الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

بل لا يبعد كونه ضروريّ المذهب.

وإنّما الخلاف في مقامين أحدهما : كونها مقطوعة الصّدور او غير مقطوعة.

فقد ذهب شرذمة من متأخري الأخباريّين ، فيما نسب إليهم ، إلى كونها قطعيّة الصّدور ، وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه

______________________________________________________

(بل لا يبعد كونه) أي : كون وجوب العمل بالخبر الواحد في الحال الحاضر (ضروريّ المذهب) بل ضروريّ الدّين ، فان المسلمين كافة يعملون بالخبر الواحد بلا خلاف.

(وانّما الخلاف في مقامين) :

(أحدهما : كونها مقطوعة الصّدور ، أو غير مقطوعة) الصّدور ، فانّ جماعة قالوا : بان كلّ الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة قطعيّة الصّدور بينما المشهور لم يقبلوا ذلك (فقد ذهب شرذمة من متأخّري الأخباريّين) وهم قسم من الفقهاء اذ الفقهاء انقسموا الى : اصوليين ، وأخباريين ، ومعظم الفرق بينهما : التدقيقات الاصولية حيث يراها الاصوليون طريقا الى استنباط الأحكام ، ولا يراها الأخباريون ، بل يجعلون مثل هذه التدقيقات ، من اقسام القياس ، والاستحسان ، والاعتماد على العقول الناقصة ، ممّا قد نهى الأئمة عليهم‌السلام عن ذلك بقولهم : «انّ دين الله لا يصاب بالعقول» (١) وغيرها من الروايات.

فان جماعة من الاخباريين (فيما نسب إليهم) ذهبوا (الى كونها قطعيّة الصّدور ، وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه) لانّ من جملة ادلّته :

__________________

(١) ـ كمال الدين : ص ٣٢٤ ح ٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٢٦٢ ب ٦ ح ٢١٢٨٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٣٠٣ ب ٣٤ ح ٤١.

١٨١

إلّا التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم ،

______________________________________________________

انّ كتب الحديث ، كانت معتمدة قطعيّة عند اصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، مما كانوا يرجعون اليها ، ولا يرجعون الى الأئمة عليهم‌السلام ، مع تمكنهم من الوصول اليهم عليهم‌السلام.

وقد جمعت كلها في الكتب المعتمدة ، كالكتب الخمسة ، والتي منها مدينة العلم للصدوق ، وغيرها ، مثل كتاب ان قولويه ، ونحوه ، فاللازم أن يكون كل هذه الأخبار الموجودة فيها مقطوعة السّند ، ولا حاجة الى التكلم حول اسنادها اطلاقا ، وانّما يلزم البحث حول دلالتها.

لكن الاصوليين ، وجماعة من الاخباريين ، أجابوا عن هذا الدّليل : بانه ان كان المراد : القطع بالصحة في الجملة ، فذلك غير مفيد ، اذ الصغرى الجزئية لا تفيد الكبرى الكلية.

وان كان المراد : القطع بصدور كلّ هذه الأخبار ، فانه خلاف الوجدان ، حتى عند أصحاب الائمة عليهم‌السلام ، فانّ عملهم بالاصول الأربعمائة ، لم يكن لأنّها قطعيّة ، بل لأنّها اخبار عقلاء المتشرّعة ، فيعتمدون عليها حسب أوامرهم عليهم‌السلام ، مثل قولهم عليهم‌السلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (١).

وما أشبه ذلك مما لا حاجة الى تفصيل الكلام حوله.

وعلى أي حال : فانه لا فائدة في بيان أدلتهم وأجوبتها (الّا التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم ، كما حصل لهم) أي : ان فائدة التعرّض لذلك منحصرة في ان

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ٣٨ ب ٢ ح ٦١ وج ٢٧ ص ١٥٠ ب ١١ ح ٣٣٤٥٥ ، رجال الكشي : ص ٥٣٦ ، بحار الانوار : ج ٥٠ ص ٣١٨ ب ٤ ح ١٥.

١٨٢

وإلّا فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه ، وقد كتبنا في سالف الزّمان في ردّ هذا القول رسالة تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه وبيان ضعفها بحسب ما أدّى اليه فهمي القاصر.

الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبرة بالخصوص

______________________________________________________

لا يحصل هذا التوهم للآخرين ، كما حصل مثله لأولئك الاخباريين.

(والّا) أي : بقطع النظر عن هذه الفائدة التي ذكرناها ، فلا فائدة اخرى في ذكر الأدلة وأجوبتها ، اذ الأخباري لا يقبل أجوبتنا ، ولهذا يبقى هو على أخباريته.

وعليه : (فمدّعي القطع) بصدور هذه الأخبار (لا يلزم) أي : لا يمكن الزامه (بذكر ضعف مبنى قطعه) فأي فائدة لنا أوله ، وانّما الفائدة تكون منحصرة في الشخص الثالث : بأن لا يحصل له هذا الوهم؟.

لكن لا يخفى : انّه يمكن أن تكون فائدة اخرى بذكر الوهم وجوابه ، وهو : رجوع بعض الاخباريين اذا رأوا ضعف أدلتهم ، كما رجع صاحب الحدائق ، حيث ناقشه الوحيد البهبهاني ، فان القاطع ـ أيضا ـ اذا نوقش في مبنى قطعه ، أمكن رجوعه ـ بعد زوال قطعه ـ.

وكأنه من اجل هذا ، أضرب المصنّف عن كلامه السابق بقوله : (وقد كتبنا في سالف الزّمان في ردّ هذا القول) من الأخباري بقطعيّة الأخبار صدورا (رسالة تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه) أي الأخباريون (وبيان ضعفها بحسب ما أدّى اليه فهمي القاصر) ومن المحتمل : أن يكون مراد المصنّف في ذكر هذه الرسالة ـ ما تقدّم منه ـ : من التحرز عن وقوع الاخباريين في هذا الوهم.

المقام (الثاني : انّها) أي الأخبار (مع عدم قطعيّة صدورها) كما نقول به نحن الاصوليين ، وجماعة من الاخباريين ، هل هي (معتبرة بالخصوص) من باب

١٨٣

ام لا.

فالمحكيّ عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسيّ وابن إدريس قدس سرّهم ، المنع ، وربما نسب إلى المفيد قدس‌سره ، حيث حكى عنه في المعارج انّه قال : «إن خبر الواحد القاطع للعذر ، هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم ، وربّما يكون ذلك

______________________________________________________

الظنّ الخاص (ام لا؟) بل انها معتبرة من جهة الانسداد ، أو ليست بمعتبرة اطلاقا ، فالأقوال في المسألة أربعة :

١ ـ انها قطعية الصدور.

٢ ـ عدم حجّيتها اطلاقا.

٣ ـ حجّيتها من باب الظنّ الخاص.

٤ ـ حجّيتها من باب الظنّ الانسداديّ.

(فالمحكيّ عن السيّد) المرتضى (والقاضي) ابن البراج (وابن زهرة) وهو من علماء حلب (والطبرسيّ) صاحب مجمع البيان (وابن ادريس قدس سرّهم : المنع) عن حجّية الخبر اطلاقا.

(وربّما نسب) هذا القول (الى المفيد قدس‌سره ، حيث حكى) المحقّق (عنه في المعارج : انّه قال : انّ خبر الواحد القاطع للعذر) أي : لعذر كل من المولى والعبد بمعنى : كونه حجّة (هو الذي يقترن اليه) أي الى ذلك الخبر (دليل) أي : قرينة حاليّة أو مقاليّة (يفضي بالنظر الى العلم) بأن يؤدّي ذلك الدّليل المقترن بالخبر ، الى العلم بصدور ذلك الخبر ، والّا فلا يكون الخبر بنفسه بدون قرينة حجّة.

ثم قال : («وربّما يكون ذلك») الدليل المقترن بالخبر الذي نسميه : بالقرينة

١٨٤

إجماعا او شاهدا من عقل» ، وربّما ينسب إلى الشيخ ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا إلى المحقق ، بل إلى ابن بابويه ، بل في الوافية : «أنّه لم يجد القول بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلّامة» ، وهو عجيب.

وأمّا القائلون بالاعتبار فهم مختلفون ، من جهة أنّ المعتبر منها كلّ ما في الكتب الاربعة ، كما يحكى عن بعض الأخباريّين أيضا ،

______________________________________________________

الحاليّة أو المقاليّة ، (اجماعا ، أو شاهدا من عقل) (١) فانّ العقل حجّة باطنة اذا شهد بشيء ، بل هو حجّة من قبل الله سبحانه وتعالى.

(وربّما ينسب) القول بعدم حجّية الخبر الواحد (الى الشيخ رحمه‌الله ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا) نسب هذا القول (الى المحقّق) صاحب الشرائع (بل الى ابن بابويه) الصدوق (بل في الوافية : انّه لم يجد القول بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلّامة).

فكأنّ صاحب الوافية اراد أن يقول : بأنّ القدماء كانوا يقولون بعدم الحجّية (وهو عجيب) لأنّ جماعة من القدماء ، ذهبوا الى حجّية خبر الواحد ـ كما سيأتي بيانه.

(وأمّا القائلون بالاعتبار) أي : اعتبار الخبر الواحد من باب الظنّ الخاص ، لا من باب الانسداد (فهم مختلفون من جهة : انّ المعتبر منها) اي من الأخبار (كلّ ما في الكتب الأربعة) سواء كان صحيحا في الاصطلاح الرجالي ، أو لم يكن ، وسواء كان مخالفا للمشهور ، أو لم يكن ، وسواء كان معمولا به ، أو لم يكن.

(كما يحكى عن بعض الأخباريّين) هذا القول (أيضا) دون صحة جميع

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ١٨٧.

١٨٥

وتبعهم بعض المعاصرين من الاصوليّين بعد استثناء ما كان مخالفا للمشهور ، او أنّ المعتبر بعضها وأنّ المناط في الاعتبار عمل الأصحاب كما يظهر من كلام المحقّق ، أو عدالة الرّاوي او وثاقته او مجرّد الظنّ بصدور الرّواية ، من غير اعتبار صفة في الرّاوي ، او غير ذلك من التفصيلات في الأخبار.

______________________________________________________

الأخبار ، الموجودة في كل الكتب المعتبرة الاعم من الاربعة.

(وتبعهم) على ذلك (بعض المعاصرين من الاصوليّين) وهو النّراقي ، كما نسب اليه (بعد استثناء) النّراقي من الحجّية (ما كان مخالفا للمشهور) (أو أنّ المعتبر) من الاخبار (بعضها) فقط دون الجميع.

(و) على هذا القول ، هل (انّ المناط في الاعتبار) أي : في صورة اعتبار البعض (: عمل الأصحاب) سواء كان الخبر صحيحا أو لم يكن ، فالخبر المعتبر هو الذي عمل به الأصحاب ، والمراد بالعمل : ليس عمل كلهم ، بل عمل جماعة معتد به منهم (كما يظهر من كلام المحقّق) صاحب الشرائع.

(أو) ان المناط : (عدالة الرّاوي) من غير فرق بين إن عمل به الأصحاب ، ام لا (أو) انه يكفي في الاعتبار (وثاقته) أي : وثاقة الرّاوي ، وان لم يكن عادلا ، ولم يعمل بخبره الأصحاب (أو) ان المناط في اعتبار الخبر : (مجرّد الظنّ بصدور الرّواية ، من غير اعتبار صفة في الرّاوي) فلا يشترط أن يكون عادلا ، ولا ان يكون موثقا ، ولا ان يكون الأصحاب عملوا بالخبر (أو غير ذلك من التفصيلات في الاخبار) كالتفصيل بين ما حصل منه الظنّ الابتدائي ،

١٨٦

والمقصود هنا بيان إثبات حجّيّته بالخصوص في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي ، ولنذكر ، أوّلا : ما يمكن أن يحتجّ به القائلون بالمنع ، ثم نعقّبه بذكر أدلّة الجواز فنقول :

حجة المانعين

أمّا حجّة المانعين ، فالأدلّة الثلاثة :

______________________________________________________

وبين غيره ، وما أشبه ذلك.

(و) لا يخفى انّ (المقصود هنا) في بحثنا عن حجّية الخبر ، ولا حجّيته (بيان اثبات حجّيته بالخصوص في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي) الذي ذهب اليه بعض وقال : بانّ الخبر ليس بحجة مطلقا ، ونحن نريد أن نقول : بأنّه حجّة في الجملة ولا نريد اثبات الكلي : بان نقول : كل خبر حجّة ، فنحن أيضا مفصّلون في المسألة ، كما انه ليس مقصودنا الآن ، التعرض الى اختلاف ادلّتها واجوبتها.

هذا (ولنذكر ، أوّلا : ما يمكن أن يحتجّ به القائلون بالمنع) وانّما نقدم قول القائلين بالمنع وأدلّتهم ، لأنّ المنع أولا : مطابق للأصل الاوّلي ، فان كلّ شيء شك في حجّيته ، فالاصل عدم حجّيته ، حتى تثبت حجّيته ، وثانيا انّ أدلّة القائلين بالمنع قليلة ، بخلاف أدلّة القائلين بالاثبات ، فانها كثيرة ـ كما سيأتي ـ.

(ثم نعقّبه بذكر أدلّة الجواز) في الجملة ، في قبال السّلب الكلّي ـ كما عرفت ـ.

حجة المانعين

(فنقول : أمّا حجّة المانعين ، فالأدلّة الثلاثة) : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع.

وربما يضاف اليها العقل أيضا لدلالته على المنع ، وذلك لان العقل يرى : لزوم الاتقان في العمل ، وهو لا يحصل الّا بالعلم ، ولأنّ العمل بالخبر يوجب الوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، والوقوع في خلاف الواقع مبغوض للانسان ، حتى وان لم

١٨٧

أما الكتاب :

فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم والتعليل المذكور في آية النبأ ، على ما ذكره أمين الاسلام ، من أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد.

______________________________________________________

يكن هنالك مصلحة تفوّت ، أو مفسدة تجلب ، ولأنّ العمل به ، يوجب تفويت المصالح والالقاء في المفاسد ، الى غير ذلك مما اشير اليه في الاصول.

(أمّا) الاستدلال ب (الكتاب ، فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم) كقوله سبحانه : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ ، وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١) ، وقوله سبحانه : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢) ، وقوله سبحانه (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) (٣).

بضميمة : انّ الخبر الواحد ، هو : مما وراء العلم ، حتى وان أورث الظن ، فكيف به اذا لم يورث الظن؟ وذلك بأن كان العامل بالخبر ، شاكا أو واهما (والتعليل المذكور في) آخر (آية النبأ) حيث قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٤) فصدر الآية يدلّ على : وجوب التبيّن في خبر الفاسق فقط ، فيكون مفهومه : جواز الأخذ بخبر العادل ، الّا انّ التعليل في آخر الآية ، يدل على : وجوب التبيّن في كل خبر يحتمل فيه الندم ، فيكون ذكر الفاسق من باب المورد.

هذا (على ما ذكره أمين الاسلام) الطبرسي (من انّ فيها) أي في آية النبأ (دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد) مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) ـ سورة يونس : الآية ٣٦.

(٣) ـ سورة النجم : الآية ٢٨.

(٤) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

١٨٨

وامّا السنّة :

فهي أخبار كثيرة تدلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصّدور الّا إذا احتفّ بقرينة معتبرة من كتاب او سنّة معلومة :

مثل ما رواه في البحار عن بصائر الدّرجات ، عن محمّد بن عيسى ، قال :

«أقرأني داود بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام

______________________________________________________

الآتي به عادلا ، او فاسقا ، وسيأتي بيانه عند ذكر أدلّة المجوّزين ، حيث انّ المجوّزين ، استدلّوا بهذه الآية المباركة على جواز العمل بخبر العادل.

(وأمّا السنّة : فهي اخبار كثيرة تدلّ على المنع من العمل بالخبر غير المعلوم الصّدور ، الّا اذا احتفّ بقرينة معتبرة ، من كتاب ، أو سنّة) نبوية ، فالخبر الواحد المعلوم الصّدور او المحتفّ بالقرينة المعتبرة ، يجوز العمل بهما ، أمّا غيرهما فلا يجوز العمل به.

لكن لا يخفى : انّه يلزم أن يكون الكتاب دالا لا مجملا ، كما انه يلزم أن تكون السنّة (معلومة) لا مجرد سنّة ، والّا كان من التمسّك بغير الحجّة لغير الحجّة.

وكيف كان : فالأخبار المذكورة الناهية عن العمل بالخبر (مثل ما رواه في البحار ، عن بصائر الدّرجات ، عن محمّد بن عيسى قال : أقرأني) أي : أمرني بقراءته ، امّا أمرا صريحا لفظيا أو أمرا بالاشارة ، بان قدّم الكتاب اليه وأشار بأن أقرأه ، كما انه ليس المراد من ، أقرأني : باللّفظ ، بل الأعم من اللّفظ والمطالعة.

وعليه : فقد اقرأني (داود بن فرقد الفارسيّ كتابه) الذي كتبه (الى ابن الحسن الثالث عليه‌السلام) : وهو الامام الهادي عليه‌السلام ، كما أنّ أبا الحسن الأوّل ، او أبا الحسن بلا قيد : هو موسى بن جعفر ، وأبا الحسن الثاني : هو علي بن موسى الرضا عليهم‌السلام.

١٨٩

وجوابه بخطّه عليه‌السلام ، فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك ، صلوات الله عليهم أجمعين ، قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب عليه‌السلام ، بخطّه : ما علمتم أنّه قولنا فألزموه وما لم تعلموه فردّوه إلينا» ،

______________________________________________________

أمّا اطلاق أبي الحسن على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو المشهور في التواريخ ، والقصص ، والتفاسير ، لا في الرجال ، والفقه ، فان المشهور فيهما بابي الحسن : هؤلاء الثلاثة صلوات الله عليهم أجمعين.

قال الرّاوي (و) أقرأني أيضا (جوابه بخطّه عليه‌السلام فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم أجمعين ، قد اختلفوا علينا فيه) بمعنى : انّ الناقلين لتلك الأخبار ، مختلفون في الوثاقة وعدمها ، كما أنهم مختلفون في النقل عنهم عليهم‌السلام ، فبعضهم ينقل شيئا ، وينقل آخر خلافه.

(فكيف العمل به) أي : بما ينقل عن آبائك عليهم‌السلام (على اختلافه؟) أي : على اختلاف المنقول عنكم (فكتب عليه‌السلام بخطّه : ما علمتم أنّه قولنا) وهو يحصل ، امّا بالعلم ، الوجداني ، أو التواتر ، أو بالاحتفاف بالقرائن القطعيّة ، أو بمطابقة الكتاب ، أو ما أشبه ذلك (فألزموه ، وما لم تعلموه ، فردّوه إلينا) (١).

وقد تقدّم معنى الردّ اليهم : بانه السكوت ، لا الاعراض ، فان هناك فرقا بين أن يسكت الانسان في قبال خبر لا يعلم انه منهم ، وبين أن يرد ذلك الخبر ويقول : هذا الخبر غير صحيح ، ونحن مأمورون في الأخبار المشكوكة بالردّ اليهم عليهم‌السلام ، دون الاعراض.

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : ص ٥٢٤ ح ٢٦ ، مستطرفات السرائر : ص ٥٨٤ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤١ ب ٢٩ ح ٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٠ ب ٩ ح ٣٣٣٦٩.

١٩٠

ومثله عن مستطرفات السرائر.

والأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلّا إذا وجد له شاهد من كتاب الله او من السنّة المعلومة ، فتدلّ على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة :

مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «ما جاءكم عنّي ممّا لا يوافق القرآن فلم اقله».

وقول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام :

______________________________________________________

(ومثله) أي : هذا الخبر المتقدّم ما روي (عن مستطرفات السرائر) لابن ادريس الحلي رحمه‌الله (و) مثله (الأخبار الدّالة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور ، الّا اذا وجد له شاهد من كتاب الله أو من السنّة) النبويّة (المعلومة) سواء كان علما وجدانيا ، أو علما عرفيا ، بأن يكون الخبر محفوفا بالقرينة التي تستريح النفس اليها.

(فتدلّ) هذه الأخبار (على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة) من الكتاب ، أو من سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار) المتعددة.

منها : (انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما جاءكم عنّي ممّا لا يوافق القرآن ، فلم أقله) (١) فيدلّ على لزوم : أن يكون الخبر موافقا للقرآن ، حتى يجوز لنا ان نعمل به ، وما هو جار في خبر النبيّ يجري في أخبار سائر الائمة عليهم‌السلام ، لوحدة المناط فيهما.

(وقول أبي جعفر) الباقر عليه‌السلام (وأبي عبد الله) الصادق عليه‌السلام حيث قالا

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٩ ح ٥ (بالمعنى) ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٦٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١١ ب ٩ ح ٣٣٣٤٨.

١٩١

«لا يصدّق علينا إلّا ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

وقوله عليه‌السلام : «إذا جاءكم حديث عنّا فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به وإلّا فقفوا عنده ثم ردّوه إلينا حتّى نبيّن لكم».

ورواية ابن أبي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث ، يرويه من اثق به ، ومن لا أثق به. قال عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخذوا به ، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به».

______________________________________________________

(لا يصدّق علينا) أي لا تقبلوا الخبر الذي ينقل عنا (إلّا ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) وهو يدلّ نصّا على : عدم قبول الخبر ، الذي لم يكن له شاهد من كتاب الله ، أو سنّة نبيّه (وقوله عليه‌السلام إذا جاءكم حديث عنّا ، فوجدتم عليه شاهدا ، أو شاهدين من كتاب الله ، فخذوا به ، والّا فقفوا عنده ، ثم ردّوه إلينا حتى نبيّن لكم) (٢) انه حق ، أو ليس بحق ، فليس ـ لنا أن نعمل بالخبر الّا اذا كان له شاهد ، أم شاهدان من كتاب الله سبحانه وتعالى ، وانّما احتيج الأمر الى شاهدين ، فيما اذا لم يكن الشاهد الأول واضح الشهادة.

(ورواية ابن أبي يعفور ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف) أي : تضارب (الحديث) وانه (يرويه من أثق به ، ومن لا أثق به) فما ذا أعمل بها وهي أحيانا متضاربة وأحيانا يكون ناقلها غير ثقة؟.

(قال عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديث ، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله ، أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخذوا به ، وإلّا فالّذي جاءكم به أولى به) (٣) فلا تقبلوا منه

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٣ ب ٩ ح ٣٣٣٨٠ ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٢٩ وفيه (بما) بدل (ما).

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٢٢٢ ح ٤ وفيه (يستبين) بدل (نبيّن).

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٩ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٠ ب ٩ ح ٣٣٣٤٤.

١٩٢

وقوله عليه‌السلام لمحمّد بن مسلم : «ما جاءك من رواية من برّ او فاجر يوافق كتاب الله فخذ به ، وما جاءك من رواية من برّ او فاجر ، يخالف كتاب الله ، فلا تأخذ به».

وقوله عليه‌السلام : «ما جاءكم من حديث لا يصدّقه كتاب الله فهو باطل».

وقول أبي جعفر عليه‌السلام : «ما جاءكم عنّا فان وجدتموه موافقا للقرآن فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، وإن اشتبه الأمر عندكم

______________________________________________________

وردّوه اليه ، بضاعته لنفسه ، لا انّها بضاعة تصدر الى الناس أيضا.

(وقوله عليه‌السلام لمحمّد بن مسلم : ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر) أي سواء كان الراوي عادلا ، أو كان فاسقا فان كان الخبر (يوافق كتاب الله فخذ به ، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر ، يخالف كتاب الله ، فلا تأخذ به) (١) فان هذا الخبر يدلّ على ، انّ المعيار : موافقة الكتاب ، وعدم موافقته ، لا انّ الراوي عادل أو غير عادل.

(وقوله عليه‌السلام : ما جاءكم من حديث لا يصدّقه كتاب الله ، فهو باطل) (٢) فيلزم أن يكون الخبر مطابقا لكتاب الله سبحانه وتعالى ، وذكر كتاب الله وحده ، من باب المثال والّا فالسنّة المعلومة أيضا كالكتاب ـ كما أشير اليه في جملة من الروايات ـ.

(وقول أبي جعفر عليه‌السلام : ما جاءكم عنّا ، فان وجدتموه موافقا للقرآن ، فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا ، فردّوه ، وإن اشتبه الأمر عندكم) بان لم تعلموا انّه يوافق القرآن ، او لا يوافقه ، كما اذا كان بينه وبين القرآن عموم من وجه ، أو كانت دلالة

__________________

(١) ـ بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٤ ب ٢٩ ح ٥٠ (بالمعنى) ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٢٠.

(٢) ـ تفسير العياشي : ج ١ ص ٢٠ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٣ ب ٩ ح ٣٣٣٨١ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٢ ب ٢٩ ح ٣٨ (بالمعنى).

١٩٣

فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح من ذلك».

وقول الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».

وصحيحة هشام بن حكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا تقبلوا علينا حديثا إلّا

______________________________________________________

الآية غامضة ، أو ما أشبه ذلك (فقفوا عنده ، وردّوه إلينا ، حتّى نشرح) لكم ونبيّن الصدق والكذب (من ذلك) (١) المنقول عنّا ، وعليه : فالاخبار على ثلاثة أقسام :

١ ـ قسم يؤخذ به مطلقا.

٢ ـ قسم لا يؤخذ به مطلقا.

٣ ـ قسم لا يعمل به ، ولا يعرض عنه ، وانّما يتوقف الانسان عنده ، حتى يتبيّن صدقه من كذبه (وقول الصادق عليه‌السلام : كلّ شيء مردود الى كتاب الله والسنّة) أي : انّ الشيء الذي ورد في أخبارنا ، يردّ الى الكتاب والسنة فان كان موافقا لهما يؤخذ به ، وان لم يكن موافقا لهما فلا يؤخذ به ، بلا فرق بين أن يكون الشيء الوارد حكما ، أو قصّة نبيّ ، أو تاريخ أمّة سابقة ، أو غير ذلك.

(وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) (٢) والزخرف : هو الباطل الذي له جمال الصحيح وزينته ، فان كون الخبر مرويا عنهم عليهم‌السلام ، زينة للخبر من جهة المنقول عنه ، وان كان باطلا في نفسه ، ولم يقله الائمة الطاهرون عليهم‌السلام.

(وصحيحة هشام بن حكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : لا تقبلوا علينا حديثا ، إلّا

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٠ ب ٩ ح ٣٣٣٧٠ ، أمالي الطوسي : ص ٢٣٢ وفيه (عليكم) بدل (عندكم).

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٩ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١١ ب ٩ ح ٣٣٣٤٧.

١٩٤

ما وافق الكتاب والسنّة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ، فانّ المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا».

______________________________________________________

ما وافق الكتاب والسنّة ، أو تجدون معه) أي مع ذلك الخبر (شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة) أي شاهدا من الأحاديث المعتبرة ، الصادرة عنا قبل ذلك الحديث.

ثم انّ الامام عليه‌السلام بيّن السّبب في لزوم أن يكون الخبر ، مدعوما بالكتاب ، أو السنّة أو بأخبارهم عليهم‌السلام بقوله : (فانّ المغيرة بن سعيد لعنه الله) وكان مفسدا وغاليا ، فاسدا في عقيدته ، ومفسدا في عمله ، وقد قتله عيسى بن موسى ، الوالي من قبل العبّاسيّين ، لأنّه كان مفسدا بين الناس.

(دسّ) أي أدخل (في كتب أصحاب أبي) الباقر عليه‌السلام (أحاديث لم يحدّث بها أبي) عليه‌السلام ، ولهذا اختلفت الأخبار ، فلم يعلم الصحيح منها من الفاسد ، الّا بقرينة من كتاب ، أو سنّة ، أو أحاديث سابقة (فاتقوا الله ، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا) (١).

لكن لا يخفى : انّ هذا الخبر يرد عليه امور :

الأوّل : انّ هذا ، كان بالنسبة الى الأخبار الصادرة في زمان المغيرة ، لا الأخبار السابقة واللاحقة عليه.

الثاني : انّه خاص بجماعة ، تمكن المغيرة من أخذ كتبهم ، لا مطلقا.

الثالث : انّه بالاضافة الى الأمرين المتقدمين : ان الخبر محلّ تأمّل ، اذ كيف يمكن الدسّ في كتب الناس ، مع وضوح اختلاف الخط والاسلوب وما اشبه؟ فهذا الخبر من الأخبار التي يلزم ردّ علمه الى أهله.

__________________

(١) ـ بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٩ ب ٢٩ ح ٦٢ ، رجال الكشي : ج ٣ ص ٢٢٤ ح ٤٠١.

١٩٥

والأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض متواترة جدّا ، وجه الاستدلال بها : انّ من الواضحات أنّ الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام ، في مخالفة ظواهر الكتاب ، والسنّة

______________________________________________________

هذا بالاضافة الى انّه بعد ذلك الزمان ، كتبت الأخبار ونقّحت ، بما لو كان الأمر على ما ذكر في هذا الخبر ، لم يبق من دسّه أثر بعد ذلك.

ويعرف هذا من قياس الأمر بما اذا دسّ بعض تلاميذ فقيه ، في تقريرات تلاميذه ، فهل يمكن بقاء الدسّ بعد قيام الفقيه وتلاميذه بالتهذيب والتنقيح؟.

(و) لا يخفى : انّ (الأخبار الواردة ، في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض متواترة جدّا) فانّ بعض الأخبار وردت لمعالجة الروايات المتعارضة ، ليؤخذ بالموافق منها للكتاب والسنّة ويطرح المخالف منها للكتاب والسنّة ، وبعض الأخبار وردت في مطلق المخالف للكتاب والسنّة وان لم يكن هنالك تعارض بين خبرين ، وهذه الأخبار بحدّ التواتر وفوق حدّ التواتر.

واما (وجه الاستدلال بها) أي : بهذه الأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم التعارض بين تلك الاخبار ـ فهو : انّ الأخبار الدالة على طرح الأخبار المعارضة ، لا يراد بها : الأخبار المعارضة بالتباين ، اذ المخالفون ما كانوا يضعون الأخبار المتباينة ، وانّما يراد بها : المعارضة بالعموم المطلق ، أو بالعموم من وجه ، ومع ذلك قال الأئمة عليهم‌السلام ، بطرحها ، مما يدل على انّ الخبر ليس بحجّة ، الّا اذا علم صدوره ، او احتفّ بالقرائن القطعيّة.

وهذا هو مراد من يقول : بأنّ الخبر الواحد ليس بحجّة ، وذلك ل (انّ من الواضحات : انّ الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة) مخالفة بالعموم والخصوص المطلق ، أو بالعموم والخصوص من وجه

١٩٦

في غاية الكثرة ، والمراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار الناهية عن الأخذ بمخالفة الكتاب والسنّة ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي بحيث يتعذّر او يتعسّر الجمع ، إذ لا يصدر من الكذّابين عليهم ما يباين الكتاب والسنّة كليّة ، إذ لا يصدّقهم أحد في

______________________________________________________

سواء بعنوان العام والخاص ، أو بعنوان الاطلاق والتقييد (في غاية الكثرة) حتى انه لو لم يؤخذ ، بمثل هذه الاخبار ، لزم تعطيل أكثر الأحكام.

فانّ أبواب الصلاة ، والصوم ، والحجّ ، والخمس ، والزكاة ، وغيرها من بقيّة الاحكام قد ورد جميعها في القرآن ، بعنوان العام أو بعنوان المطلق ، والأخبار الكثيرة خصّصتها ، أو قيّدتها ، سواء عندنا أو عند العامة.

(والمراد من المخالفة للكتاب ، في تلك الأخبار الناهية) التي تنهى (عن الأخذ بمخالفة الكتاب والسنّة) هي : المخالفة التي ذكرناها بالعموم والخصوص ، أو بالاطلاق والتقييد و (ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي ، بحيث يتعذّر أو يتعسّر الجمع) بينها.

اما متعذّر الجمع : فمثل أن يقول القرآن الحكم : الله واحد ، وتقول الرواية : بتعدّد الآلهة.

واما متعسّر الجمع : فمثل أن يقول القرآن : الله عالم بكل شيء ، وتقول الرواية : ليس بعالم بالجزئيات ، ويكون وجه الجمع ـ بتعسّر وتكلّف ـ : ان كل شيء ، يراد به : الكلّيات فقط ، دون الجزئيات ، كما قال به بعض الحكماء ، وهو : قول لم ينزل الله به من سلطان.

(اذ لا يصدر من الكذّابين عليهم) أي على المعصومين عليهم‌السلام (ما يباين الكتاب والسنّة) مباينة (كلّية اذ لا يصدّقهم) أي : لا يصدق الكذابين (أحد في

١٩٧

ذلك ، فما كان يصدر عن الكذّابين من الكذب لم يكن إلّا نظير ما كان يرد من الأئمة عليهم‌السلام ، في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ، فليس المقصود من عرض ما يرد من الحديث على الكتاب والسنّة إلّا عرض ما كان منها غير معلوم الصّدور عنهم ، وأنّه إن وجد له قرينة وشاهد معتمد فهو ، وإلّا فليتوقّف فيه ، لعدم افادته العلم بنفسه ، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة.

ثمّ إنّ عدم ذكر الاجماع ودليل العقل من جملة قرائن الخبر في هذه

______________________________________________________

ذلك) الخبر المباين للقرآن مباينة كلّية (فما كان يصدر عن الكذّابين من الكذب لم يكن الّا نظير ما كان يرد من الائمة عليهم‌السلام) من الاطلاق والتقييد ، والعام والخاص (في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة).

إذن : فالمراد بالمخالفة التي نهى الائمة عليهم‌السلام عن العمل بها ، هي المخالفة على ذينك الوجهين ، أي : العموم المطلق ، ومن وجه ، أو الاطلاق والتقييد.

وعلى هذا : (فليس المقصود) بقولهم عليهم‌السلام : (من عرض ما يرد من الحديث ، على الكتاب والسنّة الّا عرض ما كان منها) أي : من تلك الأخبار الواردة ، المنسوبة اليهم (غير معلوم الصّدور عنهم) لوضوح : انّ معلوم الصّدور ، لا يحتاج الى العرض.

(وانّه) أي : ان هذا الخبر غير معلوم الصدور ، بل المحتمل الصدور عنهم وعن غيرهم (ان وجد له قرينة وشاهد معتمد) يدلّ على صدوره عنهم (فهو ، والّا فليتوقف فيه ، لعدم افادته العلم بنفسه ، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة) فتكون هذه الروايات ، دالّة على المنع عن العمل بالخبر الواحد ، غير المعلوم الصدور ، المجرد عن القرائن ، وهذا هو ما يريده المانعون.

(ثم ان عدم ذكر : الاجماع ، ودليل العقل ، من جملة قرائن الخبر في هذه

١٩٨

الرّوايات ، كما فعله الشيخ في العدّة ، لأنّ مرجعهما إلى الكتاب والسنّة ، كما يظهر بالتأمّل.

______________________________________________________

الرّوايات) وانّما اكتفت هذه الروايات بذكر قرينتين : موافقة الكتاب ، والسنّة المعلومة ، ولم تذكر من القرائن : موافقة الاجماع ، ودليل العقل (كما فعله الشيخ) رحمه‌الله (في العدّة) حيث جعل معيار حجّية الأخبار : الموافقة للكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل.

وانّما لم تتعرض لذكر الاجماع والعقل هذه الأخبار (لأنّ مرجعهما) أي : الاجماع والعقل (الى الكتاب والسنّة) أيضا (كما يظهر بالتأمّل).

أمّا الاجماع : فلتضمنه قول المعصوم عليه‌السلام ، على الدخول أو كشفه عنه على الحدس.

وأمّا العقل ، فلأنه «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» ، على ما ذكروه ، في باب الملازمة.

لكن لا يخفى بان المستنبط من الاخبار : يرى ان كلا من الاجماع والعقل حجّة بنفسه كحجّية الكتاب والسنّة ، فانه كما لا يقال : انّ السنّة ترجع الى الكتاب في حجّيتها كذلك يلزم أن يقال : ان الاجماع والعقل ، لا يرجعان الى الكتاب والسنّة في حجّيتهما.

ومما يدلّ على ذلك : الرواية المرويّة عن الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، حيث جاء فيها :

«بسم الله الرحمن الرحيم»

«جميع أمور الأديان أربعة : أمر لا اختلاف فيه ، وهو إجماع الأمّة على الضرورة التي يضطرون إليها ، والأخبار المجمع عليها ، وهي الغاية المعروض

١٩٩

ويشير إلى ما ذكرنا ، من أنّ المقصود من عرض الخبر على الكتاب والسنّة هو في غير معلوم الصدور ، تعليل العرض في بعض الأخبار بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الاماميّة.

______________________________________________________

عليها كلّ شبهة ، والمستنبط منها كلّ حادثة.

وأمر يحتمل الشكّ والانكار ، فسبيله استيضاح أهله لمنتحليه ، بحجّة من كتاب الله مجمع على تأويلها ، وسنّة مجمع عليها لا اختلاف فيها ، أو قياس تعرف العقول عدله ، ولا تسع خاصة الأمّة وعامّتها الشكّ فيه ، والانكار له» (١) الحديث ، وقد المعنا الى ذلك فيما سبق ، لكن حيث انّ البحث حول هذا الأمر خارج عن مقصد الشّرح نتركه لمحلّه.

هذا ، ومن الممكن ، أن يكون الوجه في عدم ذكر الاجماع والعقل من جملة قرائن الخبر هو : ما ذكره الأوثق : من قلّة الأحكام التي يكون العقل أو الاجماع فيها قرينة لصحة الخبر أو عدم صحته.

(ويشير الى ما ذكرنا : من انّ المقصود من عرض الخبر على الكتاب والسنّة) ليس هو عرض مطلق الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، ولو كان غير محتمل الكذب سندا ، او غير محتمل التقية دلالة ـ كما يقوله المانع ـ بل (هو في غير معلوم الصدور) المحتمل الكذب سندا والتقيّة دلالة فقط.

يشير اليه (تعليل العرض في بعض) هذه (الأخبار : بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الامامية) ممّا يدلّ على ان المقصود من العرض ، هو : التخلّص من الأخبار المكذوبة سندا ، أو غير الواقعية دلالة فلا يدلّ على عرض مطلق الاخبار المخالفة.

__________________

(١) ـ تحف العقول : ص ٤٠٧ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٣٨ ب ٢٩ ح ٣١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٣ ب ٨ ح ٣٣٣٢٩.

٢٠٠