتي يجب بها القطع ، لا في صفة ما لا يجب به القطع ، فأشكل ذلك على من لم ينعم النّظر ، فظنّ أنّه مخالف للتخصيص في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وما جرى مجراه.

والوجه الّذي من أجله علّقوا الشروط بما يجب به القطع دون ما لا يجب فيه القطع هو طلب الاختصار ، والعدول عن التطويل.

ولمّا كان الغرض تمييز من يقطع ممّن لا يقطع ، ولم يمكن التّمييز باستثناء الأعيان ؛ عدل من تمييزه بالأعيان إلى تمييزه بالصّفات.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٥.

(٢) سورة المعارج ، الآيتان : ٢٤ و ٢٥.

١٦٤

ولمّا كان التّمييز بالصّفات فيمن لا يقطع يطول ؛ لأنّ من لا يقطع من السرّاق أكثر ممّن يقطع ؛ فميّز بصفات من يقطع ، طلبا للاختصار.

وإذا كنّا قد اتّفقنا على أنّه لو ميّز باستثناء الأعيان ؛ لصحّ التعلّق بالظّاهر فيما بقي ، وكذلك إذا ميّز بذكر صفات من لا يقطع ، حتّى يقول : «اقطعوا السرّاق إلّا من صفته كذا» ؛ فكذلك يجب أن يتعلّق بظاهر ما بقي متى ميّز باستثناء من يقطع ؛ لأنّ هذا التّمييز إنّما اعتمد لإخراج من لا يقطع وإبانته ، وإنّما عدل إليه للاختصار.

فإن قيل : ميّزوا بين المجاز الّذي لا يصحّ التعلّق بظاهره ، وبين المجاز الّذي يجب التعلّق بظاهره.

قلنا : أمّا مثال المجاز الّذي لا يصحّ التعلّق بظاهر العموم معه ، فهو ان يقول : «اضرب القوم ، وإنّما أردت بعضهم» أو يقول : «وإنّما أردت المجاز ، دون الحقيقة» ومثاله قوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (١). وأمّا المجاز الّذي لا يمنع من التعلّق بالظاهر ، فهو أن يقول القائل : ضربت القوم ، وينصب دليلا أو يعلم من حاله أنّه ما ضرب واحدا معيّنا منهم ؛ فإنّ اللّفظ يصير مجازا لا محالة ، لكنّه لا يمنع من التعلّق بالظاهر فيمن عدا من قام الدليل على تخصيصه. وهذه الجملة يطّلع بها على جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب (٢).

[الخامس] : فصل في هل يجب أن يكون البيان كالمجمل

في القوّة وغيرها ، أو لا يجب ذلك

فقال قوم : يجب أن يكون البيان في رتبة المبيّن ، وطريقة العلم به. وقال قوم يجب في أصول صفاته وشروطه أن يكون كذلك ، دون التفصيل. ومنهم من وقّف ذلك على الدليل ، ويجوز أن يكون البيان بخبر الواحد والقياس.

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية : ١٢.

(٢) الذريعة ، ١ : ٣٣٢.

١٦٥

والصّحيح أن البيان يجب أن يكون إليه طريق ، وعليه دليل ، وكيفية ذلك في رتبة أو قوّة ليست بواجبة ، وذلك موقوف على ما يعلمه الله تعالى من المصلحة ، وليس يمتنع تجويزا وتقديرا أن يثبت البيان بخبر الواحد أو القياس ، كما أجزنا أن نخصّ بهما العموم المعلوم في كتاب الله تعالى ، وإنّما الكلام في وقوع ذلك وحصوله ، ولا شبهة في أن العلم بالصلاة وأنا بها مخاطبون ضروريّ ، وإن لم يجب مثل ذلك في بيانها (١).

[السادس] : فصل في أن تعليق الحكم بصفة

لا يدلّ على انتفائه بانتفائها

اختلف الناس في ذلك ، فقال قوم : إن انتفاء الصفة الّتي علّق الحكم عليها لا يدلّ على انتفاء الحكم عمّا ليس له تلك الصفة. وإنّما يفيد تعليقه بها إثبات الحكم فيما وجدت فيه ، من غير إفادة الحكم في غيره نفيا ولا إثباتا. وإلى هذا المذهب ذهب أبو علي الجبّائي وابنه أبو هاشم والمتكلّمون كلّهم إلّا من لعلّه شذّ منهم ، وهو الصحيح المستمرّ على الأصول. وقد صرّح بهذا المذهب أبو العبّاس بن شريح ، وتبعه على ذلك جماعة من شيوخ أصحاب الشافعي كأبي بكر الفارسي والقفّال وغيرهما. وذكر أبو العبّاس بن شريح انّ الحكم إذا علّق بصفة فإنّما يدلّ على ما تناوله لفظه إذا تجرّد وقد يحصل فيه قرائن يدلّ معها على أنّ ما عداه بخلافه ، نحو قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٢) وقوله جل اسمه : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) (٣) وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٤) وقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) (٥) وقوله عليه‌السلام : «في

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٣٤٣.

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ٦.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ٦.

(٤) سورة الطلاق ، الآية : ٢.

(٥) سورة النساء ، الآية : ٤٣.

١٦٦

سائمة الغنم الزكاة». قال : وقد يقتضي ذلك أنّ حكم ما عداه مثل حكمه ، نحو قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) (١) وقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٢) وقوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (٣). وهذا تصريح منه بالمذهب الصحيح ، وأنّ القول ـ إذا تجرّد ـ لم يقتض نفيا ولا إثباتا فيما عدا المذكور ، وأنّ بالقرائن تارة يعلم النفي ، وأخرى الإثبات. وقد أضاف ابن شريح قوله هذا إلى الشافعي ، وتأوّل كلامه المقتضى بخلاف ذلك وبناه عليه. وذهب أكثر أصحاب الشافعيّ وجمهورهم إلى أن تعليق الحكم بصفة دالّ بمجرّده على نفي الحكم عمّا ليس له تلك الصفة ، وفيهم من ذهب إلى أنّ الاسم في هذا الباب كالصفة ، وفيهم من فرّق بين الاسم والصّفة.

والّذي يدلّ على صحّة ما اخترناه أنّه قد ثبت أنّ تعليق الحكم بالاسم اللقب لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه ، وثبت أنّ الصفة كالاسم في الإبانة والتمييز ، وإذ ثبت هذان الأمران صحّ مذهبنا.

والّذي يدلّ على الأوّل أنّ تعليق الحكم بالاسم لو دلّ على أنّ ما عداه بخلافه لوجب أن يكون قول القائل : «زيد قائم» و «عمرو طويل» و «السكّر حلو» مجازا ، معدولا به عن الحقيقة ، فإنّه قد يشارك زيدا وعمروا في القيام والطّول غيرهما ، ويشارك السكر في الحلاوة غيره. ويجب أيضا أن لا يمكن أن نتكلّم بهذه الألفاظ على سبيل الحقيقة ، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك من مذهب أهل اللّغة وأنّ هذه الألفاظ حقيقة ، وممّا لا يجب كونها مجازا. ويلزم على هذا المذهب أن يكون أكثر الكلام مجازا ؛ لأن الإنسان إذا أضاف إلى نفسه فعلا من قيام ، وأكل ، وضرب ، وما جرى مجرى ذلك ، ليس يضيف إليها إلّا ما له فيه مشارك ، والإضافة إليه يقتضي ظاهرها على مذهب من قال بدليل الخطاب نفي ذلك الأمر عمّن عداه ، فلا تكون هذه الأوصاف في موضع من المواضع إلّا مجازا ، وهذا يقتضي أنّ الكلام كلّه مجاز.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٩٨.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ١٨٧.

١٦٧

ويدلّ أيضا على ذلك أنّ من المعلوم أنّ لا يحسن أن يخبر مخبر بأنّ زيدا طويل إلّا وهو عالم بطوله ، فلو كان قوله : «زيد طويل» كما يقتضي الإخبار عن طول زيد ، يقتضي نفي الطول عن كلّ من عداه ، لوجب أن لا يحسن منه أن يخبر بأنّ زيدا طويل إلّا بعد أن يكون عالما بأنّ غيره لا يشاركه في الطول ويجب أن يكون علمه بحال غير المذكور شرطا في حسن الخبر ، كما كان علمه بحال المذكور شرطا في حسن الخبر ، ومعلوم خلاف ذلك.

وأيضا ؛ فإنّ ألفاظ النفي مفارقة لألفاظ الإثبات في لغة العرب ، ولا يجوز أن يفهم من ألفاظ الإثبات النفي كما لا يفهم من لفظ النفي الإثبات ، وقولنا : «زيد طويل» لفظه لفظ إثبات ، فكيف يعقل منه نفي الحكم عن غير المذكور ، وليس هيهنا لفظ نفي.

ويمكن أن يستدلّ بهذه الطريقة خاصة على أنّ تعليق الحكم بصفة لا يدلّ على نفيه عمّا ليست له ، من غير حمل الصّفة على الاسم.

وربما قوّى أيضا ما ذكرناه بأنّ أحدا من العلماء لم يقل في ذكر الأجناس الستّة في خبر الربوا أنّ تعليق الحكم بها يدلّ على نفي الرّبوا عن غيرها ؛ لأنّ العلماء بين رجلين : أحدهما : يقول ببقاء غير هذه الأجناس على الإباحة ، والآخر : يقيس عليها غيرها.

فإن تعلّق من سوّى بين الاسم والصفة بأنّ جماعة من أهل العلم استدلّوا على أنّ غير الماء لا يطهّر كالماء بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) ، فنفوا الحكم عن غير الماء وهو معلّق بالاسم لا بالصفة.

فالجواب : أنّ من فعل ذلك فقد أخطأ في اللغة ، وقد حكينا أنّ في النّاس من يسوّى مخطئا بين الاسم والصّفة في تعلّق الحكم بكلّ واحد منهما.

ويمكن أن يكون من استدلّ بهذه الآية إنّما عوّل على أن الاسم فيها يجري مجرى الصفة ؛ لأنّ مطلق اسم الماء يخالف مضافة ، فأجراه مجرى كون الإبل سائمة وعاملة.

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٤٨.

١٦٨

وأمّا الدلالة على أن الصفة كالاسم في الحكم الّذي ذكرناه ، فهي أنّ الغرض من وضع الأسماء في أصل اللّغة هو التمييز والتعريف ، وليمكنهم أن يخبروا عمّن غاب عنهم بالعبارة ، كما أخبروا عن الحاضر بالإشارة ، فوضعوا الأسماء لهذا الغرض ، ولمّا وقع الاشتراك بالاتّفاق في الأسماء ، بطل الغرض الّذي هو التمييز والتعريف ، فاحتاجوا إلى إدخال الصّفات ، وإلحاقها بالأسماء ليكون الاسم مع الصّفة بمنزلة الاسم لو لم يقع فيه اشتراك ، ولو لا الاشتراك الواقع في الأسماء ، لما احتيج إلى الصّفة ، ألا ترى أنّه لو لم يكن في العالم من اسمه «زيد» إلّا شخص واحد ، لكفى في الإخبار عنه أن يقال : «قام زيد» ولم يحتج إلى إدخال الصفة ، فبان بهذه الجملة أن الصفة كالاسم في الغرض ، وأنّ الصفات لبعض الأسماء ، فإذا ثبت ما ذكرناه في الاسم ؛ يثبت فيما يجري مجراه ، ويقوم مقامه.

وممّا يبيّن أنّ الاسم كالصّفة أنّ المخبر قد يحتاج إلى أن يخبر عن شخص بعينه ، فيذكره بلقبه ، وقد يجوز أن يحتاج إلى أن يخبر عنه في حال دون أخرى ، فيذكره بصفته ، فصارت الصفة مميّزة للأحوال ، كما أن الأسماء مميّزة للأعيان ، فحلّا محلّا واحدا في الحكم الّذي ذكرناه.

وممّا يدلّ ابتداء على بطلان دليل الخطاب أن اللّفظ إنّما يدلّ على ما يتناوله أو على ما يكون بأن يتناوله أولى ، فأمّا أن يدلّ على ما لم يتناوله ولا هو بالتناول أولى ، فمحال ، وإذا كان الحكم المعلّق بصفة لم يتناول غير المذكور ، ولا هو بأن يتناوله أولى ؛ لم يدلّ إلّا على ما اقتضاه لفظه.

وشرح هذه الجملة أنّ قوله عليه‌السلام : «في سائمة الغنم الزكاة» معلوم حسّا وإدراكا أنّه لم يتناول المعلوفة ، ولا يمكن الخلاف فيما يدخل تحت الحسّ ، ولا هو بتناولها أولى ، بدلالة أنّه لو قال عليه‌السلام : «في سائمة الغنم الزكاة وفي معلوفتها» ؛ لما كان متناقضا ، ومن شأن اللّفظ إذا دلّ على ما لم يتناوله بلفظه لكنّه بان يتناوله أولى أن يمنع من التصريح بخلافه ، ألا ترى أن قوله تعالى :

١٦٩

(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (١) لمّا تناول النّهي عن التّأفيف بلفظه ، وكان بأن يتناول سائر المكروه أولى ، لم يجز أن يتبعه ويلحقه بأن يقول : «لا تقل لهما أفّ واضربهما واشتمهما ؛ لأنّه نقض لما تقدّم ، فبان أنّ قوله عليه‌السلام : «في سائمة الغنم الزّكاة» ليس بتناوله للمعلوفة أولى.

والّذي يدلّ على أنّ اللفظ لا يدلّ على ما لا يتناوله ولا يكون بالتناول أولى أنّه لو دلّ على ذلك لم ينحصر مدلوله ؛ لأنّ ما لا يتناوله اللفظ لا يتناهى ، وليس بعضه بأن يدلّ عليه اللّفظ مع عدم التناول بأولى من بعض.

وممّا يدلّ أيضا على ما ذكرناه حسن استفهام القائل : «ضربت طوال غلماني ولقيت أشراف جيراني» فيقال : «أضربت القصار من غلمانك أو لم تضربهم؟ ، ولقيت العامّة من جيرانك أو لم تلقهم؟» ، فلو كان تعليق الحكم بالصفة يقتضي وضعه نفي الحكم عمّا ليس له تلك الصفة كاقتضائه ثبوته لما له تلك الصفة ، لكان هذا الاستفهام قبيحا ، كما يقبح أن يستفهمه عن حكم ما يتعلّق اللفظ به ، فلو كان الأمران مفهومين من اللفظ ، لاشتركا في حسن الاستفهام وقبحه.

فإن قيل : إنّما يحسن الاستفهام عن ذلك لمن لم يقل بدليل الخطاب ، فأمّا من تكلّم بما ذكرتموه من الذاهبين إلى دليل الخطاب فهو لا يستفهم عن مراده إلّا على وجه واحد ، وهو أن يكون أراد على سبيل المجاز خلاف ما يقضيه دليل الخطاب ، فحسن استفهامه لذلك.

قلنا : حسن استفهام كلّ قائل أطلق مثل هذا الخطاب معلوم ضرورة ، سواء علمنا مذهبه في دليل الخطاب أو شككنا فيه ، وأهل اللغة يستفهم بعضهم بعضا في مثل هذا الخطاب ، وليس لهم مذهب مخصوص في دليل الخطاب. فأمّا تجويزنا أن يكون المخاطب عدل عن الحقيقة إلى المجاز ، وأنّ هذا هو علّة حسن الاستفهام ، فباطل ؛ لأنّه يقتضي حسن دخول الاستفهام في كلّ كلام ؛ لأنّه لا كلام نسمعه إلّا ونحن نجوز من طريق التقدير أن يكون المخاطب به أراد

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٢٣.

١٧٠

المجاز ، ولم يرد الحقيقة ، وفي علمنا بقبح الاستفهام في مواضع كثيرة دلالة على فساد هذه العلّة ، على أنّ المخاطب لنا إذا كان حكيما ، وأراد المجاز بخطابه ، قرن به ما يدلّ على أنّه متجوّز ، ولا يحسن منه الإطلاق.

[في أدلّة من قال بدلالة الوصف على المفهوم والجواب عنها]

وقد استدلّ المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء (١) :

ومنها : أنّ تعليق الحكم بالشرط لمّا دلّ على انتفائه بانتفاء الشرط ، فكذلك الصفة ، والجامع بينهما أنّ كلّ واحد منهما كالآخر في التخصيص ؛ لأنّه لا فرق بين أن يقول : «في سائمة الغنم الزكاة» ، وبين أن يقول : «فيها إذا كانت سائمة الزكاة».

ومنها : ما روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٢) أنه قال : «لأزيدن على السبعين» ، فلو لم يعلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة دليل الخطاب أنّ ما فوق السبعين بخلافها ، لم يقل ذلك ... (٣)

ومنها : أنّ الأمّة إنّما رجعت في أن التيمم لا يجب إلّا عند عدم الماء إلى ظاهر قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٤) وكذلك الصيام في الكفّارة ، وأنّه لا يجزي إلّا عند عدم الرقبة إنّما رجع فيه إلى الظاهر (٥) ...

والجواب عن الأوّل : أن الشرط عندنا كالصفة في أنه لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه ، وبمجرّد الشرط لا يعلم ذلك ، وإنّما نعلمه في بعض المواضع بدليل منفصل ؛ لأنّ تأثير الشرط أن يتعلّق الحكم به ، وليس يمتنع أن يخلفه

__________________

(١) ذكر السيد أشياء سبعة أوردنا منها ثلاثا لعدم مساس الباقي بالتفسير.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٨٠.

(٣) الذريعة ، ١ : ٣٩٢.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٥.

(٥) الذريعة ، ١ : ٤٠٤.

١٧١

وينوب عنه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج من أن يكون شرطا ، ألا ترى أن قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (١) إنّما منع من قبول الشاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه الآخر ، فانضمام الثاني إلى الأوّل شرط في القبول ، ثمّ يعلم أنّ ضمّ امرأتين إلى الشاهد الأوّل يقوم مقام الثاني ، ثمّ يعلم بدليل أنّ ضمّ اليمين إلى الشاهد الواحد يقوم مقام الثاني ، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن يحصى.

والصحيح أنّ الحكم إذا علّق بغاية أو عدد ، فإنّه لا يدلّ بنفسه على أنّ ما عداه بخلافه ؛ لأنّا إنّما نعلم أن ما زاد على الثمانين في حد القاذف لا يجوز ؛ لأنّ ما زاد على ذلك محظور بالعقل ، فإذا وردت العبادة بعدد مخصوص خرجنا عن الحظر بدلالة ، وبقينا فيما زاد على ذلك العدد على حكم الأصل ، وهو الحظر وكذلك إذا قال الرجل لغلامه : «اعط زيدا مائة درهم» فإنّا نعلم حظر الزائد على المذكور بالأصل. ولو قال : «أعطيت فلانا مائة درهم» ؛ لم يدلّ لفظا ولا عقلا على أنّه لم يعطه أكثر من ذلك. فأمّا تعليق الحكم بغاية فإنّما يدلّ على ثبوته إلى تلك الغاية ، وما بعدها يعلم انتفاؤه أو إثباته بدليل. وإنّما علمنا في قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (٢) ، وقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (٣) ، وقوله سبحانه : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) (٤) أن ما بعد الغاية بخلافها بدليل ، وما يعلم بدليل غير ما يدلّ اللفظ عليه ، كما نعلم أنّ ما عدا السائمة بخلافها في الزكاة ، وإنّما علمناه بدليل.

ومن فرق بين تعليق الحكم بصفة وبين تعليقه بغاية ليس معه إلّا الدعوى ، وهو كالمناقض ، لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما.

فإذا قال : فأيّ معنى لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) إذا كان ما بعد اللّيل يجوز ان يكون فيه الصوم.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٨٧.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٧.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢.

١٧٢

قلنا : وأيّ معنى لقوله عليه‌السلام : «في السائمة الغنم الزكاة» ، والمعلوفة مثلها.

فإن قيل : لا يمتنع أن يكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النصّ ، ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر.

قلنا : كذلك لا يمتنع فيما علّق بغاية حرفا بحرف.

والصحيح أنّ تعليق الحكم بالصفة لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه على كلّ حال ، بخلاف قول من يقول : إنّه يدلّ على ذلك إذا كان بيانا ، وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّ ما وضع له القول لا يختلف بأن يكون مبتدءا أو بيانا ، وإذا لم يدلّ تعليق الحكم بالصفة على نفي ما عداه ؛ فإنّما لم يدلّ على ذلك ، لشيء يرجع إلى اللّفظ ، فهو في كلّ موضع كذلك.

والجواب عن الثاني : أنّ ما طريقه العلم لا يرجع فيه إلى أخبار الآحاد ، لا سيّما إذا كانت ضعيفة ، وهذا الخبر يتضمّن أنّه عليه‌السلام يستغفر للكفّار ، وذلك لا يجوز ، وأكثر ما فيه أنّه عليه‌السلام عقل أنّ ما فوق السبعين بخلاف السبعين ، فمن أين أنّه فهم ذلك ظاهر الخبر من غير دليل سواه؟!.

ولقائل أن يقول : أن الاستغفار لهم كان في الأصل مباحا ، فلمّا ورد النصّ بحظر السبعين ، بقي ما زاد عليه على الأصل.

وقد روي في هذا الخبر أنه عليه‌السلام قال : «لو علمت أنّي إن زدت على السبعين يغفر الله لهم ، لفعلت» ، وعلى هذه الرواية لا شبهة في الخبر.

والنبيّ عليه‌السلام أفصح وأفطن لأغراض العرب ، من أين يجوز عليه مثل ذلك؟! لأنّ معنى الآية النهي عن الاستغفار للكفّار ، فإنّك لو أكثرت في الاستغفار للكفّار ، ما غفر الله لهم ، فعبّر عن الإكثار بالسبعين ، ولا فرق بينها وبين ما زاد عليها ، كما تقول العرب : «لو جئتني سبعين مرّة ما جئتك» ولا فرق بين الأعداد المختلفة في هذا الغرض ، فكأنّه يقول : «لو جئتني كثيرا أو قليلا ما جئتك» وأيّ عدد تضمّنه لفظه ، فهو كغيره ...

والجواب عن الثالث : أنّ آية التيمّم وآية الكفّارات بيّن فيهما حكم الأصل

١٧٣

وحكم البدل ؛ لأنّه تعالى أوجب الطهارة عند وجود الماء ، وأوجب التيمّم عند عدمه. وكذلك في الكفّارة ؛ لأنّه أوجب الرقبة في الأصل ، وعند عدمها أوجب الصيام ، فعلمنا حكم البدل والمبدّل جميعا بالنصّ ، وليس لدليل الخطاب في هذا مدخل (١).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ٤١٢.

١٧٤

[المقدّمة الرابعة] : باب الكلام في النسخ وما يتعلق به

[وفيها أمور :

الأوّل :] فصل في حدّ النسخ ومهمّ أحكامه

اعلم أنّه لا حاجة بنا إلى بيان معنى النسخ في أصل اللغة ، ففي ذلك خلاف لا فائدة في بيان الصحيح منه ، والمحتاج إليه بيان حدّه في الشرع ، وعلى مقتضى الأدلّة الشرعية.

والدليل الموصوف بأنّه ناسخ هو ما دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ الأوّل غير ثابت في المستقبل ، على وجه لولاه لكان ثابتا بالنّص الأوّل مع تراخيه عنه.

والّذي يجب العلم به وتقريره في النفس المعاني الّتي يبتنى حدّ النسخ عليها ، ثمّ تكون العبارة بحسب ما تقرّر من المعاني.

والتكليف على ضربين : أحدهما مستمرّ ، والآخر لا يستمر. فما لا يستمرّ لا يدخل النسخ فيه. والمستمرّ على ضربين :

أحدهما : ان يكون الطريق الّذي به يعلم ثباته واستمراره به يعلم زواله عند غاية ، ولا مدخل للنسخ في ذلك.

والضرب الثاني : يعلم بالنص أو بقرائنه استمراره ، ويحتاج في معرفة زواله إلى أمر سواه ، وذلك على ضربين :

أحدهما : أن يكون ما علم زواله به يعلم عقلا كالعجز والتعذّر ، ولا مدخل للنسخ أيضا في ذلك.

١٧٥

والقسم الآخر : يعلم زواله بدليل شرعيّ ، والنسخ يدخل في هذا الوجه خاصّة.

وإذا تحصّلت هذه الجملة ؛ فالواجب في العبارة أن تقع بحسبها ، فلك أن تحدّ النسخ بأنّه ما دلّ على تغيير طريقة الحكم الثابت بالنصّ الأوّل في باب الاستمرار ؛ لأنّ ذكر الطريقة في الحدّ يبيّن أن التغيير لم يلحق نفس المراد ، وإنّما يلحق الإيجاب ، وكان الدليل الثاني كشف عن تغيّر الإيجاب.

والدليل على الحقيقة هو الموصوف بأنّه ناسخ ، وإذا وصفوه تعالى بأنّه ناسخ للأحكام ؛ فمن حيث فعل تعالى ما هو نسخ. وإذا قيل في الحكم أنّه ناسخ ؛ فمن حيث كان دليلا ، ولذلك لا يكون نسخا إلّا مع المضادّة. فأمّا المنسوخ ؛ فهو الدليل الّذي تغيّر حكمه بالدليل الناسخ. وقد يوصف أيضا الحكم بذلك ؛ لأنّه المقصود بالدلالة ولأنّه هو الّذي يتغيّر.

[في شرائط النسخ]

واعلم أنّ الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا شرعيّين ، ولا يكونا عقليّين ، ولا أحدهما ؛ لأنّه لا يقال : «تحريم الخمر نسخ إباحتها» ولا : «أنّ الموت نسخ عن المكلّف ما كان تكلّفه» لما كانت هذه الأحكام عقليّة.

ومن حقّ الناسخ أن يكون المراد به غير المراد بالمنسوخ ، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد بمشيّة الله تعالى.

ومن حقّه أن يكون منفصلا عن المنسوخ. ولا يوصف بهذه الصفة مع الاتّصال ، ولا خلاف في ذلك.

ومن شرطه أن لا يكون موقّتا بغاية يقتضي ارتفاع ذلك الحكم.

والموقت بغاية على ضربين :

١٧٦

أحدهما : أن يعلم باللّفظ من غير حاجة إلى غيره ، كقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١).

والضرب الآخر : أن تعلم الغاية على سبيل الجملة ، ويحتاج في تفصيلها إلى دليل سمعيّ ، نحو قوله «دوموا على هذا الفعل إلى أن أنسخه عنكم» والدّليل الشرعي الوارد بزوال الحكم يوصف بأنّه ناسخ.

ومن شرط النسخ أن يكون في الأحكام الشرعيّة ، دون أجناس الأفعال.

وينقسم إلى ثلاثة أقسام : أحدها : أن يزول الحكم لا إلى بدل والثاني : أن يزول إلى بدل يضادّه ، ويكون نسخا. والثالث : أن يزول إلى بدل يخالفه.

فأمّا زواله لا إلى بدل ؛ فإنّما يكون نسخا ؛ لأنّه علم به أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ المتقدّم مرتفع في المستقبل ولأنه إذا زال إلى بدل ؛ فالّذي أوجب كونه منسوخا زواله لا ثبوت البدل ؛ لأنّه إن ثبت من دون زوال الأوّل ، لم يكن نسخا. ومن حقّ هذا الضرب أن لا يعلم نسخه إلّا بدليل دون الأحكام.

فأمّا ما يرتفع إلى بدل مخالف ؛ فمن حقّه أيضا أن لا يعلم إلّا بدليل سوى الحكم ؛ لأنّ الحكم إذا لم ينافه ؛ لم يعلم به كونه منسوخا ، ومثاله ما روي في وجوب صوم شهر رمضان أنّه نسخ صوم عاشوراء ، وأنّ الزكاة نسخ وجوبها سائر الحقوق. ومتى قيل فيما هذه حاله : «إنّ كذا نسخ بكذا» فمجاز ، والمراد به أنّ عنده علم نسخ الأوّل.

وأمّا النسخ بحكم يضادّه ، فقد يقع بثبوت الحكم ، وقد يقع أيضا بدليل ، وإنّما كان كذلك ؛ لأن تضادّ الحكمين دليل على زوال أحدهما بالآخر من حيث علم أنّهما لا يصحّ أن يجتمعا في التكليف. ولا شبهة في أن الحظر يضادّ الإباحة والندب ، والوجوب أيضا في حكم الضدّ للندب والإباحة ؛ لأنّ كونه مباحا يقتضي نفي ماله يكون ندبا وواجبا ، وكونه ندبا يقتضي نفي ما يكون له واجبا.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٧.

١٧٧

ومن شرط النّاسخ أن يكون في وقوع العلم به كالمنسوخ وسيأتي بيان ذلك في إبطال النسخ بخبر الواحد بمشيّة الله تعالى.

وليس من شرط الناسخ أن يكون لفظ المنسوخ ، متناولا له ؛ لأنّه لا فرق بين أن يعلم استمرار الحكم بظاهر الخطاب ، أو يعلم ذلك بقرينة.

وليس من شرطه أن لا يتأخّر عن المنسوخ كما قلنا في تخصيص العامّ ، وبيان المجمل ، عند من ذهب إلى ذلك ، بل الناسخ يجب تأخّره كما صرّحنا به في حدّه.

وليس من شرط النسخ التنبيه في حال الخطاب في الجملة عليه ، على ما ظنّه بعضهم ، وذلك أنّه لا وجه لوجوب ذلك ، بل هو موقوف على المصلحة ، فربما اقتضته ، وربما لم تقتضه.

وليس من شرطه أن لا يكون اللّفظ مقتضيا للتأييد ، ففي الناس من ذهب إلى أنّه تعالى لو قال : «افعلوا الصلاة أبدا» ، ما جاز النسخ ، وإنّما يجوز مع الإطلاق. وهذا باطل ؛ لأنّ لفظة التأييد في التعارف يقتضي التوقيف ، كقول القائل : «لازم الغريم أبدا» و «تعلّم العلم أبدا» وقد ثبت أنّ التكليف منقطع ، وأنّ انقطاعه متوقّع من وجوه ، فكيف يمنع هذا اللّفظ من النّسخ ولو منع من ذلك ، لمنع من العجز ، ووجوه التعذّر.

وليس من شرط النسخ أن يقع بما هو أخفّ في التكليف على ما ذهب إليه بعض أهل الظّاهر ، وذلك أن التكليف على سبيل الابتداء ، وعلى جهة النسخ إنّما هو تابع للمصلحة ، وقد تتّفق المصلحة في الأشقّ والأخفّ معا ، وفي الأشقّ من زيادة التعريض للثواب ما ليس في الأخفّ والشبهة في هذا ضعيفة جدّا. وقد ذكر من وقوع النسخ في القرآن بما هو أشقّ منه ما فيه كفاية ، وهو معروف.

١٧٨

[الثاني] : فصل في الفرق بين البداء والنسخ والتخصيص

اعلم أنّ البداء في وضع اللّغة هو الظهور ، وإنّما يقال : «بدا لفلان في كذا» إذا ظهر له من علم أو ظنّ ما لم يكن ظاهرا.

وللبداء شرائط ، وهي أربعة : أن يكون الفعل المأمور به واحدا ، والمكلّف واحدا ، والوجه كذلك ، والوقت كذلك ، فما اختصّ بهذه الوجوه الأربعة من أمر بعد نهى ، أو نهى بعد أمر ؛ اقتضى البداء.

وإنّما قلنا : إنّ ذلك يدلّ على البداء ؛ لأنّه لا وجه له إلّا تغيّر حال المكلّف في العلم أو الظنّ ، لأنّه لو كانت حاله على ما كانت عليه ؛ لما أمر بنفس ما نهى عنه ، أو نهى عن نفس ما أمر به مع باقي الشرائط ، وكان أبو هاشم يمنع في الله تعالى أن يأمر بما نهى عنه مع باقي الشرائط لوجهين : أحدهما : أنه دلالة البداء ، والآخر : أنّه يقتضي إضافة قبيح إليه تعالى إمّا الأمر ، أو النهي ، وهو أحد قولي أبي عليّ. والقول الآخر له : أنّه يمنع من وقوعه منه تعالى للوجه الأخير الّذي ذكرناه ، من اقتضائه إضافة قبيح إليه تعالى ؛ لأنّ البداء لا يتصوّر فيمن هو عالم بنفسه.

والأولى أن يمنع منه للوجهين ؛ لأنّ ما من شأنه أن يدلّ على أمر من الأمور [يجب] ألّا يختاره القديم تعالى مع فقد مدلوله ؛ لأنّ ذلك يجري مجرى فعل قبيح ، ألا ترى أنّ فعله تعالى ما يطابق اقتراح الطالب لتصديقه ، لمّا كان دلالة التصديق لم يجز أن يفعله من الكذّاب ؛ لأنّه يدلّ على خلاف ما الحال عليه.

والنسخ إنّما يخالف البداء بتغاير الفعلين ؛ فإنّ فعل المأمور به غير المنهيّ عنه. وإذا تغاير الفعلان ، فلا بدّ من تغاير الوقتين. فكان النسخ يخالف البداء بتغاير الفعلين والوقتين.

وأما الفرق بين النسخ والتخصيص ، فقد مضى فيما تقدّم ، فلا وجه لإعادته.

١٧٩

[الثالث] : فصل فيما يصح فيه معنى النسخ من أفعال المكلّف

اعلم أنّ معنى النسخ إنّما يصحّ دخوله في حكم مستمرّ ؛ لأنّ ما لا يستمرّ لا يدخل فيه معنى النسخ ، ولا النسخ نفسه.

ولا بدّ أيضا أن يكون ممّا يصح تغيّره بعد استمراره ؛ لأنّه متى كان ممّا يستمرّ على حالة واحدة ، لم يصحّ دخول النسخ ولا معناه فيه.

ويختصّ النسخ نفسه بأن يكون الحكم المستمرّ ثابتا بالشرع ، وكذلك زواله متى زال.

وما يجب استمراره على وجه واحد من الأفعال ينقسم إلى قسمين : أحدهما : أن يكون وجب استمراره لصفة هو عليها ، كوجوب الإنصاف ، وقبح الكذب ، والجهل. والقسم الآخر : لا يجوز تغيّره من حيث كان كونه لطفا لا يتغيّر ، كالمعرفة بالله تعالى وعدله وتوحيده.

والّذي يجوز تغيّره من الأفعال نحو الضرر والنفع والقيام والقعود ووجوه التصرّف لأنّه قد يحسن تارة ، ويقبح أخرى فمعنى النسخ يجوز دخوله فيه.

فأمّا نفس النسخ ؛ فإنّما يدخل فيما تقدّم ذكره فيما ثبت حكمه شرعا ويزول أيضا كذلك.

[الرابع] : فصل فيما يحسن من النهي بعد الأمر والأمر بعد النهي

اعلم أنّ الأمر والنهي لا يخلو من أن يكون متناولها واحدا ، أو متغايرا :

فإن كان واحدا ، فلن يحسنا إلّا على وجه واحد ، وهو أن يأمر بالفعل على وجه ، وينهى عنه على وجه آخر ، وربما كانت وجوهه كثيرة يصحّ أن ينهى عن إيقاعه على بعضها ، أو يأمر بذلك فأمّا إذا تغاير المتناول ؛ فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون المكلّف أيضا متغايرا ، فيحسن الأمر بأحدهما ، والنهي عن الآخر على كلّ وجه ، إذا قبح أحدهما ، وحسن الآخر.

١٨٠