الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-10-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

الوصائل

الى

الرسائل

تتمّة

المقصد الثالث

٤

أمّا الاولى

فالأقوى فيها أصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا ، إلّا أن يقوم دليل عامّ أو خاص على الصحة ، لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ، فاذا انتفى انتفى المركب ، فلم يكن المأتيّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده.

أمّا عموم جزئيته لحال الغفلة ،

______________________________________________________

(أمّا الاولى : فالأقوى فيها : اصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا ، إلّا أن يقوم دليل عام) على الصحة ، مثل ما ورد : «من وجوب سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة» (١) ، حيث ان هذا الدليل الثانوي يدل على ان نقص الجزء السهوي لا يكون ضارا (أو) يقوم دليل (خاص على الصحة) كما إذا ورد ـ مثلا ـ ان من ترك السورة سهوا فلا شيء عليه.

وإنّما قلنا بالبطلان إلّا ان يقوم دليل (لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة) لان اطلاق دليل الجزئية يقتضي الجزئية في كلا الحالين (فاذا انتفى) الجزء (انتفى المركب ، فلم يكن المأتيّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده) فان الفساد في الامور الخارجية كالتفاح وما أشبه معناه : عدم سلامته لنقص كالتعفن وما أشبه ، امّا في الامور الاعتبارية فمعنى الفساد : عدم تحقق المركب في الخارج أصلا ، إذ ما أتى به ناقصا لم يكن من ذلك الكلي المأمور به.

(أمّا عموم جزئيته لحال الغفلة) فلأن الخطاب لا يختلف بملاحظة العلم

__________________

(١) ـ اشارة الى مرسلة سفيان ، انظر نزهة الناظر ص ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ح ٢ ص ١٥٥ ب ٢٣ ح ٦٦ ، الوافي : ج ٢ ص ١٤٩ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢٥١ ب ٣٢ ح ١٠٥٦٣.

٥

فلأن الغفلة لا يوجب تغيير المأمور به ، فان المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجّه اليه قبل الغفلة ولم يحدث بالنسبة اليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ، لانّه غافل عن غفلته.

______________________________________________________

والجهل إذا كان الخطاب واحدا ، فلا يكون خطاب العالم الملتفت هو : وجوب الصلاة مع السورة ، وخطاب الجاهل الغافل هو : وجوب الصلاة بلا سورة ، لان ذلك مستلزم للدور كما مرّ في موضعه.

نعم ، لا بأس بذلك إذا كان بخطابين ، كما ورد بالنسبة إلى الجاهل بالجهر والقصر ، وكما ورد من الدليل العام أو الخاص بالنسبة إلى الغافل عن الحمد والسورة في الصلاة ، ولكن الكلام حسب الفرض إنّما هو في مقام لا يوجد فيه خطابان ، وإلّا لم يكن مجال للبحث عن البطلان وعدمه بسبب النقيصة غفلة أو جهلا.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال ما يلي : (فلأن الغفلة لا يوجب تغيير المأمور به ، فان المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجه اليه قبل الغفلة) فان تكليفه قبل الغفلة هو نفس تكليفه بعد الغفلة (ولم يحدث بالنسبة اليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ، لانّه غافل عن غفلته) إذ تنجّز كل تكليف موقوف على احراز موضوعه ، فلو وجبت الصلاة بلا سورة على الغافل توقف تنجز هذا التكليف على توجه المكلّف إلى الموضوع وهو : الغفلة عن السورة ، ومن الواضح : ان الغافل عن الشيء غافل عن غفلته أيضا ولو نبّهه أحد على غفلته زال عنه الغفلة وصار ملتفتا.

نعم ، يستثنى من ذلك أمور ثلاثة :

الأوّل : ما إذا كان في المسألة خطابان ـ على ما عرفت ـ.

٦

فالصلاة المأتي بها من غير سورة غير مأمور بها بأمر أصلا ، غاية الأمر عدم توجه الأمر بالصلاة مع السورة اليه ، لاستحالة تكليف الغافل ، فالتكليف ساقط عنه ما دام الغفلة ، نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام عنها ، فاذا التفت اليها والوقت باق وجب عليه الاتيان به بمقتضى الأمر الأوّل.

______________________________________________________

الثاني : ما إذا خوطب بعنوان آخر مثل ان يقول له : أيها المرتدي للثوب الأبيض.

الثالث : ما إذا خوطب بعبارة الغفلة بدون ذكر متعلق الغفلة ، كما إذا قال : أيها الغافل عليك كذا ، دون ان يلتفت إلى غفلته عن السورة حتى يصير ملتفتا.

لكن من دون هذه الامور الثلاثة لا طريق إلى تنجّز التكليف على الغافل ، فلا يبقى إلّا ان يكون مشتركا في التكليف مع الملتفت.

وعليه : (فالصلاة المأتي بها من غير سورة ، غير مأمور بها بأمر أصلا) لا بالأمر الأوّل لأنّ المفروض : ان متعلقه عام يشمل كل مكلّف من العالم والجاهل ، والملتفت والغافل ، ولا بأمر جديد لعدم امكان حدوث أمر آخر حال الغفلة بعنوان الغفلة مع ذكر متعلق الغفلة كما عرفت.

(غاية الأمر : عدم توجه الأمر بالصلاة مع السورة اليه) أي : إلى الغافل (لاستحالة تكليف الغافل) لانه غير قادر ، وغير القادر لا يمكن توجيه التكليف اليه.

إذن : (فالتكليف ساقط عنه) بالمرة (ما دام الغفلة) باقية (نظير من غفل عن الصلاة رأسا ، أو نام عنها) أو اغمي عليه ، أو ما أشبه ذلك ممّا يسلب فيه عقله أو التفاته (فاذا التفت اليها) أي : إلى الصلاة بعد ذلك (والوقت باق) مع بقاء سائر الشرائط (وجب عليه الاتيان به بمقتضى الأمر الأوّل) كما انه إذا التفت اليها

٧

فان قلت : عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتمّ فيما لو ثبت الجزئيّة بمثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» دون ما لو قام الاجماع مثلا على جزئيّة شيء في الجملة ، واحتمل اختصاصها بحال الذكر ،

______________________________________________________

والوقت خارج وكان أمر جديد بالقضاء وجب عليه القضاء ، وكذلك بدون أمر جديد عند من يرى القضاء بالأمر الأوّل.

(فان قلت :) شمول التكليف بجزئية الجزء لمثل الناسي والغافل إنّما يتم إذا ثبتت للجزئية عموم ، بدليل لفظي مثل : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) أو كان له معقد اجماع حتى يكون بحكم الدليل اللفظي ، دون ما إذا ثبت بدليل لبّي لا إطلاق له ، مثل ما إذا قام إجماع على جزئية شيء في الجملة واحتملنا اختصاصه بحال الالتفات فقط.

وعليه : فما ثبت جزئيته بدليل لبي ، فانه لا يكون له عموم ليشمل الغافل والناسي حتى يرجع اليه حال النسيان والغفلة فيحكم ببطلان العبادة ، بل يرجع شكه في صحة العبادة وفسادها لأجل النسيان والغفلة عن الجزء إلى الشك في الجزئية وعدمها ، فيكون مرجعها البراءة أو الاحتياط على ما تقدّم من الخلاف في الأقل والأكثر الارتباطيين.

وعليه : فان (عموم جزئية الجزء لحال النسيان) ونحو النسيان إنّما (يتمّ فيما لو ثبت الجزئيّة بمثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» دون ما لو قام الاجماع) الذي ليس له معقد ممّا هو دليل لبّي (مثلا على جزئية شيء في الجملة ، واحتمل اختصاصها بحال الذكر) والالتفات ، فاذا احتمل ذلك لم يثبت جزئيته لحال

__________________

(١) ـ مفتاح الفلاح ص ٢٠٢ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٨٢ ح ٦٥.

٨

كما انكشف ذلك بالدليل في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحة الصلاة المنسيّ فيها بعض الأجزاء على وجه يظهر من الدليل كون صلاته تامة.

مثل قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته ولا يعيد» وحينئذ ، فمرجع الشك

______________________________________________________

النسيان والغفلة ، وإذا شك في الجزئية ، فالأصل العدم.

(كما) لو (انكشف ذلك) أي : الاختصاص بحال الالتفات (بالدليل ، في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحة الصلاة المنسيّ فيها بعض الأجزاء) وذلك بأن كان التخصيص (على وجه يظهر من الدليل : كون صلاته تامة ، مثل قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته ولا يعيد») فقد روي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام : «فمن نسي القراءة فقد تمت صلاته ولا شيء عليه» (١) وغيره مما يثبت صحة هذه العبادة ، وينفي احتمال عموم الجزئية للغافل والناسي وعدم اختصاصها بحال الالتفات والذكر.

إذن : فالقول : بأنّ الجزء أعمّ من حال الالتفات وحال النسيان ، وإنّما جعل الشارع الناقص بدلا عن الكامل تعبدا غير تام.

(وحينئذ) أي : حين كان الدليل مجملا مع احتمال اختصاصه بحال الالتفات ولا عموم يرجع اليه ، ينتفي جزئية الجزء في حال الغفلة والنسيان ، وعندئذ (فمرجع الشك) في الصحة والفساد بالنسبة إلى هذه الصلاة الفاقدة ، يكون

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٨٧ ب ٢٧ ح ٧٤١٥ وقريب منه في الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٤٧ ح ١ وتهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٤٥ ب ٢٣ ح ٢٧ والاستبصار : ج ١ ص ٣٥٣ ب ٢٠٦ ح ١ وبحار الانوار : ج ٨٨ ص ١٤٢ ب ٥ ح ١.

٩

إلى الشك في الجزئية حال النسيان ، فيرجع فيها إلى البراءة والاحتياط على الخلاف.

وكذا لو كان الدالّ على الجزئية حكما تكليفيا مختصا بحال الذكر ، وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا ، فانه يقتصر في تقييده على مقدار قابليّة دليل التقييد ، أعني حال الذكر ، إذ لا تكليف حال الغفلة ، فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي

______________________________________________________

(إلى الشك في الجزئية حال النسيان ، فيرجع فيها إلى البراءة والاحتياط على الخلاف) المتقدّم في الشك في الجزء : من ان مجراه هو البراءة كما يقول به المشهور ، أو الاحتياط كما يقول به جمع.

(وكذا) عموم جزئية الجزء لا يتم (لو كان) الدليل (الدالّ على الجزئية حكما تكليفيا مختصا بحال الذكر) كما إذا قال سبحانه : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (١) فانه يستفاد من هذه الآية التكليف بالقراءة ، ومن التكليف بها يستفاد الجزئية (وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا) مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٢) (فانه يقتصر في تقييده) أي : في تقييد مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (على مقدار قابليّة دليل التقييد ، أعني : حال الذكر) والالتفات.

وإنّما يقتصر فيه على ذلك ، لانه كما قال : (إذ لا تكليف حال الغفلة) والنسيان ، فيحكم بأنّ الجزء إنّما هو جزء حال الالتفات ، وأمّا حال النسيان والغفلة فليس بجزء فيتمسك فيها باطلاق دليل العبادة ، فيحكم بصحتها.

وعلى هذا : (فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي) كما مثلنا له بانتزاع جزئية

__________________

(١) ـ سورة المزّمّل : الآية ٢٠.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

١٠

نظير الشرط المنتزع منه في اختصاصه بحال الذكر ، كلبس الحرير ونحوه.

قلت :

______________________________________________________

القراءة من التكليف بقوله سبحانه : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) يكون (نظير الشرط المنتزع منه) أي : من التكليف مثل : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (١) (في اختصاصه بحال الذكر) والالتفات.

امّا مثال الشرط المنتزع فهو : (كلبس الحرير) فان شرطية عدم لبس الحرير في الصلاة منتزع من أدلة حرمة الحرير ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيرا إلى الذهب والحرير : «إن هذين محرّمان على ذكور امتي» (٢) وقد تقدّم : انه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي ، فلبس الحرير في الصلاة غير جائز ، لكن التكليف لمّا لم يكن في حال النسيان ، فلا شرطية لعدم لبس الحرير في الصلاة.

(ونحوه) أي : نحو لبس الحرير في الحكم سائر الأمثلة المنتزعة ، كانتزاع شرطية اباحة المكان من حرمة الغصب حيث قال عليه‌السلام : «يا كميل انظر فيم تصلّي وعلى ما تصلي» (٣) ونحو ذلك.

إن قلت ذلك (قلت) : توجه الخطاب بالتام الأجزاء إلى الغافل غير ممكن لما عرفت : من انه في حال الغفلة لا يتمكن من الاتيان بذلك الجزء المغفول عنه ،

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٦.

(٢) ـ بحار الأنوار : ج ٨٣ ص ٢٤٨ ب ٥ ح ٩ وقريب منه في ج ٦٦ ص ٥٥٣ ب ٥ ح ٥٦ وج ٧٧ ص ١٦٧ ب ٧ ح ٢.

(٣) ـ بحار الانوار : ج ٧٧ ص ٢٧٥ ب ١١ ح ١ ، بشارة المصطفى : ص ٢٨ (بالمعنى).

١١

إن اريد بعدم جزئيّة ما ثبت جزئيته في الجملة في حق الناسي إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه ، فهو غير قابل لتوجّه الخطاب اليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجابا واسقاطا.

______________________________________________________

وتوجه الخطاب بالناقص عن ذلك الجزء المجهول وان كان ممكنا ، لكنه لا يمكن ان يكون بالعنوان بأن يقول : يا أيها الغافل عن السورة عليك بتسعة أجزاء الصلاة.

وأمّا إذا أمضى الشارع ما أتى به الناسي من العبادة الفاقدة للجزء ، وذلك بأن اكتفى منه بتسعة أجزاء وجعلها بدلا عن العبادة الواقعية ذات الأجزاء العشرة فهو تام ، لأنّ الشارع قد حكم في حقه بعد زوال غفلته.

هذا ، ولكن عدم الجزئية بهذا المعنى عند الشك ، مما لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البراءة والاحتياط ، لوضوح : ان هذا المعنى من البدلية واسقاط جزئية العاشر حكم وضعي لا يجري فيه أدلة البراءة ، بل الأصل عدم البدلية وعدم الاسقاط باتفاق العلماء ، إذ معنى بطلان العبادة الفاقدة للجزء نسيانا هو : عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا للمأمور به.

وعليه : فانه (ان اريد بعدم جزئية ما ثبت جزئيته) عندنا ، لكن لا بالدليل اللفظي ، بل بالاجماع على ما ذكرناه ، وذلك (في الجملة) أي : بان لم يكن للاجماع معقد حتى يلحق بالدليل اللفظي ، فيكون ما اريد به (في حق الناسي : إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه) بان يوجّه المولى الخطاب إلى المكلّف باتيان تسعة أجزاء (فهو غير قابل لتوجّه الخطاب اليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجابا واسقاطا) فانه كما يمتنع إيجاب الجزء العاشر يمتنع اسقاطه بالخطاب لما عرفت من انه يلزم ان يقول : يا أيها الغافل يجب عليك الجزء العاشر ، أو لا يجب عليك الجزء العاشر ، ومثل هذا الخطاب ممتنع.

١٢

وان اريد به إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلا عن العبادة الواقعية ، فهو حسن ، لأنّه حكم في حقّه بعد زوال غفلته ، لكن عدم الجزئيّة بهذا المعنى عند الشك ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البراءة والاحتياط ، لأنّ هذا المعنى حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البراءة ، بل الأصل فيه العدم بالاتفاق.

______________________________________________________

(وان اريد به : امضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلا عن العبادة الواقعية) بأن أمضى الشارع الأجزاء التسعة بدلا عن الأجزاء العشرة (فهو حسن) ويكون نظير جعل الشارع الجهر مكان الاخفات أو العكس ، أو جعل الاتمام موضع القصر بالنسبة إلى الجاهل.

وإنّما يكون بمعنى البدل حسنا (لأنّه) أي : جعل البدل (حكم) وضعي (في حقّه بعد زوال غفلته) فلا يحكم عليه بالأجزاء العشرة أو بالأجزاء التسعة حكما تكليفيا ، وإنّما يقول له بعد زوال غفلته : قد جعلت الأجزاء التسعة بدلا لك عن الأجزاء العشرة.

(لكن عدم الجزئيّة بهذا المعنى) المذكور : من بدلية التسعة عن العشرة (عند الشك) في جزئية الجزء العاشر (ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البراءة والاحتياط).

أما على رأي القائلين بالاحتياط فواضح ، لأنهم يقولون بالاجزاء العشرة لا بالتسعة.

وأما على رأي القائلين بالبراءة ، فانهم إنّما يقولون بالبراءة بالنسبة إلى التكليف لا بالنسبة إلى اثبات الوضع للأجزاء التسعة كما قال : (لأنّ هذا المعنى) أي : البدلية (حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البراءة) فان البراءة إنّما تجري في التكليف لا في الوضع (بل الأصل فيه) أي : في الحكم الوضعي (العدم بالاتفاق)

١٣

وهذا معنى ما اخترناه من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا ، بمعنى عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا عنه.

وممّا ذكرناه ظهر أنّه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للاجزاء في شيء ، لأنّ تلك المسألة مفروضة فيما إذا كان المأتيّ به مأمورا به بأمر شرعي ، كالصلاة مع التيمم أو بالطهارة

______________________________________________________

فلا يكون التسعة بدلا عن العشرة على نحو الحكم الوضعي.

(وهذا معنى ما اخترناه : من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا ، بمعنى : عدم كونها مأمورا بها) لما عرفت : من امتناع الاختلاف في التكليف ، بأن يكون تكليف الملتفت عشرة ، وتكليف الناسي تسعة (ولا مسقطا عنه) أي : عن المأمور بها لعدم ثبوت الاسقاط بالبراءة على ما عرفت.

(وممّا ذكرناه) : من ان هذه الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا غير مأمور بها بأمر أصلا ، لا بأمر التكليف خطابا ، ولا بأمر الوضع بدلا (ظهر : أنّه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للاجزاء في شيء) فلا يمكن ان يقال : ان هذه الأجزاء التسعة مجزية عن الأجزاء العشرة ، حتى يكون حال المقام حال الصلاة مع التيمم ، المجزية عن الصلاة مع الوضوء حال عدم الامكان من الماء.

وانّما لم تكن المسألة من تلك (لانّ تلك المسألة) أي : مسألة الاجزاء (مفروضة فيما إذا كان المأتيّ به مأمورا به بأمر شرعي) سواء كان أمرا اضطراريا ، بأن خاطب المولى العبد بالصلاة مع التيمم لقوله سبحانه : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (١) فقال (كالصلاة مع التيمم أو) كان أمرا ظاهريا فقال : كالصلاة (بالطهارة

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٤٣ ، سورة المائدة : الآية ٦.

١٤

المظنونة ، وليس في المقام أمر بما أتى به الناسي أصلا.

وقد يتوهّم : «أن في المقام أمرا عقليّا ، لاستقلال العقل ، بأنّ الواجب في حقّ الناسي هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في إتيان المأمور به بالأمر العقلي».

وهو فاسد جدا ،

______________________________________________________

المظنونة) وذلك إذا قلنا بان الظن حجّة في باب الطهارة عن الحدث ، كما قلنا به في باب الطهارة عن الخبث.

هذا (وليس في المقام) أي : مقام الغفلة عن الجزء العاشر (أمر بما أتى به الناسي أصلا) لا أمرا اضطراريا ولا أمرا ظاهريا لما عرفت : من استحالة ذلك.

(وقد يتوهّم :) فيقال : بأن عدم الأمر بالتكليف أو بالوضع بالنسبة إلى الغافل عن الجزء وان كان مسلّما ، إلّا («أن في المقام أمرا عقليّا) بهذه الأجزاء التسعة. وإنّما يتوهم ذلك (لاستقلال العقل ، بأنّ الواجب في حقّ الناسي) للجزء العاشر (هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في اتيان المأمور به بالأمر العقلي») وكلّما كان فيه أمر عقلي كان مجزيا ، فان بعض الفقهاء حكم لوجود الأمر العقلي في مثل الغافل : بأنّ واجبه هو ما أتى به من الاجزاء التسعة ، فيكون مندرجا في اتيان المأمور به بالأمر العقلي وان لم يكن هناك أمر شرعي به.

(و) لكن هذا التوهم (هو فاسد جدا) وذلك لأنّ العقل إنّما ينفي التكليف بالجزء المغفول عنه لعدم امكان مثل هذا التكليف ، لا ان العقل يثبت التكليف بما عدا الجزء المغفول عنه ، وهي : الأجزاء التسعة الباقية يدّعي لاتيان هذه الأجزاء التسعة الأمر بالعبادة الواقعية وان غفل عن عدم كون المأتي به هي العبادة الواقعية ، فانه كيف يمكن التكليف والحال ان التكليف سواء كان عقليا أم شرعيا يحتاج

١٥

لأنّ العقل ينفي تكليفه بالمنسيّ ولا يثبت له تكليفا بما عداه من الاجزاء.

وإنّما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة الواقعية غفلة عن عدم كونه إياها.

كيف والتكليف عقليا كان أو شرعيا ، يحتاج إلى الالتفات ، وهذا الشخص غير ملتفت إلى أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلف بما عداه.

ونظير هذا التوهّم توهّم أنّ ما يأتي به الجاهل المركب باعتقاد أنّه المأمور به من باب اتيان المأمور به بالأمر العقلي ،

______________________________________________________

إلى الالتفات والتوجه ، وهذا الشخص الغافل أو الناسي غير ملتفت إلى انه ناس للجزء أو غافل عنه حتى يكلّف بما عداه؟.

وإلى هذا المعنى من فساد التوهم أشار المصنّف حيث قال : (لانّ العقل ينفي تكليفه بالمنسيّ) والمغفول عنه حال نسيانه أو غفلته أو ما أشبه ذلك (ولا يثبت له تكليفا بما عداه من الاجزاء) التسعة (وإنّما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة الواقعية غفلة عن عدم كونه إياها) أي : عدم كون هذا المأتي به تلك العبادة الواقعية.

وعليه : فانه (كيف) يمكن كون الصلاة بلا سورة واجبة على الغافل وجوبا عقليا؟ كما قاله هذا المتوهم ، أو وجوبا شرعيا ، كما قاله بعض ممّن تقدّم (و) الحال ان (التكليف عقليا كان أو شرعيا ، يحتاج إلى الالتفات) إلى الموضوع والحكم معا (وهذا الشخص غير ملتفت إلى) الموضوع ، لأنه ليس بملتفت إلى (أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلف بما عداه) كما عرفت تفصيل ذلك.

(ونظير هذا التوهّم) المذكور وهو استقلال العقل بوجوب المأتي به (توهّم : أنّ ما يأتي به الجاهل المركب باعتقاد أنّه المأمور به من باب اتيان المأمور به بالأمر العقلي) فاذا قطع بأنّ السورة مثلا ليست جزءا للصلاة قطعا ، وذلك بأن كان

١٦

وفساده يظهر مما ذكرنا بعينه.

وأمّا ما ذكره : «من أن دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف ، وهو لاختصاصه بغير الغافل ، لا يقيّد الأمر بالكلّ إلّا بقدر مورده ، وهو غير الغافل ،

______________________________________________________

جاهلا مركبا وأتى بتسعة أجزاء ، فهذه التسعة قالوا بأنها مأمور بها بالأمر العقلي.

وفيه ما عرفت : من ان العقل يحكم بعدم جزئية السورة مع الجهل المركب ، لا بوجوب الصلاة ذات الأجزاء التسعة ، كما قال : (وفساده يظهر مما ذكرنا) في فساد التوهم الأوّل (بعينه) بلا زيادة ولا نقيصة.

هذا تمام الكلام في رد ما تقدّم من الجزء الأوّل من ان قلت وهو : ان عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتم فيما لو ثبت الجزء بمثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) دون ما لو قام الاجماع ـ مثلا ـ على جزئية في الجملة.

ثم شرع المصنّف في رد الجزء الثاني من ان قلت وهو : عدم عموم جزئية الجزء لحال النسيان لو كان الدال على الجزء حكما تكليفيا مختصا بحال الالتفات ومثّلنا له بقوله سبحانه : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٢) فقال :

(وأمّا ما ذكره) في ان قلت : (من أنّ دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف) مثل : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) فانّه يدل على وجوب القراءة بالحكم التكليفي (وهو) أي : هذا التكليف (لاختصاصه بغير الغافل ، لا يقيّد الأمر بالكلّ) في مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (إلّا بقدر مورده ، و) مورده (هو غير الغافل)

__________________

(١) ـ مفتاح الفلاح : ص ٢٠٢ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٨٢ ح ٦٥.

(٢) ـ سورة المزّمّل : الآية ٢٠.

١٧

فاطلاق الأمر بالكلّ المقتضي لعدم جزئيّة هذا الجزء له بالنسبة إلى الغافل بحاله».

ففيه : أنّ التكليف المذكور إن كان تكليفا نفسيا فلا يدل على كون متعلّقه جزءا للمأمور به حتى يقيّد به الأمر بالكلّ.

وإن كان تكليفا غيريّا ، فهو كاشف عن كون متعلّقه جزءا ، لانّ الأمر الغيريّ إنّما يتعلّق بالمقدمة ،

______________________________________________________

عن وجوب القراءة.

إذن : (فاطلاق الأمر بالكلّ المقتضي لعدم جزئيّة هذا الجزء) وهو القراءة (له) أي : للكل وهو الصلاة في المثال ، يبقى (بالنسبة إلى الغافل بحاله») سالما عن التقييد بالقراءة.

هذا هو تمام المراد من الجزء الثاني في ان قلت ، ثم اعترض عليه المصنّف بقوله : (ففيه : أن التكليف المذكور) بالجزء العاشر كالقراءة ـ مثلا ـ (إن كان تكليفا نفسيا) بأن كانت القراءة واجبا نفسيا (فلا يدل على كون متعلّقه) وهو القراءة (جزءا للمأمور به) الذي هو الصلاة (حتى يقيّد به الأمر بالكل) في مثل قوله سبحانه : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١).

(وإن كان تكليفا غيريّا) بأن كان الأمر بالقراءة من باب الجزئية للصلاة (فهو كاشف عن كون متعلّقه) وهو القراءة (جزءا) للصلاة ، وذلك (لانّ الأمر الغيريّ إنّما يتعلّق بالمقدمة) والغفلة عنها توجب انتفاء تنجّز الأمر بالنسبة إلى الغافل ، لكنها لا توجب انتفاء الجزئية كما قال :

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

١٨

وانتفاؤه بالنسبة إلى الغافل لا يدل على نفي جزئيّته في حقّه ، لأنّ الجزئية غير مسبّبة عنه ، بل هو مسبب عنها.

ومن ذلك

______________________________________________________

(وانتفاؤه) أي : انتفاء الأمر الغيري (بالنسبة إلى الغافل لا يدل على نفي جزئيّته في حقّه) بل يبقى جزءا حتى بالنسبة اليه ، وذلك لما قد عرفت : من ان الغفلة لا توجب انتفاء الجزئية (لأنّ الجزئية غير مسبّبة عنه) أي : عن الأمر (بل هو) أي : الأمر (مسبب عنها) أي : عن الجزئية ، فان الجزئية ليست بتابعة للأمر حتى تنتفي بانتفاء الأمر ، بل الأمر تابع للجزئية على ما ذكرناه.

والحاصل : ان التكليف بالقراءة ان كان نفسيا فلا ربط للقراءة بالصلاة ، لان الكلام في الجزء لا في أمر خارج عن الصلاة ، وان كان التكليف بالقراءة غيريّا ، فالقراءة جزء غفل عنها أم لم يغفل ، فكيف يقال : بأنها ليست جزءا إذا غفل المكلّف عنها؟.

نعم ، غاية الأمر : انه لا أمر بالقراءة حال الغفلة ، لكن عدم الأمر من جهة الغفلة لا يوجب عدم الجزئية ، إذ الأمر تابع للجزء لا ان الجزء تابع للأمر ، وذلك لما قد سبق : من ان المولى يتصور الاجزاء ، ثم يعتبرها اجزاء ، ثم يأمر بها ، فالأمر تابع وليس بمتبوع.

(ومن ذلك) الذي ذكرناه : من ان ارتفاع الأمر لا يوجب ارتفاع الجزء ، ظهر الفرق بين الجزء الذي فهم من الأمر وبين الشرط الذي فهم كذلك ، فان الشرط يرتفع بارتفاع الأمر ، بينما لا ترتفع الجزئية فيما لو فهم الجزء من التكليف بارتفاع أمره ، كما في فهم جزئية القراءة من قوله سبحانه : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (١).

__________________

(١) ـ سورة المزّمّل : الآية ٢٠.

١٩

يعلم الفرق بين ما نحن فيه وبين ما ثبت اشتراطه من الحكم التكليفي ، كلبس الحرير فانّ الشرطيّة مسببة عن التكليف ، عكس ما نحن فيه ، فتنتفي بانتفائه.

______________________________________________________

وهنا أراد المصنّف بيان ان الشرط الذي يفهم من التكليف ليس كالجزء الذي يفهم منه ، فانه إذا ارتفع التكليف ارتفع الشرط بخلاف الجزء ، فاذا اشترط ـ مثلا ـ عدم الغصبية في لباس المصلي من باب ان الغصب حرام منهي عنه ولا يجتمع الأمر والنهي ، فعدم الغصبية شرط ، لكن إذا غفل المكلّف عن كونه غصبا لم يكن نهي ، لانه لا يمكن نهي الغافل ، وإذا ارتفع النهي فلا شرطية ، فلا يتحقق حينئذ اجتماع الأمر والنهي.

وبذلك (يعلم الفرق بين ما نحن فيه) من الجزء الذي فهم من التكليف (وبين ما ثبت اشتراطه من الحكم التكليفي ، كلبس الحرير) وارتداء الغصب بالنسبة إلى الصلاة ، حيث تشترط الصلاة بعدم كون الساتر فيها حريرا للرجال ، وعدم كونه غصبا للرجال وللنساء ، وذلك لانه كما قال :

(فانّ الشرطية مسببة عن التكليف ، عكس ما نحن فيه) من الجزئية (فتنتفي) الشرطية (بانتفائه) أي : بانتفاء التكليف بينما لا تنتفي الجزئية بانتفاء التكليف ، وذلك لأن التكليف تابع للجزئية على ما عرفت ، لا أن الجزئية تابعة للتكليف ، فانه ما دام لم يعتبر الشارع الوحدة بين أمور متعددة منها القراءة ـ مثلا ـ لا معنى لتعلق الأمر الغيري بالقراءة ، فعند الغفلة ينتفي الأمر الغيري ولا يلزم من انتفائه انتفاء الجزئية.

بينما لا يكون الأمر كذلك في الشرط المفهوم من التكليف ، فان الشرطية تكون تابعة للتكليف لا ان التكليف تابع للشرطية ، فانه ما دام لم يكن الحرير

٢٠