الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

وأمّا الاجماع :

فقد ادّعاه السيّد المرتضى قدس‌سره ، في مواضع من كلامه ، وجعله في بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة.

وقد اعترف بذلك الشيخ ، على ما يأتي في كلامه ، إلّا أنّه أوّل معقد الاجماع بارادة الأخبار التي يرويها المخالفون.

______________________________________________________

وعليه : فالاخبار المحتمل صدورها ، او المشكوك صدورها ، بل والمعلوم صدورها ، لكن لا يعلم هل صدرت تقيّة ، أو لبيان الحكم الواقعي ، تعرض على الكتاب والسنّة ، لا مطلق الأخبار ، بينما يقول المانع : انّ الأخبار مطلقا ولو كانت غير محتملة الكذب سندا ، أو غير محتملة التقيّة دلالة ، تعرض على الكتاب والسنّة ، فالمانع يمنع عموما ، وهذه الأخبار تدلّ على المنع في الجملة.

(وأمّا الاجماع : فقد ادّعاه السيّد المرتضى قدس‌سره في مواضع من كلامه) حيث قال : انّ الاجماع قام على عدم عمل الشيعة بالخبر الواحد (وجعله) أي : جعل السيّد العمل بالخبر الواحد (في بعضها) أي : في بعض تلك المواضع (بمنزلة القياس في كون ترك العمل به) أي : بالخبر الواحد (معروفا من مذهب الشيعة) كما انّ ترك العمل بالقياس معروف من مذهبهم أيضا.

(وقد اعترف بذلك) أي : بالاجماع على عدم العمل بالخبر الواحد ، عند الشيعة (الشيخ ، على ما يأتي في كلامه ، الّا انّه أوّل معقد الاجماع) أي : الاجماع المنعقد على : عدم العمل بالخبر الواحد (بارادة الأخبار) الضعيفة السّند (التي يرويها المخالفون).

فقد قال الشيخ : بأنّ مراد المجمعين من قولهم : اجمعنا على عدم العمل ، بالخبر الواحد ، هو : المنع عن العمل بالخبر الضعيف المرويّ من طرق المخالفين.

٢٠١

وهو ظاهر المحكيّ عن الطبرسيّ في مجمع البيان ، قال : «لا يجوز العمل بالظنّ عند الاماميّة إلّا في شهادة العدلين وقيم المتلفات واروش الجنايات».

______________________________________________________

ولا يخفى : انّ الاجماع قد يكون له معقد ، مثل ما اذا قالوا : أجمعوا على الطمأنينة ، حال القراءة والذكر في الصلاة ، وقد لا يكون له معقد ، بأن قالوا : أجمعوا على لزوم الطمأنينة ، في الجملة ، فلا لفظ خاص يتعلق به الاجماع ، بل يكون من قبيل التواتر المعنوي.

وعليه : فاذا كان للاجماع معقد ، فلا يجوز مخالفته اطلاقا ، أمّا اذا لم يكن له معقد ، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقّن منه.

قال المصنّف : (وهو) أي : الاجماع على عدم العمل بالخبر الواحد (ظاهر المحكيّ عن الطبرسيّ ، في مجمع البيان) أيضا حيث (قال : لا يجوز العمل بالظنّ عند الاماميّة).

فانّ ظاهر هذا اللّفظ شامل للخبر الواحد ، لانّ الخبر الواحد ممّا يورث الظنّ النوعيّ (الّا في شهادة العدلين) فانّ القاضي اذا شهد عنده عدلان على شيء ، عمل بشهادتهما ، مع انه لا يعلم بالواقع ، بل يظنّ به ظنّا نوعيّا من باب شهادة العدلين.

(و) الّا في قول أهل الخبرة ، فانه ايضا يعمل بقولهم ، ولو لم يعلم بصحته بل يظنّ به ظنّا نوعيّا ، وذلك في (قيم المتلفات ، واروش الجنايات) (١).

فانّه اذا اتلف انسان على انسان شيئا ، سئل أهل الخبرة عن قيمة المتلف حتى

__________________

(١) ـ مجمع البيان : ج ٩ ص ١٣٣.

٢٠٢

والجواب :

أمّا عن الآيات فبأنّها ، بعد تسليم دلالتها ، عمومات مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة.

وأمّا عن الأخبار فعن الرّواية الاولى فبأنّها خبر واحد لا يجوز الاستدلال بها على المنع عن الخبر الواحد.

______________________________________________________

يعطى للمالك ، وكذلك بالنسبة الى الجنايات الواردة على الانسان أو الحيوان ، فان قيمة تلك الجناية يرجع فيها الى أهل الخبرة ، والى هنا ، تم استدلال المانعين عن العمل بالخبر الواحد ، ثم بدأ المصنّف في الجواب عن أدلتهم قائلا :

(والجواب : امّا عن الآيات فبأنّها) لا تدل على : المنع عن العمل بالخبر الواحد ، في الفروع الفقهية ، بل ظاهرها : المنع عن العمل بالظنّ في الاصول الاعتقاديّة ، لأن الكفّار كانوا ينكرون التوحيد والنبوّة ، والمعاد ، من باب الظنّ ، فالآية وردت ناهية عن ذلك ، فلا اطلاق لها حتى تشمل الفروع.

و (بعد تسليم دلالتها) نقول : انّها (عمومات مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة) الأربعة على حجّية خبر الثقة ، من : الكتاب والسنّة ، والاجماع والعقل.

لكن لا يخفى : انّ بعض الآيات آبية عن التخصيص ، كما ذكرناه ، في الاصول ، فاللازم حملها على الاصول الاعتقادية ـ كما فصلناه في موضعه ـ.

(وأمّا عن الأخبار ، فعن الرّواية الاولى) وهي قول ابي الحسن عليه‌السلام : ما علمتم انّه قولنا فالتزموه ، وما لم تعلموه فردوه الينا.

(فبانّها خبر الواحد ، لا يجوز الاستدلال بها على المنع عن الخبر الواحد) لأنّها ان دلّت على المنع عن خبر الواحد ، شمل نفسه ايضا وذلك يستلزم المناقضة.

هذا ، بالاضافة الى ان العلم ، وعدم العلم في الخبر ، يراد به الحجّة ،

٢٠٣

وأمّا أخبار العرض على الكتاب ، فهي وإن كانت متواترة بالمعنى الّا أنّها بين طائفتين ، احداهما ما دلّ على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب ، والثانية ما دلّ على طرح الخبر الذي لا يوافق الكتاب.

______________________________________________________

لا خصوصية العلم ، فانّ الحجّة هي المتبادرة الى الأذهان من العلم.

(وأمّا أخبار العرض على الكتاب) والسنّة في حجّية الخبر (فهي وان كانت متواترة بالمعنى) لا باللفظ ، والمراد بالمتواتر المعنوي ما اختلفت الفاظه ، لكنها تشير الى أمر واحد ، وهذه الأخبار من هذا القبيل ، فان الفاظها وان كانت مختلفة ، لكنها تشير الى معنى واحد ، وهو : لزوم عرض الأخبار على الكتاب والسنّة.

اذن : فلا يرد على هذه الأخبار : الاشكال الذي ذكرناه بالنسبة الى الخبر الأول.

(الّا انّها) أي : اخبار العرض منحصرة (بين طائفتين).

(احداهما : ما دلّ على طرح الخبر ، الذي يخالف الكتاب ، والثانية : ما دلّ على طرح الخبر ، الذي لا يوافق الكتاب).

ومن المعلوم : انّ هناك ثلاثة اقسام من الاخبار :

الاول : ما يخالف الكتاب.

الثاني : ما لا يوافق الكتاب.

الثالث : ما ليس بمخالف ولا موافق للكتاب.

مثلا : الخبر الذي يقول : لا يجب الحجّ اطلاقا ، مخالف للكتاب.

والخبر الذي يقول : يجب الحجّ كل عام لا يوافق الكتاب ، لأنّ الكتاب لم يقل بوجوب الحجّ على المستطيع في كل عام.

والخبر الذي يقول : بجواز تحليل الأمة من مالكها لغير المالك ، لا يوافق الكتاب ، ولا يخالفه ، لأنّه لم يذكر في الكتاب هذا الحكم اطلاقا ، لا سلبا ، ولا ايجابا.

٢٠٤

أمّا الطائفة الاولى ، فلا تدلّ على المنع عن الخبر الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب والسنّة.

فان قلت : ما من واقعة إلّا ويمكن استفادة حكمها من عمومات الكتاب المقتصر في تخصيصها على السنّة القطعيّة.

مثل قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ،

______________________________________________________

(أمّا الطائفة الاولى :) وهي : الطائفة التي تدل على طرح الخبر المخالف للكتاب (فلا تدلّ على المنع عن الخبر ، الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب والسنّة) لعدم صدق المخالف على ذلك الخبر.

فالدليل ـ وهو الرّواية المتقدّمة ـ أخصّ من المدّعى ، اذ مدّعى المانع : عدم حجّية خبر الواحد مطلقا ، وهو يشمل ما خالف الكتاب والسنّة وما لم يوجد مضمونه في كتاب أو سنّة ، بينما هذا الخبر دليل على طرح المخالف للكتاب والسنّة فقط ، دون ما لم يوجد مضمونه فيهما أصلا.

(فان قلت) ما من خبر الّا وهو مخالف للكتاب والسنّة ، أو موافق لهما ، وليس لنا ما ليس بموافق ولا مخالف ـ كما ذكرتم ـ اذ (ما من واقعة الّا ويمكن استفادة حكمها من عمومات الكتاب) فان في الكتاب عمومات تشمل كل واقعة واقعة.

(المقتصر في تخصيصها) أي تخصيص تلك العمومات (على السنّة القطعيّة) فقط ، فان السنّة القطعيّة هي التي تخصص عمومات الكتاب ، والّا فعمومات الكتاب تشمل كلّ حكم حكم ، من الأحكام ، التي يحتاج اليها الانسان.

(مثل : قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ...)) (١) حيث انه دليل على

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٩.

٢٠٥

وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ، الخ. و (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) ، و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

______________________________________________________

حليّة كلّ شيء الّا ما خرج.

(وقوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) (١) الى آخر الآية) حيث انّ هذه الآية الثانية خصّصت الآية الاولى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، فالمخصص هي ما ذكر في الآية الثانية ، وما ليس في الآية الثانية يجوز للانسان تناولها.

(و) قوله تعالى : ((فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً)) (٢) حيث انها دليل على حلّيّة كل الغنائم ، التي يغنمها الانسان بالطرق الشرعية ـ فلا شيء من الغنائم المشروعة مستثناة في القرآن الحكيم.

(و) قوله تعالى : ((يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...)) (٣) حيث دلّت الآية على انّ كل يسر مجاز فيه ، وكل عسر مرفوع عن الانسان.

ومن الواضح : انّ ما يبتلى به الانسان ، امّا يسر أو عسر ، فلا خارج عنهما اطلاقا حتى يقال : بأنّه شيء ليس في الكتاب والسنّة ، فكلّ خبر ، امّا موافق للكتاب وعموماته ، فيؤخذ به ، وامّا مخالف له ، فيطرح.

إلّا اذا كان الخبر المخالف مما قطع بصدوره ، ودلالته ، ومضمونه ، فيؤخذ به ، ولا يوجد في الاخبار ما يكون مباينا للقرآن كهذا ، وانّما الموجود هو امّا من باب التخصيص للكتاب ، أو من باب التقييد له.

لا يقال : ذكر الآية الكريمة : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) ، ليس فيه شيء زائد

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٧٣.

(٢) ـ سورة الانفال : الآية ٦٩.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٤) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

٢٠٦

ونحو ذلك فالأخبار المخصّصة لها كلّها ولكثير من عمومات السنّة القطعيّة مخالفة للكتاب والسنّة.

______________________________________________________

على : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (١).

لأنّه يقال : هناك ثلاثة أشياء : يسر ، وعسر ، وامر عادي.

ولم يذكر القرآن الكريم الأمر العادي ، لا في الآية نصا ، ولا في احدى الجملتين تضمنا ، لتبقى فجوة بينهما يتطلبها الذهن من الخارج ، كما هي عادة القرآن الكريم ، في كل الامور ، حتى في القصص والتاريخ ، من انه لا يذكر كلّ الخصوصيات فيها ليحفّز الانسان على التعليم ، والفحص ، واستطراق أبواب المعصومين عليهم‌السلام.

(ونحو ذلك) من العمومات القرآنية ، مثل قوله سبحانه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...) (٢).

وقوله سبحانه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ...) (٣) الى غيرها من الآيات العامة ، التي يشمل عمومها كل جزئي جزئي نحتاج اليه في حياتنا.

وعلى هذا : (فالأخبار) الآحاد (المخصّصة لها) أي : لعمومات الكتاب (كلّها) أي : كل تلك الأخبار (و) كذلك الأخبار المخصصة (لكثير من عمومات السنّة القطعيّة ، مخالفة للكتاب والسنّة) فيلزم طرحها.

وانّما فرّق المصنّف ، بين عمومات الكتاب ، حيث جعل كلها مخصصة ، وبين عمومات السنّة حيث جعل أكثرها مخصصة ، لأنّه لا عموم في الكتاب لم

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٢) ـ سورة الانعام : الآية ١٤٥.

(٣) ـ سورة النساء : الآية ٢٤.

٢٠٧

قلت : أوّلا : انّه لا يعدّ مخالفة ظاهر العموم ، خصوصا مثل هذه العمومات ، مخالفة والّا لعدّت الاخبار الصّادرة يقينا عن الأئمة عليهم‌السلام ، المخالفة لعمومات الكتاب والسنّة النبويّة ، مخالفا للكتاب والسنّة.

______________________________________________________

يخصص ، بينما هناك في السنّة ، بعض العمومات غير مخصصة.

(قلت) ما ذكرتم ـ من : انّ كل خبر لا يكون موافقا للحكم الموجود في عموم الكتاب والسنّة فهو مخالف لهما ـ : غير تام اذ الأخبار التي تخالف عمومات الكتاب الوسيعة جدا ، لا تسمّى : مخالفا لها ، فانّ في القرآن عمومات واسعة جدا ، وعمومات دونها في السعة.

فمثل قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) من العمومات الواسعة ، ولذا لا يقال : بأن حرمة محرمات النسب ، والمصاهرة ، ونحوها ، مخالفة لعموم قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

والى هذا اشار المصنّف بقوله : (أولا : انّه لا يعدّ مخالفة ظاهر العموم ، خصوصا مثل هذه العمومات) الوسيعة جدا (مخالفة) عرفا.

فانّ الأحكام التي تستفاد من هذه العمومات الوسيعة جدا ، لا يصدق عليها عرفا : انها موجودة في الكتاب والسنّة ، كما انه لا يصدق على الأخبار التي تخصص هذه العمومات : انها تخالف الكتاب والسنّة.

(والّا) بأن كانت الأخبار المخالفة لمثل هذه العمومات ، تعدّ مخالفة لعمومات الكتاب (لعدّت الأخبار ، الصّادرة يقينا عن الأئمة عليهم‌السلام ، المخالفة لعمومات) وردت في (الكتاب والسنّة النبويّة ، مخالفة للكتاب والسنّة).

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٩.

٢٠٨

غاية الأمر ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيخرج عن عموم أخبار العرض ؛ مع أنّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنّة يقطع بأنّها تأبى عن التخصيص.

______________________________________________________

فانّه لو كان المراد من المخالفة : مطلق المخالفة ـ ولو بالعموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ، فيما اذا كان العام والمطلق واسعين جدا ـ لزم طرح كل خبر مخالف لهما ، حتى ولو كان معلوم الصدور فيلزم انحصار الحجّة : في الكتاب والسنّة القطعيّة ، ويلزم تعطيل أكثر الأحكام وذلك بديهي البطلان.

فان قلت : إذن لما ذا ذكر القرآن الحكيم ، مثل هذه العمومات الوسيعة جدا.

قلت : ذكرها للالماع الى الخطوط العامة في الأحكام ، فهي بمثابة قول الطبيب للمريض : لا بد أن تشرب الدواء ممّا ليس الطبيب بصدد البيان حين يذكر هذه الجملة ، وانّما بصدد : ان لا يترك المريض نفسه بدون دواء ، فاذا قال الطبيب بعد ذلك اشرب الدواء الفلاني ، او قال : اجتنب الدواء الفلاني ، لم يكن من قبيل المطلق والمقيد ، ولا أحد كلاميه مخالفا مع الآخر.

(غاية الأمر : ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب الله ، وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيخرج عن عموم أخبار العرض) فالأخبار القطعية الصّدور ، خارجة عن عموم اخبار العرض ، ويعمل بها مع انها مخالفة لكتاب الله وسنّة نبيه.

هذا (مع انّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنّة ، يقطع بأنّها تأبى عن التخصيص) لأنّها بصدد : انّ القرآن هو المحور مطلقا وأنّ كل شيء يخالفه يجب أن يطرح.

وعليه : فكيف يمكن أن يقال : انّ القرآن هو المحور وكل مخالف له يطرح الّا انه ليس بمحور ، ويقبل مخالفه في الأحكام العامّة الواسعة جدا؟ فهل هذا الكلام

٢٠٩

وكيف ترتكب التخصيص في قوله عليه‌السلام : «كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» ، وقوله : «ما أتاكم من حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل» ، وقوله عليه‌السلام : «لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فانّا إن حدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة»

______________________________________________________

إلّا تناقض.

وان شئت قلت : الأخبار المخصصة إما مخالفة ، أو ليست بمخالفة ، فان كانت مخالفة لزم تخصيص أخبار العرض ، والحال : ان اخبار العرض لا تخصص ، وان لم تكن مخالفة ، فكل الأخبار المخصصة ليست بمخالفة ، فيجوز العمل بها ، لأنّ اخبار العرض لا تشملها.

وعليه : فحيث لا يمكن أن نقول : بأنّ أخبار العرض مخصصة يجب أن نقول : بأنّ المخالفة بالتخصيص والتقييد ، ليست من المخالفة في شيء.

(وكيف ترتكب التخصيص في قوله عليه‌السلام : كلّ حديث لا يوافق كتاب الله ، فهو زخرف) (١) أي : له ظاهر جميل وباطن غير جميل.

(وقوله عليه‌السلام : ما أتاكم من حديث لا يوافق كتاب الله ، فهو باطل) (٢) فانّه يدل على ان القرآن هو المحور ، الكلّ في الكل ، ولا يمكن أن يكون هناك شيء يخالفه ، ويكون ذلك المخالف حقا (وقوله عليه‌السلام : لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فانّا إن حدّثنا ، حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة) (٣) فهل يمكن أن يقال :

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٩ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١١ ب ٩ ح ٣٣٣٤٧.

(٢) ـ تفسير العياشي : ج ١ ص ٢٠ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٣ ب ٩ ح ٣٣٣٨١ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٢ ب ٢٩ ح ٣٨.

(٣) ـ بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٩ ب ٢٩ ح ٦٢ ، رجال الكشي : ج ٣ ص ٢٢٤ ح ٤٠١.

٢١٠

وقد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «ما خالف كتاب الله فليس من حديثي ، أو لم أقله» ، مع أنّ أكثر عمومات الكتاب قد خصّص بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وممّا يدلّ على أنّ المخالفة لتلك العمومات لا تعدّ مخالفة ، ما دلّ من الأخبار على بيان ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة النبويّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ بناء على تلك العمومات

______________________________________________________

لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، الّا في الموارد الفلانية ، فانا نقول فيها : خلاف القرآن؟ وهل هذا إلا من التناقض الواضح؟.

(وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : ما خالف كتاب الله ، فليس من حديثي ، أو لم أقله) (١) والترديد ب «أو» بين الجملتين امّا من الرّاوي ، وانّه شكّ في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فليس من حديثي ، أو قال : لم أقله ، أو أنّ المراد بأو : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مرة ذلك ، وقال اخرى هذا ـ (مع انّ أكثر عمومات الكتاب ، قد خصّص بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقوله : ما خالف كتاب الله فليس من حديثي ، يجب أن يراد به : ما خالفه بالتّباين ، لا ما خالفه بالعموم والخصوص ، أو الاطلاق والتقييد. (وممّا يدلّ على انّ المخالفة لتلك العمومات) القرآنية على نحو : العموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد (لا تعدّ مخالفة) وانّ أخبار العرض على القرآن لا تطرد الأخبار المخصّصة والمقيّدة ، وانّما تطرد الأخبار المخالفة للقرآن على نحو التباين فقط ، هو (ما دلّ من الأخبار على بيان : ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة النبويّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اذ بناء على تلك العمومات) بأن قلنا : انّ عمومات

__________________

(١) ـ قرب الاسناد : ص ٤٤ ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٨ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١١ ب ٩ ح ٣٣٣٤٨ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٢٧ ب ٢٩ ح ٥.

٢١١

لا توجد واقعة لا يوجد حكمها فيها.

فمن تلك الأخبار : ما عن البصائر والاحتجاج وغيرهما مرسلة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : «ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لازم ، ولا عذر لكم في تركه ، وما لم يكن في كتاب الله تعالى وكانت فيه سنّة منّي فلا عذر لكم في ترك شيء ،

______________________________________________________

الكتاب شاملة لكل الأحكام ، حتى تكون الأخبار المخصصة ، مخالفة للقرآن ، فانه على ذلك (لا توجد واقعة لا يوجد حكمها فيها) أي : في عمومات الكتاب وكذا في السنّة النبويّة.

وعليه : فهذه الأخبار تشهد بما ذكرناه : من انّ الأخبار المخصصة ليست من الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، فانّه لو وجد في الكتاب كلّ الأحكام ، حتى تكون الأخبار المخصّصة والمقيّدة مخالفة للقرآن والسنّة ، لزم عدم صحة الأخبار التي تقول : انّ هناك أحكاما لا توجد في القرآن.

وذلك للتلازم بين القول : بشمول القرآن لكل الاحكام ، وبين القول : بعدم وجود مصداق لهذه الاخبار ، الدالة على عدم وجود بعض الأحكام في القرآن.

(فمن تلك الأخبار) الدالّة على ان بعض الأحكام ، لا توجد في القرآن (ما عن البصائر ، والاحتجاج ، وغيرهما ، مرسلة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : ما وجدتم في كتاب الله ، فالعمل به لازم ، ولا عذر لكم في تركه) والمراد : أعم من الواجب والحرام ، فاذا كان في القرآن واجب لا يجوز تركه ، واذا كان في القرآن حرام ، لا يجوز فعله ، وفعله عبارة عن : ترك ما في القرآن.

(وما لم يكن في كتاب الله تعالى وكانت فيه سنّة منّي ، فلا عذر لكم في ترك شيء) مما في سنّتي.

٢١٢

وما لم يكن فيه سنّة مني فما قال أصحابي فقولوا به ، فانّما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اخذ اهتدي ، وبأيّ اقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم ، واختلاف أصحابي رحمة لكم.

قيل : يا رسول الله ، ومن أصحابك ، قال : أهل بيتي ،

______________________________________________________

(وما لم يكن فيه سنّة منّي ، فما قال أصحابي ، فقولوا به) أي : اعملوا على طبق مقالتهم (فانّما مثل أصحابي فيكم) والمراد بهم : الائمة الطاهرون عليهم‌السلام ، فان مثلهم (كمثل النجوم ، بأيّها أخذ اهتدي) و : أخذ ، و : اهتدي ، كلاهما على صيغة المجهول (و) في صورة التعارض بين أقوالهم ، ف (بأي أقاويل أصحابي أخذتم ، اهتديتم) وهذا من قبيل ما روي : انه عند اختلاف الرّوايات يتخير الانسان ، بين أن يأخذ بهذه الرّواية ، أو بتلك الرّواية ، فقد قال عليه‌السلام :

«بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» (١).

كما هو مذكور في الوسائل في كتاب القضاء ، وفي غيره أيضا.

(و) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اختلاف أصحابي رحمة لكم) حيث للانسان ، أن يأخذ بهذا القول ، فيعمل به ، او بذاك القول ، فيعمل طبقه.

وذلك فيما اذا كانت هناك أخبار متعارضة وردت الينا ، ولم نعلم انّ أيها هو الواقع؟ فلربّما كان كلاهما واقعا ، فيكون الحكم تخييريا ، وقد بيّن الامام عليه‌السلام ، مرّة : هذا الطرف من التخيير ، واخرى : الطرف الآخر منه.

ثم انه (قيل يا رسول الله : ومن أصحابك؟ قال : أهل بيتي) (٢) علي والائمة

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٦ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٨ ب ٩ ح ٣٣٣٣٩.

(٢) ـ بصائر الدرجات : ص ١١ ح ٢ ، معاني الاخبار : ص ١٥٦ (بالمعنى) ، الاحتجاج : ص ٣٥٥ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٢٠ ب ٢٩ ح ١.

٢١٣

الخبر.

فانّه صريح في انّه قد يرد من الأئمة عليه‌السلام ، ما لا يوجد في الكتاب والسنّة.

______________________________________________________

الأحد عشر المعصومون من ذريته صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين ، الى آخر (الخبر) ، أما احتمال ان يريد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأصحاب : كل من احتف به في حياته ، فهو مخالف لمّا ورد في القرآن الحكيم : من انّ جملة منهم كانوا منافقين ولما ورد منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كثرت عليّ الكذابة» (١) ، الى غير ذلك.

ثمّ هل المنافق كمثل النجم يهتدى به؟.

وهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يأمرنا باتباع الصادقين والكاذبين على حد سواء؟.

ثم انّ المراد بالنجوم هي تلك التي يهتدى بها ، فان بيّن النجوم ما يهدي الى جهة خاصة في وقت مخصوص ، كما لا يخفى على من عرف حال السالكين في الصحاري والبراري والبحار والمحيطات ، بل في الفضاء أيضا ، حيث انهم يهتدون بتلك النجوم الى جهة الشمال ، أو الجنوب ، أو الشرق ، أو الغرب ، أو بين الجهتين ، لكن في وقت مخصوص أيضا.

مثلا : بعضها يهدي في الشتاء ، وبعضها في الصيف ، وبعضها في الخريف وبعضها في الربيع ، وبعضها في أوّل الليل ، وبعضها في آخر الليل ، وبعضها في القطر العراقي ، وبعضها في القطر اليماني ، الى سائر ما ذكر في هذا الباب من علم النجوم.

وعلى أي حال : (فانّه) أي : هذا الخبر المرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صريح في انّه : قد يرد من الائمة عليهم‌السلام ، ما لا يوجد في الكتاب والسنّة) ممّا يدلّ

__________________

(١) ـ الخصال : ص ٢٥٥ ح ١٣١ ، سليم بن القيس : ص ١٠٣ ، الصراط المستقيم : ج ٣ ص ١٥٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٠٧ ب ١٤ ح ٣٣٦١٤.

٢١٤

ومنها : ما ورد في تعارض الرّوايتين من ردّ ما لا يوجد في الكتاب والسنّة إلى الأئمة عليهم‌السلام ، مثل ما رواه في العيون عن أبي الوليد ، عن سعد بن محمّد بن عبد الله المسمعيّ ، عن الميثميّ ، وفيها : «ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ـ إلى أن قال : ـ وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى أن قال ـ وما لم تجدوا في شيء من هذه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك»

______________________________________________________

على انّ الأحكام ، لا تستفاد كلها من ظاهر الكتاب والسنّة حتى يكون كل مخصّص ومقيّد لعموماتهما مخالفا للكتاب والسنّة.

(ومنها ما ورد في تعارض الرّوايتين : من ردّ ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ، الى الائمة عليهم‌السلام) ممّا يدلّ على انّ بعض الأحكام ، لا يوجد في الكتاب ، ولا في السنّة.

(مثل ما رواه في العيون ، عن أبي الوليد ، عن سعد بن محمّد بن عبد الله المسمعيّ ، عن الميثميّ) في رواية (وفيها : ما ورد عليكم من خبرين مختلفين ، فاعرضوهما على كتاب الله ـ الى ان قال عليه‌السلام ـ : وما لم يكن في الكتاب ، فاعرضوهما على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الثابتة.

(الى أن قال : وما لم تجدوا في شيء من هذه ، فردّوا إلينا علمه) أي : اطلبوا منّا معرفة الحكم في ذلك.

واذا كانوا عليهم‌السلام في حال غيبة ـ كما في الحال الحاضر ـ فالردّ اليهم ، معناه : التوقف عن العمل ، أو الرد باحد المعاني المتقدمة في بعض الكلام السابق.

وعلى كلّ : (فنحن أولى بذلك) (١) أي : بأن يرد الشيء المجهول الينا الى آخر

__________________

(١) ـ عيون اخبار الرضا : ج ١ ص ٢٠ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٣٤ ب ٢٩ ح ١٥.

٢١٥

الخبر.

والحاصل : أنّ القرائن الدالّة على أنّ المراد بمخالفة الكتاب ليس مجرّد مخالفة عمومه او إطلاقه كثيرة يظهر لمن له أدنى تتبّع.

______________________________________________________

(الخبر) فان هذا مثل سابقه يدلّ أيضا على عدم وجود بعض الأحكام في ظاهر الكتاب والسنّة ، فاذا قيل : بان في عموم القرآن والسنّة يوجد كل حكم ، كان مناقضا هذا القول لهذا الخبر.

(والحاصل : انّ القرائن الدالة على انّ المراد بمخالفة الكتاب : ليس مجرّد مخالفة عمومه أو اطلاقه كثيرة ، يظهر لمن له أدنى تتبّع) فالمراد بمخالف الكتاب : الأخبار المخالفة للكتاب بالتباين ، كما يرى الانسان ذلك في بعض أخبار العامة.

ثم انّ الأئمة عليهم‌السلام ، انّما كانوا يفتون بالأخبار المختلفة لعدة امور :

الأول : كون الحكم تخييريا.

الثاني : كون الحكم تارة واقعيا ، وتارة للتقيّة على نفس الامام عليه‌السلام ، أو على السائل ، أو على من كان في المجلس ، أو من كان يبلغه الخبر ، فيعمل به ، فيؤخذ عليه ـ كما تقدّم الالماع الى هذين الأمرين ـ.

الثالث : ارادة الامام عليه‌السلام وقوع الاختلاف بذلك بين الشيعة حتى لا يعرفوا بطريقة واحدة فيأخذوا ، كما دلّ على هذا الاخير ، جملة من الروايات.

مثلا : روى الكافي عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاء رجل فسأله عنها ، فاجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فاجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان ، قلت : يا بن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به

٢١٦

ومن هنا يظهر ضعف التأمّل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد

______________________________________________________

صاحبه ، فقال : يا زرارة إنّ هذا خير لنا ، وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم.

ثم قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا ، وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال : فاجابني بمثل جواب أبيه» (١) ، الى غيره من الأخبار الواردة بهذه المضامين.

ولهذا قال الصدوق رحمه‌الله ، في وجه اختلاف الأصحاب : انّ أهل البيت عليهم‌السلام لا يختلفون ، ولكن يفتون الشيعة بمرّ الحق ، وربّما أفتوهم بالتقيّة ، فما يختلف من قولهم فهو للتقيّة ، والتقيّة رحمة للشيعة ، انتهى.

ولعله أشار بكلامه هذا الى القسمين من التقيّة : الثاني ، والثالث مما ذكرناه.

ثم انّه يدل على عدم وجود بعض الأحكام في الكتاب والسنّة : ما روي عن الصادق عليه‌السلام قال : «ما حجب الله علمه عن العباد ، فهو موضوع عنهم» (٢) وفي رواية أخرى : «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» (٣).

(ومن هنا) أي : مما تقدّم : من انّ المخالفة بالعموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ، ليست بمخالفة حتى يشملها الأخبار الدالّة على انّ مخالف القرآن لم يقولوه (يظهر : ضعف التأمّل) ممن تأمل (في تخصيص الكتاب) مثلا او تقييده (بخبر الواحد) معللا ذلك بقوله :

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٥ ح ٥.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٣ ، التوحيد : ص ٤١٣ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٣ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٦ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨٠ ب ٣٣ ح ٤٨.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦.

٢١٧

لتلك الأخبار ، بل منعه لأجلها كما عن الشيخ في العدّة ، او لما ذكره المحقّق من انّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد الاجماع على استعماله فيما لا يوجد فيه دلالة ، ومع الدّلالة القرآنيّة يسقط وجوب العمل به.

وثانيا :

______________________________________________________

بانّ الكتاب انّما هو لأجل كافة البشر ، فلا يمكن تقييده ، أو تخصيصه بالخبر الواحد ، اطلاقا ، وذلك مضافا (لتلك الأخبار) المتقدمة الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة.

(بل منعه) أي : منع تخصيص الكتاب وتقييده بالأخبار رأسا (لأجلها) أي :

لأجل تلك الأخبار المتقدّمة ، الدّالة على انّه لا يجوز مخالفة الكتاب (كما عن الشيخ : في العدّة) التصريح بذلك.

(أو لما ذكره المحقّق : من انّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد) انّما هو (الاجماع على استعماله) أي : استعمال الخبر الواحد (فيما لا يوجد فيه دلالة) من القرآن على الحكم الذي يراد العمل به.

(ومع) وجود (الدلالة القرآنية) على الحكم ، ولو بالعموم والاطلاق (يسقط وجوب العمل به) أي : بالخبر المخالف للكتاب من جهة العموم ، أو الاطلاق.

والحاصل : انه لا يخصّص عموم الكتاب بالخبر ، ولا يقيّد اطلاقه به ، وانّما ظهر ضعف هذا لمّا تقدّم : من انّ المراد بالمخالف : هو المخالف بالتباين ، لا بالعموم والخصوص المطلق ، أو بالعموم والخصوص من وجه ، أو بالاطلاق والتقييد.

(وثانيا) سلمنا : انّ الأحكام المستفادة من عمومات الكتاب والسنّة ـ ولو عمومات واسعة جدا ـ يصدق على تلك الأحكام : انها موجودة في الكتاب

٢١٨

أنّا نتكلّم في الأحكام التي لم يرد فيها عموم من القرآن والسنّة ، ككثير من أحكام المعاملات ، بل العبادات التي لم ترد فيها إلّا آيات مجملة أو مطلقة من الكتاب ،

______________________________________________________

والسنّة ، وسلّمنا : انّ الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة بالعموم والخصوص ، أو بالاطلاق والتقييد يصدق عليها : انها مخالفة لهما.

الّا (انّا نتكلّم في الاحكام التي) لا تستفاد من عمومات الكتاب وان استفيدت من العمومات العامة الفوقية ، مثل قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) ، وقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) (٢).

وانّما نريد بالأحكام التي لا تستفاد من عمومات الكتاب ، العمومات التي هي قريبة الى تلك الأحكام الجزئية ، فانّه (لم يرد فيها) أي : في تلك الأحكام الجزئية (عموم من القرآن والسنّة ، ككثير من أحكام المعاملات) من الرّهن ، والاجارة ، والمزارعة ، والمساقات ، والشركة ، وغيرها.

(بل العبادات التي لم ترد فيها الّا آيات مجملة) مثل قوله سبحانه :

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ...) (٣) حيث انّ الغسق هل هو أول الليل أو وسطه؟ فقد اختلفوا في ذلك في التفاسير ، وغيرها (أو مطلقة).

اذ بعض آيات الكتاب مطلقة وليست بمجملة ، وانّما تقيّد بسبب الرّوايات ، مثل قوله سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ...) (٤) حيث انه يشمل كلّ أقسام البيع الأربعة :

من بيع النقد ، والنسيئة ، والكالي بالكالي ، والسلف.

لكنّ الرّوايات خصّصت الآية باخراج الكالي بالكالي (من الكتاب) وكذلك

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٩.

(٢) ـ سورة الانعام : الآية ١٤٥.

(٣) ـ سورة الاسراء : الآية ٧٨.

(٤) ـ سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

٢١٩

إذ لو سلّمنا أنّ تخصيص العموم يعدّ مخالفة ، أمّا تقييد المطلق فلا يعدّ في العرف مخالفة ، بل هو مفسّر خصوصا على المختار من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد.

______________________________________________________

في المجملات ، أو المطلقات من السنّة القطعيّة.

(اذ لو سلمنا ان تخصيص العموم يعدّ) في العرف (مخالفة ، امّا تقييد المطلق ، فلا يعدّ في العرف : مخالفة) فانهم اختلفوا في انّ تقييد المطلق هل هو : مخالفة عرفيّة حتى يكون مجازا ، أو لم يكن مخالفة حتى لا يكون مجازا؟ بينما اتفقوا على انّ تخصيص العام : يوجب المجازيّة.

لكن الظاهر : انّه لا وجه لهذا التفصيل ، فكلاهما امّا يوجب المجازية ، واما لا يوجبها ، اذ أي فرق بين أن يقول : أحلّ البيع ، أو أحلّ البيوع ، في تقييد أو تخصيص ذلك ، بغير الغرريّ ، وتفصيل الكلام في محله.

والحاصل : ان الأحكام التي تستفاد من إطلاقات الكتاب والسنّة ، لا يصدق على الأخبار التي تقيّدها : انها مخالفة للاطلاقات.

مثلا : يستفاد من إطلاق «أقيموا الصلاة» : عدم تقيدها بالساتر ، لكن لا يصدق انّ هذا الحكم موجود في القرآن الكريم ، كما لا يصدق على الخبر الدّال على تقييدها : بالساتر : انه مخالف للكتاب ، حتى يطرح هذا الخبر المقيد ، لاجل الأخبار الآمرة بطرح مخالف الكتاب.

(بل هو) أي : هذا التقييد (مفسّر) للمطلق القرآني (خصوصا على المختار : من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد) فانّ جماعة ذهبوا : الى انّ المطلق اذا قيّد ، لم يسبّب ذلك مجازيته ، لأنّ للمطلق والمقيّد كلاهما لفظ واحد ، وانّما المطلق : فيما اذا لم يقيد من الخارج ، والمقيد : فيما اذا قيد من الخارج.

٢٢٠