الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-05-8
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

٤

الوصائل

الى

الرسائل

 ـ تتمّة المقصد الثاني

ـ «تتمّة بحث الانسداد»

٥
٦

والجواب : عن هذا الوجه أنّ أدلّة نفي العسر ، سيّما البالغ منه حدّ اختلال النظام ، والاضرار بامور المعاش والمعاد ، لا فرق فيها بين ما يكون بسبب يسند عرفا الى الشارع ، وهو

______________________________________________________

ثم لا يخفى : إنّ عسر الاجتهاد في زماننا ـ هذا ـ بخلاف الأزمنة السابقة كزمان شيخ الطائفة وابن ادريس ومن أشبههما ـ نشأ بسبب كثرة الاحتمالات التي أبداها الفقهاء في مختلف أبواب الفقه ، فهو مثل ما اذا كان كتاب الطب منحصرا في قانون ابن سينا فانّ الشخص كان يصير طبيبا بقراءته ، أما اذا جاء بعده مائة طبيب ، وكتب كلّ منهم كتابا فهل يعذر الطبيب في جهله اذا لم يقرأ الّا كتاب ابن سينا؟.

لا يقال : يكفينا الكتاب والسنّة ، فنرجع إليهما كما رجع شيخ الطائفة اليهما.

لأنّه يقال : لا حقّ لنا في الاكتفاء بالرجوع اليهما دون الرجوع الى اجتهادات أعاظم الفقهاء حولهما ، اذ لو فرض عدم توصل شيخ الطائفة الى الحكم بعد رجوعه اليهما ، كان معذورا عند العقل والعقلاء ، لأنّه لم يملك أكثر من ذلك ، بخلاف ما اذا جهلنا الحكم ، فالشارع الحكيم يقول لنا : أنت كنت تملك التوصل الى الحكم فلما ذا تركته؟.

وعليه : فمثل الاجتهاد اليوم مثل كلّ علم ينمو ، حيث المتأخر يملك أكثر ممّا يملك المتقدّم ، فلا يعذر المتأخر في جهله وتخطبه ، وإن كان المتقدّم يعذر في ذلك.

(والجواب عن هذا الوجه : إنّ أدلّة نفي العسر سيّما البالغ منه) أي : من العسر (حدّ اختلال النظام ، والاضرار بامور المعاش والمعاد) بأنّ يكون العسر والحرج شديدين ، فانّه (لا فرق فيها) أي : في أدلة نفي العسر (بين ما يكون بسبب يسند عرفا الى الشارع ، وهو) أن يكون الشارع بنفسه قد سبّب ذلك ، كما إذا جعل

٧

الذي اريد بقولهم عليهم‌السلام : «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» ، وبين ما يكون مسندا الى غيره.

ووجوب صوم الدّهر على ناذرة اذا كان فيه مشقّة لا يتحمّل عادة ممنوع.

وكذا أمثالها من المشي الى بيت الله جلّ ذكره ، وإحياء

______________________________________________________

صلاة حرجيّة ، أو صوما حرجيّا ، وهكذا ، فان هذا والعسر المسند الى الشارع ، هو (الّذي اريد بقولهم عليهم‌السلام : «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر») (١).

وعليه : فان معنى هذا الحديث : هو إن ما سبّب الله عسره أو استحالته ، فانّ الله يعذر الانسان في تركه ، كما اذا جاءت صاعقة فجففت المياه ، فالله لا يريد من الانسان الطهارة المائية ، أو جاء مرض فتمرض الانسان بحيث لا يتمكن من القيام في الصلاة أو الصيام ، فالله لا يريد القيام في الصلاة أو الصيام منه ، وفي هذا الحديث دلالة على سقوط العسر الذي لم يكن الانسان هو السبب فيه.

وعليه : فلا فرق بين ذلك (وبين ما يكون) العسر (مسندا الى غيره) لأنّ كليهما عسر ، واطلاق أدلة نفي العسر يرفع كليهما.

(و) أما ما قيل : من إنّ الناذر اذا أوجب على نفسه شيء ، وجب عليه مع إنّه عسر ، ممّا يدل على أنّ العسر المرفوع هو العسر الآتي من قبل الشارع ، لا من قبل العبد نفسه ، فنقول في جوابه : (وجوب صوم الدّهر على ناذره ، اذا كان فيه مشقّة لا يتحمّل عادة ممنوع) فلا نقول : بوجوب صوم الدهر وإن أوجب الناذر ذلك الصوم على نفسه ، فان أدلة النذر منصرفة على مثل ذلك ، أو أنّ أدلة العسر مخصّصة لمثل ذلك (وكذا أمثالها من المشي الى بيت الله جلّ ذكره ، وإحياء

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٤١٢ ح ١ وقريب منه في علل الشرائع : ص ٢٧١ والمناقب : ج ٢ ص ٣٦.

٨

الليالي ، وغيرهما ، مع إمكان أن يقال بانّ ما ألزمه المكلّف على نفسه من المشاقّ خارج من العمومات ، لا ما كان السبب فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمدا فلا يجب الغسل مع المشقّة ، وبين اجازة النفس للمشاق ،

______________________________________________________

اللّيالي وغيرهما) فانّ دليل نفي العسر يرفع كل ذلك.

هذا (مع إمكان أن يقال) بجواب آخر غير الجواب الأوّل ، فان في كلام المصنّف الأول الذي بيّنه بقوله : والجواب عن هذا الوجه ، أراد بيان أنّ العسر مطلقا مرفوع ، سواء كان من قبل الشارع ، أم من قبل المكلّف ، وفي هذا الجواب يريد بيان إنّ العسر الآتي من قبل المكلّف قسمان : قسم منه مرفوع ، كما اذا أجنب وكان الغسل مشقة عليه حيث هذا الغسل مرفوع ، ويبدّله بالتيمم ، لانّ الشارع أوجب الغسل بعد الجنابة ، لا إن العقلاء فعلوا ذلك.

وقسم ليس بمرفوع ، كالإجارة الشاقة حيث إنّ العقلاء أوجبوا العمل عليه والشارع أمضاه ، لا انّ الشارع جعله كما جعل غسل الجنابة.

وعليه : فالجواب هنا بالتفصيل : (بأنّ ما الزمه المكلّف على نفسه من المشاق ، خارج من العمومات) أي : من عمومات أدلة نفي العسر (لا ما كان السّبب فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمّدا فلا يجب الغسل مع المشقة) لأنّ المكلّف لم يلزم وجوب الغسل على نفسه ، بل اجنب وإنّما الشارع هو الذي أوجب الغسل اذا تحقق هذا الموضوع ، وحيث إنّ الشارع لا يوجب الحكم الشاق ، لا يوجب عليه الغسل بل يبدّله بالتيمم.

(وبين إجازة النفس للمشاق) فانّ المكلّف ـ هو الذي ألزم الأمر الشاق على نفسه ، من دون مدخلية للشارع ، والعقلاء هم الذين يوجبون العمل بالاجازة على

٩

فإنّ الحكم في الأوّل تأسيس من الشارع وفي الثاني إمضاء لما ألزمه المكلّف على نفسه ، فتأمل.

وأمّا الاجتهاد الواجب كفاية عن انسداد باب العلم ، فمع أنّه شيء يقضي بوجوبه الأدلة القطعيّة ، فلا ينظر الى تعسره وتيسّره.

فهو ليس أمرا حرجا خصوصا بالنسبة الى أهله ، فانّ مزاولة العلوم لأهلها ليس بأشقّ من أكثر المشاغل الصّعبة التي يتحمّلها النّاس لمعاشهم.

______________________________________________________

هذا الشخص والشارع أمضاه.

وعليه : (فانّ الحكم في الأوّل :) أي : الغسل (تأسيس من الشارع ، وفي الثاني :) أي الاجارة (إمضاء لما ألزمه المكلّف على نفسه) بينهما فرق في أنّ احدهما مرفوع ، والآخر غير مرفوع.

(فتأمّل) ولعله إشارة الى أنّه لا يفرق بين القسمين بعد أن الشارع أوجب الغسل وأمضى الاجارة ، فالشارع بالتالي هو السبب في المشقة.

(وأمّا الاجتهاد الواجب كفاية عند انسداد باب العلم ، فمع انّه) أوّلا : (شيء يقضي بوجوبه الأدلّة القطعيّة ، فلا ينظر الى تعسره وتيسّره) كما لا ينظر الى ما يكون عسرا وهو واجب شرعا ، كالجهاد ونحوه.

وثانيا : (فهو ليس أمرا حرجا ، خصوصا بالنّسبة الى أهله) من طلبة العلم الّذين يحبون الاجتهاد قربة الى الله سبحانه وتعالى تحصيلا لرضاه وثوابه (فانّ مزاولة العلوم لأهلها ، ليس بأشق من أكثر المشاغل الصّعبة التي يتحمّلها الناس لمعاشهم) إذ الاجتهاد أسهل من عمل البنّاء والنجّار والحدّاد ، وما اشبه ذلك.

نعم ، في الاجتهاد جهد فكري ، وفي تلك الامور جهد بدني ، وحيث أنّ الفكر

١٠

وكيف كان فلا يقاس عليه.

وأمّا عمل العباد بالاحتياط ومراقبة ما هو أحوط الأمرين أو الامور في الوقائع الشخصيّة اذا دار الأمر فيها بين الاحتياطات المتعارضة ، فانّ هذا دونه خرط القتاد ، إذ أوقات المجتهد لا تفي بتمييز موارد الاحتياطات ، ثمّ إرشاد المقلّدين الى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض ، عند تعارضها في الموارد الشخصيّة التي يتّفق للمقلّدين.

______________________________________________________

وراء الاجتهاد ، والفكر افضل من العمل البدني ، كان الاجتهاد أفضل ، كما ان الأمر كذلك بالنسبة الى الطب ، والهندسة ، ونحوهما ، فانّها افضل من الأعمال البدنية ، وقد ذكرنا في كتاب : «الفقه الاقتصاد» (١) تفصيل هذا الامر.

(وكيف كان : فلا يقاس) الاحتياط عند الانسداد (عليه) أي : على الاجتهاد ، حتى يقال : انّه كما يجب الاجتهاد ، مع عسره يجب الاحتياط مع عسره.

(وأمّا عمل العباد بالاحتياط) عند الانسداد (ومراقبة ما هو أحوط الأمرين ، أو الامور في الوقائع الشخصيّة) لكلّ مكلّف مكلّف ، (اذا دار الأمر فيها) أي : في الوقائع الشخصيّة (بين الاحتياطات المتعارضة ، فانّ هذا) الاحتياط (دونه) وأسهل منه (خرط القتاد) فلا ينبغي أن يقاس على الاجتهاد ويقال : كما انّ الاجتهاد عسر ومع ذلك واجب كذلك الاحتياط عند الانسداد عسر لكنّه واجب.

(إذ أوقات المجتهد لا تفي بتمييز موارد الاحتياطات) من أول الفقه الى آخر الفقه (ثمّ إرشاد المقلّدين الى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض عند تعارضها في الموارد الشخصيّة التي يتفق للمقلدين) كما اذا كان آخر الوقت ، ودار أمر

__________________

(١) ـ موسوعة الفقه : ج ١٠٧ ـ ١٠٨ للشارح.

١١

كما مثّلنا لك سابقا بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

وقد يرد الاحتياط بوجوه أخر غير ما ذكرنا من الاجماع والحرج.

منها : إنّه لا دليل على وجوب الاحتياط وأنّ الاحتياط أمر مستحبّ اذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة.

وفيه :

______________________________________________________

الصلاة بين قراءة السورة فيها ، فيقع بعض الصلاة خارج الوقت ، فهما احتياطان متعارضان يحتاج الفقيه الى ترجيح هذا على ذاك أو بالعكس.

و (كما مثّلنا لك سابقا) في الاحتياطات المتعارضة (بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر) ممّا لا داعي الى تكراره.

هذا (وقد يردّ) لزوم (الاحتياط) عند الانسداد (بوجوه أخر غير ما ذكرنا من الاجماع ، والحرج) ممّا تقدّم ، وقد اشار اليها المصنّف بقوله : (منها : إنّه لا دليل على وجوب الاحتياط ، وإنّ الاحتياط أمر مستحب اذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة) كما إذا علم بانّه مديون لأحد شخصين من دون تعيين فإلغاء الاحتياط ، والاستناد الى أصالة البراءة بالنسبة الىّ كلّ واحد منهما يوجب الغاء حق واجب عليه ، وكذا إذا أوجب الاحتياط في الصلاة تكرارها في ثياب متعددة بعضها نجس ممّا يوجب عدم تمكنه من تحصيل المعاش الواجب لزوجته وسائر واجبي النفقة عليه.

(وفيه :) إذا لوحظ الاحتياط في كلّ واقعة واقعة وحدها وفي نفسها بدون ارتباطها بسائر الوقائع فلا بأس بالقول بعدم وجوب الاحتياط فيها ، لجريان البراءة في كل واقعة واقعة ، أما اذا لوحظ كل الوقائع معا فمقتضى العلم الاجمالي الناشئ من الانسداد ـ لأن الكلام على فرض الانسداد ـ هو لزوم الاحتياط في الجميع.

١٢

إن أريد أنّه لا دليل على وجوبه في كلّ واقعة اذا لوحظت مع قطع النظر عن العلم الاجمالي بوجود التكليف بينها وبين الوقائع الأخر فهو مسلّم بمعنى أنّ كلّ واقعة ليست ممّا يقتضي الجهل فيها بنفسها للاحتياط بل الشّكّ فيها إن رجع الى التكليف ، ـ كما في شرب التتن ووجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ـ لم يجب فيها الاحتياط ، وإن رجع الى تعيين المكلّف به ، كالشّك في القصر والإتمام والظهر والجمعة ، وكالشك في مدخليّة شيء في العبادات ،

______________________________________________________

إذن : (إن اريد) باستحباب الاحتياط : (انّه لا دليل على وجوبه) أي : الاحتياط (في كلّ واقعة اذا لوحظت) وحدها ، اي : (مع قطع النظر عن العلم الاجمالي) الناشئ من الانسداد (بوجود التكليف بينها وبين الوقائع الأخر ، فهو) اي : عدم وجوب الاحتياط فيها (مسلّم بمعنى : إن كل واقعة) بوحدها (ليست ممّا يقتضي الجهل فيها بنفسها) مستقلا (للاحتياط) الجار والمجرور متعلق ب «يقتضي».

(بل الشك فيها) أي : في الواقعة (إنّ رجع الى التكليف ، كما في شرب التتن) في الشك التحريمي (ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال) في الشك الوجوبي (لم يجب فيها) أي : في كل واقعة (الاحتياط) لأنّه من الشك في التكليف ، والشّك في التكليف مجرى البراءة.

(وإن رجع الى تعيين المكلّف به) مع العلم بالتكليف (كالشك في القصر والاتمام ، والظّهر والجمعة) حيث يعلم الانسان بوجوب صلاة عليه لكنّه لا يعلم هل انّها قصر أو تمام ، أو انّها ظهر أو جمعة؟.

(وكالشّك في مدخليّة شيء في العبادات) جزءا أو شرطا ، بأن شكّ مثلا ـ في انّه هل يجب جلسة الاستراحة في الصلاة؟ أو انّه هل يجب عدم نية القطع

١٣

بناء على وجوب الاحتياط فيما شكّ في مدخليّته وجب فيها الاحتياط ، لكن وجوب الاحتياط في ما نحن فيه في الوقائع المجهولة من جهة العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات فيها ، وإن كان الشكّ في نفس الواقعة ، شكّا في التكليف.

ولذا ذكرنا سابقا أنّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوّلية عند انسداد باب العلم.

______________________________________________________

والقاطع في الصوم ، وهكذا.

وذلك (بناء على وجوب الاحتياط فيما شك في مدخليّته) أي : بأن لا نقول بالبراءة في الشك في الجزء والشرط في المركّب الارتباطي ، فعند ذلك (وجب فيها الاحتياط) لأنّه مقتضى العلم الاجمالي.

(لكن وجوب الاحتياط فيما نحن فيه في الوقائع المجهولة) حيث انسدّ باب العلم ، ونحن نعلم بوجود أحكام كثيرة في المشكوكات والمظنونات والموهومات (من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات فيها) أي :

في الوقائع المجهولة ، فانّه (وإن كان الشكّ في نفس الواقعة) الشخصيّة مثل الدعاء عند رؤية الهلال ، أو شرب التتن ، (شكا في التكليف) لكنّه لا يلاحظ كل واقعة واقعة حتى يكون المجرى : البراءة ، بل إنّما يلاحظ الاحكام مجموعة ـ كما سبق الاشارة اليه ـ.

(ولذا ذكرنا سابقا : انّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوليّة عند انسداد باب العلم) فلا يقال : إنّ كل واقعة واقعة مشكوك ، فاللازم جريان البراءة ، فان المشهور قالوا بوجوب الاحتياط في كل أطراف العلم ، وإن قال بعض : بأنّه لا يلزم الّا الموافقة الاحتمالية بالعمل ببعض أطراف العلم لا كل الأطراف ، وبعض : بأنّه

١٤

نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الاجمالي بالتكليف فهو يستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط.

ومنها : إنّ العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط ، لانّ مذهب جماعة من العلماء بل المشهور بينهم اعتبار معرفة الوجه بمعنى تمييز الواجب عن المستحبّ اجتهادا أو تقليدا.

قال في الارشاد ، في أوائل الصلاة : «يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من

______________________________________________________

لا يلزم شيء اطلاقا ، فالعلم الاجمالي لا يلزم موافقته القطعيّة ولا موافقته الاحتمالية.

(نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الاجمالي بالتكليف ، فهو يستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط) لأنّه يقول : إنّا وإن كنّا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات ، الّا إنّ علم اجمالي في أطراف الظنون والشكوك والأوهام ، والعلم الاجمالي لا يلزم موافقته اطلاقا.

(ومنها) أي : من الايرادات على الاحتياط عند الانسداد (: إنّ العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط) وإذا كان العمل بالاحتياط مخالفا للاحتياط ، فاللازم تركه لا فعله (لأنّ مذهب جماعة من العلماء بل المشهور بينهم) خصوصا القدماء (اعتبار معرفة الوجه) عند إتيان الانسان بالعبادة والوجه (بمعنى تمييز الواجب عن المستحب اجتهادا أو تقليدا) فالذي يشرع في الصلاة يلزم عليه أن يعرف إنّ الحمد واجب والقنوت مستحب وهكذا ، ويدلّ على ذلك تصريحاتهم في الكتب الفقهية في باب العبادات.

مثلا : (قال في الارشاد في أوائل الصلاة : يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من

١٥

مندوبها وإيقاع كلّ منهما على وجهه».

وحينئذ : ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه التي أفتى جماعة بوجوبها وباطلاق بطلان عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد.

وفيه : أوّلا : أنّ معرفة الوجه ممّا يمكن ، للمتأمل في الادلّة وفي إطلاقات العبادة

______________________________________________________

مندوبها ، وإيقاع كلّ منهما على وجهه) فإذا أراد قراءة الحمد يجب عليه أن ينوي الوجوب ، وإذا أراد القنوت يجب عليه نيّة النّدب ، وهكذا.

(وحينئذ) أ : حين كان معرفة الوجه واجبة في العبادات (ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه التي افتى جماعة : بوجوبها ، وبإطلاق بطلان عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد) وإن كان آتيا بالاحتياط ، فانّه اذا لم يعلم ـ مثلا ـ ان جلسة الاستراحة واجبة أو مستحبة ، لا يجوز أن يأتي بها ، لانّه لا يتمكن أن ينوي بها الوجوب ولا الاستحباب ، لانّه لا يعلم هذا أو ذاك ، وهكذا في سائر أبواب الاحتياطات ، فالاحتياط بإتيان جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات عند انسداد باب العلم خلاف الاحتياط فلا يجوز.

(وفيه أولا : ان معرفة الوجه) أي : لزوم أن يعرف المكلّف الوجه فيما يأتي به من العبادات وأن أي شيء منها واجب وأيّ شيء منها مستحب (ممّا يمكن للمتأمّل في الأدلّة) نفيها فان سكوت الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل عنها ، يدلّ على العدم ، وإنّه لو وجب الوجه لزم التنبيه عليه ، فعدم التنبيه دليل العدم.

(وفي اطلاقات العبادة) مثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ)

١٦

وفي سيرة المسلمين وفي سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمّة عليهم‌السلام مع الناس ، الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكّن من المعرفة العلميّة.

ولذا ذكر المحقّق قدس‌سره كما في المدارك في باب الوضوء : «إنّ ما حقّقه المتكلّمون من وجوب ايقاع الفعل لوجهه

______________________________________________________

(اللَّيْلِ) (١) وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢) وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٣) الى غير ذلك.

(وفي سيرة المسلمين) حيث جرت سيرتهم على عدم قصد الوجه في الصلاة وغيرها.

(وفي سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة عليهم‌السلام مع الناس) فانّهم بيّنوا للناس الأجزاء ، والشرائط ، والموانع ، والقواطع ، ولم يذكروا الوجه.

وعليه : فالمتأمّل يحصل له (الجزم بعدم اعتبارها) أي : عدم اعتبار معرفة الوجه (حتى مع التمكن من المعرفة العلميّة) فانّ الانسان الذي يعلم انّ الحمد واجب والقنوت مستحب ، لا يلزم أن ينوي الوجوب عند قراءة الحمد ، ولا النّدب عند القنوت.

(ولذا) أي : لأجل ما ذكرناه : من عدم اعتبار قصد الوجه حتى مع التمكن من المعرفة العلميّة (ذكر المحقّق قدس‌سره كما) نقل عنه (في المدارك في باب الوضوء) من (انّ ما حقّقه المتكلّمون : من وجوب إيقاع الفعل لوجهه) يعني : إنّه يقصد

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ٧٨.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٣.

(٣) ـ سورة آل عمران : الآية ٩٧.

١٧

أو وجه وجوبه كلام شعريّ» وتمام الكلام في غير هذا المقام.

وثانيا : لو سلّمنا وجوب المعرفة أو احتمال وجوبها الموجب للاحتياط ، فانّما هو مع التمكّن من المعرفة العلميّة.

أما مع عدم التمكّن فلا دليل عليه

______________________________________________________

الوجوب اذا كان واجبا ، او النّدب اذا كان ندبا.

(أو وجه وجوبه) بمعنى : الاتيان بالفعل الواجب أو المندوب بقصد كون وجوبه أو استحبابه لطفا ، أو الاتيان بقصد الشكر ، أو لأجل أمر الله سبحانه وتعالى ، أو جميع ذلك ـ على ما ذكره الشهيد الثاني ، وغيره ـ فان كلّ ذلك (كلام شعريّ) تخيلي ، وليس كلاما برهانيا ، والمراد بالشعر : ما ذكره المنطقيون في الصناعات الخمس.

وعليه : فلا يجب أن يأتي الانسان بالحمد في الصلاة بقصد إنّه واجب ، ولا بقصد إنّه شكر لله سبحانه وتعالى ، ولا بقصد إنّه واجب شكرا لله تعالى بالجمع بين الأمرين ، وهكذا.

(وتمام الكلام) في عدم لزوم الوجه ياتي إنشاء الله (في غير هذا المقام) من الاصول ، اذ ليس مقامه هنا ـ كما هو واضح ـ.

(وثانيا : لو سلّمنا وجوب المعرفة ، أو احتمال وجوبها) بأن كانت الأدلة الدالة على وجوب المعرفة غير كافية لافادة الوجوب ، بل تكفي لاحتمال الوجوب (الموجب) ذلك لاحتمال (للاحتياط ، فانّما هو مع التمكن من المعرفة العلميّة) بانّ يتمكن الانسان من تحصيل العلم بأنّ الحمد ـ مثلا ـ واجب ، وإنّ القنوت مستحب.

(أما مع عدم التمكّن) من المعرفة العلميّة (فلا دليل عليه) أي : على وجوب

١٨

قطعا ، لأنّ اعتبار معرفة الوجه إن كان لتوقّف نيّة الوجه عليها ، فلا يخفى أنه لا يجدي المعرفة الظنيّة في نيّة الوجه ، فانّ مجرّد الظنّ بوجوب شيء لا يتأتى معه القصد لوجوبه ، اذ لا بدّ من الجزم بالنيّة ، ولو اكتفى بمجرّد الظنّ بالوجوب ولو لم يكن نيّة حقيقة فهو ممّا لا يفي بوجوبه ما ذكروه في اشتراط نيّة الوجه.

______________________________________________________

المعرفة (قطعا ، لأنّ اعتبار معرفة الوجه إن كان ، لتوقّف نيّة الوجه عليها) اي : على المعرفة العلمية بمعنى : إنّ الانسان يجب عليه أن يعرف الوجه ، حتى يتمكن من أن ينوي الوجه عند إرادة الصلاة وسائر العبادات.

وعليه : (فلا يخفى : إنّه لا يجدي المعرفة الظنيّة في نيّة الوجه) فانّ الانسان اذا ظنّ الوجوب ، أو ظنّ الاستحباب ، لم يكف هذا الظنّ في أن ينوي الوجه ، فاذا ظنّ ـ مثلا ـ بانّ جلسة الاستراحة واجبة ، فهل يتمكن أن يقول في قلبه : انّي آتي بجلسة الاستراحة التي هي واجبة؟.

(فانّ مجرد الظّن بوجوب شيء لا يتأتى معه القصد لوجوبه) فانّ الانسان اذا لم يعرف الوجوب ، كيف ينوي الوجوب؟ ولو نواه فرضا كانت نيته اعتباطا (اذ لا بدّ من الجزم بالنيّة) اذ بدون الجزم بالنيّة لا تصدق العبادة فكما يحتاج الى الجزم بالنسبة الى ذات العبادة كذلك يحتاج الى الجزم بسائر خصوصياتها ، والتي من تلك الخصوصيات الوجه.

(ولو) قلت : (اكتفى بمجرّد الظنّ بالوجوب ولو لم يكن نيّة حقيقة) بان يقول المصلّي : آتي بجلسة الاستراحة بظنّ الوجوب.

قلت : هذا غير كاف (فهو ممّا لا يفي بوجوبه) اي : بوجوب الوجه ، ويدلّ عليه (ما ذكروه في اشتراط نية الوجه) فانّ دليلهم على لزوم نيّة الوجه ، يدلّ على

١٩

نعم ، لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوب العمل به ، تحقق معه نيّة الوجه الظاهريّ على سبيل الجزم ، لكنّ الكلام بعد في وجوب العمل بالظنّ ، فالتحقيق إنّ الظنّ بالوجه اذا لم يثبت حجّيته فهو كالشكّ فيه لا وجه لمراعاة نيّة الوجه معه أصلا.

______________________________________________________

لزوم أن يأتي بالوجه قاطعا لا ظانا.

(نعم) لو قيل : بأنّه كلّما لزم علما قام مقامه بالظنّ ، فنية الوجوب كانت لازمة علما بأن يعلم المصلّي انها واجبة ، والحال حيث لا يعلم بالوجوب يكفي ظنّا بأن ينوي المصلّي ـ مثلا ـ أجلس جلسة الاستراحة لظنّ وجوبها ، فانّه (لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوب العمل به) أي : بهذا الظن (تحقق معه نيّة الوجه الظاهري على سبيل الجزم).

قلنا : (لكن الكلام بعد في وجوب العمل بالظنّ) فان ثبت العمل بالظنّ وإنّه يقوم مقام العلم ، تمكن أن يأتي بالوجه الظنّي ، لكن ذلك لم يثبت بعد ، ولذا قال بعض المحشّين : فوجوب العمل بالظنّ يتوقف على بطلان الاحتياط ، فلو توقف بطلان الاحتياط على وجوب العمل بالظنّ لزم الدّور المصرّح.

ثم إنّ الدّليل على ما ذكره من قوله : «لا يفي بوجوبه ما ذكروه» الخ ، هو ما ذكره كاشف اللّثام ، حيث قال : الوجوب والنّدب ، والأداء والقضاء إنّما يجبان يعني : يجب قصدهما في الصلاة لأنّها إنّما تتعين بهما.

وحاصله : إنّ اعتبار قصد الوجه ، إنّما هو لتمييز المأتي به عن غيره حيث يكون مشتركا ، ومن الواضح : انّ الظنّ لا يكفي في ذلك التمييز (فالتحقيق أنّ الظنّ بالوجه اذا لم يثبت حجيته) أي : حجيّة هذا الظنّ (فهو كالشّك فيه) أي : في الوجه ، و (لا وجه لمراعاة نيّة الوجه معه) أي : مع الظنّ (اصلا) فانّ الظنّ

٢٠