الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

٤

والمراد بالتفكّر ابتلاء الأنبياء عليهم‌السلام ، بأهل الوسوسة ، لا غير ذلك ، كما حكى الله عن الوليد بن المغيرة : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ،) فافهم.

______________________________________________________

(والمراد بالتفكّر : ابتلاء الأنبياء) والأئمة عليهم‌السلام (بأهل الوسوسة) من الناس الذي يشككون في الأنبياء وفي دعوتهم ، وفي الأئمة الطاهرين والأولياء المقربين.

وعلى هذا ، فيكون معنى هذا الحديث هو ما ذكره الصدوق (لا غير ذلك) فان الانبياء معصومون ولا يكون فيهم شيء من الصفات السّيئة.

وأما ابتلاء الأنبياء بأهل الوسوسة : فهو (كما حكى الله عن الوليد بن المغيرة) انه دخل مجلس قومه وقال : أتزعمون انّ محمّدا مجنون ولم ير منه جنون ، أو كاهن ولم يحدّث كما يحدثه الكهنة ، أو شاعر ولم ير منه الشعر ، أو كاذب وهو مشهور بالصدق والأمانة؟ قالت قريش : فما ذا نقول فيه فاخذ يفكر في الجواب ويقدر التهمة تقديرا كما قال عنه تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي : انّه جعل نسبة الكذب إلى النبي تقديرا خاصا ، وقال : إنّه ساحر ، فتوعّده الله بالعذاب حيث قال سبحانه (فَقُتِلَ) أي : قتله الله ، وهذا من الدعاء على الوليد ، وليس معناه الأخبار ، وإنما معناه : التهديد بالموت والبوار ، ثم العقاب والعذاب على أنه (كَيْفَ قَدَّرَ) (١)) (٢) وهذا إظهار للتعجب منه بأنّه كيف استطاع ان يطعن النبي بما يناسب أذهان السذج من الناس حيث قال : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساحر.

(فافهم) فان هذا التفسير الذي ذكره الصدوق وإن كان حسنا من جهة تنزيه

__________________

(١) ـ سورة المدثر : الآيات ١٨ ـ ١٩.

(٢) ـ الخصال : ص ٨٩ ح ٢٧.

٥

قد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عمّا يقتضيه وضع الرّسالة.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

فانّ المحجوب حرمة شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد.

وفيه : أنّ الظاهر ممّا حجب الله تعالى علمه

______________________________________________________

الأنبياء ، إلّا انّه خلاف ظاهر الرواية.

أقول : وقد ذكرنا سابقا معنى مناسبا للرواية لا ينافي ظاهرها.

ثم انّ المصنّف قال : (قد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عمّا يقتضيه وضع الرّسالة) فانّ مقتضى هذه الرسالة : الاكتفاء بتحقيق فقرة : «رفع ما لا يعلمون» لأنّها هي محل الكلام في انها هل تدل على البراءة ، أو لا تدل عليها أمّا؟ سائر الفقرات فانّما ذكرناها استطرادا.

(ومنها) أي : من الروايات التي استدل بها للبراءة (قوله عليه‌السلام : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (١) ووجه تقريب الرّواية للدلالة على البراءة هو : ما ذكره المصنّف بقوله : (فانّ المحجوب : حرمة شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد) وكذلك المحجوب : وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فهو موضوع عن العباد ، هذا في الشبهة الحكمية ، وكذا في الشبهة الموضوعية ، كما إذا كان حيوان لم نعرف انّه كلب أو شاة ، ولم يؤدّ الفحص إلى نتيجة ، فهو موضوع عن العباد ، لأنّ الله حجب علمه أي : علم كونه شاة أو كلبا.

(وفيه : انّ الظّاهر ممّا حجب الله علمه) بقرينة نسبة الحجب إلى الله سبحانه

__________________

(١) ـ التوحيد : ص ٤١٣ ح ٩ ، الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٣ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٦ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨٠ ب ٣٣ ح ٤٨.

٦

ما لم يبيّنه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره ، فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير

______________________________________________________

وتعالى (ما لم يبيّنه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره) وتبديله الى الباطل ، إذ قد يكتم الانسان الحق ولا يبوح به وقد يصادر الحق وينشر مكانه الباطل.

وعليه : فاذا كان الله هو الحاجب ، كان الحكم موضوعا عنهم ، أمّا إذا بيّن الله سبحانه الحكم وإنّما لم يصل إلينا بسبب الاخفاء الصادر عن الأئمة عليهم‌السلام تقية ، أو بسبب انّ المخالفين أحرقوا الكتب ، وقتلوا الرواة ، وما أشبه ذلك ، فهو ليس ممّا حجبه الله ، وإنّما الحجب صار بسبب العصاة ومن أشبههم.

ثم الظاهر من الكتاب والسنة : انّ كل الأحكام قد بيّنها الله سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم كما في قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١).

وكما في الرّواية المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع حيث قال : «ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ، ويباعدكم من النار ، إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه» (٢).

هذا ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بين كثيرا من الأحكام للأوصياء من بعده ، لكنّ الناس حالوا دون إفادة الأوصياء تلك الأحكام.

وعليه : (فالرّواية مساوقة) أي : مرادفة في الدلالة (لما ورد عن مولانا أمير

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٣.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٧٤ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٤٥ ب ١٢ ح ٢١٩٣٩ ، بحار الأنوار : ج ٧٠ ص ٩٦ ب ٤٧ ح ٣ وقريب منه في أعلام الدين : ص ٣٤٢ ح ٣١ ومستدرك الوسائل : ج ١٣ ص ٢٧ ب ١٠ ح ١٤٦٤٣.

٧

المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها ، وسكت عن أشياء ، لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها ، رحمة من الله لكم».

______________________________________________________

المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله تعالى حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها ، وسكت عن أشياء ، لم يسكت عنها نسيانا) بل سكت عنها مصلحة (فلا تتكلفوها) أي : لا تسبّبوا لأنفسكم المشقة في امتثالها ، وذلك (رحمة من الله لكم) (١) أي : إن سكوته من جهة الرحمة عليكم حتى لا تقعوا في المشقة.

ولا يخفى : انّ جملة : «وضع عليه» معناها : أثبته عليه وكلفه به ، أمّا جملة «وضع عنه» فمعناها : رفع عنه ولم يكلفه به ، وفي الحديث : موضوع عنهم ، أي : مرفوع عنهم ، وقد تقدّم منّا : الفرق بين الوضع والرّفع ، ، فلا داعي إلى تكراره.

لكن لا يبعد أن يكون الحديث دالا على البراءة ، ولعلّ نسبة السكوت والحجب إلى الله تعالى يكون من جهة نسبة كلّ شيء إليه حتى الاضلال ، فانّ الكفار والمخالفين حين لم يؤمنوا وأصروا على كفرهم وخلافهم تركهم الله ليفعلوا ما شاءوا امتحانا لهم ، وللأنبياء والأئمة ، والمؤمنين ، فمنعوا الأنبياء والأئمة والرواة : عن بيان الأحكام كما قال سبحانه : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) (٣) الى غير ذلك.

ويؤيد هذا المعنى انه لو لم يبيّن الله حكما لم يكلف الناس بذلك الحكم

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٥٤٨ ح ١٥ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٧٥ ب ١٢ ح ٣٣٥٣١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٧٤ ب ١٢ ح ٥١٤٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٨ ص ٢٦٧ ب ١٠٢ (بالمعنى).

(٢) ـ سورة إبراهيم : الآية ٩.

(٣) ـ سورة الانعام : الآية ١١٢.

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فهو يكون تأكيدا لا تأسيسا ـ ويكون الحكم تأكيدا إن قال به العقل ، وتأسيسا ان تفرد به الشرع ـ.

ومن المعلوم : انّ التأسيس هو مقتضى الكلام لا التأكيد إلّا إذا كان قرينة على التأكيد ، ولا قرينة في المقام.

ثم ان معنى كلام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام هو : انّ الله قد جعل لكلّ من البيع ، والرّهن ، والنكاح ، وغيرها من الامور حدودا وشرائط ، فلا يصح التعدي عن تلك الحدود.

مثلا : حكم الله تعالى : انّه يلزم عدم مجهولية العوضين في البيع ، وعدم مجهولية الزوجين في النكاح ، وهكذا في سائر المعاملات ، فانّ لها شرائط اذا تعدّاها الانسان وقعت منه باطلة غير صحيحة.

كما فرض الله الصلاة والصيام والحج ، والزكاة ، ونحوها من العبادات وجعل لها حدودا وشرائط ، فلا يجوز للانسان عصيانها وتركها ، أو الزيادة والنقيصة فيها بما يوجب بطلانها.

كما انّ الله سكت عن وقت القيامة ، ووقت ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه ، وسكت عن بيان إنّ إبراهيم أفضل أم نوح ، إلى غير ذلك ، فالذي ينبغي للانسان هو أن لا يتكلّف معرفة وقت ظهور أو القيامة أو فضيلة هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ، وهكذا.

ولا يخفى : انّ هناك فرقا بين حديث الحجب ، وحديث علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فان الثاني ـ بعد بيان الجملتين : من الفرائض والحدود ـ لا يفيد إلّا سكوته تعالى عن الاشياء الخارجة عن الأحكام ، وليس عن الأحكام ، فانّ

٩

ومنها : قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلموا».

فانّ كلمة «ما» إمّا موصولة اضيف إليها السعة وإمّا مصدريّة ظرفيّة ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب.

وفيه : ما تقدّم في الآيات

______________________________________________________

الأحكام قد بينها ، بخلاف حديث الحجب ، فليس فيه هذه القرينة ، فيشتمل الأحكام أيضا ، ولهذا لا نرى بأسا بالاستدلال بحديث الحجب على البراءة ، كما استدل به كثير من الاصوليين (ومنها) أي : من الروايات التي استدل بها للبراءة (قوله عليه‌السلام : «النّاس في سعة ما لا يعلموا») (١) وفي قراءة هذه الجملة احتمالان أشار اليهما المصنّف بقوله : (فانّ كلمة «ما» امّا موصولة أضيف إليها السّعة) فيكون معناه : الناس في سعة الحكم الذي لا يعلمونه ، أو المراد : ب «ما» أعم من الحكم والموضوع ، أي : في سعة الشيء الذي لا يعلمونه موضوعا كان أو حكما ، ولا يخفى : انّ هذا المعنى أنسب بالحديث لأنّه مقتضى الاطلاق.

(وإمّا مصدرية ظرفية) فتكون «ما» بمعنى : «ما دام» ، ويكون التقدير : الناس في سعة ـ بالتنوين ـ ما دام لا يعلمون ، وحيث حذف متعلق لا يعلمون ، وحذف المتعلّق يفيد العموم ، يكون أعم من الحكم والموضوع.

(وعلى التقديرين يثبت المطلوب) وهو : انّه لا حرمة على الانسان ولا وجوب فيما إذا كان الشك في الشيء من الشك البدوي غير المقرون بالعلم الاجمالي. (وفيه :) انّه لا يدل على البراءة وذلك لأجل (ما تقدّم في الآيات :

__________________

(١) ـ مستدرك الوسائل : ج ١٨ ص ٢٠ ب ١٢ ح ٢١٨٨٦ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٤٢٤ ح ١٠٩ وقريب منه في المحاسن : ص ٤٥٢ ح ٣٦٥ والكافي (فروع) : ج ٦ ص ٢٩٧ ح ٢ وتهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٩٩ ب ٤ ح ١٦٧ ووسائل الشيعة : ج ٣ ص ٤٩٣ ب ٥٠ ح ٤٢٧٠.

١٠

من أنّ الاخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعمل بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع.

ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه‌السلام : «قال : سألته عمّن لم يعرف شيئا ، هل عليه شيء؟ قال : لا».

بناء على أنّ المراد بالشيء الأوّل

______________________________________________________

من أنّ الاخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعمل بوجوب الاحتياط من العقل والنقل) بشرط ان يكون عدم علمه (بعد التأمّل والتتبّع) بل إنهم يدّعون : انهم يعلمون بوجوب الاحتياط بدليل العقل والنقل ، فلا يكون مورد الاحتياط ممّا لا يعلمون.

نعم ، دليل الأخباريين ان تمّ لم يكن الخبر دالا على البراءة ، لأنّ دليل الأخباريين وارد ، على هذا الخبر ، لكن دليلهم لا يتم ـ كما سيأتي ـ فهذا الخبر يكون دالّا على البراءة في الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ، والتكليفيّة والوضعيّة ، تحريميّة كانت أو وجوبيّة.

(ومنها) أي : من الروايات التي استدل بها للبراءة (رواية عبد الأعلى عن الصّادق عليه‌السلام قال : سألته عمّن لم يعرف شيئا ، هل عليه شيء؟ قال : لا) (١) ولا يخفى : انّ «شيء» في آخر السؤال يشمل ، العقاب والاستحقاق ، والاعادة ، والقضاء ، والكفارة ، والحدّ ، وغير ذلك للاطلاق ، فاللازم أن لا يكون عليه شيء إذا كان غير العالم بأن لم يعرف شيئا.

وكيف كان : فهذا الحديث من أدلة البراءة (بناء على أنّ المراد بالشيء الأوّل :

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٢.

١١

فرد معيّن مفروض في الخارج حتّى لا يفيد العموم في النفي ، فيكون المراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول ، وأمّا بناء على إرادة العموم ، فظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «أيّما امرئ ركب

______________________________________________________

فرد) أي : شيء (معين مفروض في الخارج) يعني : انه سأل عما إذا لم يعلم الانسان ـ مثلا ـ وجوب الجمعة ، أو حرمة التتن ، هل عليه شيء من الوجوب والحرمة؟ فقال عليه‌السلام : لا ، لا شيء عليه ، ممّا يدل على البراءة.

هذا إذا أخذنا : «لم يعرف شيئا» بمعنى الفرد (حتى لا يفيد العموم في النفي) يعني : انّه لا يعرف شيئا خاصا ، لا انّه لا يعرف شيئا أصلا (فيكون المراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول؟) فقال عليه‌السلام : لا.

(وأمّا بناء على إرادة العموم) من قوله : «لم يعرف شيئا» لانه نكرة في سياق النفي ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم (فظاهره) إنّما هو (السؤال عن القاصر الذي) يعيش في كهوف الجبال ، أو منقطع من الأرض ، أو جزيرة نائية ، فهو (لا يدرك شيئا) من الأحكام ، فلا يكون الحديث دالا على البراءة.

لكن يمكن أن يقال : انّه على العموم أيضا يدلّ على البراءة ، فانّ من لا يعرف شيئا إطلاقا ملاكه يأتي فيمن لا يعرف شيئا بالخصوص ، وبذلك يظهر وجه النظر في قول الأوثق حيث قال : «انّما لم يتعرّض المصنّف لرد هذه الرواية لوضوح ضعف دلالتها ، لعدم دلالتها على البراءة سواء اريد بالشيء : شيء معين ، أو غير معين».

(ومنها :) أي : من الروايات التي استدل بها للبراءة (قوله عليه‌السلام : أيّما امرئ ركب

١٢

أمرا بجهالة فلا شيء عليه».

وفيه : أنّ الظاهر من الرواية ونظائرها من قولك : «فلان عمل كذا بجهالة» ، هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كون فعله صوابا أو خطأ.

______________________________________________________

أمرا بجهالة فلا شيء عليه) (١) ذكره الإمام عليه‌السلام في باب الحج فيمن حج محرما في ثوب مخيط ، لكنّه من باب المورد فلا يخصص الوارد ، بل هو عام يشمل الشبهة الوجوبية والتحريمية ، والحكمية والموضوعيّة ، فيكون من أدلة البراءة.

لكنّ المصنّف حيث لم يرتض بدلالة هذه الرواية على البراءة ، أشكل على دلالتها بقوله : (وفيه : انّ الظّاهر من الرّواية ونظائرها من قولك : فلان عمل كذا بجهالة ، هو : اعتقاد الصّواب) في عمله بأن يكون جهلا مركبا ، (أو الغفلة عن الواقع) بأن كان غافلا غفلة مطلقة (فلا يعمّ صورة) الجهل البسيط المقترن بالشك و (التردد في كون فعله صوابا أو خطأ).

فانّ الجاهل قد يكون غافلا محضا ، وقد يكون جاهلا مركبا ، وقد يكون جاهلا بسيطا ، والأولان ليسا من محل الكلام ، وانّما الثالث هو محل البحث في البراءة لكن حيث يرى المصنّف انّ هذه الرواية ظاهرة في الأولين لا في الأخير الذي هو محل البحث أخرج الرواية عن الدلالة على البراءة فيما نحن فيه.

وربّما استدل للمصنّف بأنّ سببية الغفلة والجهل المركب أقوى للارتكاب من سببية الجهل البسيط للارتكاب ، إذ الشاك كثيرا ما يخاف من الارتكاب بخلاف

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٥ ص ٧٢ ب ١ ح ٤٧ وفيه (أي رجل) ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢٤٨ ب ٣٠ ح ١٠٥٥٨ وج ١٢ ص ٤٨٩ ب ٤٥ ح ١٦٨٦١.

١٣

ويؤيّده أنّ تعميم الجهالة بصورة التردّد ، يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر ، وسياقه يأبى عن التخصيص ، فتأمّل.

______________________________________________________

الغافل والجاهل المركب.

لكنّ هذا لا يتمكن أن يخصص عموم الرواية بالأولين فقط حتى وان قال المصنّف : (ويؤيّده) أي : يؤيد التخصيص الذي استظهرناه من الرواية (: انّ تعميم الجهالة) في الرواية (بصورة التردد ، يحوج الكلام إلى التّخصيص بالشاك غير المقصّر) لوضوح انّ المقصّر في الفحص غير معذور. ويدل عليه ما في الحديث من انّه يقال في القيامة لغير العامل المعتذر بعدم العلم : «هلّا تعلمت» (١) كما ورد ذلك في تفسير قوله سبحانه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢).

(وسياقه) أي : وسياق هذا الخبر (يأبى عن التخصيص) فقد ذكر بعض وجه الإباء : بأنّ الخبر ظاهر في أنّ الجهالة علّة للمعذورية ، وحينئذ كلّما وجدت الجهالة ، كانت عذرا سواء كانت عن قصور أو تقصير.

(فتأمّل) وكأنّ في التأمّل هذا اشارة الى وجود إشكالين في الكلام :

الأوّل : انّه من أين إباؤه عن التخصيص؟ بل ربّما يقال : انّ ظاهره : الجاهل القاصر ، فهو مثل : «ما لا يعلمون» المنصرف إمّا إلى القاصر ، أو يكون أعم ، لكن يخصص بالقاصر حسب الأدلة الأخر ، الدالة على انّ المقصّر غير معذور.

الثاني : انه لو خصّص الحديث بالغافل والجاهل المركب ، كان مخصّصا أيضا بما إذا لم تكن الغفلة والجهل المركب عن تقصير ، وإلّا لم يكن معذورا ، وذلك على ما هو بناؤهم في الكلام والفقه والاصول.

__________________

(١) ـ انظر الامالي للمفيد : ص ٢٩٢.

(٢) ـ سورة الصافات : الآية ٢٤.

١٤

ومنها : قوله عليه‌السلام «إنّ الله تعالى يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم».

وفيه : أنّ مدلوله ، كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار ، ممّا لا ينكره الأخباريّون.

ومنها : قوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه :

______________________________________________________

(ومنها) أي : من الروايات التي استدل بها للبراءة (قوله عليه‌السلام : إنّ الله تعالى يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم) (١) بتقريب : انّ حكم التتن المجهول وحكم الدّعاء عند رؤية الهلال المجهول ، ليس ممّا أعطى الله علمه للعباد ، وإلّا لم يكن مجهولا لهم.

هذا ، ولكنّ المصنّف لم يرتض دلالة هذه الرواية فاشكل على دلالتها قائلا : (وفيه : أنّ مدلوله ، كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار : ممّا لا ينكره الاخباريون) فانهم يدّعون العلم بالحكم الشرعي في مثل التتن ، والدعاء عند رؤية الهلال ، وهو : وجوب الاحتياط ، وحيث علموا فلله عليهم حجة ، لأنّه قد آتاهم وعرّفهم وجوب الاحتياط.

لكن الجواب عن هذا الاشكال هو : إنّ أدلة الأخباريين لا تقوم حجّة على وجوب الاحتياط كما قرر في محله ، فدلالة هذه الرواية على البراءة أيضا لا غبار عليها.

(ومنها :) أي : من الروايات التي استدل بها للبراءة (قوله عليه‌السلام في) رواية (مرسلة) منقولة في كتاب من لا يحضره (الفقيه) والرواية وان كانت مرسلة لكنّها ممّا يعتمد عليها ، لأن الصدوق ضمن حجيّة ما في كتابه هذا ، وقوله عليه‌السلام

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٤.

١٥

«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».

استدلّ به الصدوق قدس‌سره على جواز القنوت بالفارسيّة واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبت الحظر من دين الاماميّة.

ودلالته على المطلب أوضح من الكلّ.

______________________________________________________

بحسب هذه الرواية هو : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١) ومعنى المطلق انه غير موقوف فإذا شك الانسان في ان التتن مطلق أو منهي عنه ، كان مقتضى القاعدة انّه مطلق وليس بمنهي عنه ، وكذا بالنسبة إلى ترك الدعاء عنه رؤية الهلال.

هذا ، وقد (استدلّ به) أي : بهذا الحديث (الصدوق قدس‌سره على جواز القنوت بالفارسيّة) لأنه قال : حيث لم يرد بالنسبة الى القنوت بالفارسية نهي فهو اذن جائز كما (واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبت الحظر من دين الاماميّة) أي : إنّ الصدوق في كتاب أماليه جعل من دين الإمامية كون الأصل في الأشياء : الاباحة حتى يثبت المنع ، ومستنده في ذلك هذا الخبر فكلّما شك في شيء انّه جائز أو محظور ، جاز للإنسان ارتكابه.

(ودلالته) أي : دلالة هذا الخبر (على المطلب) أي : على الاباحة في الشبهة التحريميّة ، وانّه لا يجب الاحتياط فيها عند المصنّف (أوضح من الكلّ) أي : من كل الروايات المتقدّمة.

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

١٦

وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لانّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم.

______________________________________________________

(و) ذلك لأنك قد عرفت ما أشكله المصنّف عليها وان كنا لم نر فيها شيئا من الاشكالات المذكورة ، وقد ألمعنا إلى الجواب عنها عند كل رواية رواية.

وعلى كل حال ، فالمصنف : على انّ هذه الرواية أوضح دلالة من كلّ الروايات المتقدمة إذ (ظاهره : عدم وجوب الاحتياط ، لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم) فإنّ الحديث يدل على انّ الاشياء بذاتها مباح قبل ورود النهي من الشارع ووصول ذلك النهي إلى المكلّف وحيث لم يرد في التتن ـ مثلا ـ نهي ولم يصل إلى المكلّف حرمته فهو مباح.

هذا ، وفي بعض نسخ الحديث «حتى يرد فيه أمر أو نهي» فيكون أوضح دلالة على الشبهة التحريميّة والوجوبية معا.

وعلى كل حال : فالظاهر ان التتن ـ مثلا ـ بحسب هذا الحديث مطلق ومباح بذاته ، لا انّه مطلق ومباح من حيث كونه مجهول الحكم ، وأدلة الاحتياط تحكم بوجوب الاحتياط في مجهول الحكم ، فيقع التعارض بين أدلة الاحتياط وهذا الحديث ، إذا أدلة الاحتياط تقول : مجهول الحكم يحتاط فيه ، وهذا الحديث يقول : ذات الشيء مباح ، وذات الشيء مباح ، أعمّ من كونه مجهول الحكم أو غير مجهول ، فيقع التعارض في مجهول الحكم فهو مثل أن يقول : الحيوان نام ، ويقول : الانسان ليس بنام ، إذ يقع التعارض بينهما في الانسان.

١٧

فان تمّ ما سيأتي من أدلّة الاحتياط دلالة وسندا ، وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ، ثمّ الرجوع إلى ما يقتضيه قاعدة التعارض.

وقد يحتجّ بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : «فيمن تزوّج امرأة في عدّتها أهي لا تحلّ له أبدا قال : أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما ينقضي عدّتها ،

______________________________________________________

وعليه : (فان تمّ ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسندا ، وجب ملاحظة التعارض بينها) أي : بين أدلة الاحتياط (وبين هذه الرّواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط) في مجهول الحكم لما عرفت : من انّ أدلة الاحتياط تدل على حرمة الشيء من حيث كونه مجهول الحكم ، وهذه الرواية تدل على عدم وجوب الاحتياط ، إذ ذات كل شيء مباح سواء كان مجهول الحكم أو لم يكن مجهول الحكم ، فمجهول الحكم يكون مورد التعارض.

(ثم) اذا تعارض الدليلان لزم (الرجوع إلى ما يقتضيه قاعدة التعارض) من الترجيح لهذا الجانب أو ذاك الجانب ، وإذا لم يكن مرجح في البين جرى التخيير بينهما ، فتكون النتيجة : عدم وجوب الاحتياط لأن التخيير بين الاحتياط وعدمه معناه : ان للمكلّف أن لا يحتاط وعدمه معناه. ان للمكلّف أن لا يحتاط.

(وقد يحتج) للبراءة في الشبهة التحريميّة (بصحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج فيمن تزوّج امرأة في عدتها أهي لا تحلّ له أبدا؟) أي : انّها محرمة عليه تحريما أبديا ، حتى انّه إذا انقضت عدتها أيضا تكون محرّمة ولا يجوز له أن يأخذها ويتزوج بها؟ (قال : أمّا إذا كان بجهالة فليزوّجها) أي : فيجوز له نكاحها ولا تكون عليه محرمة أبدا وذلك (بعد ما ينقضي عدّتها) ثم انه عليه‌السلام بيّن وجه

١٨

فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ، قلت : بأيّ الجهالتين أعذر ، بجهالته أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنها في عدّة؟ قال : إحدى الجهالتين أهون من الأخرى ، الجهالة بأن الله تعالى حرّم عليه ذلك. وذلك لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط.

______________________________________________________

جواز النكاح في العدة قائلا : (فقد يعذر النّاس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك) أي : بجهالة أعظم من جهالة أنّ المرأة في العدة وأنّ النكاح محرّم في العدة ، فإنّ قتل المؤمن خطأ ، ونكاح ذات البعل خطأ والكفر خطأ ، وغير ذلك ، معذور فيها ، فانّ القاتل في المثال لا يقتل ، والنكاح في المثال لا يحد ، والذي كفر خطأ لا يجري عليه أحكام الكفر : من انفصال زوجته ، وتقسيم ماله ، ووجوب قتله.

قال : (قلت) يا سيدي (بأي الجهالتين أعذر؟) أي : أكثر معذورية فهو من باب التفضيل (بجهالته انّ ذلك) أي : النكاح في العدة (محرّم عليه) وهو الجهل بالحكم (أم بجهالته أنّها في عدّة) وهو الجهل بالموضوع؟.

(قال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى) أي : انّ الرجل معذور في كلتا الجهالتين ، لكن إحداهما أهون من الاخرى.

ثم إنّه بيّن أهون الجهالتين بقوله عليه‌السلام : (الجهالة بأنّ الله تعالى حرّم عليه ذلك) أهون ، فهو بهذه الجهالة الحكمية أعذر ، من الجهالة بانّها في العدة ، أي : من الجهالة الموضوعية.

(وذلك) أي : وجه كون الجهالة بالحكم أهون (لأنّه) أي : لأنّ هذا الجاهل بالحكم (لا يقدر معها) أي : مع هذه الجهالة (على الاحتياط) فإنّ الانسان إذا لم يعلم إنّ البول نجس ـ مثلا ـ لا يتمكن من الفحص والاجتناب ، لفرض انّه غافل عن حكم البول ، ومن الواضح : انّ الغافل لا تكليف عليه امّا انّه اذا علم ان البول

١٩

قلت : فهو في الأخرى معذور ، قال عليه‌السلام : نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يزوّجها».

______________________________________________________

نجس فهو يتمكن أن يجتنب عن كل رطوبة احتياطا ، لعلمه بأنّ إحدى هذه الرطوبات ـ مثلا ـ نجسة حتى ولو كان بعضها خارجا عن مقدوره ، أو عن محل ابتلائه ، أو كان مضطرا إليها ، أو ما أشبه ذلك ، فانّه يتمكن من اجتنابها احتياطا ، فالاحتياط هو فرع العلم ، فاذا فقد العلم انتفى الاحتياط معه.

قال : (قلت فهو في الاخرى) أي : في الجهالة بأنّها في العدّة ، وهو الجهل الموضوعي (معذور) أيضا ، كما كان معذورا في الجهل الحكمي؟ (قال عليه‌السلام : نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يزوّجها) (١).

ونمثل لذلك بمثال خارجي وهو : إنّ الانسان اذا كان غافلا كون الحيّة سامة ، فهو لا يتمكن من الاجتناب عنها ، أما إذا علم بأن الحيّة سامة لكنّه لا يعلم ان الحية ما هي من الحيوانات ، فانّه يتمكن من الاجتناب عن كل حيوان وإن كان غافلا عن إنّ هذا الحيوان الذي يراه هي حية أم لا؟.

وظاهر هذا الحديث هو : الجهل بأنّ المعتدّة محرّمة ، والجهل بأنّ هذه المرأة في العدّة ، وكلا الجهلين شايع خصوصا في الناس الذين يسكنون القرى والأرياف البعيدة عن أهل العلم بل رأينا بعضا يجهلون حرمة الجمع بين الاختين ، وزواج الخامسة ، والجمع بين ام الزوجة وبنتها ، حرمة تمتع المرأة التي لها زوج وغير ذلك من محرمات النكاح بل قد رأينا بعضهم قد تزوجوا كذلك حتى إذا نبهوا تركوا.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٤٢٧ ح ٣ ، نوادر القمّي : ص ١١٠ ح ٢٧١.

٢٠