الوصائل إلى الرسائل - ج ١٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-12-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

الوصائل

الى

الرسائل

تتمة المقصد الثالث

تتمة بحث الاستصحاب

٤

بقي الكلام في حجج المفصّلين

فنقول : أمّا التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار في الأوّل وعدمه في الثاني ، فهو الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني ، حيث استظهر من عبارة العضدي في نقل الخلاف : «أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي».

وما استظهره التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمل ، مع أنّ هنا

______________________________________________________

(بقي الكلام في حجج المفصّلين) حيث يرون بعض أقسام الاستصحاب حجة ، وبعض أقسامه غير حجة.

(فنقول : أمّا) حجة القول الثالث وهو : (التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار) للاستصحاب (في الأوّل) وهو العدمي فإنه حجة (وعدمه) أي : عدم اعتبار الاستصحاب (في الثاني) وهو الوجودي فليس بحجة (فهو) أي : هذا التفصيل هو (الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني).

وإنّما يستظهر منه ذلك (حيث استظهر) التفتازاني (من عبارة العضدي في نقل الخلاف) في باب الاستصحاب («أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الاثبات) فبعض يقول بحجيته ، وبعض يقول بعدم حجيته (دون النفي» (١)) فإن استصحاب النفي حجة عند الجميع.

هذا (وما استظهره التفتازاني) من كلام العضدي (لا يخلو ظهوره عن تأمل) لأن عبارة العضدي لا يظهر منها حجية استصحاب النفي بلا خلاف.

(مع أنّ هنا) أي : في كون استصحاب الاثبات محل خلاف عند من يرى

__________________

(١) ـ تعليقة شرح مختصر الاصول (شرح الشرح) : ص ٢٨٤.

٥

إشكالا آخر قد أشرنا اليه في تقسيم الاستصحاب وتحرير محلّ النزاع ، وهو أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديات ، إذ ما من مستصحب وجودي إلّا وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظنّ ببقائه الظنّ ببقاء المستصحب الوجودي.

وأقلّ ما يكون عدم ضدّه ، فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام لا ينفكّ

______________________________________________________

استصحاب النفي حجة (إشكالا آخر قد أشرنا اليه) أوائل البحث وذلك (في تقسيم الاستصحاب وتحرير محلّ النزاع) بين الأقوال.

(وهو) أي : ذلك الاشكال الآخر هو : (أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديات).

وإنّما يغني عنه (إذ ما من مستصحب وجودي إلّا وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظنّ ببقائه) أي : ببقاء ذلك العدم (الظنّ ببقاء المستصحب الوجودي) فإذا قلنا : بأن الاستصحاب في العدميات حجة ، فأيّة فائدة في أن نقول : بأن الاستصحاب في الوجوديات ليس بحجة؟.

(وأقلّ ما يكون) هنا حيث قلنا : بأنه ما من مستصحب وجودي إلّا وفي مورده استصحاب عدمي هو : استصحاب (عدم ضدّه) أي : عدم ضد ذلك الوجودي ، لأن لكل وجود ضد ، فإذا استصحبنا عدم ضده ، فيثبت الوجودي نفسه.

وأما مثال ذلك ، فكما قال : (فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام) الخمسة (لا ينفكّ

٦

عن عدم ما عداه من أضداده ، والظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات. فلا بد من القول باعتباره ، خصوصا بناء على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره : من أنّ إنكار الاستصحاب لعدم افادته الظنّ بالبقاء ، وإن كان ظاهر بعض النافين كالسيد قدس‌سره وغيره : استنادهم الى عدم افادته للعلم ، بناء على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغ عنه في أخبار الآحاد ، فضلا عن الظنّ الاستصحابي.

______________________________________________________

عن عدم ما عداه من أضداده) فنستصحب عدم النجاسة ، فيثبت القول بالطهارة ، فلا حاجة الى استصحاب الطهارة ، وكذا في سائر ما ذكره المصنّف من الأمثلة.

(و) معلوم : إن (الظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات) للتلازم بينهما عقلا.

وعليه : (فلا بد من القول باعتباره) أي : باعتبار الظن ببقاء تلك الوجودات (خصوصا بناء على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره : من أنّ إنكار الاستصحاب لعدم افادته الظنّ بالبقاء) فإذا ثبت إفادته الظن بالبقاء ـ كما بيّناه ـ ثبت حجية الاستصحاب.

إذن : فالظن بالبقاء كاف في حجية الاستصحاب ، لأن الظاهر من كلام العضدي وغيره : إن المحور هو الظن.

هذا (وإن كان ظاهر بعض النافين) لحجية الاستصحاب (كالسيد قدس‌سره وغيره : استنادهم) في عدم حجية الاستصحاب (الى عدم افادته للعلم) فالعلم هو المحور عندهم في الحجية ، لا الظن ؛ وذلك (بناء على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغ عنه في أخبار الآحاد) أي : هي من الأمارات ، فليست عندهم بحجة (فضلا عن الظنّ الاستصحابي) الذي هو من الأصول العملية ، فهو ليس

٧

وبالجملة : فانكار الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به في العدميّات لا يستقيم بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ.

نعم ، لو قلنا باعتباره من باب التعبّد من جهة الاخبار صحّ أن يقال : إنّ ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات.

فاستصحاب عدم أضداد الوجوب لا يوجب ثبوت الوجوب في الزمان

______________________________________________________

بحجة عندهم بطريق أولى.

وعليه : فإذا لم تكن اخبار الآحاد وهي أمارة ، حجة عندهم مع إنها تفيد الظن ، فالاستصحاب وهو أصل لا يكون حجة عندهم بطريق أولى ، إذ في الخبر أمران : خبر وظن ، بينما في الظن الاستصحابي أمر واحد ، وهو الظن فقط.

(وبالجملة : فانكار الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به في العدميّات) على ما ذكره المفصّلون (لا يستقيم بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ) لما عرفت من إن الظن بالعدم يستلزم الظن بالوجود.

(نعم ، لو قلنا باعتباره) أي : باعتبار الاستصحاب (من باب التعبّد من جهة الاخبار) لأن الاخبار هي التي أمرت بالاستصحاب ، فالاستصحاب حجة تعبدا ، فإن قلنا بذلك (صحّ أن يقال : إن ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات) لما تقدّم ويأتي أيضا : من إن الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية والعرفية والعادية.

مثلا : الظن بعدم الحدث وإن استلزم الظن ببقاء الطهارة ، لكن هذا اللازم عقلي وليس لازما شرعيا حتى يكون حجة ولذا لم يكن الظن ببقاء الطهارة حجة.

وعليه : (فاستصحاب عدم أضداد الوجوب) كما إذا قلنا : إنه لم يكن مستحبا ولا مكروها ولا حراما ولا مباحا (لا يوجب ثبوت الوجوب في الزمان

٨

اللاحق ، كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الانسان في الدار لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى.

لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبّد والاخبار بين العلماء في غاية القلّة الى زمان متأخري المتأخّرين مع

______________________________________________________

اللاحق) إذا استندنا في الاستصحاب الى الاخبار.

(كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الانسان في الدار لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله) أي : تفصيل الأصل المثبت فيما يأتي (إن شاء الله تعالى).

مثلا : إذا علمنا بوجود أحد في الدار مردّد بين زيد ، أو عمرو ، أو بكر ، فاستصحاب عدم الأخيرين لا يثبت وجود زيد في الدار لأن عدم الضد لازم عقلي للضد الآخر ، وليس لازما شرعيا له ، وقد عرفت : إنه لو كان الاستصحاب حجة من باب الاخبار لا يثبت به إلّا اللوازم الشرعية فقط.

(لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبّد والاخبار بين العلماء في غاية القلّة الى زمان متأخري المتأخّرين) أي : الى زمان والد الشيخ البهائي قدس‌سرهما ، على ما تقدّم.

وعليه : فحجّية الاستصحاب من باب الظن ، والظن بالعدم يستلزم الظن بالوجود ، فلما ذا قال هؤلاء المفصّلون بأن الاستصحاب حجة في العدميات لا في الوجوديات.

(مع) إنه لو قلنا بحجية الاستصحاب من باب الاخبار كان استصحاب العدم ملازما لاستصحاب الوجود أيضا ، إذ جملة من القائلين باعتباره من باب الاخبار يقولون بحجية اللوازم غير الشرعية للاستصحاب أيضا ، وذلك كما قال :

٩

أنّ بعض هؤلاء وجدناهم لا يفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفكّ عن المستصحب على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى.

ودعوى «أنّ اعتبار الاستصحابات العدمية لعلّه ليس لأجل الظنّ حتى

______________________________________________________

(إنّ بعض هؤلاء) القائلين بحجية الاستصحاب من باب التعبّد (وجدناهم لا يفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها) أي : افراد المقارنات : من العقلية والشرعية والعادية والعرفية (ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفكّ عن المستصحب) حتى المقارنات غير الشرعية ، ومن تلك المقارنات : إنه إذا نفى العدم ثبت الوجود.

إذن : فاستصحاب العدم يلازم استصحاب الوجود حتى على القول بحجيته من باب التعبد ، فكيف يقول المفصّل بحجية الاستصحاب في العدميات دون الوجوديات ، مع إن الوجوديات ملازمة للعدميات؟.

وعليه : فإن هذا وإن كان (على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى) : من إن الاستصحاب لا يثبت لوازمه العادية والعقلية والعرفية ، إلّا أن الكلام في أقوال العلماء الذين يقولون بحجية الاستصحاب من باب الظن ، أو من باب الاخبار ، ولا يفرّقون على القولين بين لوازمه ، فلما ذا يكون الاستصحاب حجة في العدميات دون الوجوديات؟.

(ودعوى) إن الاستصحاب ليس حجة ليس حجة لا من باب الظن ، ولا من باب التعبّد ، بل من باب بناء العقلاء ، وبناء العقلاء على حجية الاستصحاب سواء كان للظن أم للتعبد لا يوجب السراية من العدمي الى الوجودي ، فإن هذه الدعوى ليست في محلها كما قال : («أنّ اعتبار الاستصحابات العدمية لعلّه ليس لأجل الظنّ حتى

١٠

يسري الى الوجوديات المقارنة ، معها بل لبناء العقلاء عليها في امورهم بمقتضى جبلّتهم» ، مدفوعة : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضي في امورهم بمحض الشك والتردّد في غاية البعد ، بل خلاف ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء.

وأضعف من ذلك أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي هو الحاصل بالشيء من تحققه السابق ، لا الظنّ الساري من هذا الظنّ الى شيء آخر.

______________________________________________________

يسري الى الوجوديات المقارنة معها) أي : مع العدميات (بل لبناء العقلاء عليها) أي : على الاستصحابات العدمية (في امورهم بمقتضى جبلّتهم») وفطرتهم تعبدا ، لا بمقتضى الظن فلا يسري الاستصحاب العدمي الى الوجودي.

هذه الدعوى (مدفوعة : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضي في امورهم بمحض الشك والتردّد في غاية البعد) فإن عملهم إنّما هو لافادته الظن (بل) هو بمحض التعبد (خلاف ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء) فإنّا نعمل حسب الظن ، لا تعبدا حتى وإن لم يفد الظن.

وعليه : فإذا كان الاستصحاب العدمي حجة من باب الظن العقلائي ، فقد عرفت : إن الظن العدمي يسري الى الظن الوجودي.

(وأضعف من ذلك) أي : من الدعوى السابقة (أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي) أي : بنائهم على حجية الاستصحاب للظن ، لا للتعبد ، لكن المعتبر عندهم من هذا الظن (هو الحاصل بالشيء من تحققه السابق) فيكون الاستصحاب حجة فيه فقط (لا الظنّ الساري من هذا الظنّ الى شيء آخر) كالساري من العدمي الى الوجودي.

١١

وحينئذ فنقول : العدم المحقّق سابقا يظنّ بتحققه لا حقا ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ، بخلاف الوجود المحقق سابقا ، فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحققه السابق.

______________________________________________________

وإنّما كان هذا أضعف من سابقه لوضوح : إن المعيار عند العقلاء هو : حجية الظن سواء الظن العدمي المستصحب ، أم الظن الوجودي الملازم للظن العدمي.

وعليه : فقد تحقق الى هنا أربعة احتمالات : ـ

الأوّل : كون الاستصحاب حجة من باب الظن.

الثاني : كونه حجة من باب التعبد والاخبار.

الثالث : كونه حجة من باب بناء العقلاء تعبّدا ، فلا يسري الاستصحاب العدمي الى الاستصحاب الوجودي.

الرابع : بناء العقلاء على حجية الاستصحاب من باب الظن ، لكنهم لا يسرونه الى الوجودي.

(وحينئذ) أي : حين عرفت ذلك كله وعلمت أن القول بالتفصيل في الاستصحاب بين العدمي فحجة ، والوجودي فليس بحجة هو محور البحث هنا (فنقول) في تقرير حجية هذا التفصيل وبيان الدليل عليه ما يلي :

(العدم المحقّق سابقا يظنّ بتحققه لا حقا ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود) فإذا كان ظانا بأنه محدث ، فإنه يظن لا حقا بأنه محدث أيضا ، إلّا إذا علم بأنه توضّأ ، أو ظن تبدّل حالته بالتطهر.

(بخلاف الوجود المحقق سابقا ، فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحققه السابق) وذلك لأن الأعدام لا تحتاج الى المؤثر ، بخلاف الوجودات ، ومن أين لنا إن المؤثر السابق باق في تأثيره الى الزمان اللاحق؟.

١٢

والظنّ الحاصل ببقائه الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدمي المقارن له غير معتبر إمّا مطلقا أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتبة من جهة الاستصحاب.

ولعله المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ حياة الغائب بالاستصحاب ، إنّما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب ،

______________________________________________________

ألا ترى : إنه لو لم يكن بناء في أرض بقي كذلك آلاف السنوات ، بل ملايينها ، أمّا البناء فلا يبقى آلاف السنوات ، فكيف بملايينها؟.

(و) إن قلت : إنكم إذا قلتم باستصحاب الظن العدمي ، فإنه يلازم الظن الوجودي لأن الظن بعدم الحدث يلازم الظن ببقاء التطهر.

قلت : (الظنّ الحاصل ببقائه) أي : ببقاء الوجود (الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدمي المقارن له غير معتبر) فلا يفيد استصحاب العدم اثبات الوجود (إمّا مطلقا) أي : سواء كان الوجودي المقارن من آثار العدمي أم لم يكن من آثاره (أو) غير معتبر خصوص ما (إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتبة) تلك الآثار (من جهة الاستصحاب).

وعليه : فانه قد يكون الوجودي من آثار العدمي ، مثل وجوب النفقة للزوجة فإنه من آثار عدم موت الزوج ، وقد لا يكون الوجودي من آثار العدمي مثل وجود النهار ، فإنه مقارن لعدم الليل ، لا إن وجود النهار من آثار عدم الليل ، إذ وجود أحد الضدّين ليس من آثار عدم الضدّ الآخر.

(ولعله) أي : لعل هذا التفصيل الأخير الذي ذكره المصنّف بقوله : أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي هو (المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ حياة الغائب بالاستصحاب ، إنّما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب ،

١٣

لعدم انتقال ارثه الى وارثه ، لا انتقال ارث مورّثه اليه. فإنّ معنى ذلك : أنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب الى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه اليه ، وإن كان أحد الظنّين لا ينفك عن الآخر.

ثم إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي : إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي ، وإن كان لترتب أمر عدمي عليه ،

______________________________________________________

لعدم انتقال ارثه الى وارثه ، لا انتقال مورّثه اليه) وفي هذا إشارة الى إن المستصحب في المقام أمور ثلاثة :

الأوّل : حياة الغائب ، وهو أمر وجودي لا يعتبر استصحابه عند من لا يرى استصحاب الأمور الوجودية.

الثاني : عدم انتقال ارثه الى وارثه وهو أمر عدمي يعتبر استصحابه.

الثالث : انتقال ارث مورّثه اليه ، وهو أمر وجودي لازم للعدمي يحصل من الظن بالعدمي الظن به ، لكنه ليس من آثار العدمي المترتبة من جهة الاستصحاب ، فإن انتقال ارث مورّثه اليه من آثار حياته ، وليس أثرا لعدم انتقال ارثه الى وارثه.

ولذا قال المصنّف : (فإنّ معنى ذلك : إنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب الى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه اليه ، وإن كان أحد الظنّين لا ينفك عن الآخر) عقلا ، لأنه إن مات ورث وورّث بالتشديد ، وإن لم يمت لا يرث ولا يورّث بالتشديد.

وعليه : فإن عدم موت زيد من آثاره : عدم انتقال ارثه الى وارثه ، وليس من آثار عدم موته انتقال ارث مورّثه اليه ، وإن كانا متلازمان عقلا.

(ثم إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي : إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي ، وإن كان لترتب أمر عدمي عليه) فلا نستصحب أمرا

١٤

كترتّب عدم جواز تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته ، وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميا ، فلا يترتب انتقال مال قريب الغائب إليه ، وإن كان مترتّبا على استصحاب عدم موته.

ولعلّ هذا هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الاثبات.

وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال

______________________________________________________

وجوديا نريد بذلك ترتيب أثر عدمي على هذا الأمر الوجودي (كترتّب عدم جواز تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته) فلا نستصحب وجود زيد المفقود ، حتى نرتّب على هذا الوجود عدم جواز تزويج امرأته.

(وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميا) بأن نستصحب عدما لترتيب الوجود عليه (فلا يترتب انتقال مال قريب الغائب إليه ، وإن كان مترتّبا على استصحاب عدم موته).

والحاصل : هل مراد من يقول بعدم استصحاب الوجود : إنه لا يستصحب الوجود وإن أريد ترتيب العدم عليه ، أو إنه لا يستصحب العدم إذا أريد ترتيب الوجود عليه؟.

(ولعلّ هذا) المعنى الثاني الذي ذكره المصنّف بقوله : وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب ، وإن كان الاستصحاب عدميا (هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الاثبات) فلا يستصحب الوجود لترتيب العدم عليه.

(وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال) القائل بأن الظن

١٥

عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الاثبات واعتباره في النفي من باب الظنّ.

نعم ، قد أشرنا فيما مضى الى أنّه لو قيل باعتباره في النفي من باب التعبّد ، لم يغن ذلك عن التكلم في الاستصحاب الوجودي ، بناء على ما سنحققه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلّا آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا.

______________________________________________________

بالمستصحب العدمي يستلزم الظن بالمستصحب الوجودي ، فإذا اعتبرنا الاستصحاب العدمي كان اللازم أن نعتبر الاستصحاب الوجودي أيضا.

إذن : فالاشكال وارد على قول المفصّل ، ولا دافع لهذا الاشكال (عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الاثبات واعتباره في النفي من باب الظنّ).

أما لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الاخبار ، فقد عرفت : إنه من الممكن استصحاب النفي بدون ترتيب الوجود عليه ، لأن الاخبار تدل على حجّية نفس الاستصحاب ، لا لوازمه العقلية أو العرفية أو العادية.

(نعم) وهذا استثناء من قوله : وبالجملة فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال ، وهو : أنّا (قد أشرنا فيما مضى الى إنّه لو قيل باعتباره) أي : باعتبار الاستصحاب (في النفي من باب التعبّد) لا من باب الظن (لم يغن ذلك) الاعتبار للاستصحاب العدمي (عن التكلم في الاستصحاب الوجودي) لأن الاستصحاب العدمي لا يفيد حكما وجوديا.

وإنّما لم يغن ذلك عنه (بناء على ما سنحققه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلّا آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا) لا عقلا أو عرفا أو عادة ، ومن المعلوم : إن استصحاب العدم لاثبات الوجود من الآثار العقلية لا من الآثار الشرعية.

١٦

لكن يرد على هذا : أنّ هذا التفصيل مساو للتفصيل المختار ، المتقدّم ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر ، إذ الشك في بقاء الاعدام السابقة من جهة الشك في تحقق الرافع لها وهي علّة الوجود

______________________________________________________

(لكن يرد على هذا) أي : على ما أشكلناه على التفصيل بين العدمي والوجودي : من استلزام الظن بالمستصحب العدمي الظن بالمستصحب الوجودي ، فكيف يكون استصحاب النفي حجة دون الاثبات؟ إن الاشكال نفسه يرد على تفصيلنا أيضا.

وإنّما يرد على تفصيلنا أيضا ، لأنه كما قال : (أنّ هذا التفصيل) بين العدمي والوجودي (مساو للتفصيل المختار ، المتقدّم) منّا بين المقتضي والمانع ، حيث إنا أجرينا الاستصحاب في الشك في المانع والرافع ، ولم نجره في الشك في المقتضي.

(ولا يفترقان) أي التفصيلان : تفصيل هذا المفصّل مع تفصيلنا نحن (فيغني أحدهما عن الآخر) فإذا قال شخص بتفصيل ذلك المفصّل معناه : إنه قال بتفصيلنا ، وكذلك العكس.

وإنّما يكون هذا التفصيل مساويا للتفصيل المختار (إذ الشك في بقاء الاعدام السابقة) كعدم المطلوبية إنّما هو (من جهة الشك في تحقق الرافع لها) أي : للمطلوبية كالاستدانة ، وهذا الرافع (وهي) الاستدانة (علّة الوجود) للمطلوبية.

يعني : إن الأعدام من طبيعتها البقاء والاستمرار ، فيبقى عدم المطلوبية كما في المثال مستمرا حتى يأتي ما يرفعه وهي الاستدانة ، فنستصحب عدم الاستدانة ، فيبقى عدم المطلوبية ثابتا.

١٧

والشك في بقاء الأمر الوجودي من جهة الشك في الرافع لا ينفكّ عن الشك في تحقق الرافع ، فيستصحب عدمه ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجودي.

______________________________________________________

(و) كذا يكون (الشك في بقاء الأمر الوجودي) كالطهارة إذا كان (من جهة الشك في الرافع) كطروّ الحدث ، لا من جهة الشك في المقتضي ، كالشك في مقدار استعداد الطهارة للبقاء ، فإن الشك في بقاء الطهارة من جهة الشك في الرافع (لا ينفكّ عن الشك في تحقق الرافع) أي : إن الشك في بقاء الطهارة عبارة أخرى عن الشك في تحقق الرافع.

ومن المعلوم : إن معنى الشك في تحقق الرافع هو : الشك في علة العدم (فيستصحب عدمه) أي : عدم الرافع (ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجودي) الذي هو الطهارة في المثال.

وعليه : فقد انطبق اعتبار الاستصحاب في العدميات الذي يقول به المفصّل ، على اعتبار الاستصحاب عند الشك في تحقق الرافع الذي نقول به نحن ، لأن الرافع : إمّا رافع العدم وهي علة الوجود فيستصحب عدم ذلك الرافع ، وإمّا رافع الوجود وهي علة العدم فيستصحب عدمه أيضا ، ومعلوم : إن ذلك ليس من الشك في المقتضي ، وإنّما هو من الشك في الرافع الذي نقول به نحن.

والحاصل : إن الشك في بقاء الطهارة هو من باب الشك في الرافع ، حيث لا نعلم هل حدث رافع يرفع الطهارة أم لا؟ وهذا الشك هو بعينه الشك في العدم ، لأنّ الشك في العدم من باب الشك في الرافع أيضا ، حيث لا نعلم هل حصل الوجود؟ فنستصحب عدم حصول.

إذن : فلا فرق بين أن نقول : بتفصيل المفصّل بين العدمي والوجودي ،

١٨

وتخيّل : «أن الأمر الوجودي قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع فلا يغني العدمي عن الوجودي» ، مدفوع : بأنّ الشك إذا فرض من جهة الرافع فيكون الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك الأمر الوجودي مستمرّة الى تحقق ذلك الرافع.

فإذا حكم بعدمه عند الشك ترتّب عليه

______________________________________________________

أو نقول : بتفصيلنا بين المقتضي والمانع ، إذ كل شك في الرافع هو شك في العدم.

(وتخيّل : «أن) هنا فرقا بين التفصيلين ، وذلك لأن (الأمر الوجودي) كالطهارة (قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع) أي : عدم الحدث ، فإن عدم الرافع لا يثبت وجود الطهارة ، لأن وجود الطهارة ليس من آثار عدم الحدث (فلا يغني) الاستصحاب (العدمي عن) الاستصحاب (الوجودي»).

إذن : فيثبت الأمر الوجودي باستصحابه على تفصيل المختار دون التفصيل المذكور ، لأنه باستصحاب عدم الرافع لم يثبت الوجودي حيث لم يكن أثرا شرعيا لعدم الرافع.

هذا التخيّل (مدفوع : بأنّ) العدمي يغني عن الوجودي ، وذلك لأن (الشك إذا رض من جهة الرافع) يعني : لم نعلم هل إنه حدث ما يرتفع به الطهارة أم لا؟ (فيكون الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك الأمر الوجودي) كجواز الدخول في الصلاة ، ومسّ كتابة القرآن ، وصحة الطواف ، وما أشبه (مستمرّة الى تحقق ذلك الرافع) الذي هو الحدث.

وعليه : (فإذا حكم بعدمه) أي : بعدم الرافع الذي هو الحدث (عند الشك) في إنه هل تحقق الحدث أم لم يتحقق؟ (ترتّب عليه) أي : على عدم الرافع

١٩

شرعا جميع تلك الأحكام ، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجودي.

وحينئذ : فيمكن أن يحتجّ لهذا القول : إمّا على عدم الحجّية في الوجوديات : فبما تقدّم في أدلّة النافين ، وأمّا على الحجّية في العدميات : فبما تقدّم في أدلّة المختار ، من الاجماع والاستقراء ، والاخبار ، بناء على أنّ بقاء المشكوك في بقائه من جهة الرافع ،

______________________________________________________

(شرعا جميع تلك الأحكام) من جواز الدخول في الصلاة والطواف ، وما أشبه ذلك.

إذن : (فيغني ذلك) الاستصحاب العدمي (عن الاستصحاب الوجودي) فلا نحتاج الى استصحاب الطهارة ، وإنّما يكفي أن نستصحب عدم الحدث.

(وحينئذ) أي : حين ثبت تساوي هذا التفصيل مع التفصيل الذي ذكرناه نحن بين المقتضي والمانع (فيمكن أن يحتجّ لهذا القول) المفصّل بين الوجودي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين العدمي فيجري فيه الاستصحاب بما يلي :

(إمّا على عدم الحجّية) للاستصحاب (في الوجوديات : فبما تقدّم في أدلّة النافين) الذين قالوا بعدم حجية الاستصحاب مطلقا ، فإن ما استدلوا به هناك لعدم حجيته يشمل الاستصحاب في الوجوديات هنا أيضا.

(وأمّا على الحجّية في العدميات : فبما تقدّم في أدلّة المختار ، من الاجماع والاستقراء ، والاخبار) فإنها تختص حينئذ بالاستصحاب في العدميات.

إن قلت : الاخبار مثل : لا ينقض اليقين بالشك ، وغير ذلك لا يختص في الاستصحاب العدمي.

قلت : (بناء على أنّ بقاء المشكوك في بقائه) وقوله : المشكوك في بقائه ، هي جملة واحدة ، كالطهارة ـ مثلا ـ فالشيء المشكوك البقاء (من جهة الرافع ،

٢٠