الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

ولو عمّم التبيّن للتبيّن الاجماليّ ـ وهو تحصيل الظّن بصدق مخبره ـ دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، فيدخل الموثّق وشبهه بل الحسن أيضا.

وعلى ما ذكرنا فيثبت من آية النبأ ، منطوقا ومفهوما ، حجّيّة الأقسام

______________________________________________________

هذا (ولو عمّم التبيّن ، للتبيّن الاجماليّ) بأن يكون المستفاد من منطوق الآية : اشتراط العمل ـ بخبر الفاسق ـ بتحصيل الظن بصدقه من الخارج ، أو بتحصيل الظن بصدق المخبر وانّه لا يكذب مطلقا ، أو لا يكذب في هذا المورد الخاص ، أو ما أشبه ذلك.

(و) التبيّن الاجمالي ـ كما قال المصنّف ـ (هو : تحصيل الظنّ) بسبب المعاشرة ، أو بسبب علم الرجال ، أو غير ذلك (بصدق مخبره) ، أي : مخبر هذا الخبر.

وانّما كان هذا تبينا إجماليا لأنّه اذا ظنّ الانسان بأنّ هذا المخبر صادق في كلامه ، ظنّ إجمالا بصدق اخباره ـ أيضا ـ بالنسبة الى التشريعيات والأحكام ، فالظّن بصدق خبره هذا ، من صغريات ذلك الظن العام ، ولهذا سماه : بالاجمالي.

فاذا كان كذلك (دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب) في منطوق الآية المباركة (فيدخل الموثّق) في منطوق الآية (وشبهه) أي : شبه الموثق.

أمّا الموثق فهو : خبر العامي ، أو شبه العامي ، كالفطحي والواقفي ، والطاطري والكيساني ، ونحوهم ، ممّن فسدت عقيدته ، لكنه صادق اللسان ، وأما شبه الموثق فهو : الامامي الفاسق ، المتحرز عن الكذب (بل الحسن أيضا) وهو :

كالامامي المجهول ، الذي لا يعرف بفسق ولا عدالة.

(وعلى ما ذكرنا ، فيثبت من آية النبأ منطوقا ومفهوما : حجّيّة الأقسام

٣٢١

الأربعة للخبر الصحيح والحسن والموثّق والضعيف المحفوف بالقرينة الظنّية.

______________________________________________________

الأربعة للخبر) المشهورة في علم الدراية :

الأوّل : (الصحيح ، و) هو : خبر العدل الإمامي الضابط ، فانّه مستفاد من المفهوم.

الثاني : (الحسن ، و) هو : خبر الامامي الممدوح من غير نص على عدالته ، فانّه مستفاد من منطوق الآية لحصول التبيّن الظني الاجمالي الخارجي من جهة ممدوحيته.

بل ربّما يطلق أيضا على الامامي وإن لم يكن ممدوحا ، لأنّ الأصل في الانسان : ان لا يكون كاذبا ؛ وذلك حسب فطرة الله التي فطر الناس عليها.

الثالث : (الموثّق ، و) هو : خبر غير الامامي المتحرّز عن الكذب ، لكن بشرط أن يكون مسلما ، فلا يشمل خبر الكافر.

وهذا أيضا مستفاد من المنطوق ، لحصول التبيّن الظنّي الاجمالي الخارجي ، من جهة توثيقه في علم الرجال ، أو من جهة المعاشرة له ، كما لو عاشر الكليني ، أو المفيد ، أو المرتضى ، أو غيرهم ممّن عاصروا الغيبة الصغرى ، أو قريبا منها رواة فاسدي العقيدة ، وحصل لهم الظن بوثاقتهم.

الرابع : (الضعيف المحفوف بالقرينة الظنّية) كخبر الفاسق المحفوف بالشهرة الفتوائية ، أو الشهرة العملية ، أو الاجماع المنقول بخبر الواحد ـ عند من لا يرى الاجماع المنقول حجّة ـ أو ما أشبه ذلك ، فانه يستفاد حجّية مثل هذا الخبر ـ أيضا ـ من المنطوق لحصول التبيّن الظنّي التفصيليّ الخارجي.

٣٢٢

ولكن فيه من الاشكال ما لا يخفى ، لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ.

كيف ولو كان المراد مجرّد الظنّ لكان الأمر به في خبر الفاسق لغوا ، إذ العاقل لا يعمل بخبر إلّا بعد رجحان صدقه على كذبه ، إلّا أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقا ، من أنّ المقصود التنبيه والارشاد على أنّ الفاسق لا ينبغي أن يعتمد عليه وأنّه لا يؤمن من كذبه وإن كان المظنون صدقه.

______________________________________________________

(ولكن فيه) أي : في الاستدلال على حجّية كفاية العمل بالخبر ، اذا حصل للانسان التبيّن الظنّي (من الاشكال ما لا يخفى ، لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ) بأن يحصل العلم بالخبر ، أو بما يصل الى العلم.

(كيف ولو كان المراد : مجرد الظنّ لكان الأمر به) أي بالتبيّن الظني (في خبر الفاسق لغوا؟ اذ العاقل لا يعمل بخبر) جاء به أيّ شخص (إلّا بعد رجحان صدقه على كذبه) رجحانا من الخارج ، كما لو اعتضد الخبر بما يوجب الرجحان ، أو اعتضادا من الداخل بأن يكون المخبر صادق اللهجة ، فيكون الأمر بالتبيّن على هذا لغوا ، لأنّه يكون حينئذ من قبيل تحصيل الحاصل.

(إلّا أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقا : من أنّ المقصود) من الأمر بالتبيّن الظنّي (التنبيه والارشاد على أنّ الفاسق لا ينبغي أن يعتمد عليه ، وانّه لا يؤمن من كذبه ، وإن كان المظنون صدقه).

فالأمر بالتبيّن لافادة انّ خبر الفاسق يحتاج الى تحصيل الظن بصدقه من الخارج ، ولا يكفي الظنّ الحاصل من نفس خبره ، على تقدير حصول الظنّ من نفس الخبر ، بسبب أمور توجب مثل هذا الظن.

وعليه : فليس قيد التبيّن ، لأجل إخراج الخبر غير المظنون صدقه ، فانّ العاقل لا يعمل بالخبر غير المظنون الصدق ، بل لبيان : انّ خبر الفاسق ، من قبيل

٣٢٣

وكيف كان ، فمادّة التبيّن ولفظ الجهالة وظاهر التعليل

______________________________________________________

ما لا يعتمد عليه ، لمكان فسقه.

فاذا قال المولى ـ مثلا ـ أكرم الانسان العالم ، فربّما يكون تقييده بالعالم لأجل إخراج الجاهل ، وربّما يكون لأجل بيان : إنّ العالم ينبغي أن يكرم ، فلا يكون القيد حينئذ احترازيا ، بل يكون لبيان نكتة اخرى وهي : ما في إكرام العالم من مزية.

والفرق بين الأمرين : إنّ في الأوّل ، لا يجوز أن يريد منه : إكرام الانسان مطلقا ، لأنّ القيد يكون لغوا حينئذ ، بخلاف الثاني ، فان له ان يريد به : إكرام الانسان مطلقا ، ولا يكون قيد العالم حينئذ لغوا ، وانّما جيء به لأجل بيان النكتة التي ذكرناها.

وهذا هو المعروف عندهم : من إنّ القيد قد يكون احترازيا ، وقد لا يكون احترازيا ، بل لبيان جهة اخرى : كالقيد التوضيحي والقيد الغالبي والقيد لنكتة خارجية.

(وكيف كان) الأمر في التبيّن ، وإنه للاحتراز ، أو لنكتة اخرى ، (فمادّة التبيّن) الظاهرة في تحصيل العلم ، لما تقدّم : من أنّ الابانة عبارة : عن الظهور ، والظهور لا يكون إلّا مع العلم ولو في أنزل درجاته ، وهو : الاطمئنان.

(ولفظ الجهالة) الظاهر في عدم العلم ، لا في السفاهة ـ على ما تقدّم أيضا احتماله ـ.

(وظاهر التعليل) وهو : وجوب تحصيل العلم في خبر الفاسق ليؤمن من الوقوع في الندم ، حيث قال سبحانه : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (١).

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٣٢٤

كلّها آبية من إرادة مجرّد الظنّ.

نعم ، يمكن دعوى صدقه على الاطمينان الخارج عن التحيّر والتزلزل بحيث لا يعدّ في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم. فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به.

لكن لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالا على حجّيّة الظّن الاطمينانيّ المذكور

______________________________________________________

هذه (كلها آبية من إرادة مجرد الظن) لأن الظّن ليس تبيّنا ، بل هو جهالة لأنّه ليس بعلم ، ولأنّه لا يؤمن مع الظّن من الوقوع في الندم.

(نعم ، يمكن دعوى صدقه) أي : صدق التبيّن (على الاطمينان الخارج عن التحيّر والتزلزل) في النفس (بحيث لا يعدّ في العرف العمل به) أي : بالاطمئنان (تعريضا للوقوع في الندم) أي : انه لا يلزم العلم بدرجته القوية ، وإنّما درجته النازلة التي تسمى بالاطمئنان أيضا من التبيّن.

(فحينئذ : لا يبعد انجبار خبر الفاسق به) أي بحصول الاطمئنان من الخارج أو الداخل ، بحيث لا يبقى العامل بهذا الخبر متحيّرا ومتزلزلا ، بل مطمئن النفس.

لا يقال : الظاهر من التبيّن : الفحص ، وذلك لا يصدق مع الاطمئنان بخبر الفاسق لصدقه لسانا أو ما أشبه ، لأنّه لا يحصل الفحص عندئذ.

لأنه يقال : مناط الفحص موجود وإن لم يحصل الفحص بنفسه ، فان من الواضح : انّ الفحص طريقي ، وليس موضوعيا ، فكل ما حصل مناطه ، كان كافيا حسب ما يستفيده العرف من ظاهر الآية المباركة ، خصوصا بمعونة التعليل.

(لكن) قد سبق انّه (لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك) أي : في كفاية الاطمئنان (كان) المنطوق (دالا على حجّية الظنّ الاطمئناني المذكور) ممّا

٣٢٥

وإن لم يكن معه خبر فاسق نظرا إلى أنّ الظاهر من الآية أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ، وأنّه لا بدّ من تبيّن الأمر من الخارج والعمل على ما يقتضيه التبيّن الخارجيّ.

نعم ، ربّما يكون نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبيّن.

______________________________________________________

يوجب عدم التزلزل والتحيّر في النفس.

وبذلك يستفاد من المنطوق : حجّية الاطمئنان بما هو اطمئنان (وان لم يكن معه خبر فاسق) كما إذا حصل الاطمئنان من الشهرة الفتوائية أو الشهرة الرّوائية ، أو من نقل الاجماع ، أو غير ذلك ، فيكون خبر الفاسق بالنسبة الى المذكورات ، كالحجر في جنب الانسان.

وإنّما يستفاد من الآية ذلك (نظرا الى انّ الظاهر من الآية : أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه) فلا يكون مناطا للعمل ، وإنما مناط العمل هو : التبيّن والظهور من الخارج ، كما قال (وانّه لا بد من تبيّن الأمر) عن خبر الفاسق (من الخارج ، والعمل على ما يقتضيه التبيّن الخارجي) بالغض عن خبر الفاسق ، حتى كأنه لم يكن هناك خبر فاسق إطلاقا ، وهذا ممّا يستبعد عن ظاهر الآية.

(نعم ، ربّما يكون) لخبر الفاسق أيضا مدخلية في الاطمئنان ، بأن يكون هو وشيء آخر ، جزءين يسببان معا اطمئنان النفس ، فيكون (نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها) أي : من مجموع تلك الأمارات (التبيّن).

مثلا : إذا أخبر الفاسق بوجوب صلاة الجمعة ثم رجعنا الى الشهرة ، فأفادا معا الوجوب ، بحيث لو كان خبر الفاسق وحده ، لم يفد ذلك ، وإذا كانت الشهرة وحدها ، لم تفد ذلك أيضا ، وإنّما المجموع أفادا ذلك الحكم.

٣٢٦

فالمقصود الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع ، فكلّما حصل الأمن منه جاز العمل ، فلا فرق حينئذ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمينان بصدقه وبين الشهرة المجرّدة إذا حصل الاطمينان بصدق مضمونها.

والحاصل : أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخليّة لوجود خبر الفاسق وعدمه ،

______________________________________________________

وعليه : (فالمقصود) من المنطوق للآية المباركة ، هو : (الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع) الموجب للندم (فكلّما حصل الأمن منه) عرفا (جاز العمل) بذلك الشيء المأمون العواقب خبرا كان ، أو غير خبر كالشهرة ـ مثلا ـ.

إذن : (فلا فرق حينئذ) أي : حين كان الاطمئنان مناطا (بين خبر الفاسق) الموجب بنفسه للاطمئنان ، بلا حاجة الى شيء خارجي ، لأنّ الفاسق ـ مثلا ـ صادق اللهجة أو انّ خبره محفوف بالقرائن ، وبين خبر الفاسق (المعتضد بالشهرة) الفتوائية ـ مثلا (إذا حصل) من مجموع خبر الفاسق والشهرة (الاطمئنان بصدقه ، وبين الشهرة المجردة ، إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها) أي : مضمون تلك الشهرة.

وعلى هذا : فيكون لخبر الفاسق أحيانا مدخلية ـ تامة ـ في الاطمئنان ، وأحيانا يكون له جزء دخل في الاطمئنان.

(والحاصل : انّ الآية تدل على إنّ العمل ، يعتبر فيه التبيّن) الموجب للاطمئنان ـ من أي طريق حصل ـ وذلك (من دون مدخلية لوجود خبر الفاسق وعدمه).

كما انّه لا مدخلية للشهرة وعدمها.

٣٢٧

سواء قلنا بأنّ المراد منه العلم أو الاطمينان أو مطلق الظنّ ، حتّى إن من قال أنّ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ بمضمونه بحسن أو توثيق أو غيرهما من صفات الرّاوي. فلازمه القول بدلالة الآية على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ وإن لم

______________________________________________________

فكلما حصل الاطمئنان من شيء مفرد ، أو من أشياء متعددة ، جاز العمل به.

وذلك (سواء قلنا : بأنّ المراد منه) أي : من التبيّن (العلم) فيكون هو المناط وحده.

(أو الاطمئنان) فهو المناط ، سواء وصل الى أعلى درجات العلم أو لم يصل.

(أو مطلق الظنّ) حتى يكون الظن بنفسه مناطا ، كما يقال عند الانسداد.

فعلى الأوّل : يكون حجّية خبر العادل من المفهوم.

وعلى الأخيرين : يكون من المنطوق.

(حتى إنّ من قال) بأنّ المراد بالتبيّن : التبيّن الظنيّ تفصيليا كان أو إجماليا ـ لأنّ العقلاء يعتمدون على المظنونات ـ ذهب الى : (أنّ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ) سواء كان ظنا إجماليا أو ظنا تفصيليا ـ على ما تقدّم ـ.

فاذا حصل الظنّ (بمضمونه) أي بمضمون الخبر (ب) سبب (حسن) بأن كان المخبر إماميا ممدوحا ، أو إماميا على ما تقدّم.

(أو توثيق) بأن كان المخبر مسلما غير امامي ، لكنّه متحرز عن الكذب ، كما علم عن حاله.

(أو غيرهما من صفات الرّاوي) بأن يكون إماميا فاسقا بجوارحه ، لكنّه متحرز عن الكذب ، الى غير ذلك من أقسام الرّواة.

(فلازمه : القول : بدلالة الآية على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ ، وان لم

٣٢٨

يكن معه خبر أصلا ، فافهم واغتنم واستقم.

هذا ، ولكن لا يخفى أنّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمينان يوجب خروج مورد المنطوق وهو الاخبار بالارتداد.

______________________________________________________

يكن معه خبر أصلا) فانّ الآية عند مثل هذا الشخص ، دليل على كون مطلق الظنّ من الظّنون التي يعتمدها العقلاء ، فاذا أوجب شيء هذا الظنّ ، كان حجّة بين المولى والعبد (فافهم واغتنم واستقم).

والحاصل : انّ الاحتمالات في الآية المباركة هي أحد أمور :

أولا : أن يكون المناط هو العلم القوي.

ثانيا : ان يكون المناط : الاطمئنان وهو أنزل درجات العلم.

ثالثا : ان يكون المناط هو : الظنّ العقلائي.

ومهما كان المحتمل ، فانه لا يهم الخبر ، بل المهم الحالة النفسية الحاصلة.

نعم ، في الظنّ ، قد يراد به : الشخصي ، وقد يراد به : النوعي وإن لم يحصل ظنّ للشخص ، بل وان كان الظنّ على خلافه.

(هذا ، ولكن لا يخفى : انّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ) ولو كان ظنا عقلائيا (أو الاطمئنان) بالاضافة الى انّه خلاف ظاهر اللّفظ لما تقدّم : من انّ التبيّن بمعنى : الظهور ، والظهور إنّما يكون مع العلم (يوجب خروج مورد المنطوق ، وهو : الاخبار بالارتداد) عن الآية المباركة ، وخروج المورد مستهجن.

فانّه من الواضح : انّ في الاخبار بالارتداد ، لا يكفي مطلق الظنّ ، ولا الاطمئنان ، بل لا بدّ فيه من العلم ، أو البيّنة العادلة.

وعليه : فاللازم أن يحمل التبيّن على العلم ، فان ذلك ـ أيضا ـ ممّا يناسب التعليل الموجود في الآية.

٣٢٩

ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة البراءة : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ).

دلّت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين من دون اعتبار إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة ،

______________________________________________________

(ومن جملة الآيات) التي استدل بها لحجّية خبر الواحد (قوله تعالى في سورة البراءة :) (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)(مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١).

فانّ هذه الآية (دلّت على وجوب) النفر ، والتفقه ، والانذار ، و (الحذر عند إنذار المنذرين) وذلك (من دون اعتبار : إفادة خبرهم) أي : المنذرين (العلم) للمنذرين بالفتح (لتواتر أو قرينة).

فانه سبحانه قال : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) مطلقا ، ولم يقل : لعله يحصل لهم العلم من اخبار المنذرين فيحذروا.

ومن المعلوم : انّ الطائفة مؤنث الطائف ، وهو يشمل الواحد والاثنين والأكثر.

قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ، إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ، فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢).

وقال سبحانه : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) (٣).

فانّ الطائف بمعنى : من يطوف ، وإن كان واحدا أو أكثر.

ويؤيده : إنه لو كانت الجماعة عائلة واحدة ـ كما هو المتعارف عند سكان البوادي ـ فاللازم ان ينفي أحدهم حال كونه قادرا على ذلك.

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

(٢) ـ سورة الاعراف : الآية ٢٠١.

(٣) ـ سورة القلم : الآية ١٩.

٣٣٠

فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد.

أمّا وجوب الحذر ، فمن وجهين :

أحدهما : أنّ لفظة «لعلّ» بعد انسلاخه عن معنى الترجيّ ظاهرة في كون مدخوله محبوبا للمتكلّم.

______________________________________________________

وعلى هذا : (فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد) بلا فرق بين أن يكون مخبره عادلا أو غير عادل.

هذا (أمّا) دلالة الآية على وجوب النفر ، فلقوله تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ).

وعلى وجوب التفقه ، فللأمر بقوله : (لِيَتَفَقَّهُوا).

وعلى وجوب الانذار ، فلقوله : (وَلِيُنْذِرُوا).

ولهذا ، فلا اشكال في دلالة الآية على وجوب هذه الثلاثة.

وأمّا دلالة الآية على (وجوب الحذر) وقبول الجماعة إنذار المنذرين ، لهم حتى تدل الآية على حجية خبر الواحد (فمن وجهين) على النحو الآتي : ـ

(أحدهما : انّ لفظة «لعل» بعد انسلاخه) وتجرده (عن معنى الترجيّ ظاهرة :

في كون مدخوله محبوبا للمتكلم) ، فانّ جماعة من الادباء قالوا : انّ معنى «لعلّ» ، هو : ترجي المحبوب ، فاذا ابتعد وتجرّد عن معنى الترجي ، لامتناعه منه سبحانه وتعالى ، يبقى دالا على مجرد المحبوبية ، لكن هنا كلامان : ـ

الأوّل : انّ كون «لعل» للترجي مطلقا ، غير معلوم ، بل قد يستعمل لاحتمال خير ، أو شر ، أو عمل عادي ـ فهو في العربية بمعنى : «شايد» في الفارسية ـ من غير فرق بين أن يكون الاحتمال في الماضي ، أو المستقبل ، أو الحال ، ولذا يقال : لعلّ زيدا جاء البارحة ، لأجل ارادة خير ، أو شر ، أو عمل ليس بخير ، ولا بشرّ.

الثاني : انّ الرجاء وإن كان عليه سبحانه محالا ، إلّا إنّه كسائر ما كان من هذا

٣٣١

وإذا تحقّق حسن الحذر ثبت وجوبه ، إمّا لما ذكره في المعالم ، من أنّه لا معنى لندب الحذر ، إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن ، وإمّا لأنّ رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالاجماع المركّب ،

______________________________________________________

القبيل بالنسبة اليه سبحانه ، مثل : غضب ، ورضى ، وأسف.

قال سبحانه : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (١).

وقال سبحانه : (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٢).

وقال سبحانه : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) (٣).

ولهذا قالوا فيه سبحانه وتعالى : خذ الغايات واترك المبادي.

(و) على كل حال : فانه (إذا تحقق حسن الحذر) ومحبوبيته (ثبت وجوبه) للتلازم بين الأمرين في أمثال المقام ، وذلك (امّا لما ذكره في المعالم : من أنه لا معنى لندب الحذر ، إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لا يحسن) فانه إذا كان الأسد موجودا وجب التحذر عنه ، وإذا لم يكن موجودا ، لا يحسن التحذر إطلاقا.

وكذا في الآية الكريمة فانه عند إنذار المنذرين ، إن كان مخالفة خبرهم حراما موجبا لاستحقاق العقاب ، وجب الحذر ، وإن لم تكن مخالفتهم حراما ولم يوجب عقابا لم يكن مقتض للحذر ، فيلغو الحذر.

لكن حيث دلت الآية على محبوبية الحذر ، علم وجود المقتضي وهو : استحقاق العقاب على المخالفة ، ومع وجود المقتضي ، وجب الحذر.

(وامّا لأنّ رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالاجماع المركب) وقد

__________________

(١) ـ سورة الزخرف : الآية ٥٥.

(٢) ـ سورة الفتح : الآية ٦.

(٣) ـ سورة المائدة : الآية ١١٩.

٣٣٢

لأنّ كلّ من أجازه فقد أوجبه.

الثاني : انّ ظاهر الآية وجوب الانذار ، لوقوعه غاية للنّفر الواجب بمقتضى كلمة «لو لا» ، فاذا وجب الانذار أفاد وجوب الحذر لوجهين.

أحدهما : وقوعه غاية للواجب ، فانّ الغاية المترتّبة على

______________________________________________________

تقدّم : معنى الاجماع المركب ، وإنه عبارة عن انّه : إذا كان في المسألة قولان ، أو ثلاثة أقوال ، لا يجوز إحداث قول ثالث في القولين ، ولا قول رابع في الأقوال الثلاثة ، وهكذا.

والاجماع المركب في المقام ، إنّما هو (لأنّ) كل من لم يوجبه ، لم يجوّزه و (كلّ من أجازه فقد أوجبه) فحصل هناك قولان : قول بوجوب الأخذ بالخبر الواحد ، وقول بعدم جواز الأخذ به.

وأما الوجه (الثاني) من وجهي وجوب الحذر فهو : (انّ ظاهر الآية : وجوب الانذار لوقوعه) أي : الانذار (غاية للنفر الواجب) وانّما كان النفر واجبا (بمقتضى كلمة «لو لا») فانّ هذه الكلمة للتحريض والتحضيض يستفاد منها الوجوب.

هذا بالاضافة الى السياق ولفظ الانذار ، حيث انّه ظاهر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (فاذا وجب الانذار ، أفاد) وجوب الانذار هذا (وجوب الحذر).

وإنّما يفيد وجوب الحذر (لوجهين) على النحو التالي : ـ

(أحدهما : وقوعه) أي : الحذر (غاية للواجب) والواجب هو الانذار ، فيكون المعنى : إنّ الحذر واجب حيث انّه غاية للانذار الواجب (فانّ الغاية المترتّبة على

٣٣٣

فعل الواجب ممّا لا يرضى الامر بانتفائه ، سواء كان من الأفعال المتعلّقة للتكليف أم لا ، كما في قولك : «تب لعلّك تفلح ، وأسلم لعلّك تدخل الجنّة ، وقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى).

______________________________________________________

فعل الواجب) هو (ممّا لا يرضى الامر بانتفائه).

اذ لو كان غاية الواجب غير واجب لم يكن وجه لوجوب الواجب ، فاذا كان الحضور ـ مثلا ـ في الحرم الحسيني غير واجب ، لا يصح للآمر أن يقول : يجب عليك السفر الى كربلاء لحضور الحرم الشريف ، ثم يعقبه بقوله : حضور الحرم ليس بواجب ، فانه يشك عند العرف حينئذ : بأنه لما ذا يجب السفر والحال انّ الحضور في الحرم ليس بواجب؟.

وهذا التلازم محقق (سواء كان) ما يترتب على فعل الواجب (من الأفعال المتعلّقة للتكليف) بأن تكون الغاية أيضا فعلا للمكلف (ام لا) بأن لا تكون الغاية تحت قدرة المكلّف.

فالأوّل : (كما في قولك : تب لعلّك تفلح) فان الفلاح بيد الانسان ، والانسان مكلف به.

(و) الثاني : كما في قولك : (أسلم لعلّك تدخل الجنة) فان دخول الجنة ليس بيد الانسان (و) كما في (قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (١)) ، فانّ تذكر فرعون لم يكن بيد موسى وهارون عليهما‌السلام ، والمراد : انه يخشى من النار ، أو يتذكّر الله وانّه المنعم الحقيقي ، فيرعوي عن ادعائه الالوهية ، فان الانسان أحيانا يفعل الشيء وجدانا وإنصافا وأحيانا يفعله خوفا

__________________

(١) ـ سورة طه : الآية ٤٤.

٣٣٤

الثاني : انّه إذا وجب الإنذار ثبت وجوب القبول وإلّا لغي الانذار.

ونظير ذلك ما تمسّك به في المسالك على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها في العدّة ، من قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) ، فاستدلّ بتحريم الكتمان ووجوب الاظهار عليهنّ على قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام.

______________________________________________________

من سوء تركه.

(الثاني) من وجهي وجوب الحذر (: انّه إذا وجب الانذار ثبت وجوب القبول) على المنذرين ـ بالفتح ـ (وإلّا) بان لم يجب على المنذرين القبول (لغى الانذار) اذ أية فائدة في الانذار اذا لم يجب على المنذرين القبول ، فهو كما لو أوجب الآمر على انسان شق نهر ، لكن لا فائدة في النهر إطلاقا ، ومن المعلوم : إنّ الشارع لا يوجب ما لا فائدة فيه.

(ونظير ذلك) الذي ذكرناه : من إنه إذا وجب الانذار ، وجب القبول (ما تمسّك به) الشهيد الثاني (في المسالك ، على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها) بانّها (في العدّة) فيترتب على ذلك أحكام العدّة (من قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) (١)) من الجنين ، فاذا كان في رحم المرأة المطلقة ـ مثلا ـ جنين ، يجب عليها ان تخبر : بانّ في رحمها جنين ، ولا يحل لها أن تكتم ذلك.

(فاستدلّ) الشهيد (بتحريم الكتمان ، ووجوب الاظهار عليهنّ : على قبول قولهن بالنسبة الى ما في الأرحام) (٢) لأنّه لو حرم الكتمان ، ولم يجب القبول ،

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٢٨.

(٢) ـ مسالك الافهام : ج ٢ ص ٣١.

٣٣٥

فان قلت : المراد بالنّفر ، النفر إلى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية ، وهو قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، ومن المعلوم أنّ النفر إلى الجهاد ، ليس للتفقّه والإنذار.

نعم ، ربّما يترتّبان عليه ، بناء على ما قيل ، من أنّ المراد حصول البصيرة في الدّين من مشاهدة آيات الله

______________________________________________________

كان التحريم بالنسبة اليهنّ لغوا.

(فان قلت :) لا دلالة في الآية على وجوب قبول خبر الواحد ، لأنّ التفقه والانذار من قبيل الفائدة لا الغاية ، فما ذكرتم : من انّه غاية غير تام ، وذلك لأن (المراد بالنّفر : النّفر الى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية) لا النّفر الى المدينة ، لتحصيل العلم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتفقه في الأحكام (وهو) كما أشار اليه (قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)) (١) أي : ليس على كل المؤمنين أن يذهبوا الى الجهاد ، حيث إن الجهاد واجب كفائي ، وليس واجبا عينيا على كل أحد.

(ومن المعلوم : انّ النفر الى الجهاد ، ليس للتفقه والانذار) بل لحفظ بيضة الاسلام ، ونشره بين الناس لانقاذهم من الخرافة في العقيدة ، ومن السفاهة في الاعمال ، ولقطع يد الظالمين عن المظلومين.

(نعم ، ربّما يترتبان) التفقه والانذار (عليه) أي : على النّفر الى الجهاد ، فاللام في : (لِيَتَفَقَّهُوا) للعاقبة لا للغاية.

وذلك (بناء على ما قيل : من انّ المراد) من التفقه : (حصول البصيرة في الدّين) والبصيرة لرؤية القلب ، كما انّ البصر لرؤية العين (من مشاهدة آيات الله)

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

٣٣٦

وظهور أوليائه على أعدائه وسائر ما يتفق في حرب المسلمين مع الكفار من آيات عظمة الله وحكمته ، فيخبروا بذلك عند رجوعهم إلى الفرقة المتخلّفة الباقية في المدينة ، فالتفقّه والإنذار من قبيل الفائدة لا الغاية حتى يجب بوجوب ذيها.

قلت : أوّلا ، إنّه ليس في صدر الآية دلالة على أنّ المراد النفر إلى الجهاد

______________________________________________________

التي يتفضل الله بها على المؤمنين في الحرب ، من المطر ، والريح (و) غيرهما ، ممّا يسبب (ظهور أوليائه على أعدائه) بغلبة المؤمنين مع قلّتهم على الكفّار مع كثرتهم (وسائر ما يتفق في حرب المسلمين مع الكفّار من آيات عظمة الله وحكمته) فانّ المؤمن إذا واجه الكافر في اخلاقهما وسلوكهما ظهر له رفعة الايمان وضعة الكفر ، حيث إنّ الأشياء تعرف بأضدادها ، وذلك يدل على حكمة الله في تشريع الأحكام وتبيين اصول الاسلام.

(فيخبروا بذلك) الذي شاهدوه ورأوه (عند رجوعهم الى الفرقة المتخلّفة) عن ساحات الجهاد (الباقية في المدينة) المنورة عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو عند من خلّفه الرسول إذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج بنفسه الى الجهاد.

إذن : (فالتفقه والإنذار من قبيل الفائدة) غير الكلية (لا الغاية حتى يجب) كل واحد منهما (بوجوب ذيها) أي : ذي الغاية.

إن قلت ذلك : (قلت أوّلا : انّه ليس في صدر الآية دلالة على انّ المراد : النفر الى الجهاد) فان قوله سبحانه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) (١) وفيه احتمالات : ـ

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

٣٣٧

وذكر الآية في آيات الجهاد لا يدلّ على ذلك.

______________________________________________________

الأوّل : ان يذهبوا الى الجهاد ويروا آيات الله هناك ثم إذا رجعوا الى المدينة أنذروا قومهم بما رأوا.

الثاني : إن الباقين عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رجع اليهم النافرون الى الجهاد ، بيّنوا لهم ما استفادوه من الأحكام من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فترة غياب المجاهدين.

الثالث : ان ينفر النّاس من البلاد الاخرى الى المدينة المنورة ، ليتفقهوا على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاذا رجعوا الى بلادهم بيّنوا الأحكام التي استفادوها من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأقوامهم.

(و) عليه : فانّ (ذكر الآية في) ضمن (آيات الجهاد ، لا يدلّ على ذلك) بأن تكون هذه الآية أيضا من آيات الجهاد ، فانّ من عادة القرآن الحكيم ، ذكر الأحكام المتفرقة في آيات متتالية ، فان الآيات هكذا :

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ ، فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١).

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٠.

(٢) ـ سورة التوبة : الآية ١٢١.

٣٣٨

وثانيا : لو سلّم أنّ المراد النّفر إلى الجهاد ، لكن لا يتعيّن أن يكون النفر من كلّ قوم طائفة لأجل مجرّد الجهاد ، بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعيّن ان ينفر من كلّ قوم طائفة ،

______________________________________________________

الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٢).

(وثانيا : لو سلّم انّ المراد : النفر الى الجهاد ، لكن) لا نمنع أن يكون هناك غاية أخرى للنفر ، فتكون غايته أمران : ـ

الأوّل : الجهاد في سبيل الله.

الثاني : التفقّه في الدين.

فانّه (لا يتعيّن أن يكون النفر من كل قوم طائفة ، لأجل مجرّد الجهاد ، بل) انّه (لو كان) المراد بالنفر (لمحض الجهاد ، لم يتعيّن ان ينفر من كل قوم طائفة) بل يكفي القدر اللازم ، سواء كان من قوم ، أو من قومين ، أو من جميع الاقوام ، فهو مثل أن يقال : ليذهب من كل بلد فرد الى الحج ، حتى لا يخلو الموقف من الحاج ، فان ذهاب مليون إنسان من مليون بلدة له غايتان : ـ

الاولى : ملء الموقف بمليون إنسان ، وهذا يحصل ولو كان المليون من بلد واحد.

الثاني : أن يكون من كل بلد إنسان واحد لأجل إخبار أهل البلد بعد رجوعهم من الحجّ : بعظمة المواقف والمشاعر هناك.

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

(٢) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٣.

٣٣٩

فيمكن أن يكون التفقّه غاية لايجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا لايجاب أصل النفر.

وثالثا : انّه قد فسّر الآية بأنّ المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد ، كما يظهر من قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، وأمر بعضهم بأن يتخلّفوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يخلوه وحده ، فيتعلّموا مسائل حلالهم

______________________________________________________

وعليه : (فيمكن أن يكون التفقه ، غاية لايجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا) أن يكون التفقه غاية (لايجاب أصل النفر).

إذن : فهذه العدة النافرة بما إنهم عدة ، وجب عليهم النفر لأجل الجهاد ، حيث انّ الجهاد يحصل بقدر كفاية المجاهدين ، وبما إنهم طائفة من كل فرقة ، وجب عليهم النفر لأجل التفقه ، فهما غايتان لهذه الآية المباركة ، والظهور يعطي ذلك ، وإلّا لم يكن وجه لتخصيص فرقة من كل طائفة.

(وثالثا : انّه قد فسّر) بعض (الآية بأنّ المراد) من قوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَفَرَ) (نهي المؤمنين عن نفر جميعهم الى الجهاد ، كما يظهر من قوله) سبحانه :

((وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)) (١) الى الجهاد (و) انّما (أمر بعضهم بأن) ينفروا الى الجهاد ، وبعضهم بأن (يتخلفوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يخلوه وحده) وذلك لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا بقي وحده في المدينة المنورة ، كان موضوع طمع الطامعين من الكفار والمنافقين ومن أشبه ، ويؤيده قصة استخلافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام على المدينة حين أراد الذهاب الى بعض غزواته.

(فيتعلّموا) أي : هؤلاء الباقون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مسائل حلالهم

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

٣٤٠