الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

١
٢

٣

الوصائل

الى

الرسائل

تتمة التعادل

والتراجيح

٤

ولا ريب أنّ مقتضى القاعدة المنع عمّا لم يعلم جواز العلم به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداء ، بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنية.

فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه إلّا أنّ حجيّته فعلا مع معارضة الراجح ،

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : إنّ ما نحن فيه من مسئلة تعارض الخبرين هي من المسائل الأصولية ، لدوران أمر الأمارات فيه بين التعيين والتخيير ، فهي ، خارجة عن مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير بالنسبة إلى خصال الكفارة التي هي من المسائل الفرعية (ولا ريب أنّ مقتضى القاعدة) أي : مقتضى أصالة العدم الجارية في المقام هو : (المنع عمّا لم يعلم جواز العمل به من الأمارات) لأنّه يرجع إلى الشك في حجيّة تلك الأمارة ، والشك في الحجية مسرح عدم الحجية.

وعليه : فإنّ هذه القاعدة (وهي) قاعدة أصالة العدم التي ذكرناها هنا وقلنا بأنّها تقتضي المنع عما لم يعلم جواز العمل به من الأمارات (ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداء) كالشك في حجيّة الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو ما أشبه ذلك (بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنية) فإنّ الخبرين المتعارضين لا شكّ أنّهما حجّة شأنا ، وإنّما نشك في أن المرجوح هل هو حجّة فعلا أم لا؟ (فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه) شأنا في ظرف عدم التعارض ، وذلك لأنه جامع لشرائط الحجية (إلّا أن حجيّته فعلا) مشكوكة (مع معارضة الراجح) له لفرض أن الراجح والمرجوح متعارضان وإذا كانت حجيّته مشكوكة فالأصل عدم حجية.

٥

بمعنى جواز العمل به فعلا غير معلوم ، فالأخذ به والفتوى بمؤدّاه ، تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة.

هذا ، والتحقيق : إنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين ـ في الجملة ـ مستفاد من حكم الشارع به بدليل الاجماع والأخبار العلاجيّة ،

______________________________________________________

هذا ، والمقصود من حجيّة المرجوح فعلا هو (بمعنى : جواز العمل به) أي : بالمرجوح (فعلا) أي : عند ابتلائه بالمعارض الذي هو أرجح منه ، والجواز هنا (غير معلوم) لأنا لا نعلم هل أن الشارع جعله في هذه الحال حجّة أم لا؟ ومعه (فالأخذ به) أي : بالمرجوح (والفتوى بمؤدّاه ، تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة) التي ذكرناها في باب التشريع من الكتاب والسنة والاجماع والعقل.

(هذا) هو تمام الكلام في جواب من أشكل بأن قلت (والتحقيق) في أنه هل يجوز العمل بالمرجوح تخييرا بينه وبين الراجح ، أو لا يجوز العمل بالمرجوح بل يلزم العمل بالراجح؟ مبني على ثلاثة احتمالات :

الأوّل : استفادة وجوب العمل بالراجح أو عدم وجوبه من أخبار العلاج.

الثاني : استفادته من مطلق الأخبار بناء على الطريقية.

الثالث : استفادته من مطلق الأخبار بناء على السببية ، وعلى كل واحد من هذه المباني ، يختلف القول بالترجيح أو بالتخيير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام المصنّف في كل منها.

أمّا الاحتمال الأوّل : فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله (إنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين ـ في الجملة ـ) من غير نظر الى التعيين والتخيير (مستفاد من حكم الشارع به) أي : بالعمل بأحد المتعارضين (بدليل الاجماع والأخبار العلاجيّة) أي : أنه لو لا الاجماع والأخبار العلاجية على عدم تساقط الخبرين المتعارضين ،

٦

كان اللّازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح ، وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من أنّ الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلا ، ولا ينفع وجوب العمل به عينا في نفسه ، مع قطع النظر عن المعارض ،

______________________________________________________

كان اللازم الحكم بالتساقط ، لكن بعد قيام الاجماع والأخبار العلاجية على عدم التساقط ووجوب العمل بأحدهما في الجملة إما تخييرا وإما تعيينا (كان اللازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح).

وإنّما كان اللازم الأخذ بالراجح دون المرجوح ، لأنه وإن كان في الاجماع والأخبار العلاجية الدّالة على ذلك إجمال من حيث الدلالة ، فليست هي صريحة في اعتبار المزية حتى يجب العمل بالراجح فقط ، ولا في عدم اعتبار المزية حتى يكون المكلّف مخيّرا بينهما ، إلّا أنّه يلزم العمل بالراجح لأنّه مبرئ للذمة حتى (وإن قلنا : بأصالة البراءة) من التعيين ، لا الاحتياط بالأخذ بالمعيّن (عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير) وذلك (لما عرفت : من أنّ الشّك) كائن (في جواز العمل بالمرجوح فعلا) وإن جاز العمل به شأنا ، فهو فعلا مشكوك الحجية والأصل عدم حجيته.

لا يقال : أنّ المرجوح كان سابقا قبل التعارض يجب العمل به عينا في نفسه ، فإذا ابتلي بالمعارض الراجح نشك في سقوط وجوب العمل به ، فنستصحب بقاءه.

لأنّه يقال : (ولا ينفع) استصحاب ما كان سابقا من (وجوب العمل به) أي : بالمرجوح (عينا في نفسه ، مع قطع النظر عن المعارض) وذلك لأنّه عند ما ابتلي بالمعارض الراجح ، صار مشكوك الحجية فعلا ، وإذا صار فعلا مشكوك الحجية

٧

فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلا.

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار ، فإن قلنا بما اخترناه من أنّ الأصل التوقف ، بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة والكشف الغالبي عن الواقع ، فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ، لأنّ كلّا منهما جامع لشرائط الطريقية.

______________________________________________________

(فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلا) لما عرفت : من أن الشك في الحجية الفعلية يوجب سقوطها عن الحجية ، كالشك في أصل الحجية ، ولا يكفينا الحجية الشأنية بعد شكنا في أنه حجّة فعلا أم لا.

هذا إن قلنا بأن العمل بأحد المتعارضين مستفاد من الاجماع والأخبار العلاجية (وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلة العمل بالأخبار) مثل : آية النبأ وغيرها ، فالدليل ليس هو الاجماع والأخبار العلاجية كما كان في الاحتمال الأوّل ، بل هو مطلق الأدلة الدالة على العمل بالخبر الواحد وبناء على أن الدليل هو مطلق الأدلة المذكورة يتفرّع منه الاحتمال الثاني ، والاحتمال الثالث ، الذي سبق الاشارة إليهما إجمالا ، وإليك تفصيلها :

وأمّا الاحتمال الثاني : فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : (فإن قلنا) على هذا الاحتمال (بما اخترناه : من أنّ الأصل التوقّف ، بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية ، و) هو : (الكشف الغالبيّ عن الواقع) لا السببية ، فإنّه إذا بنينا عليه (فلا دليل) معه (على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة) حاصلة من وجود مزية (في أحد الخبرين) وذلك (لأنّ كلا منهما جامع لشرائط الطريقية) فيكون ذلك سبب شمول أدلة حجيّة الأخبار لكل من الراجح والمرجوح معا.

٨

والتمانع يحصل بمجرّد ذلك ، فيجب الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف كلا المتعارضين.

فرفع اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه

______________________________________________________

إن قلت : مجرّد وجود قوة في أحد الخبرين يخرجهما عن مورد التعادل إلى مورد الترجيح ممّا يوجب العمل بالراجح دون المرجوح.

قلت : (والتمانع) أي : التعارض المؤدّي للتوقف (يحصل بمجرّد ذلك) أي :

بمجرّد كون كل واحد منهما جامعا لشرائط الطريقية ، فإنّه بمجرّد ذلك يشملهما أدلة حجية الأخبار ، فيتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما حتى وإن كان في أحدهما قوة بسبب وجود مزية فيه مزيّة لم يثبت اعتبارها.

وعليه : (فيجب الرجوع إلى الأصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف) الأصل الموجود في تلك المسألة (كلا المتعارضين) ومخالفة الأصل لكلا المتعارضين مثل : ما دلّ على وجوب الجمعة ، وعلى وجوب الظهر ، حيث أن الأصل يخالف كليهما ، بخلاف ما إذا لم يخالف الأصل كليهما مثل : دليل وجوب غسل الجمعة ودليل ندبه ، حيث أن أصل البراءة يوافق دليل الندب فيجب الرجوع إليه.

إذن : (فرفع اليد عن مقتضى الأصل) كأصل البراءة في مثال غسل الجمعة (المحكّم) هذا الأصل (في كلّ ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه) أي : على خلاف ذلك الأصل ، وإن كان طريقا شأنا ، فإنّ الشأنية لا تكفي لرفع اليد عن مقتضى الأصل ، وذلك لأنّه يجب اتباع الأصل إلى أن يقول طريق فعليّ

٩

بمجرّد مزيّة لم يعلم اعتبارها ، لا وجه له.

لأنّ المعارض المخالف بمجرّده ليس طريقا فعليّا لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ،

______________________________________________________

على خلافه ، فما دام لم يقم طريق فعليّ على خلاف الأصل فرفع اليد عن مقتضاه (بمجرّد مزيّة) في أحد الخبرين المتعارضين (لم يعلم اعتبارها) أي : اعتبار تلك المزية (لا وجه له).

وإنّما لا وجه لرفع اليد عن مقتضى الأصل بمجرّد وجود مزية في الخبر الآخر لأن المفروض أن كل واحد من الخبرين هو حجّة ، والمزيّة حسب الفرض لم يثبت اعتبارها ، فكيف يرفع اليد عن أحد الحجّتين بمجرّد وجود مزيّة غير ثابتة الاعتبار في الحجّة الأخرى؟ فإنّه من قبيل أنقذ الغريق ، الشامل لوجوب انقاذ زيد وعمرو ، اللذين غرقا معا ، غير أنّه يقال له : يجب إنقاذ زيد خاصة غير مخيّر بينه وبين عمرو ، وذلك لأن زيدا ـ مثلا ـ جار لنا أو ابن صديقنا أو ما أشبه ذلك من المزايا ، التي لا توجب تعيين زيد للانقاذ دون عمرو ، فكما أنّه لا يجب التعيين هنا بهذه المزية ، فكذلك فيما نحن فيه.

والحاصل : أنه يجب الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة إذا لم يخالف الأصل كلا المتعارضين ، ولا وجه لرفع اليد عن مقتضى الأصل في أحدهما لوجود مزيّة في الآخر المخالف للأصل ، وذلك (لأنّ المعارض المخالف) للأصل (بمجرّده) أي : مع قطع النظر عن رجحانه بمزيّة لم يثبت اعتبارها (ليس طريقا فعليّا) وإن كان طريقا شأنا ، إلّا أنه لا يجدي فعلا (لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل).

إن قلت : وجود المزية في الآخر يؤثر في رفع المعارض الذي لا مزية له ،

١٠

والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في رفع المعارض.

وتوهّم : «استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو الراجح» مدفوع : بأنّ ذلك إنّما هو فيما كان بنفسه طريقا ، كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ ، وأمّا الطرق المعتبرة شرعا من حيث إفادة نوعها الظنّ ، وليس اعتبارها

______________________________________________________

فيرتفع ويبقى ذو المزية فقط ، فيجب العمل به.

قلت : (والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في رفع المعارض) حتى يرتفع ويبقى ذو المزية فقط ، وذلك لما عرفت : من أن المزيّة لم يثبت اعتبارها كما هو المفروض فلا تستطيع من رفع المعارض.

(و) إن قلت : أن اللازم هو العمل بالخبر الراجح لأنه أقرب الى الواقع من الخبر المرجوح ، فلا تعارض بينهما حتى يتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ويكون المرجع الأصل.

قلت : (توهّم استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو) أي : ذلك الطريق الأقرب للواقع (الراجح ، مدفوع : بأنّ ذلك) أي : استقلال العقل بالحكم المذكور (إنّما هو فيما كان بنفسه طريقا) أي : في الدليل الذي كان منوطا بالظن الشخصي (كالأمارات المعتبرة) اعتبارا مطلقا (لمجرّد إفادة الظنّ) الشخصي ، فإذا كان هناك طريقان ظنيان في أنفسهما ، لكن المكلّف يظنّ بأن هذا الطريق أقرب إلى الواقع من ذاك الآخر ، فإنّه يعمل بظنه الشخصي دون الوهم.

(وأمّا الطرق) والأمارات (المعتبرة شرعا) اعتبارا خاصا (من حيث إفادة نوعها الظنّ ، و) ذلك مثل الخبر الواحد وسائر الأمارات التي (ليس اعتبارها

١١

منوطا بالظنّ ، فالمتعارضان المفيدان ـ بالنوع ـ للظنّ في نظر الشارع سواء.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجيّة الشأنيّة كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ عن الحجيّة ، إذا كان معارضها أقوى.

______________________________________________________

منوطا بالظنّ) الشخصي ، حتى يقال : بأن هذا المظنون يجب العمل به دون طرفه الآخر الموهوم ، ومعه (فالمتعارضان المفيدان ـ بالنوع ـ للظنّ في نظر الشارع سواء) فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وحيث لا ترجيح فهما يتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ويكون المرجع : الأصل الموافق لأحدهما.

وعليه : فقد تبيّن أن رفع اليد عن مقتضى الأصل ، المحكّم هذا الأصل في كل ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه ، يكون رفع اليد عنه بمجرّد وجود مزية في أحد الخبرين دون الآخر ممّا لا وجه له ، وذلك لما عرفت : من أنه لم يثبت اعتبار هذه المزية فكيف تكون المزية غير المعتبرة مرجّحة لطريق على طريق؟.

(وما نحن فيه) هو تعارض الخبرين (من هذا القبيل) أي : من قبيل تعارض دليلين معتبرين من باب الظنّ النوعي ، فإنّهما بنظر الشارع سواء ، حتى وإن كان أحدهما ذا مزية ، وذلك (لأنّ المفروض : أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجية الشأنية) لفرض أنه جامع لشرائط الحجيّة ، إلّا أنه مبتلى بالمعارض ، فلا يخرج معه عن الحجية (كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ) الشخصي ، أو بوصف عدم الظنّ على الخلاف (عن الحجّية ، إذا كان معارضها أقوى) وذلك لأنّ في هذا المعارض ظن شخصي وفي المعارض الآخر لا يوجد ظن شخصي ، وما فيه ظن شخصي هو الأقوى إذا فرض أنّ الظنّ الشخصي هو المعيار ،

١٢

وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض ما لم ينط اعتباره بإفادة الظنّ أو بعدم الظنّ على الخلاف لا دليل عليه.

وإن قلنا بالتخيير ، بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب

______________________________________________________

لوضوح : أن هذا المظنون هو الحجة دون غيره ، لأنّ غيره يكون موهوما.

والحاصل : أنّ ما كان حجيّته من باب الظنّ النوعي ، كان المتعارضان بلا فرق بين الراجح والمرجوح منهما بنظر الشارع على حدّ سواء ، بينما ما كان حجيته من باب الظنّ الشخصي كان المظنون للمكلّف مقدّما على طرفه الذي هو موهوم له ، كما قال : (وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح) لذي المزية (في تعارض ما لم ينط اعتباره بإفادة الظنّ) الشخصي (أو) لم ينط اعتباره (بعدم الظنّ على الخلاف ، لا دليل عليه) فإنّه إذا كان مناط الحجية الظنّ الشخصي بالوفاق ، أو كان مناط الحجية عدم الظنّ الشخصي على الخلاف ، فاللازم الأخذ بما يظن به شخصيا من المتعارضين ، أو بما لا يظن شخصيا على خلافه ، لكن الخبرين المتعارضين ليس مناط حجيتهما الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف ، ولذلك يتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ، ويكون المرجع الأصل العملي ، بعد فرض عدم اعتبار المزية التي في أحدهما حتى يرجّح بها خبرا على خبر.

وأمّا الاحتمال الثالث : فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : (وإن قلنا بالتخيير) لكن لا بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية والكشف الغالبي ، بل (بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة) أي : بأن يكون الخبران المتعارضان من قبيل إنقاذ الغريقين متزاحمين (فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب

١٣

العمل بكلّ من المتعارضين مع الامكان ، كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك.

ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعا ، ومجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع ، لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح ، دون العكس ،

______________________________________________________

العمل بكلّ من المتعارضين) بعينه علما بأن الخبر إذا كان ممّا يجب العمل به بعينه وجب العمل به (مع الامكان) بمعنى : أنّه مع التعارض لا يمكن العمل بكل منهما بعينه ، لأن (كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا) بخصوصه وشخصه (مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك) أي : عينا بخصوصه وشخصه (و) من المعلوم : أنّه (لا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعا) حتى وإن كان أحدهما ذا مزية ، وذلك لأنّ كلا منهما بمجرّد وجوب العمل به يكون مانعا عن العمل بالآخر ، من دون مدخلية للمزية فيه ، فلا يتمكن المكلّف من العمل بهذا بعينه ، وبذلك بعينه ، فيحصل التكافؤ بينهما الذي ينتج بالأخرة التخيير.

(و) إن قلت : إنّ وجود المزية في أحدهما يجعله أقرب إلى الواقع من الآخر ، فيلزم ترجيح ذي المزية على ما لا مزيّة فيه.

قلت : ملاك الترجيح في الخبرين المتعارضين على السببية حيث يكونان من المتزاحمين هو : الأهمية ، لا كل مزية ، ولذا فإنّ (مجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما) أي : بمزيّة لا ترجع إلى الأهمية ، بل (يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع ، لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح ، دون العكس) فإنّ العكس أيضا تام ، وهو : كون وجوب العمل بالمرجوح مانعا عن العمل بالراجح ، لفرض أن مزية الأقربية في أحدهما ـ على السببية ـ لا توجب إسقاط الآخر

١٤

لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب ، والمفروض وجوده في المرجوح وليس في هذا الحكم العقلي إهمال وإجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح.

______________________________________________________

عن الحجية ، فهما باقيان على الحجية ، حالهما حال الصلاة خلف نفرين كل منهما عادل ، لكن لأحدهما مزيّة العلم دون الآخر ، فإن مزية العلم في أحدهما لا توجب تعيّن الصلاة خلفه دون الآخر ، لفرض وجود الملاك في كل منهما.

وإنّما لا توجب المزيّة أن يكون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح دون العكس (لأنّ المانع) عن العمل بكل من الراجح والمرجوح عينا (بحكم العقل هو) التكافؤ الحاصل من (مجرّد الوجوب) بلا مدخلية للمزية ، فإن مجرّد وجوب العمل بكل منهما عينا مانع عقلا (والمفروض وجوده) أي : وجود هذا الوجوب (في المرجوح) أيضا كما هو موجود في الراجح ، يعني : أن العقل إنّما يحكم بالتمانع ، فيما إذا كان ملاك الحجية في كل واحد منهما موجودا ، والمفروض أن هذا الملاك موجود فيهما معا.

(و) إن قلت : إنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو في صورة التعادل ، وأما مع وجود مزية في أحدهما فإنّ العقل يتوقّف ، فيكون في حكمه بالتخيير إهمال وإجمال من حيث العمل بأحدهما تخييرا ، أو بذي المزية تعيينا ، فاللّازم الأخذ بالراجح من باب أنّه المتيقن.

قلت : (ليس في هذا الحكم العقلي) بالتخيير هنا (إهمال وإجمال وواقع مجهول) بحيث يشك العقل ولا يعلم بأنه هل في هذه الحال يحكم بالتخيير ، أو يحكم بتعيين ذي المزية؟ (حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح) وذلك لأنّ العقل يستقل بالتخيير مع رجحان أحدهما بسبب المزية

١٥

وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته.

وهذا الكلام مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين.

نعم ، لو كان الوجوب في أحدهما آكد ، والمطلوبيّة فيه أشدّ ،

______________________________________________________

الموجودة فيه رجحانا لا يوجب تقديمه على الآخر تقديما تعيينيا.

(وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته) أي : أن كل واحد منهما حيث كان جامعا لشرائط السببية وجب العمل به لو لا التعارض ، فيجتمع هنا سببان متعارضان ، والمزية لا تكون بحدّ توجب تعيين ذي المزية على ما لا مزية فيه ، فيحكم العقل فيهما بالتخيير على ما عرفت.

(وهذا الكلام) الذي قلناه في حكم العقل بالتخيير ، من دون تعيين الراجح على المرجوح ، إذا لم يكن الرجحان بحيث يوجب التعيين (مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين) مثل : إنقاذ الغريقين بالنسبة إلى من لا يتمكن إلّا من إنقاذ أحدهما ، أو خلاص من يريد الظالم قتلهما وهو لا يقدر إلّا على خلاص أحدهما ، أو إطعام جائعين مشرفين على الموت وهو لا يقدر إلّا على إطعام أحدهما ، أو إنقاذ امرأتين ممّن يريد هتك عرضهما وهو لا يتمكن إلّا من إنقاذ إحداهما ، وهكذا حفظ مالين كثيرين مشرفين على التلف وهو لا يتمكن إلّا من حفظ أحدهما ، وغير ذلك ممّا يدّل على أن العقل يحكم بالتخيير في الواجبين المتزاحمين بلا فرق فيهما بين الأموال والأعراض والنفوس.

(نعم ، لو كان الوجوب في أحدهما آكد ، والمطلوبيّة فيه أشدّ) بحيث يكون أحدهما أهم من الآخر ، فالأهمية لو كان على نحو المنع عن النقيض ، كانقاذ عالم أو جاهل غرقا معا أو أراد العدو قتلهما ، أو ما أشبه ذلك من المتزاحمين أمثلة

١٦

استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره وكون وجوب الأهمّ مزاحما لوجوب غيره من دون عكس.

وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما دون الآخر.

وما نحن فيه ليس كذلك قطعا ، فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره.

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض

______________________________________________________

(استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره) أي : غير الأهم (وكون وجوب الأهمّ) حينئذ (مزاحما لوجوب غيره) الذي ليس بأهم (من دون عكس) فليس المهمّ مزاحما للأهم حتى يتساويان ويتخيّر المكلّف بينهما ، بل الأهم مزاحم للمهمّ ، فاللازم تقديم الأهم.

(وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما دون الآخر) فيما إذا كان الاحتمال كافيا في الترجيح اللزومي ، وذلك كما إذا غرق اثنان يحتمل أن يكون من في طرف يمينه هو العالم ، دون من في طرف يساره ، فإنّه يلزم عليه انقاذ من في طرف اليمين لا اليسار ، لأنّ الاحتمال كان بحيث يوجب تقديم المحتمل على غيره عقلا.

هذا (و) لكن (ما نحن فيه) من تعارض الخبرين بناء على السببية (ليس كذلك قطعا ، فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد) ولا أهم إلى حدّ المنع عن النقيض (من وجوب العمل بغيره) الذي هو المرجوح ، وذلك لفرض أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالخبر يشمل كلا من الراجح والمرجوح على حد سواء.

(هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض

١٧

الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة ، بناء على أنّ الظاهر من أدلّتها وأدلّة حكم تعارضها كونها من باب الطريقيّة ، ولازمه التوقف ، والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ، أو أحدهما المطابق للأصل.

إلّا أنّ الدليل الشرعيّ دلّ على وجوب

______________________________________________________

الأخبار ، بل ولا غيرها) أي : غير الأخبار (من الأدلّة) والأمارات ، وذلك لما مرّ : من أن الأخبار وسائر الأمارات حجّة من باب الطريقية والكاشفية ، لا من باب الموضوعية والسببية ، والتخيير إنّما هو في باب السببية والموضوعية ، وأما الأخبار التي حجيّتها من باب الطريقية والكاشفية فإنها إذا تعارض بعضها مع بعض تساقطت عن الطريقية في خصوص مؤدّاها ، ولزم الرجوع إلى الأصل في المسألة.

وعليه : فإنّ حجية الأخبار (بناء على أنّ الظاهر من أدلّتها) أي : من أدلة حجية الأخبار (وأدلّة حكم تعارضها) في باب العلاج (كونها) أي : كون حجية الأخبار (من باب الطريقيّة) البحتة (ولازمه) أي : لازم كونها حجّة من باب الطريقية هو : (التوقف ، والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما) بناء على أن يكون الأصل مرجعا (أو أحدهما المطابق للأصل) بناء على أن يكون الأصل مرجّحا ، وقد عرفت : أنّه على فرض مخالفة الأصل لهما ، كما في وجوب الجمعة ووجوب الظهر ، يتخيّر عقلا بين الاحتمالين بعد نفي الخبرين الثالث ، فإذا لم يكن الثالث يتخيّر عقلا بين أن يأخذ بهذا أو بذاك.

هذا هو الأصل الأوّلي في تعارض الخبرين بناء على الطريقية (إلّا أنّ الدليل الشرعيّ) الوارد في الأخبار العلاجية بعنوان الأصل الثانوي (دلّ على وجوب

١٨

العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين.

أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات ، فالمتيقّن هو جواز العمل بالراجح.

وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت ، فلا يجوز الالتزام ،

______________________________________________________

العمل بأحد المتعارضين في الجملة) تخييرا مع عدم المرجّح ، وتعيينا مع وجود المرجّح ممّا يكون معنى ذلك عدم التوقف في العمل.

هذا ، (وحيث كان ذلك) الدليل الدالّ على العمل بأحد المتعارضين في الجملة (بحكم الشرع) لأنّ الشارع هو الذي أوجب ذلك حسب أخبار العلاج ، إذ قد عرفت : أن الأصل الأوّلي في تعارض الخبرين بناء على الطريقية هو : التوقف والرجوع إلى الأصل ، ولكن بعد قيام الأصل الثانوي على التخيير في الجملة ، لزم الأخذ بالتخيير في القدر المتيقن ، وهو : ما لم يكن في أحدهما مزية كما قال : (فالمتيقن من التخيير هو : صورة تكافؤ الخبرين) من جميع الحيثيات حتى من حيث وجود المزية وعدمها ، وذلك لأنّ حكم الشرع كان على وجوب العمل بالمتعارضين في الجملة وهو : مجمل ، فاللازم أن يؤخذ بالقدر المتيقن منه.

(أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات) سواء كانت المزية منصوصة في الروايات ، أو الأعم ممّا في الروايات من سائر المزايا إذا استفدنا من الروايات الملاك ، كما سيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى (فالمتيقّن هو جواز العمل بالراجح) منهما (وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت) جوازه (فلا يجوز الالتزام) به ، وذلك لأنّه يكون مشكوك الحجية ، وما كان مشكوك الحجية

١٩

فصار الأصل وجوب العمل بالمرجّح ، وهو أصل ثانوي ، بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحا الترجيح به ، إلّا أن يرد عليه إطلاقات التخيير ، بناء على وجوب الاقتصار في تقييدها على ما علم كونه مرجّحا.

______________________________________________________

كان الأصل عدم حجيته.

وعليه : (فصار الأصل) أي : للقاعدة حينئذ هو (وجوب العمل بالمرجّح) إذا كان مرجع في أحد الخبرين فيجب تقديم الخبر الراجح على المرجوح (وهو) أي : وجوب العمل بالمرجّح إذا كان مرجّح في أحد الخبرين (أصل ثانوي) لأنّ الأصل الأولي هو التوقف والرجوع إلى الأصل الموافق بناء على الطريقية كما عرفت.

(بل الأصل فيما) لم يحرز كونه مرجّحا ، وإنّما (يحتمل كونه مرجّحا) كموافقة الأصل ، أو موافقة المشهور ، أو ما أشبه ذلك هو (الترجيح به) أي : بذلك المرجّح أيضا احتياطا من باب أن ذلك الذي يحتمل ترجيحه مقطوع العمل به ، بخلاف الطرف الآخر الذي لا يحتمل ترجيحه ، فالأصل العملي هنا وهو الاحتياط يكون على الأخذ بمحتمل الراجحية.

(إلّا أن يرد عليه) أي : على ما ذكرناه من الاحتياط بقولنا : «بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحا الترجيح به» الذي هو أصل عملي فيرد عليه أصل لفظي ، وهو : (إطلاقات التخيير) فإنّ اطلاقات التخيير تدل على التخيير بين الخبرين المتعارضين ، إلّا إذا كان أحدهما ذا مزية مقطوع بها ، فالمزية المحتملة لا توجب رفع اليد عن إطلاقات التخيير (بناء على وجوب الاقتصار في تقييدها) أي : تقييد إطلاقات التخيير (على ما علم كونه مرجّحا) لا ما احتمل رجحانه.

والحاصل : إنّ الأصل الأوّلي على الطريقية هو : التوقف والرجوع إلى الأصل

٢٠