الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

فان قلت : فعلى أيّ شيء تحمل تلك الأخبار الكثيرة الآمرة بطرح مخالف الكتاب؟ فانّ حملها على طرح ما يباين الكتاب كليّة حمل على فرد نادر بل معدوم ، فلا ينبغي لأجله هذا الاهتمام الذي عرفته في الأخبار.

______________________________________________________

وعلى أي حال : فالتقييد ليس يوجب المجازية ، فاذا لم يوجب المجازية ، فالمطلق باق على حقيقته ، واذا كان المطلق حقيقة ، لم يكن دليل التقييد يعدّ مخالفا.

وهذا القول ، في قبال القول الآخر ، الذي يرى : مجازية المطلق اذا قيّد ، لانّ المطلق ظاهر في الاطلاق ، فتقييده يسقط ظهوره ، واسقاط الظهور يوجب المجازية.

(فان قلت :) اذا لم تكن الأخبار المقيّدة والمخصّصة لعمومات الكتاب والسنّة ، مشمولة للروايات التي تدل : على إنّ مخالف القرآن لا يعمل به (فعلى أيّ شيء تحمل تلك الأخبار الكثيرة ، الآمرة بطرح مخالف الكتاب) أو الآمرة بطرح مخالف السنّة (فانّ) تلك الأخبار ، لا يمكن حملها على المخالف للكتاب والسنّة ، بنحو التباين الكلي.

اذ (حملها على طرح ما يباين الكتاب كلّية ، حمل على فرد نادر ، بل معدوم) رأسا ، فانه لم يكن في الأخبار ، روايات تناقض الكتاب ، أو السنّة المعلومة ، تناقضا صريحا.

وعليه : (فلا ينبغي) للأئمة عليهم‌السلام (لأجله) أي لاجل ذلك الأمر النادر (هذا الاهتمام ، الذي عرفته في الأخبار) الكثيرة القائلة : بأن الخبر المخالف للكتاب والسنّة لا يعمل به ، وانّه زخرف وباطل ، وما أشبه ذلك.

٢٢١

قلت : هذه الأخبار على قسمين :

منها ما يدلّ على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنّة عنهم عليهم‌السلام وإن المخالف لهما باطل ، وانّه ليس بحديثهم.

ومنها : ما يدلّ على عدم جواز تصديق الخبر المحكيّ عنهم عليهم‌السلام ، إذا خالف الكتاب والسنّة.

أمّا الطائفة الاولى ، فالأقرب حملها على الاخبار الواردة

______________________________________________________

(قلت : هذه الأخبار) الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب ، أو السنّة المعلومة (على قسمين) :

القسم الاول (منها : ما يدلّ : على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنّة عنهم عليهم‌السلام) اطلاقا ، فالخبر المخالف وإن نسب إليهم ، فليس منهم ، فلقد اعتاد بعض المخالفين من تلفيق الخبر ، ثم نسبته اليهم عليهم‌السلام.

(وانّ المخالف لهما) أيّ : للكتاب ، والسنّة المعلومة (باطل ، وانّه ليس بحديثهم) ولا بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قد أكثروا من الكذب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، حتى قال : «قد كثرت عليّ الكذابة ، فمن كذّب عليّ متعمّدا ، فليتبوأ مقعده من النّار» (١).

(و) القسم الثاني : (منها : ما يدلّ : على عدم جواز تصديق الخبر المحكي عنهم عليه‌السلام ، اذا خالف الكتاب ، والسنّة) المعلومة.

(أمّا الطائفة الأولى :) الدالّة على عدم صدور مثل هذه الأخبار عنهم عليهم‌السلام (فالأقرب) الى التأمّل (: حملها على الأخبار) المباينة للكتاب والسنّة (الواردة

__________________

(١) ـ الخصال : ص ٢٥٥ ح ١٣١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٠٧ ب ١٤ ح ٣٣٦١٤.

٢٢٢

في اصول الدين ، مثل مسائل الغلوّ والجبر والتفويض التي ورد فيها الآيات والأخبار النبويّة ، وهذه الأخبار غير موجودة في كتبنا الجوامع ، لأنّها اخذت عن الاصول

______________________________________________________

في اصول الدّين ، مثل : مسائل الغلوّ ، والجبر ، والتفويض) والتجسيم والتشبيه ، وما الى ذلك (التي ورد فيها الآيات والأخبار النبويّة) الناهية عن ذلك.

فالآيات ، مثل قوله عزوجل : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) حيث انّه خلاف الغلوّ.

وقوله تعالى : (قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٢) حيث انه خلاف التفويض.

وقوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) فانه خلاف الجبر.

وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤) حيث انه خلاف التجسيم والتشبيه ، الى غير ذلك.

إذن : فالروايات الواردة في اصول الدين الدالة على مثل الغلوّ وما أشبه تخالف الكتاب ، ولهذا فهي : زخرف وباطل ، ويجب ان يضرب بها عرض الحائط ، وانهم لم يقولوها ، وانها ليست من كلامهم ، ولا من حديثهم ، والى غير ذلك.

(وهذه الأخبار) التي ذكرناها : من إنها وردت في الغلوّ ، والجبر ، والتفويض ، وما أشبه ذلك كثيرة إلّا إنها (غير موجودة في كتبنا الجوامع) الأربعة وغيرها (لأنّها) أي : هذه الجوامع ، من الفقيه ، والاستبصار ، والتهذيب ، والكافي (اخذت عن الاصول) الأربعمائة ، بل وغيرها أيضا ، ممّا ثبت انتسابها إلى

__________________

(١) ـ سورة النمل : الآية ٦٣.

(٢) ـ سورة الرعد : الآية ٣٣.

(٣) ـ سورة الانسان : الآية ٣.

(٤) ـ سورة الشورى : الآية ١١.

٢٢٣

بعد تهذيبها من تلك الأخبار.

وأمّا الثانية : فيمكن حملها على ما ذكر في الاولى ، ويمكن حملها على صورة تعارض الخبرين كما يشهد به مورد بعضها ،

______________________________________________________

أصحاب الأئمة عليهم‌السلام (بعد تهذيبها من تلك الأخبار) الباطلة.

فانّ الاصول الأربعمائة وغيرها ، قد هذّبت من بين الأخبار ونقّحت ، بحيث أصبحت اصولا نظيفة ، فجمع منها المجاميع المعتمدة لدى الشيعة الى يومنا هذا.

بل يمكن أن يقال : انه كانت هناك أخبار أخر ، في الاصول ، بل وفي الفروع أيضا ، مخالفة للقرآن ، والسنّة المعلومة ، مثل : خبر «سيّدا كهول أهل الجنة ، وسراجا أهل الجنة» مقابل : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» (١) ، ومثل الطّلاق يجوز بدون شهود عدول ، وانه يقع ثلاثا في مجلس واحد ، وما أشبه ذلك.

ولا يخفى : ان السنّة المعلومة دلّت على ان الجنة لا تحتاج الى سراج ، وليس فيها الّا الشباب ، كما ان القرآن يقول : بلزوم الشهود في الطّلاق ، وانّ اللّازم ثلاث منفصلات ، الى غير ذلك (٢).

(وأمّا) الطائفة (الثانية :) الدّالة على عدم جواز تصديق الخبر المحكيّ عنهم عليهم‌السلام اذا خالف الكتاب والسنّة (فيمكن حملها على ما ذكر في الاولى) ايضا : من انها في الاخبار الواردة في اصول الدين (ويمكن حملها على) مطلق المخالفة في (صورة تعارض الخبرين ، كما يشهد به مورد بعضها).

فانّ بعض الأخبار الدّالة على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، انّما ورد

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ١٧٩ ب ٢ ح ٥٤٠٤.

(٢) ـ للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الفقه : ج ٦٩ ـ ٧٠ للشارح.

٢٢٤

ويمكن حملها على خبر غير الثقة ، لما سيجيء من الأدلّة على اعتبار خبر الثقة.

هذا كلّه في الطائفة الدالّة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة.

وأمّا الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق الكتاب او لم يوجد عليه شاهد من الكتاب والسنّة.

______________________________________________________

في باب المتعارضين ، كما في خبر عمر بن حنظلة ، حيث يقول الرّاوي : «فان كان الخبران عنكم مشهورين ، قد رواهما الثقاة عنكم ، قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ، وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ، ووافق العامّة» (١).

(ويمكن حملها على) مطلق المخالفة ، كما في الحملين الاولين ، لكن في (خبر غير الثقة ، لما سيجيء : من الأدلّة على اعتبار خبر الثقة) فقط ، فيكون المراد من المخالفة على هذا : مطلق المخالفة سواء كان بالعموم المطلق ، أو من وجه ، أو الاطلاق والتقييد ، أو التباين ، لأنّ خبر غير الثقة ليس بحجّة.

لكن ، لا يخفى بعد هذا الحمل ، لأنّ ظاهر هذه الأخبار : عدم العمل بالمخالف بما هو مخالف ، لا من جهة أخرى (هذا كلّه في الطائفة ، الدّالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، وأمّا الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق الكتاب ، أو لم يوجد عليه شاهد من الكتاب والسنّة) مثل ما رواه الحسين بن أبي العلاء : «انه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث ، يرويه من نثق به ، ومنهم من لا نثق به؟.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٢٢٥

فالجواب عنها ـ بعد ما عرفت من القطع بصدور الأخبار الغير الموافقة لما يوجد في الكتاب منهم عليهم‌السلام ، كما دلّ عليه روايتا الاحتجاج والعيون ، المتقدّمتان المعتضدتان بغيرهما من الأخبار ـ أنّها محمولة على ما تقدّم في الطائفة الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ،

______________________________________________________

قال : إذا ورد عليكم حديث ، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله ، أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخذوا به ، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» (١).

(فالجواب عنها ـ بعد ما عرفت : من القطع بصدور الأخبار غير الموافقة لما يوجد في الكتاب منهم عليهم‌السلام ، كما دلّ عليه) أي : على صدور الأخبار ، التي لا يوجد مضمونها في الكتاب والسنّة (روايتا : الاحتجاج ، والعيون ، المتقدّمتان المعتضدتان بغيرهما من الأخبار) الدّالة على انّ بعض الأحكام الفرعيّة ليست موجودة في الكتاب والسنّة بصورة خاصة ، فيكون الجواب (: انها محمولة على ما تقدّم في الطائفة) الأولى (الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة) المعلومة.

فانا نقطع بصدور أخبار كثيرة عنهم عليهم‌السلام ، غير موافقة للكتاب والسنّة ، بمعنى : انّها مخصّصة أو مقيّدة لعمومات الكتاب والسنّة ـ على ما تقدّم الالماع الى ذلك ـ بحيث انّا لو لم نعمل بهذه الأخبار لزم انحصار الحجّة في الكتاب ، والسنّة المعلومة ، ولزم من ذلك تعطيل كثير من الأحكام.

وعليه : فلا بدّ من حمل أمثال هذه الأخبار ، على بعض المحامل المتقدّمة في الطائفة الاولى الآمرة بطرح ما يخالف الكتاب والسنّة ، من : انّها واردة في اصول الدين ، أو في صورة التعارض ، أو في خبر غير الثقة ، أو حتى في فروع الدّين

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٠ ب ٩ ح ٣٣٣٤٤ ، الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٩ ح ٢ وليس فيه (فخذوا به).

٢٢٦

وانّ ما دلّ منها على بطلان ما لم يوافق وكونه زخرفا محمول على الأخبار الواردة في اصول الدين ، مع احتمال كون ذلك من أخبارهم الموافقة للكتاب والسنّة على الباطن الذي يعلمونه منها ،

______________________________________________________

أيضا ـ كما أشرنا إليه سابقا.

إذن : فالطائفة الثانية ، التي تدلّ على طرح ما لا يوافق الكتاب تكون أيضا على قسمين :

القسم الأوّل : ما يحمل على المحامل الثلاثة التي حملنا عليها الطائفة الأولى ، الدالّة على طرح مخالف الكتاب ، وهي : إنها في اصول الدين ، أو إذا كان الخبر غير ثقة ، أو في صورة التعارض.

القسم الثاني : من الطائفة الثانية ، ما أشار إليه المصنّف بقوله : (وانّ ما دلّ منها على بطلان ما لم يوافق ، وكونه زخرفا ، محمول) على أحد أمرين :

الأول : (على الأخبار الواردة في اصول الدين).

الثاني : ما أشار إليه بقوله : (مع احتمال كون ذلك من أخبارهم ، الموافقة للكتاب والسنّة على) حسب المعنى (الباطن ، الذي يعلمونه) أي : يعلمون ذلك الباطن (منها) أي : من الآيات.

وهذا احتمال رابع في الطائفة الثانية ، فنحن مأمورون أن نطرح هذه الطائفة ، لكن من المحتمل أن يكون الأئمة عليهم‌السلام ، يرون هذه الطائفة موافقة للقرآن الكريم.

والحاصل : انّ الطائفة الثانية أيضا كالطائفة الاولى على قسمين ، ويحمل كلّ قسم منهما ، على ما حمل عليه قسما الطائفة الاولى ، مع زيادة محتمل آخر من الطائفة الثانية ، أشار إليها بقوله : «مع احتمال كون ذلك ...».

٢٢٧

ولهذا كانوا يستشهدون كثيرا بآيات لا نفهم دلالتها ؛ وما دلّ على عدم جواز تصديق الخبر الذي لا يوجد عليه شاهد من كتاب الله على خبر غير الثقة او

______________________________________________________

(ولهذا) الذي ذكرناه : من إن الخبر ربّما يكون موافقا للقرآن بحسب الباطن ، الذي يعلمه المعصوم عليه‌السلام ، وان لم يكن موافقا للقرآن بحسب الظاهر في نظرنا ، إلّا إننا مأمورون بطرح مثل هذا الخبر ، لئلا يتخذ الناس القرآن وسيلة لمآربهم في تأويل آياته كما يشاءون.

ويؤيد هذا الاحتمال إن الائمة عليهم‌السلام (كانوا يستشهدون) على بعض الاحكام الشرعية (كثيرا ، بآيات لا نفهم دلالتها) بحسب الظاهر.

مثل استشهادهم عليه‌السلام بآية : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ...) (١) على : عدم قطع كفّ السّارق ، وانّما الأصابع الأربعة فقط ، مع إنها لا دلالة فيها بحسب الظاهر في نظر البعض ، وانّما استشهد بها الامام عليه‌السلام لعلمه بباطن الآية ، حيث كان يعلم ما أراد الله تعالى منها.

ومثل استشهادهم عليه‌السلام بآية النّور ، على انّ المراد بها : هم الائمة الطاهرون عليهم‌السلام.

ومثل استشهادهم بالآية (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) (٢) على ان المراد بالانسان : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الى غير ذلك ممّا يجده الانسان بكثرة ، في تفسير الآيات وتأويلها (٣).

(و) كذا يمكن حمل (ما دلّ) من الأخبار (على عدم جواز تصديق الخبر ، الذي لا يوجد عليه شاهد من كتاب الله : على خبر غير الثقة ، أو

__________________

(١) ـ سورة الجن : الآية ١٨.

(٢) ـ سورة الزلزلة : الآية ٣.

(٣) ـ للمزيد راجع تقريب القرآن الى الأذهان للشارح.

٢٢٨

صورة التعارض ، كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة.

ثمّ إن الأخبار المذكورة على فرض تسليم دلالتها وإن كانت كثيرة إلّا أنّها لا تقاوم الأدلّة الآتية ، فانّها موجبة للقطع بحجّية خبر الثقة ، فلا بدّ من مخالفة الظاهر في هذه الأخبار.

______________________________________________________

صورة التعارض كما هو) أي : عدم جواز تصديق ما لا يوجد عليه شاهد في الكتاب (ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة).

ولا يخفى وجود التشويش فيما ذكره المصنّف : من التقسيم ، وفي المحامل ، ولعلّ الأقرب من كلّ ذلك ، هو : انهم عليهم‌السلام قالوها في مورد الأخبار الدخيلة ، حيث أرادوا بها تنقيح أخبارهم عليهم‌السلام منها.

وأمّا ما وصل بأيدينا ، من المجاميع المؤلفة من الأصول ، فلا يوجد فيها شيء من تلك الأخبار الدخيلة.

(ثم انّ الأخبار المذكورة) الدالّة على عدم العمل بالخبر المخالف للكتاب ، أو غير الموافق له ، اذا قلنا بشمولها لمثل العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، فانه (على فرض تسليم دلالتها) على المنع ، وتسليم سندها ، حيث انّ سند جملة منها غير نقيّ ، فانّها (وان كانت كثيرة ، إلّا انّها لا تقاوم الأدلّة الآتية) الدالّة على حجّية خبر الواحد مطلقا ، فيما اذا تم فيه السّند ، والدلالة ، وجهة الصدور.

(فانّها) أي : تلك الأخبار الكثيرة ، الدالّة على العمل بالخبر الواحد (موجبة للقطع بحجّية خبر الثقة) مع اجتماع سائر الشرائط (فلا بدّ من) ارتكاب (مخالفة الظاهر في هذه الأخبار) ، الدالّة على المنع.

والحاصل : انّا ان تمكّنّا من حمل هذه الأخبار المانعة على ظاهرها ، بحيث لا تكون منافية للأدلّة المجوزة ، فهو ، وإلّا اضطررنا الى التأويل في الأخبار المانعة

٢٢٩

وأمّا الجواب عن الاجماع : الذي ادّعاه السيّد والطبرسيّ قدس‌سرهما ، فبأنّه لم يتحقق لنا هذا الاجماع ، والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد مع معارضته بما سيجيء من دعوى الشيخ المعتضدة بدعوى جماعة اخرى الاجماع على حجّية خبر الواحد في الجملة ، وتحقّق الشهرة

______________________________________________________

لئلا نطرح الأدلة المجوزة ، التي هي مقطوعة سندا ودلالة ، وجهة في الجملة.

(وأمّا الجواب عن الاجماع الذي ادعاه السيّد والطبرسيّ قدس‌سرهما) على عدم العمل بالخبر الواحد (فبأنّه لم يتحقق لنا هذا الاجماع) ولم يكن محصّلا بالنسبة الينا ، اذ لم نجد من العلماء من يقول : بعدم العمل بالخبر الواحد ، الّا نادرا.

(و) اما (الاعتماد على نقله) اي : نقل الاجماع بأن نقول : انّه اجماع منقول والاجماع المنقول حجّة ، فانه (تعويل على خبر الواحد) اذ السيّد والطبرسيّ يخبر ان بالاجماع ، وخبرهما خبر واحد ، ولا يجوز الاعتماد على خبر الواحد ، في إثبات حجّية خبر الواحد ، لأنّه من قبيل ما يستلزم من وجوده عدمه ، وذلك محال ، لأنّ الوجود والعدم متناقضان ، فلا يجتمعان في حال واحد.

(مع معارضته بما سيجيء من دعوى الشيخ) فانّ دعوى السيّد والطبرسيّ :

الاجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، معارض بدعوى شيخ الطائفة : الاجماع على حجّية الخبر الواحد.

(المعتضدة) تلك الدعوى من الشيخ (بدعوى جماعة اخرى : الاجماع على حجّية خبر الواحد في الجملة).

وعلى تقدير حجّية الاجماعين المتعارضين يقع بينهما التعارض ويتساقطان ، فلا يكون إجماع في حجّية خبر الواحد ، كما لا يكون إجماع في عدم حجّيته.

(و) كذا (تحقق الشهرة) يعني : إنّ دعوى الشيخ : الاجماع على حجّية خبر

٢٣٠

على خلافها بين القدماء والمتأخّرين.

وأمّا نسبة بعض العامّة ، كالحاجبيّ والعضديّ ، عدم الحجّية الى الرافضة ، فمستندة إلى ما رأوا من السيّد من دعوى الاجماع ، بل ضرورة المذهب على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة.

______________________________________________________

الواحد ، معتضدة أيضا بتحقق الشهرة على الحجّية ، وهذه الشهرة (على خلافها) أي : خلاف دعوى السيّد والطبرسيّ ، متحقّقة (بين القدماء والمتأخرين) ممّا تدلّ على حجّية خبر الواحد.

فان قلت : فكيف إذن ينسب العامة الى الشيعة : عدم حجّية الخبر الواحد؟

قلت : (وأمّا نسبة بعض العامّة ، كالحاجبيّ والعضديّ) وهما من أعلام السنّة في الاصول (عدم الحجّية الى الرّافضة) ـ والمراد بالرافضة : الشيعة ، لأنهم رفضوا خلافة الّذين تقدّموا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولهذا يعبّر العامة عنهم بالرّافضة (فمستندة الى ما رأوا من السيّد) المرتضى (من دعوى الاجماع ، بل ضرورة المذهب : على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة) في عدم العمل.

فنسبتهم ذلك الى الشيعة ، لا لانهم وجدوا مشهور الشيعة لا يعملون بالخبر الواحد ، وإنما لانهم وجدوا ذلك في كتاب السيّد المرتضى ، فلا يبقى بعد ذلك دلالة في نسبتهم تلك الى الشيعة.

* * *

٢٣١

حجة المجوزين

وأمّا المجوّزون ، فقد استدلّوا على حجّيّته بالأدلّة الأربعة.

أمّا الكتاب :

فقد ذكروا منه آيات ادّعوا دلالتها.

منها قوله تعالى في سورة الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

والمحكيّ في وجه الاستدلال بها

______________________________________________________

حجة المجوزين

(وأمّا المجوّزون) للعمل بالخبر الواحد ، وهم المشهور قديما وحديثا (فقد استدلّوا على حجّيته) أي : حجّية الخبر الواحد (بالأدلّة الأربعة ،

فقد ذكروا منه آيات ادّعوا دلالتها) وإن كان في دلالة بعضها نظر.

(منها : قوله تعالى في سورة الحجرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ، أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)) (١).

وقد ذكر المؤرخون والمفسّرون في نزول هذه الآية : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعث الوليد بن عتبة ، الى قبيلة بني المصطلق لجمع الصدقات ، فلمّا رأوه استقبلوه فظنّ إنهم أرادوا قتله ، فعاد الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخبر : إنهم ارتدّوا عن دينهم ، فأراد النبي تجهيز الجيش وقتال بني المصطلق ، فنزلت هذه الآية.

(والمحكي في وجه الاستدلال بها) أي : بآية النبأ ، كما ذكره المصنّف

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٢٣٢

وجهان : أحدهما : أنّه سبحانه علّق وجوب التثبّت على مجيء الفاسق ، فينتفي عند انتفائه عملا بمفهوم الشرط ، وإذا لم يجب التثبّت عند مجيء غير الفاسق ، فامّا أن يجب القبول ، وهو المطلوب ، أو الردّ وهو باطل ، لأنّه يقتضي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، وفساده بيّن.

______________________________________________________

(وجهان) : (احدهما :) مفهوم الشرط ، وبيانه : (انه سبحانه علّق وجوب التثبّت على مجيء الفاسق) بمعنى : إنّه جعل مجيء الفاسق شرطا لوجوب التبيّن والتثبّت (فينتفي) وجوب التثبّت والتبيّن (عند انتفائه) أي : عند انتفاء مجيء الفاسق ، فاذا جاء الفاسق بالنبإ وجب التبيّن ، واذا لم يجيء الفاسق بأن جاء العادل ، فلا تبيّن لخبره ، وذلك (عملا بمفهوم الشرط) وقد ثبت في محله : ان مفهوم الشرط حجّة (واذا لم يجب التثبّت عند مجيء غير الفاسق) بأن جاء العادل بالخبر (فامّا أن يجب القبول) بلا تبيّن ، فانه اذا جاء الفاسق بالخبر نتبيّن ، فان كشف لنا صدقه عملنا به ، والّا لم نعمل به.

وأمّا اذا جاء العادل بالخبر ، فانه نقبل خبره ونعمل به بلا تبيّن (وهو المطلوب) لمن قال : بأنّ خبر الواحد حجّة ، وإنّ حجّيته لمفهوم الشرط المستفاد من هذه الآية المباركة.

(أو الردّ) بلا تبيّن ، فاذا جاء الفاسق ، تبيّنا عن خبره ، واذا جاء العادل ، رددنا خبره بلا تبيّن (وهو) أي الردّ بلا تبيّن (باطل) قطعا (لأنّه يقتضي كون العادل ، أسوأ حالا من الفاسق ، وفساده بيّن) لأنه وجب التّبيّن في خبر الفاسق ، بينما قد رددنا خبر العادل رأسا بلا تبيّن ومن دون عمل.

وحيث ان الأسوئية في خبر العادل مقطوع العدم ، فاللّازم أن نقول : بان مفهوم الآية هو : قبول خبر العادل بلا تبيّن.

٢٣٣

الثاني : أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ، وقد اجتمع فيه وصفان ، ذاتيّ وهو كونه خبر واحد ، وعرضيّ وهو كونه فاسقا.

ومقتضى التثبّت هو الثاني ، للمناسبة والاقتران ، فانّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل ، للعلّية ،

______________________________________________________

(الثاني :) من وجهي الاستدلال بالآية لقبول خبر العادل ، مفهوم الوصف ، وبيانه : (أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق وقد اجتمع فيه) أي : في إخبار الفاسق (وصفان : ذاتيّ : وهو كونه خبر واحد ، وعرضيّ : وهو كونه) أي كون : هذا الواحد الذي جاء بالخبر (فاسقا).

لوضوح : انّ الوحدة وصف ذاتي ، لأنّه لا يمكن تفكيك الموصوف عن هذا الوصف ، بينما الفسق وصف عرضيّ ، لأنّه يمكن انفكاكه عنه ، بأن يكون الواحد عادلا ، لا فاسقا (ومقتضى التثبّت ، هو : الثاني) أي : لأجل أنّه فاسق ، يجب التثبّت في خبره ، وذلك (للمناسبة والاقتران).

أمّا الاقتران : فلأن الفسق والتثبّت ذكرا معا ، حيث قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) ولم يقل : إن جاءكم واحد ، فيظهر : ان التبيّن لكونه فاسقا ، لا لكونه واحدا ، فهو مثل صلّ خلف العادل ، حيث يظهر منه : ان العدالة وجه الائتمام ، لا إنّه انسان ، وإلّا لزم ان يقول : صلّ خلف الانسان.

وأمّا المناسبة : فقد أشار إليه المصنّف بقوله : (فانّ الفسق يناسب عدم القبول) حيث ان العرف يرى : الفسق ، هو : المناسب لعدم قبول الخبر ، لا الوحدة.

وعليه : (فلا يصلح الأوّل) وهو الوحدة (للعليّة) أي : لعلّية التثبّت ، لأن التثبّت أمّا مرتبط بالوحدة ، وإمّا مرتبط بالفسق ، وحيث تبيّن : أنّ الوحدة لا تكون علّة ،

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٢٣٤

وإلّا لوجب الاستناد إليه ، إذ التعليل بالذاتيّ الصالح للعلّية ، اولى من التعليل بالعرضيّ ، لحصوله قبل حصول العرضيّ ، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضيّ.

______________________________________________________

كان الفسق هو العلّة للتثبّت.

(وإلا لوجب الاستناد إليه) أي : إلى الأول ، فانه إن كانت الوحدة صالحة للعلّية ، لكان الواجب أن يقول : إن جاءكم واحد فتبينوا (اذ التعليل بالذاتي) كالوحدة فيما نحن فيه (الصّالح للعلّية ، أولى من التعليل بالعرضيّ) كالفسق فيما نحن فيه (لحصوله) أي الذاتي وهو الوحدة (قبل حصول العرضي) وهو الفسق (فيكون الحكم) بوجوب التبيّن لو كان علّة التبيّن هو الذاتي (قد حصل ، قبل حصول العرضي) ، فيلزم تعليل وجوب التبيّن بالوحدة ، لا بالفسق.

وذلك لأنه إذا كان هناك علّتان : علّة ذاتيّة ، وعلّة عرضيّة ، نسب المعلول الى العلّة الذاتية ، لا الى العلّة العرضيّة ، فاذا كان شخص يكره شخصا ـ مثلا ـ لأمرين :

الأول : كونه فلانا.

الثاني : كونه سيّئ الأدب.

كان عليه ان يقول : اني اكرهه لكونه فلانا لا أن يقول : اني أكرهه لأنه سيّئ الأدب ، اذ لو قال : أني أكرهه لسوء أدبه ، قيل له : أنت تكرهه وان كان حسن الأدب ، فتعليلك الكراهة بسوء الأدب ، في غير موضعه.

وإن شئت قلت : أنّ النسبة تكون لسابق العلّتين ، لا للاحقهما ، ولذا ينسب الى عدم المقتضي دون المانع ، إذا اجتمع الاثنان في شيء.

مثلا : اذا لم يحترق القطن لأنّه لا نار ، وكان القطن رطبا ، يقال : لم يحترق لأنّه

٢٣٥

وإذا لم يجب التثبّت عند إخبار العدل ، فامّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الرّد ، فيكون حاله أسوأ من حال الفاسق ، وهو محال.

أقول : الظاهر أنّ أخذهم للمقدّمة الأخيرة ـ وهي أنّه إذا لم يجب التثبّت وجب القبول ، لأنّ الرّد مستلزم لكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ـ مبنيّ على ما يتراءى من ظهور الأمر بالتبيّن في الوجوب النفسيّ ، فيكون هنا امور ثلاثة ، الفحص عن الصدق والكذب ،

______________________________________________________

لا نار ، ولا يقال : لم يحترق لأنه رطب.

(واذا لم يجب التثبّت عند إخبار العدل ، فامّا أن يجب القبول) عند مجيء العادل بالخبر ، بدون تبيّن (وهو المطلوب) لأنه يدلّ على إن خبر العادل حجّة.

(أو الرّد) بلا تبيّن ، بأن نردّ خبر العادل بدون فحص عن صدقه وكذبه (فيكون حاله) أي : حال العادل (أسوأ من حال الفاسق وهو محال) ولا يراد به :

الاستحالة العقليّة ، وإنّما الاستحالة عند العقلاء ، إذ كيف يحق للعاقل أن يفحص عن خبر الفاسق ، بينما خبر العادل يرده رأسا بلا فحص؟.

(أقول : الظاهر : إنّ أخذهم للمقدّمة الأخيرة) في كل من استدلالهم بمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف (وهي : انّه اذا لم يجب التثبّت ، وجب القبول) بلا تثبّت ولا تبيّن (لأنّ الرّد) بدون التثبّت والتبيّن (مستلزم لكون العادل ، أسوأ حالا من الفاسق).

فان أخذهم هذه المقدمة ، تتمة للاستدلال بمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف (مبني على ما يتراءى من ظهور الأمر بالتبيّن : في الوجوب النفسي) وإذا كان الأمر بالتبيّن واجبا نفسيا (فيكون هنا أمور ثلاثة) :

الأول : (الفحص عن الصدق والكذب) في خبر العادل ، وهو منفيّ بالآية.

٢٣٦

والرّد من دون تبيّن ، والقبول كذلك.

لكنّك خبير بأنّ الأمر بالتبيّن مسوق لبيان الوجوب الشرطيّ وأنّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق دون العادل ، فالعمل بخبر العادل غير مشروط بالتبيّن ، فيتمّ المطلوب من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة ، وهي كون العادل أسوأ حالا في الفاسق. و

______________________________________________________

(و) الثاني : (الرّد من دون تبيّن) وهو منفي بالأسوئية.

(و) الثالث : (القبول كذلك) أي : من دون تبيّن ، وهو المتعين.

(لكنّك خبير : بأن الأمر بالتبيّن ، مسوق لبيان الوجوب الشرطي و) معنى الوجوب الشرطي : (انّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق ، دون العادل ، فالعمل بخبر) الفاسق انما يكون بعد التبيّن ، أمّا العمل بخبر (العادل) فانه (غير مشروط بالتبيّن).

فهنا شيئان فقط ـ لا ثلاثة أشياء ـ اذ وجوب التبيّن ليس نفسيّا ليحتاج الى مقدمة خارجية ، بل هو مقدمة العمل مما يضطر اليه ، لأن الآية مسوقة لبيان العمل ، فخبر العادل إمّا أن يعمل به بدون التبيّن ، أو لا يعمل به اطلاقا ، فيكون حاصله أولا منطوقا : ـ ان العمل بخبر الفاسق مشروط بالتبيّن ، وثانيا مفهوما : إنّ العمل بخبر العادل لا يشترط فيه التبيّن ، بل يعمل بخبره رأسا ، فلا يكون هناك ثلاثة أمور حتى يحتاج الى المقدمة الخارجية.

(فيتم المطلوب) وهو وجوب العمل بخبر العادل (من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة و) المقدّمة الخارجيّة (هي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق).

(و) ان قلت : من أين استظهرتم انّ المراد : الوجوب الشرطي ـ لا الوجوب النفسيّ ـ ليكون الأمر دائرا بين العمل وترك العمل ، مما لا يحتاج الى المقدمة

٢٣٧

الدليل على كون الأمر بالتبيّن ، للوجوب الشرطيّ لا النفسيّ ـ مضافا إلى أنّه المتبادر عرفا في أمثال المقام وإلى أنّ الاجماع قائم على عدم ثبوت الوجوب النفسيّ للتبيّن في خبر الفاسق ، وإنّما أوجبه من أوجبه ، عند إرادة العمل به ، لا مطلقا ـ هو أنّ التعليل في الآية بقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا ...) الخ ، لا يصلح أن يكون تعليلا للوجوب النفسيّ ، لأنّ حاصله يرجع إلى أنّه لئلّا تصيبوا قوما

______________________________________________________

الخارجيّة؟.

قلت : (الدليل على كون الأمر بالتبيّن ، للوجوب الشرطي لا النفسي مضافا الى أنّه) أي : الوجوب المقدمي هو (المتبادر عرفا في أمثال المقام) كما في مثل تبينوا ، أو اعلموا ، أو تجسسوا ، أو تحسسوا ، أو ما أشبه ، فانها عرفا مقدمة للعمل.

نعم ، في الأمور الاعتقادية إذا قيل : تبيّنوا ، أو اعلموا ، أو ما أشبه ، كان المراد به :

مجرد الاعتقاد بدون عمل خارجي.

(و) كذا مضافا (إلى أنّ الاجماع ، قائم على عدم ثبوت الوجوب النفسي للتبيّن في خبر الفاسق) بل وجوب التبيّن مقدميّ لأجل العمل.

(وإنّما أوجبه) أي : التبيّن (من أوجبه ، عند إرادة العمل به) أي : بالخبر (لا مطلقا).

فمضافا الى هذين الأمرين ، إن عمدة الدليل على كون وجوب التبيّن مقدّمي ، لا نفسي (هو : انّ التعليل في الآية بقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا) الخ لا يصلح أن يكون تعليلا للوجوب النفسي) وانّما يصلح لان يكون تعليلا للوجوب الشرطي ، الذي نحن نقول به ، ممّا يدور الأمر بين أمرين ، لا بين ثلاثة أمور.

وذلك (لأنّ حاصله) أي : حاصل التعليل (يرجع الى انّه لئلا تصيبوا قوما ،

٢٣٨

بمقتضى العمل بخبر الفاسق فتندموا على فعلكم بعد تبيّن الخلاف. ومن المعلوم أنّ هذا لا يصلح إلّا علّة لحرمة العمل بدون التبيّن. فهذا هو المعلول ، ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن.

مع أنّ في الأولوية المذكورة في كلام الجماعة ، بناء على كون وجوب التبيّن نفسيّا ، مما لا يخفى ،

______________________________________________________

بمقتضى العمل بخبر الفاسق ، فتندموا على فعلكم بعد تبيّن الخلاف) لأنهم بسبب خبر الوليد ، أرادوا قتال بني المصطلق ، كما سبق في وجه نزول هذه الآية المباركة ، وقوله : «بعد تبيّن» متعلق ، بقوله : «تندموا» لأنّ النّدم إنّما يكون بعد التبيّن.

(ومن المعلوم : إنّ هذا) أي : النّدم بعد التبيّن (لا يصلح إلّا علّة لحرمة العمل بدون التبيّن) فانّه اذا لم يكن عمل ، لم يكن ندم.

(فهذا) أي : حرمة العمل بخبر الفاسق ، بلا تبين ولا تثبّت (هو المعلول) للتبيّن والتثبّت ، فالتبيّن علّة ، وعدم النّدم معلول (ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن) لأنّ الأمر دائر بين العمل بالمفهوم أو المنطوق ، فالعمل بالمنطوق يحتاج الى التبيّن ، والعمل بالمفهوم لا يحتاج الى التبيّن.

(مع انّ في الأولوية) أي : أسوئية خبر العادل من الفاسق (المذكورة في كلام الجماعة ـ بناء على كون وجوب التبيّن نفسيا ـ مما لا يخفى).

فانّه لا يلزم أن يكون خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، فاذا فرض انّ التبيّن عن خبر الفاسق واجب نفسي ، لا مقدميّ لأجل العمل ، لم تدلّ الآية على انّ العمل بخبر الفاسق يحتاج إلى التبيّن أم لا ، فيكون خبر العادل والفاسق متساويين من هذه الجهة لسكوت الآية عنهما في صورة إرادة العمل بواحد منهما.

٢٣٩

لأنّ الآية على هذا ساكتة عن حكم العمل بالخبر قبل التبيّن أو بعده ، فيجوز اشتراك الفاسق والعادل في عدم جواز العمل قبل التبيّن ، كما انّهما يشتركان قطعا في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق ، لأنّ العمل حينئذ بمقتضى التبيّن لا باعتبار الخبر.

______________________________________________________

إذن : فلا يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ـ على ما ذكره المستدل في تفسير الآية ، كما لا يكون العمل بقول العادل ، أسوأ حالا من العمل بقول الفاسق (لأنّ الآية على هذا) أي : بناء على إن وجوب التبيّن نفسي في خبر الفاسق (ساكتة عن حكم العمل بالخبر) الصادر من العادل في إن العمل به هل هو (قبل التبيّن أو بعده).

وعليه : (فيجوز) : أي : يحتمل في خبر العادل وخبر الفاسق ، تساويهما في مقام العمل ، ل (اشتراك الفاسق والعادل ، في عدم جواز العمل) بخبرهما (قبل التبيّن) فخبر العادل والفاسق متساويان قبل التبيّن في عدم جواز العمل.

(كما انهما يشتركان ـ قطعا ـ في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق) لأنّ الانسان إذا فحص عن الخبر ـ سواء كان المخبر عادلا أو فاسقا ـ وتبيّن صدق المخبر جاز العمل بذلك الخبر.

(لأنّ العمل حينئذ) أي : حين العلم بالصدق يكون (بمقتضى التبيّن) والعلم ، فاذا علم الانسان بصدق خبر المخبر ، جاز العمل به ، من غير فرق بين أن يكون المخبر عادلا ، أو فاسقا ، أو مشكوك الحال.

(لا باعتبار الخبر) فانّ الخبر بما هو خبر ، حيث كان محتملا للصدق والكذب ، لا يمكن الاعتماد عليه والعمل على طبقه ، وإنّما باعتبار الصدق بعد التبيّن ، يجوز العمل بالخبر.

٢٤٠