الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

ففيه : أوّلا : أنّه ورد في الأخبار المستفيضة إنّ أهل الذكر هم الأئمة عليهم‌السلام ، وقد عقد في اصول الكافي بابا لذلك ، وقد أرسله في المجمع عن عليّ عليه‌السلام ،

______________________________________________________

السياق (ففيه : أوّلا : أنّه ورد في الأخبار المستفيضة : إنّ أهل الذّكر هم الأئمة عليهم‌السلام) من أهل البيت (١).

(وقد عقد في اصول الكافي بابا لذلك) الخبر المستفيض (٢) (وقد أرسله) أي : هذا الخبر الطبرسي رحمه‌الله (في المجمع) وهو : تفسيره المشهور بمجمع البيان (٣) (عن علي عليه‌السلام) خبرا بهذا المعنى.

فمن تلك الرّوايات ما رواه محمد بن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «انّ من عندنا يزعمون : إنّ قول الله عزوجل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤) إنهم اليهود والنصارى؟.

قال : إذن يدعونكم إلى دينهم ، قال : ثم مال بيده الى صدره وقال : نحن أهل الذكر ، ونحن المسئولون» (٥).

وروى الوشاء عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «قال علي بن الحسين عليه‌السلام : على الأئمة من الفرض ما ليس على شيعتهم ، وعلى شيعتنا

__________________

(١) ـ راجع شواهد التنزيل للحاكم : ج ١ ص ٣٣٤ ح ٤٥٩ ، ينابيع المودة : ص ٥١ وص ١٤٠ ، روح المعاني : ج ١٤ ص ١٣٤ ، تفسير الطبري : ج ١٤ ص ٨٠٩ ، عبقات الانوار : ج ١ ص ٢٨٥ ، صحيح مسلم : ج ٢ ص ٣٦٨ ، صحيح الترمذي : ج ٥ ص ٣٠ ، مسند أحمد بن حنبل : ج ١ ص ٣٣٠ ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج ١ ص ١٨٥ ، المناقب للخوارزمي : ص ٢٣ وص ٢٢٤.

(٢) ـ للمزيد راجع الكافي (اصول) : ج ١ ص ٢١١ ح ٧.

(٣) ـ انظر مجمع البيان : ج ٧ وج ٨.

(٤) ـ سورة النحل : الآية ٤٣.

(٥) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٢١١ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦٣ ب ٧ ح ٣٣٢٠٥.

٣٨١

______________________________________________________

ما ليس علينا ، أمرهم الله عزوجل أن يسألون قال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) فأمرهم أن يسألونا ، وليس علينا الجواب ، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا» (٢).

وفي رواية أبي بكر الحضرمي ، قال : «كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام ودخل عليه الورد أخو الكميت ، فقال : جعلني الله فداك اخترت لك سبعين مسألة ، ما يحضرني منها مسألة واحدة.

فقال : ولا واحدة يا ورد؟.

قال : بلى قد حضرني منها واحدة.

قال : وما هي؟.

قال : قول الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣) من هم؟.

قال : نحن. قلت : علينا أن نسألكم؟.

قال : نعم.

قلت : عليكم أن تجيبونا؟.

قال : ذاك إلينا (٤).

الى غيرها من الرّوايات الواردة بهذا الشأن.

لكن لا يخفى : انّ الامام عليه‌السلام قد أجاب عن بعض مصاديق الآية المباركة ، وانّ ذلك المصداق هم أنفسهم عليهم‌السلام لا عن ظاهرها الأوّلي ، لوضوح : انّ كون

__________________

(١) ـ سورة النحل : الآية ٤٣.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٢١٢ ح ٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ب ٧ ص ٦٥ ح ٣٣٢١١.

(٣) ـ سورة النحل : الآية ٤٣.

(٤) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦٤ ب ٧ ح ٣٣٢١٠.

٣٨٢

وردّ بعض مشايخنا هذه الأخبار لضعف السّند ، بناء على اشتراك بعض الرّواة في بعضها وضعف بعضها في الباقي.

وفيه نظر ؛ لأن روايتين منها

______________________________________________________

الأنبياء عليهم‌السلام كانوا رجالا لا ملائكة ، هو شيء يجيب عليه أهل الكتاب بالايجاب ، فيندفع إشكال خصوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائلين ـ كما حكى عنهم القرآن :

(ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) (١).

وليس ظاهر الآية السؤال من أهل الكتاب عن كل شيء ، حتى يدعوهم الى اليهودية والنصرانية ، فانّ الآية عامة تشمل ذلك ، كما تشمل كل أهل ذكر ، والأئمة عليهم‌السلام من أظهر المصاديق ، كما انّ ما ورد في القرآن الحكيم من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) في الأوامر المرغوبة يكون الأئمة عليهم‌السلام من أظهر مصاديقها ـ كما ورد في النص ، والى غير ذلك.

(وردّ بعض مشايخنا هذه الأخبار ، لضعف السّند ، بناء على اشتراك بعض الرّواة في بعضها) أي : في بعض تلك الاخبار بين القوي والضعيف (وضعف بعضها) أي : في بعض الرواة (في الباقي) أي : باقي الأخبار ، فرواة تلك الاخبار :

امّا مشترك بين الضعيف والقوي ، وامّا ضعيف محض ولا يمكن العمل بمثل هذه الاخبار غير الحجّة سندا.

(وفيه) أي : في هذا الرّد الذي ذكره بعض مشايخنا (نظر ، لأنّ روايتين منها)

__________________

(١) ـ سورة الفرقان : الآية ٧.

(٢) ـ سورة آل عمران : الآية ١٠٢ ، سورة النساء : الآية ١٩.

٣٨٣

صحيحتان ، وهما روايتا محمّد بن مسلم والوشّاء ، فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرميّ حسنة أو موثّقة ، نعم ثلاث روايات أخر منها لا يخلو من ضعف ، ولا يقدح قطعا.

وثانيا : انّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم ، وجوب تحصيل العلم ، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّدا ، كما يقال في العرف : سلّ إن كنت جاهلا. ويؤيّده أنّ الآية واردة في اصول الدين

______________________________________________________

أي : من تلك الأخبار (صحيحتان ، وهما روايتا محمد بن مسلم (١) والوشاء (٢) فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرميّ (٣) حسنة أو موثقة ، نعم ثلاث روايات أخر منها) سندها (لا يخلو من ضعف ، و) لكن (لا يقدح) ضعف بعض الأخبار في حجّية غير الضعيف منها (قطعا) كما هو واضح.

(وثانيا : انّ الظاهر) أي : المتبادر (من وجوب السؤال عند عدم العلم) حيث قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤) (وجوب تحصيل العلم ، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّدا) فهو (كما يقال في العرف : سلّ إن كنت جاهلا) فانّ معناه : إذا جهلت شيئا فاسئل عنه العلماء حتى تعلم به ، فاللازم : أن يحصل العلم بسؤال أهل الذّكر ، أما خبر الواحد ، فكثير ما لا يوجب العلم ، فلا تدلّ الآية على حجّية مثل هذا الخبر.

(ويؤيّده) أي : الظاهر الذي ذكرناه (: انّ الآية واردة في اصول الدين ،

__________________

(١) ـ انظر الكافي (اصول) : ج ١ ص ٢١١ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦٣ ب ٧ ح ٣٣٢٠٥.

(٢) ـ انظر الكافي (اصول) : ج ١ ص ٢١٢ ح ٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦٥ ب ٧ ح ٣٣٢١١.

(٣) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٦٤ ب ٧ ح ٣٣٢١٠.

(٤) ـ سورة النحل : الآية ٤٣.

٣٨٤

وعلامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي لا يؤخذ فيها بالتعبّد إجماعا.

وثالثا : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب ، لا لحصول العلم منه ، قلنا : إنّ المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الامام عليه‌السلام ، وإلّا

______________________________________________________

وعلامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي) تحتاج الى العلم ، لما حقّق في محله : من انّ اصول الدين لا يكتفى فيها بخبر الواحد ، وان كان الخبر صحيحا و (لا يؤخذ فيها) أي : في اصول الدين (بالتعبّد إجماعا).

ومن المعلوم : انّ تخصيص المورد مستهجن ، بأن يقال : انّ اصول الدين وهي مورد الآية خارجة عنها.

لكن لا يخفى : عدم ورود هذا الاشكال ، لأنّ جواب أهل الذكر ، علم عرفي ، فاذا قيل : إذا لم تعرف الطريق ، فاسأل السوّاق ، فلا يراد الّا أن يكون له حجّة على الطريق لا العلم الوجداني.

وكذلك اذا قال : ان كنت لا تعلم دواء مرض ولدك ، فاسأل الأطباء ، الى غير ذلك.

والآية مطلقة ، وفي مورد اصول الدين بحاجة الى العلم بدليل خارج ، وذلك لا يوجب تقييد الآية المباركة ، فهذا الايراد الثاني غير ظاهر الوجه.

(وثالثا : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب ، لا لحصول العلم منه) أي : من السؤال (قلنا : انّ المراد من أهل العلم : ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الامام عليه‌السلام) فانّ سامع رواية أو روايتين أو ما اشبه لا يسمى من أهل الذكر.

(والّا) بأن كان المراد من أهل الذّكر : مطلق من علم شيئا ولو رواية ـ مثلا ـ

٣٨٥

لدلّ على حجّية قول كلّ عالم بشيء ولو من طريق السمع والبصر ، مع أنه يصحّ سلب هذا العنوان من مطلق من أحسّ شيئا بسمعه أو بصره.

والمتبادر من وجوب سؤال أهل العلم بناء على إرادة التعبّد بجوابهم هو سؤالهم عمّا هم عالمون به ويعدّون من أهل العلم في مثله. فينحصر مدلول الآية في التقليد ، ولذا

______________________________________________________

(لدلّ) قوله تعالى في الآية المباركة (على حجّية قول كلّ عالم بشيء ، ولو من طريق السّمع والبصر) من دون أن يكون من المجتهدين ، الّذين يفهمون الأحاديث ، ويطبقون الكبريات الكليّة على الصغريات الجزئية ، وبذلك يلزم حجّية قول كل إنسان يعلم مسألة واحدة حتى على المجتهد.

(مع انّه يصحّ سلب هذا العنوان) أي : عنوان أهل الذكر (من مطلق من أحسّ شيئا بسمعه أو بصره) أو سائر حواسه

الخمس.

(و) ذلك لأنّ (المتبادر من وجوب سؤال أهل العلم ـ بناء على إرادة التعبّد بجوابهم ـ) لا العمل بأخبارهم عند حصول العلم من كلامهم (هو : سؤالهم عمّا هم عالمون به ، ويعدّون من أهل العلم في مثله) مثل سؤال المقلد عن فتوى مرجعه ، فانّ المرجع يعدّ عرفا : من أهل الذكر في مثل الفتوى.

أمّا مثل سؤال المجتهد عن الفاظ الامام عليه‌السلام التي سمعها زرارة ، أو محمد بن مسلم ، فلا يسمّى زرارة ـ بالنسبة الى المجتهد الجامع ـ من أهل الذكر ، خصوصا إذا كان الرّاوي لا يفهم معاني كلام الامام عليه‌السلام ، وانّما حفظ الفاظه ، كالأعجمي الذي يحفظ زيارة الجامعة ، أو ما أشبه ، فهل يعدّ مثله : من أهل الذكر؟.

وعلى هذا : (فينحصر مدلول الآية في التقليد) فانّ المقلد هو الذي يسأل مجتهده عمّا يعلمه المجتهد ، فيكون المجتهد من أهل الذكر (ولذا) أي : لظهور

٣٨٦

تمسّك به جماعة على وجوب التقليد على العاميّ.

وبما ذكرنا يندفع ، ما يتوهّم من «أنّا نفرض الرّاوي من أهل العلم. فاذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم بالاجماع المركّب».

______________________________________________________

الآية في سؤال المقلد عن المجتهد (تمسّك به جماعة على وجوب التقليد على العاميّ).

لكن لا يخفى ، ضعف هذا الاشكال ، اذ المراد من الآية : سؤال أهل الذكر فيما هم فيه من أهل الذكر ، فيشمل ذلك حتى الرّواية الواحدة ولو من باب المناط ، ألا ترى : انّ المجتهد إذا لم يعلم حكم من أحرم من غير الميقات ، وعلم انّ راويا ثقة ضابطا ، عنده رواية واحدة عن الامام الصادق عليه‌السلام حول هذه المسألة ، يرى العرف : انه يلزم عليه السؤال عن هذا الرّاوي ، بمقتضى الآية المباركة ولو لم يكن الرّاوي من أهل الاستنباط ، بل ولو كان أعجميا لا يفهم معاني الفاظ الامام عليه‌السلام.

وعلى أي حال : فقد قال المصنّف : (وبما ذكرنا) : من انصراف أهل الذكر الى العلماء ، لا من حفظ رواية واحدة ـ مثلا ـ (يندفع ما يتوهم : من أنّا نفرض الرّاوي من أهل العلم) والاستنباط ، كالرواة الذين كانوا يعرفون الأحكام الشرعية من كلمات الائمة عليهم‌السلام ، كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل ، ومن أشبههم.

(فاذا وجب قبول روايته) لأنه من أهل الذكر ، فهو من صغريات الآية المباركة ، كذلك (وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم) من الرواة الذين رووا عن الائمة عليهم‌السلام ولو رواية واحدة ، أو ما أشبه ذلك.

وانّما نقول : بوجوب قبول قول مثل هذا الرّاوي (بالاجماع المركّب) اذ لم يفرق أحد بين الرّاوي العالم وغيره ، ولا بين الرّاوي الذي أخذ رواية واحدة عن

٣٨٧

حاصل وجه الاندفاع : أنّ سؤال أهل العلم عن الألفاظ التي سمعها من الامام عليه‌السلام ، والتعبّد بقوله فيها ليس سؤالا من أهل العلم من حيث انهم عالمون ، ألا ترى انّه لو قال : سل الفقهاء اذا لم تعلم ، أو الأطبّاء ،

______________________________________________________

الامام عليه‌السلام ، أو أخذ روايات متعددة.

فانّ خبر الواحد ، إذا كان حجّة فهو حجّة في الجميع ، وإذا لم يكن حجّة فليس بحجّة في الجميع ، فليس هناك قول بالتفصيل ، وحيث كان خبر الواحد حجّة إذا كان صادرا من العالم ، كذلك هو حجّة إذا كان صادرا ممّن لا يعلم الّا خبرا واحدا.

(حاصل وجه الاندفاع : أن) هناك فرقا بين سؤال المقلد عن المجتهد الّذي هو من أهل الذكر وبين (سؤال) المجتهد من (أهل العلم) الذي حفظ رواية واحدة ـ مثلا ـ بان يسأله المجتهد (عن الألفاظ التي سمعها من الامام عليه‌السلام والتعبّد بقوله) أي : بقول ذلك الرّاوي (فيها) أي في تلك الألفاظ.

فانّ سؤال المجتهد عن الرّاوي ، الذي حفظ رواية من الامام عليه‌السلام (ليس سؤالا من أهل العلم من حيث انّهم عالمون).

ومن المعلوم : انّ الآية تدل على وجوب السؤال من أهل العلم بما إنهم عالمون ، لا لأنّهم حفظوا رواية عن الامام ، وذلك لأنّ أهل الذكر لا يطلق إلّا على العالم بما انه عالم.

(ألا ترى انّه لو قال : سل الفقهاء إذا لم تعلم ، أو الأطباء) إن كنت مريضا ، أو المهندسين إذا كنت تريد بناء الدار ، تبادر الى الذهن ، انّ اللازم : سؤال الفقهاء من حيث هم فقهاء ، والأطباء من حيث هم أطباء ، والمهندسين من حيث هم مهندسين.

٣٨٨

لا يحتمل أن يكون قد أراد ما يشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة من قيام زيد ، وتكلّم عمرو ، وغير ذلك.

ومن جملة الآيات ، قوله تعالى في

______________________________________________________

و (لا يحتمل أن يكون قد أراد ما يشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة) التي يحفظها الناس من الذين هم ليسوا بفقهاء ، ولا أطباء ، ولا مهندسين (من) مثل (قيام زيد ، وتكلّم عمرو ، وغير ذلك) ممّا يدرك بأحد الحواس الخمس.

وهكذا قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (١) فانه بمعنى : اسألوهم عمّا يعلمونه ويعدون من أهل العلم فيه ، فاللازم : سؤال أهل الذكر بما هم أهل الذكر ، والرّاوي الذي حفظ رواية واحدة ، أو ما أشبه ، لا يسمّى أهل الذكر.

ولا يخفى : انّ هذا الجواب أيضا محل تأمل ، اذ أيّ مانع من عقل ، أو شرع ، أو عرف ، أن يسأل الانسان عن طريق النجف ممّن يعرف هذا الطريق فقط ، وإن لم يكن من أهل العلم بالطرق.

وكذلك بالنسبة إلى السؤال الفقهي ، والطبي ، والهندسي ، وغير ذلك ، فانّ من يعرفها ، عالم بالنسبة الى من لا يعرفها.

ولهذا لم يفرّق الفقهاء ، بين السؤال من الرّاوي الّذي حفظ رواية واحدة عن الامام عليه‌السلام ، أو حفظ جملة من روايات واستنبطها أيضا ، فكل جاهل في مورد جهله ولو كان من العلماء الكبار ، يلزم عليه : أن يسأل من كل عالم في مورده ، وإن كان من غير العلماء ، إذا كان ثقة ضابطا.

(ومن جملة الآيات) التي استدل بها لحجّية خبر الواحد (قوله تعالى في

__________________

(١) ـ سورة النحل : الآية ٤٣.

٣٨٩

سورة البراءة : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

مدح الله ـ عزوجل ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بتصديقه للمؤمنين ، بل قرنه بالتصديق بالله جلّ ذكره فاذا كان التصديق حسنا يكون واجبا.

______________________________________________________

سورة البراءة : (وَمِنْهُمُ)) أي : من المنافقين ، لأنّ السورة في عداد ذكر جملة من صفات المنافقين الذين كانوا ينافقون في مختلف جوانب الاسلام ((الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)).

والمراد بالاذن : إنه يستمع الى كل أحد ، من غير أن يرد عليه ، سواء كان الكلام صحيحا أو باطلا ، كما هو شأن الرجال العظام ذووا الهمم الكبار ، فانّ العظيم لا يرد من الكلام الّا ما كان ضارا بالدّين أو الدنيا أو كان مورد النهي عن المنكر ، وأمّا ما عدا ذلك ، فانه يغضي عنه ، ويمرّ عليه مرور الكرام.

قال تعالى : ((قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)) (١) وتقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة لحجّية خبر الواحد ، هو : إنه (مدح الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتصديقه للمؤمنين) ممّا يدل على انّ تصديق المؤمن من الصفات الحسنة ، فالرّاوي الذي يروي عن الامام عليه‌السلام بما انّه مؤمن ، تصديقه حسن ، ومعنى حسنه : قبوله.

(بل قرنه) أي جعل الله سبحانه وتعالى تصديق الرّسول للمؤمنين مقارنا (بالتصديق بالله جلّ ذكره) حيث قال : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) (فاذا كان التصديق حسنا يكون واجبا) إذ لم يقل أحد : بانّه يجوز التصديق وليس

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

(٢) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

٣٩٠

ويزيد في تقريب الاستدلال وضوحا ما رواه في فروع الكافي ، في الحسن بابن هاشم ، أنّه كان لاسماعيل بن أبي عبد الله دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن. فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا بنيّ! أما بلغك أنه يشرب الخمر؟ قال : سمعت الناس يقولون. فقال : يا بنيّ! إنّ الله ـ عزوجل ـ يقول :

______________________________________________________

بواجب.

(ويزيد في تقريب الاستدلال) بالآية المباركة (وضوحا ، ما رواه في فروع الكافي في) الخبر (الحسن) ووجه كونه حسنا وليس بصحيح ، هو (ب) سبب وجود (ابن هاشم) في السند ، فانّ جماعة من الرجال قالوا : انّ ابن هاشم امامي ممدوح ، والمدح لا يثبت عدالته حتى نلحقه بالصحاح.

لكن لا يخفى : ان جماعة آخرين ذكروا عدالته ، فالخبر من الصحاح وليس من الحسان.

وهو : (أنّه كان لاسماعيل بن أبي عبد الله) الصادق عليه‌السلام (دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج) في تجارة (إلى اليمن) فأعطاه إسماعيل دنانيره ليبتاع بها بضاعة ، فأكلها ذلك التاجر ولم يأت منها بشيء ، لا الدنانير ولا البضاعة.

(فقال له ابو عبد الله عليه‌السلام : يا بني أما بلغك انّه) أي : انّ هذا الرّجل التاجر الذي أعطيته دنانيرك (يشرب الخمر) فلما ذا سلّمته دنانيرك؟.

(قال) إسماعيل : يا أبت (سمعت الناس يقولون) عنه انّه يشرب الخمر ، ولم أتحقق ذلك بنفسي ، ولذا سلّمته الدنانير.

(فقال) له أبو عبد الله عليه‌السلام : (يا بنيّ ، إنّ الله عزوجل يقول) في مدح

٣٩١

(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ). يقول : يصدّق الله ، ويصدّق المؤمنين ، فاذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم».

______________________________________________________

نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ((يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١) يقول : يصدّق الله ، ويصدّق المؤمنين) فلما قال لك المؤمنون : انّه يشرب الخمر ، لزم عليك تصديقهم في :

عدم ترتيب الأثر على فعل ذلك التاجر ، وأن لا تسلمه دنانيرك (ف) انه (إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم) (٢).

ولا يخفى : ان استدلال الامام عليه‌السلام بالآية المباركة ، دليل على لزوم تصديق المؤمنين ، حيث ان الرواة الثقاة لا شك في انهم من المؤمنين ، فاللازم : تصديقهم.

أمّا نص الخبرين : خبر المنافق في شأن نزول آية الاذن ، وخبر الصادق عليه‌السلام في قصة إسماعيل ، فقد روى القمي : «انّ عبد الله بن نفيل كان منافقا ، وكان يقعد الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم ، فيسمع كلامه وينقله الى المنافقين ينمّ عليه ، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

يا محمّد إنّ رجلا من المنافقين ، ينمّ عليك ، وينقل حديثك إلى المنافقين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من هو؟.

فقال : الرجل الأسود ، كثير الشعر ، ينظر بعينين كأنّهما قدران ، وينطق بلسانه شيطان.

فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبره ، فحلف إنّه لم يفعل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قبلت منك فلا تقع.

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٩ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٨٣ ب ٦ ح ٢٤٢٠٧ (بالمعنى).

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فرجع إلى أصحابه فقال : إنّ محمدا اذن أخبره الله : إنّي أنمّ وأنقل أخباره فقبل ، فاخبرته : إنّي لم أفعل فقبل.

فأنزل الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) (١) الى آخر الآية».

وأما خبر إسماعيل ففي الرّواية : «إنه كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه‌السلام دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : يا أبت إنّ فلانا يريد الخروج إلى اليمن ، وعندي كذا وكذا دينارا فترى أن أدفعها يبتاع لي بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟.

فقال إسماعيل : هكذا يقول الناس.

فقال : يا بنيّ لا تفعل.

فعصى أباه ، فدفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأت بشيء منها ، فخرج إسماعيل وقضى إنّ أبا عبد الله عليه الصلاة والسلام حجّ ، وحجّ إسماعيل تلك السّنة ، فجعل يطوف البيت وهو يقول :

اللهم اجرني وأخلف عليّ.

فلحقه أبو عبد الله عليه‌السلام فهمزه بيده من خلفه وقال له : مه يا بنيّ ، فلا والله مالك على الله هذا ، ولا لك أن يؤجرك ، ولا يخلف عليك ، وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته.

فقال إسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، وإنّما سمعت النّاس يقولون.

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

٣٩٣

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ المراد بالاذن السريع التصديق والاعتقاد بكلّ ما يسمع ، لا من يعمل تعبّدا بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدقه. فمدحه عليه‌السلام ، بذلك ، بحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم اتّهامهم.

______________________________________________________

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بنيّ إنّ الله عزوجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١) يقول : «يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين» ، فاذا شهد عندك المسلمون فصدقهم» (٢).

(ويرد عليه أولا : انّ المراد بالاذن : السريع التصديق والاعتقاد بكل ما يسمع) فاذا أخبر بشيء حصل له العلم من الخبر (لا من يعمل تعبدا بما يسمع ، من دون حصول الاعتقاد بصدقه).

فان قلت : سرعة الاعتقاد لا يعدّ مدحا ، لأنّ سريع الاعتقاد على خلاف المتعارف ، كسريع القطع ونحوه.

قلت : (فمدحه عليه‌السلام بذلك ، بحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم اتّهامهم) وحسن الظنّ صفة حسنة في الانسان ، فلا تدل الآية على حجّية خبر الواحد.

لكن يرد عليه : انّ حسن الظّن ، الموجب لحسن الاعتقاد ـ ايضا ـ أمر غير حسن ، لأنّ الحسن الاعتدال ، لا حسن الظّن ، أو سوء الظّن.

لا يقال : فكيف قالوا : حسن الظّن من الصفات الحسنة؟.

لأنّه يقال : انّما الحسن حسن الظّن الذي يوجب استقامة أمر المعاش والمعاد ،

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٩ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٨٣ ب ٦ ح ٢٤٢٠٧ (بالمعنى).

٣٩٤

وثانيا : انّ المراد من التصديق في الآية ليس جعل المخبر به واقعا وترتيب جميع آثاره عليه ، إذ لو كان المراد به ذلك لم يكن اذن خير لجميع الناس. إذ لو أخبره أحد بزنا أحد أو شربه أو قذفه

______________________________________________________

وهو في قبال سوء الظّن ، لا في قبال الاعتدال.

لكن يشكل على إيراد الشيخ : بأنّ تصديق المؤمنين حسن ، وهو محل الشاهد في الآية المباركة ، لا انّ محل الشاهد : «اذن» وإنما ذكر اذن من باب المصداق ، فانّ من مصاديق التصديق للمؤمنين كون المصدّق اذنا.

هذا ، والكلام في الآية طويل ، نكتفي منه بهذا القدر ، وإنما كان القصد الالماع الى عدم ورود إيراد المصنّف رحمه‌الله على دلالة الآية على حجّية خبر الواحد.

(وثانيا : انّ المراد من التصديق في الآية) في قوله سبحانه : (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١) هو : ترتيب بعض الآثار كعدم عقاب المخبر ، ولو كان عالما بكذبه أيضا.

لا انّ المراد : ترتيب جميع آثار الواقع ، الذي هو معنى الحجّية ، أي : (ليس جعل المخبر به واقعا وترتيب جميع آثاره) أي : آثار المخبر به (عليه) أي : على المخبر به ، بأن يرتّب جميع آثار الخبر عليه.

(اذ لو كان المراد به) أي : بالتصديق (ذلك) أي : ترتيب جميع آثار الواقع على الخبر (لم يكن «اذن» خير لجميع الناس) المؤمنين.

(اذ لو أخبره أحد : بزنا أحد ، أو شربه ، أو قذفه) لمؤمن أو مؤمنة ، والمراد

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

٣٩٥

أو ارتداده ، فقتله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جلده ، لم يكن في سماعه ذلك الخبر خير للمخبر عنه ، بل كان محض الشرّ له ، خصوصا مع عدم صدور الفعل منه في الواقع.

نعم ، يكون خيرا للمخبر من حيث متابعة قوله وإن كان منافقا مؤذيا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

______________________________________________________

بالقذف : عبارة عن رمي إنسان بالزنا ، أو اللواط ، أو السحق ، أو ما أشبه ذلك (أو ارتداده) بأن أخبر إنسان : بارتداد إنسان آخر.

(فقتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما لو استحق القتل (أو جلده) فيما لو استحق الجلد ، أو ما أشبه ذلك من العقوبات (لم يكن في سماعه) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم وتصديقه (ذلك الخبر ، خير للمخبر عنه) وهو المقتول ، أو المجلود ، أو مردود الشهادة ـ حسب قوله سبحانه : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) (١) ـ أو المغرّب في بعض أقسام الزنا ، حيث التغريب وحلق الرأس ، أو ما أشبه ذلك.

(بل كان محض الشرّ له ، خصوصا مع) كذب الخبر و (عدم صدور الفعل منه في الواقع) فانّه إذا صدّق المخبر ، ورتب على خبره آثار الواقع ، ولم يكن الخبر مطابقا للواقع ، كان ترتيب الأثر على الخبر شرا محضا بالنسبة الى المخبر عنه.

(نعم ، يكون) التصديق (خيرا للمخبر ، من حيث متابعة) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قوله) فلم يردّه (وإن كان) المخبر (منافقا مؤذيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما تقول الآية : ـ (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) (٢).

__________________

(١) ـ سورة النور : الآية ٤.

(٢) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

٣٩٦

على ما يقتضيه الخطاب في «لكم».

فثبوت الخير لكلّ من المخبر والمخبر عنه لا يكون الّا إذا صدّق المخبر بمعنى إظهار القبول عنه وعدم تكذيبه وطرح قوله رأسا مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة الى المخبر عنه.

فان كان المخبر به ممّا يتعلّق بسوء حاله لا يؤذيه في الظاهر ، لكن

______________________________________________________

فانه لو صدّق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول المنافق بترتيب جميع آثاره ، فأجرى الحد ونحوه على المخبر عنه ، لم يكن الّا خيرا للمخبر فقط ، لا لجميع المؤمنين بينما ظاهر الآية (على ما يقتضيه الخطاب في «لكم») : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير لجميع المؤمنين الذين آمنوا به ، سواء آمنوا واقعا كالمؤمنين الحقيقيين أو لم يؤمنوا واقعا ، وانّما ظاهرا فقط كالمنافقين.

إذن : (فثبوت الخير لكل من المخبر والمخبر عنه) سواء كان المخبر مؤمنا ، أو منافقا ، والمخبر عنه مؤمنا أو منافقا (لا يكون إلّا إذا صدّق) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (المخبر ، بمعنى : إظهار القبول عنه ، وعدم تكذيبه ، و) عدم (طرح قوله رأسا) من ناحية.

(مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التام) في الدّماء ، والفروج ، والأموال ، ووجاهات الناس ، وغير ذلك ، وهو لا يكون إلّا بأن يقبل الخبر ، الذي جاء به المنافق بحسب الظاهر ، ولكن لا يرتب الآثار على المخبر عنه ، بل يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علمه محتاطا (بالنّسبة الى المخبر عنه).

من ناحية اخرى (فان كان المخبر به) أي : الخبر (ممّا يتعلّق بسوء حاله) أي :

حال المخبر عنه ، بأن يقول المخبر ـ مثلا : فلان شارب الخمر ، أو لائط ، أو زان ، أو سارق ، أو ما أشبه ذلك (لا يؤذيه) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (في الظاهر) بالضرب ، والحدّ ، والتغريب ، وحلق الرأس ، وعدم قبول الشهادة ، ونحو ذلك (لكن

٣٩٧

يكون على حذر منه في الباطن ، كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل المتقدّمة.

ويؤيّد هذا المعنى :

______________________________________________________

يكون) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (على حذر منه) أي : من المخبر عنه (في الباطن) وواقع الأمر.

(كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل المتقدّمة) فانّه كان من المصلحة اظهار قبول الخبر من النّاس في انه يشرب الخمر ، فلا يتعمد على المخبر عنه في إعطائه مال التجارة ، لكن مع عدم ايذاء المخبر عنه ، وعدم الاعتماد عليه في الباطن ، فلا يستأمنه في إعطائه دنانيره للتجارة.

والحاصل : انّ الأمر دائر بين ثلاثة امور : ـ

الأوّل : الاعتماد على خبر المخبر في كل الآثار حتى في إجراء الحدّ على المخبر عنه.

الثاني : عدم الاعتماد على خبر المخبر وتكذيبه.

والثالث : الاعتماد على خبره بعدم تكذيبه ، مع عدم الاعتماد عليه في إجراء الآثار على المخبر عنه.

ومقتضى كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا للكلّ ، ـ حسب قول الله تعالى : ـ

(أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) (١) ـ هو : المعنى الثالث ، لأنّ في كلا المعنيين الأوّلين ، لا يكون خيرا للكلّ ، وانّما يكون خيرا للمخبر عنه فقط أو خيرا للمخبر فقط.

(ويؤيد هذا المعنى) الذي ذكرناه : من انّ المراد من التصديق : إظهار القبول

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٦١.

٣٩٨

ما عن تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام ، من أنّه يصدّق المؤمنين لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان رءوفا رحيما بالمؤمنين.

فانّ تعليل التصديق بالرّأفة والرّحمة على كافة المؤمنين ينافي إرادة قبول قول أحدهم على الآخر بحيث يترتّب عليه آثاره وإن أنكر المخبر عنه وقوعه ، إذ مع الانكار لا بدّ عن تكذيب أحدهما ، وهو مناف لكونه اذن خير ورءوفا ورحيما بالجميع

______________________________________________________

من المخبر فقط ، من دون ترتيب الآثار على المخبر عنه (ما عن تفسير العياشي ، عن الصادق عليه‌السلام : من انّه يصدّق المؤمنين ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رءوفا رحيما بالمؤمنين) (١).

والفرق بين الرأفة والرّحمة إذا ذكرا معا : ان الرأفة قلبي ، والرحمة عملي.

وإنما كان هذا الخبر مؤيدا لما ذكرناه من المعنى فلمّا ذكره المصنّف بقوله : (فانّ تعليل التّصديق بالرّأفة والرّحمة على كافة المؤمنين) انّما يناسب ارادة التصديق بمعنى : إظهار القبول ظاهرا ، وعدم ترتيب الآثار واقعا على المخبر عنه : وهذا (ينافي إرادة) التصديق بمعنى : (قبول قول أحدهم) وهو المخبر (على) ضرر (الآخر) وهو المخبر عنه (بحيث يترتب عليه) أي : على وقوع المخبر (آثاره) أي : آثار الخبر (وإن أنكر المخبر عنه : وقوعه) اي : وقوع المخبر به ، (إذ مع الإنكار ، لا بدّ عن تكذيب أحدهما وهو مناف لكونه اذن خير ورءوفا ورحيما بالجميع) فاذا أخبر زيد ـ مثلا ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ عمروا زنا ، فاذا رتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آثار الزنا على عمرو ، لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا بالنسبة الى عمرو ،

__________________

(١) ـ مصباح المتهجد : ص ٤٩٥ ، تفسير العياشي : ج ٢ ص ١٠١ ح ٨٣ ، تفسير الصافي : ص ٧١٠.

٣٩٩

فتعيّن إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا.

ويؤيّده أيضا : ما عن القميّ رحمه‌الله في سبب نزول الآية : «أنّه نمّ منافق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره الله ذلك ، فأحضره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله ، فحلف : أنه لم يكن شيء ممّا ينمّ عليه ، فقبل منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إنه يقبل كلّ ما يسمع. أخبره الله أني أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فقبل ، وأخبرته أنّي لم أفعل ، فقبل.

______________________________________________________

وانما يكون خيرا بالنسبة الى زيد فقط ، كما إنه اذا كذب زيدا ، يكون خيرا بالنسبة الى عمرو فقط ، لا بالنسبة الى زيد ، فلا يكون رءوفا رحيما بالنسبة الى جميع المؤمنين ، إذن (فتعين إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا) آنفا.

(ويؤيده أيضا ما عن القميّ رحمه‌الله في سبب نزول الآية ، انّه نمّ منافق) من النميمة ، بمعنى : انه نقل الأخبار السيئة الى هذا وذاك (على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كذبا (فأخبره الله ذلك) أي : انّ الله اخبر نبيه عن فعل النّمام (فاحضره) أي : احضر النمّام (النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله) لما ذا ينم عليه؟.

(فحلف) ذلك النّمام على (أنه لم يكن شيء ممّا ينم عليه) وانه لم يكن نمّاما.

(فقبل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يترتب الأثر على نميمته ، بان يعاقبه ، او يطرده ، أو ما أشبه.

(فأخذ) أي : بدأ (هذا الرّجل) النمّام (بعد ذلك ، يطعن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إنه يقبل كلّ ما يسمع ، أخبره الله : أني أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فقبل) من الله ما اوحى اليه ، فأحضرني (وأخبرته : أني لم أفعل ، فقبل) قولي ايضا ، فهو اذن

٤٠٠