الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

ويجعل المراد من القبول فيها هو القبول في الجملة ، فلا ينافي اعتبار انضمام عدل آخر إليه. فلا يقال : إنّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة مطلقا يستلزم قبوله في الأحكام بالاجماع المركّب والأولوية.

______________________________________________________

قلت : (ويجعل المراد من القبول فيها) أي في الموضوعات (هو : القبول في الجملة) فانّ المراد من العمل بالآية في الموضوعات ، هو : العمل بقول العادل إذا انضم إليه عادل آخر ، بدون وجوب الفحص.

وعليه : (فلا ينافي) العمل بقول العادل في الموضوعات في الجملة (اعتبار انضمام عدل آخر إليه) في غالب

الموضوعات وإن كان ربما يلزم انضمام اكثر من عدل آخر ، كما في الشهادة على الزنا ، واللواط ، ونحوهما.

(فلا يقال) إنه مع ما ذكرتم : من أن الآية في الموضوعات لا في الأحكام (انّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة) لا الأحكام (مطلقا) أي : سواء قلنا : باحتياج الموضوعات الى انضمام عدد آخر الى الخبر الواحد ، أو لم نقل بذلك (يستلزم قبوله) أي : قبول خبر الواحد (في الأحكام) لأمرين.

أولا : (بالاجماع المركّب) فانه قد ذهب بعض العلماء الى عدم حجّية خبر الواحد مطلقا ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات ، كالسيّد المرتضى.

وقد ذهب بعضهم الى حجّيته في الأحكام فقط ، كالمشهور ، ولم يذهب أحد الى حجّيته في الموضوعات فقط.

وعليه : فاذا دلّت الآية على حجّية خبر الواحد في الموضوعات ـ كما اعترفت أنت ـ فالعلماء مجمعون على حجّيته في الأحكام أيضا.

(و) ثانيا : (الأولويّة) فانه إذا جعل الشارع خبر الواحد حجّة في الموضوعات ، وهي أهم من الأحكام لزم ان يجعل خبر الواحد حجّة في الأحكام ،

٣٠١

وفيه : انّ وجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الاحكام الشرعيّة ، غير وجوب التبيّن في الخبر ، فانّ الأوّل يؤكّد حجّية خبر العدل ولا ينافيها ،

______________________________________________________

لانها أقل أهمية من الموضوعات.

وإنما كانت الموضوعات أهم لتوفير الدواعي في إخفاء الموضوعات ، كما في باب الشهادة حيث انّ بعض الناس يريدون أكل أموال الناس بالباطل ، وغصب نسائهم ، وإراقة دمائهم ، وما الى ذلك.

ولهذا لم يقبل الشارع شهادة الواحد في الموضوعات وان قبلها في الاحكام ، فخبر زرارة ـ مثلا ـ حجّة في نقله عن الامام الصادق عليه‌السلام انّ صلاة الجمعة واجبة وليس قول زرارة حجّة فيما إذا شهد : بأنّ الدار لزيد في مقام المنازعات.

والحاصل : انّ الموضوعات أهم ، فاذا قبل الواحد فيها بشرط عدد آخر ، أو بدون شرط الآخر ، كان جعل الشارع الواحد حجّة في الأحكام بطريق أولى.

إذن : فالآية لا تدل على حجّية خبر العدل ، اذ كما يجب التبيّن في خبر الفاسق ، كذلك يجب الفحص عن المعارض في خبر العادل ، فكل من خبر العادل والفاسق ، لا يمكن العمل به بدون فحص أو تبيّن ، فالخبران سيّان من هذه الجهة.

(وفيه : انّ وجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ، غير وجوب التبيّن في الخبر) الذي جاء به الفاسق ، فالفحص عن المعارض معناه : انّ الخبر حجّة في نفسه لكن لا نعلم هل أسقط حجّيته معارض أم لا؟

والتبيّن عن الحجّية في خبر الفاسق معناه : انّ الخبر ليس بحجّة في نفسه فيستبان عن حجّيته ، فهما أمران متقابلان.

(فانّ الأوّل :) أي : وجوب التفحص (يؤكد حجّية خبر العدل ولا ينافيها)

٣٠٢

لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به ، كما أوجب العمل بهذا. والتبيّن المنافي للحجّية هو التوقف عن العمل والتماس دليل آخر ، فيكون ذلك الدّليل هو المتّبع ولو كان أصلا من الاصول.

______________________________________________________

أي : لا ينافي حجّية خبر العدل (لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى) انّ هذا الخبر الذي هو واجب العمل به ـ ممّا جاء به العادل حسب مفهوم الآية ـ هل له معارض واجب العمل أم لا؟ وإذا كان له معارض فهل يرجّح هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ، أو يتساويان؟.

فمرجعه الى (الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به ، كما أوجب العمل بهذا) الخبر ، فانّ هذا الخبر واجب العمل به لو لا المعارض ، فهل هناك معارض يرجّح عليه ، أو يساويه؟.

(و) أمّا الثاني وهو وجوب التبيّن ، فمعناه : عدم الاعتناء بالخبر ، ووجوب تحصيل الثقة من الخارج ، فانّ (التبيّن المنافي للحجّية ، هو : التوقف عن العمل) بخبر الفاسق ، لأنّه قبل التبيّن لا يجوز العمل بالخبر ، وليس الخبر بحجّة في نفسه (و) إنما يجب (التماس دليل آخر فيكون ذلك الدّليل) الآخر الخارجي ، الذي يسمّى الفحص عنه : بالتبيّن (هو المتّبع ، ولو كان) ذلك الدليل الخارجي (أصلا من الاصول) كما اذا جاء الفاسق ـ مثلا ـ : بعدم وجوب صلاة الجمعة ، فان الأصل يؤيد عدم الوجوب.

والحاصل : انّ وجوب التّفحص الذي هو في خبر العادل ، مؤكد للحجّية ، ووجوب التبيّن الذي هو في خبر الفاسق ، مناف للحجّية ، فلا يمكن ان يقال : كما انّ الآية تدل على عدم حجّية خبر الفاسق ، كذلك تدل على عدم حجّية خبر العادل ، لأنّه كما يحتاج خبر الفاسق الى التبيّن ، كذلك يحتاج خبر العادل الى

٣٠٣

فاذا يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر وإذا وجده أخذ بالأرجح منهما. وإذا يئس عن التبيّن توقف عن العمل ورجع إلى ما يقتضيه الاصول العمليّة. فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل

______________________________________________________

التفحص ، فالتّفحص والتبين متقابلان على ما عرفت.

(فاذا) فحص الانسان عن المعارض لخبر العادل ، و (يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر) الذي جاء به العادل (وإذا وجده) أي وجد المعارض (أخذ بالأرجح منهما) اذا كان هناك ترجيح في البين وإلّا فهما متساويان في جواز العمل وعدم جوازه.

(و) لكن (إذا يئس عن التبيّن) الخارجي بالنسبة الى خبر الفاسق ، بأن جاء فاسق بخبر ، فتبين عنه فلم يحصل على ما يؤيده أو ينافيه (توقف عن العمل) بخبر الفاسق (ورجع الى ما يقتضيه الاصول العمليّة) لأنّه اذا لم يكن دليل اجتهاديّ في البين لا بدّ وأن يكون هناك أصل عملي ـ على ما قرر في الاصول ـ.

مثلا : إذا قام خبر الفاسق : بحرمة التبغ ، توقف ورجع الى الخارج ، فان كان ما يدلّ على الحرمة التبغ ، وإلّا أجرى البراءة ، وكذلك في مجاري سائر الأصول من : الاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير.

فخبر العادل قبل التفحّص حجّة ، وكذا بعد التفحّص ، وصل الفاحص الى الخبر أو الى معارضه ، ترجيحا أو تساويا أم لا ، بخلاف خبر الفاسق قبل التبيّن ، فانه ليس بحجّة وكذا بعد التبيّن ، وصل المتبيّن الى الدليل الخارجي ، أو الأصل العملي أم لا ، فخبر العادل حجّة على كل حال ، وخبر الفاسق ليس بحجّة على كل حال.

إذن : (فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل) ابتداء

٣٠٤

بمجرّد المجيء إلّا أنّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني دون الأوّل. ومع وجدان المنافي يؤخذ به في الأوّل ويؤخذ بالأرجح في الثاني ، فتتبع الأدلّة في الأوّل لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم الذي تضمّنه خبر الفاسق ، وفي الثاني لطلب المانع عمّا اقتضاه الدليل الموجود.

ومنها :

______________________________________________________

(بمجرّد المجيء) لأنّ خبر العادل يحتاج الى التّفحص ، وخبر الفاسق يحتاج الى التبيّن.

(إلّا) انّ اللازم في الأوّل ، وهو خبر الفاسق التوقف والرجوع الى الغير ، وفي الثاني وهو خبر العادل : الفحص ثم الرجوع اليه ، أو الى الأرجح منه ، أو الى التخيير.

وذلك (انّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني) أي بخبر العادل (دون الأوّل) أي : خبر الفاسق. (ومع وجدان المنافي يؤخذ به) أي بالمنافي (في الأوّل) أي في خبر الفاسق (ويؤخذ بالأرجح في الثاني) أي في خبر العادل.

(فتتبع الأدلة في الأوّل) أي : في خبر الفاسق (لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم الذي تضمّنه خبر الفاسق) فانه إذا دلّ خبر الفاسق ـ مثلا ـ على حرمة التتن فهو بنفسه لا يقتضي الحرمة ، بل لا بد من تحصيل المقتضي للحرمة من الخارج ، وإلّا فاللازم العمل بالأصل ، والأصل هو البراءة.

(وفي الثاني :) وهو خبر العادل ، إنّما يكون الفحص (لطلب المانع عمّا اقتضاه الدليل الموجود) فان خبر العادل هو دليل موجود ، مقتضي للحكم الذي دلّ عليه ، وانّما نفحص عن المعارض لنرى : هل هناك مانع عن هذا المقتضي أم لا؟.

(ومنها) وهو الخامس : من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ ـ على حجّية

٣٠٥

انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة التي منها مورد الآية ، وهو إخبار الوليد بارتداد طائفة ، ومن المعلوم أنّه لا يكفي فيه خبر العادل الواحد ، بل لا أقلّ من اعتبار العدلين ، فلا بدّ من طرح المفهوم ، لعدم جواز اخراج المورد.

وفيه : انّ غاية الأمر لزوم تقييد

______________________________________________________

خبر العادل ـ ممّا يمكن الذّب عنه ، هو : (انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة ، التي منها مورد الآية ، وهو) أي : مورد الآية : (إخبار الوليد بارتداد طائفة) من بني المصطلق ، فانّ مورد الآية في الموضوعات (و) الموضوعات لا يعمل بها بخبر العدل الواحد لاحتياجها الى العدلين ، لأنّ البينة هي التي تكون حجّة في الموضوعات ، وليس خبر العدل الواحد بحجّة فيها.

والنتيجة : انّ المورد لا يعمل فيه بالآية لوضوح : انّه (من المعلوم : انّه لا يكفي فيه) أي في مورد الآية ، وهو من الموضوعات (خبر العادل الواحد بل لا أقل من اعتبار العدلين) حتى تتحقق البينة ، التي هي حجّة في الموضوعات.

إذن (فلا بدّ من طرح المفهوم) وهو : حجّية خبر العادل (لعدم جواز إخراج المورد) فانه يستحيل أن يكون للآية مفهوم يعمل به في الأحكام ، ولا يعمل به في الموضوعات التي منها مورد الآية.

فان معنى الآية بناء على المفهوم : «إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ، وإن جاءكم عادل فلا تتبينوا» مع انّه اذا جاء العادل بارتداد بني المصطلق ، لا يعمل بخبره ، بل احتاج الأمر الى عادل ثان ، فاذا كان للآية مفهوم ، لزم اخراج المورد ، وإخراج المورد قبيح.

(وفيه : إنّ غاية الأمر) ونهاية ما يجاب به الأشكال المذكور هو : (لزوم تقييد

٣٠٦

المفهوم بالنسبة الى الموضوعات بما إذا تعدد المخبر العادل. فكلّ واحد من خبري العدلين في البينة لا يجب التبيّن فيه.

وأما لزوم إخراج المورد فممنوع ، لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها ،

______________________________________________________

المفهوم بالنسبة الى الموضوعات ، بما إذا تعدد المخبر العادل) فانّ الآية معمول بها في الأحكام مطلقا ، لأنّ خبر العادل في الأحكام حجّة وإن كان واحدا ، أمّا في الموضوعات ، فلا يعمل بالمفهوم إلّا مقيدا بقيد التعدد.

(فكلّ واحد من خبري العدلين في البيّنة) حجّة (لا يجب التبيّن فيه) وإن كان أحدهما مقيدا بالآخر.

هذا بالاضافة الى انه يمكن أن يقال : انّ الحالة الثورية لا تتقيد بقيود الحالة الطبيعية ، للضرورة في الثورة ، وليست الضرورة في الحالة العاديّة ، فلهما حكمان ، إذ الحالة الثورية من الاستثناء ، ولهذا يقبل في الحالة الثورية ، خبر الواحد العادل في الموضوعات ، بخلاف الحالة الطبيعية ، وقد ألمعنا الى مثل هذا ، في كتاب : «الآداب والسنن» (١) حول اختلاف حال الرسول وعليّ عليهما‌السلام في بعض الآداب ، عن حال الامام الباقر والصادق عليهما‌السلام في مثل تلك الآداب.

(وأمّا لزوم إخراج المورد) الذي ذكره المستشكل (فممنوع ، لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها) فانّ منطوق الآية يدلّ على وجوب التبيّن في خبر الفاسق مطلقا ، سواء كان في الاحكام أو في الموضوعات ، أو كان في الارتداد أو غير الارتداد ، الى غير ذلك ، ومن الواضح : انّه يعمل بهذا المنطوق في جميع موارده ، حيث لا يعمل بخبر الفاسق إلّا بعد التبيّن.

__________________

(١) ـ راجع موسوعة الفقه : ج ٩٤ ـ ٩٧ للشارح.

٣٠٧

وجعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبيّن إذا كان المخبر به فاسقا ، ولعدمه إذا كان المخبر به عادلا ، لا يلزم منه إلّا تقييد لحكمه في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء.

______________________________________________________

وعلى هذا : فالمورد ليس بخارج وإن قيدنا المفهوم في الموضوعات بقيود أخر ، مثل : قيد التعدد في الشهادات العادية الى الاثنين ، وفي غير العادية كالزنا ونحوه الى أربع ، وغير ذلك ، فانه لا يلزم منه خروج المورد ـ على ما ذكره المستشكل ـ ومن الواضح : انّه لا يستشكل على المنطوق بأنّه قيّد أو خصص ، ولا على المفهوم بأنّه قيّد أو خصص حتى على فرض اختصاص العمل بالمفهوم في الاحكام دون الموضوعات بما فيها مورد الآية من الارتداد.

(و) عليه : فان (جعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبيّن ، إذا كان المخبر به) أي : بالارتداد (فاسقا) كالوليد (ولعدمه) أي : لعدم الحكم بوجوب التبيّن (إذا كان المخبر به عادلا) فالارتداد إذا جاء به الفاسق وجب التبيّن عن خبره ، وإن جاء به العادل ، لا يجب التبيّن عن خبره (لا يلزم منه) أي : من هذا الجعل (إلّا تقييد لحكمه) أي : لحكم المورد (في طرف المفهوم) وهو : ان جاءكم عادل فلا تتبينوا (وإخراج بعض أفراده) أي : بعض افراده المورد.

فانّ الفاسق إذا جاء بالارتداد ، وجب التبيّن عن خبره مطلقا ، أما إذا جاء العادل بالارتداد ، فانّه يقيد بانضمام عادل آخر في هذا المورد اليه ، فكل من المفهوم والمنطوق قد عمل به في مورده ، إلّا أنّ المفهوم قد قيد بقيد الانضمام الى عادل آخر.

(و) من المعلوم : انّ (هذا) التقييد وإخراج بعض الأفراد ، وهو : ما اذا كان العادل واحدا (ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء) وإنما هو من تقييد

٣٠٨

ومنها : ما عن غاية المبادي ، من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبيّن ، وهو لا يستلزم العمل ، لجواز وجوب التوقف.

______________________________________________________

المطلق ، أو تخصيص العام.

وربّما يقال في هذا المعنى : انّ طبيعة الفسق تستدعي التبيّن ، واحدا كان الفاسق أو أكثر ، وطبيعة العدالة تستدعي عدم التبيّن كذلك ، ففي بعض الموارد يكفي العادل الواحد ، كالفتوى ، وأهل الخبرة ، وفي بعض الموارد يكفي اثنان ، كما في البينة ، وفي بعض الموارد يلزم الأربعة ، كما في الشهادة على الزنا ونحوه.

فالآية في مقام بيان الطبيعة لا الخصوصيات ، وليس في المقام تقييد أيضا ، لأنّه من قبيل قول الطبيب للمريض : لا بدّ ان تشرب الدواء ، فاذا بيّن خصوصيات الدواء لم يكن من التقييد ، وإنما كان من تبيين المحمل أو المهمل.

(ومنها) وهو السادس من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ ـ على حجّية خبر العادل ممّا يمكن الذّب عنه وهو : (ما عن غاية المبادي) للشهيد الثاني (من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبين ، وهو) أي : عدم وجوب التبيّن (لا يستلزم العمل ، لجواز وجوب التوقف) (١) اذ هناك ثلاثة امور على النحو التالي :

الأوّل : وجوب التبيّن في خبر الفاسق.

الثاني : عدم وجوب التبيّن في خبر العادل ، بأن يرد بلا تبين.

الثالث : عدم وجوب التبيّن في خبر العادل ، بأن يقبل بلا تبين.

والمفهوم ساكت عن المعنيين ، ولم يعلم بانّه هل خبر العادل يرد بلا تبيّن ، أو يقبل بلا تبين؟.

__________________

(١) ـ غاية البادي : مخطوط.

٣٠٩

وكأنّ هذا الايراد مبنيّ على ما تقدّم فساده من إرادة وجوب التبيّن نفسيّا ، وقد عرفت ضعفه ، وأنّ المراد وجوب التبيّن لأجل العمل عند إرادته وليس التوقف حينئذ واسطة.

ومنها : انّ المسألة اصوليّة ، فلا يكتفي فيها بالظنّ.

______________________________________________________

(وكأنّ هذا الإيراد مبنيّ على ـ ما تقدّم فساده من ـ إرادة وجوب التبيّن نفسيا) حيث قد تقدّم : انه لو ردّ خبر العادل بلا تبيّن ، وقبل خبر الفاسق مع التبيّن ، لكان خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، وبضميمة هذه المقدّمة الخارجية أصلح وجوب القبول بلا تبيّن في خبر العادل.

(وقد عرفت ضعفه) لأن وجوب التبيّن ليس نفسيا ، بل مقدميّا للعمل (و) عرفت : (انّ المراد : وجوب التبيّن) شرطا (لأجل العمل عند إرادته) أي عند ارادة العمل ، فليس التبيّن واجبا نفسيا أراد العمل أو لم يرد.

فيكون المعنى على مقدميّة وجوب التبيّن للعمل وشرطيته : إن جاءكم فاسق بنبإ ، وجب التبيّن فيما يراد العمل بذلك النبأ ، وإن جاءكم عادل بنبإ وأردتم العمل به فلا يشترط فيه التبيّن ، وإلّا فخبر الفاسق ، الذي لا يراد العمل به ، أيضا لا يشترط فيه التبيّن ـ كما هو واضح ـ.

(وليس التوقف حينئذ واسطة) بين وجوب التبيّن ، والقبول بلا تبيّن ، بل هناك : التبيّن في مرحلة العمل ، إن جاء به الفاسق وعدم التبيّن ان جاء به العادل فلا تردد للمفهوم بين الاحتمالين المذكورين ، كما لا حاجة الى ضمّ المقدّمة الخارجية ، بل ظاهر الآية : تعيّن القبول بلا تبيّن.

(ومنها) وهو السابع من تلك الايرادات القابلة للذّب عنها ، هو : (إنّ المسألة) أي : حجّية خبر الواحد مسألة (اصوليّة ، فلا يكتفي فيها بالظنّ) الحاصل من

٣١٠

وفيه : أنّ الظّهور اللّفظي لا بأس بالتمسك به في أصول الفقه ، والاصول التي لا يتمسّك لها بالظّن مطلقا هو اصول الدّين لا أصول الفقه ، والظنّ الذي لا يتمسك به في الاصول مطلقا هو مطلق الظنّ ،

______________________________________________________

ظاهر الآية ، فان المسائل الفقهية هي التي يكون الظهور فيها حجّة ، أما المسائل الاصولية ـ فلأنّها تشمل كثيرا من الفروع ، ولا يكتفي فيها بالظن الحاصل من ظاهر آية أو رواية ، أو ما أشبه ـ فهي تحتاج الى القطع ، واليقين ، والأدلة العقلية القوية.

(وفيه : انّ الظهور اللّفظي ، لا بأس بالتمسّك به في أصول الفقه) فيجوز إثبات حجّية خبر العادل بظاهر آية النبأ ، فان الظواهر توجب الظن الخاص ، الذي هو بمنزلة العلم ، لما قد سبق : من إجماع العلماء والعقلاء على العمل بالظواهر ، ومن أين انّ المسائل الاصولية لا يكتفي فيها بالظن الخاص؟.

(والاصول التي لا يتمسك لها بالظّن مطلقا) سواء كان ظنا خاصا أو ظنا انسداديا ـ اذا حصلت مقدّمات الانسداد ـ (هو اصول الدّين لا اصول الفقه) اذ لا بد في الاول دون الثاني من العلم والاعتقاد والقطع واليقين ، ولا يكفي فيها الظنّ خاصا كان أو عاما انسداديا.

قال سبحانه : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (١) ، وغير ذلك من الأدلّة التي أقاموها في مبحث الكلام على وجوب العلم والاعتقاد في أصول الدّين.

(والظنّ الّذي لا يتمسّك به في الاصول مطلقا) سواء كان أصل دين أو أصل فقه ، انّما (هو مطلق الظنّ) الذي لم يثبت حجّيته بدليل خاص ، كالشهرة الفتوائية والقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك من الظّنون التي

__________________

(١) ـ سورة محمد : الآية ١٩.

٣١١

لا الظنّ الخاصّ.

ومنها : انّ المراد بالفاسق مطلق الخارج عن طاعة الله ولو بالصّغائر.

فكلّ من كان كذلك أو احتمل في حقّه ذلك وجب التبيّن في خبره

______________________________________________________

يعمل بها العامة ، ولا يعمل بها الخاصة ، فانّ الظنّ المطلق لا يكفي في اصول الدين ولا في اصول الفقه.

(لا الظنّ الخاصّ) الثابت حجّيته بالكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، فانه يكفي ذلك في اصول الفقه ـ كما تقدّم تحقيقه مفصلا ـ.

(ومنها) وهو الثامن من الاشكالات الواردة على مفهوم آية النبأ ـ في حجّية خبر العادل ـ القابل للذّب عنه هو : (انّ المراد بالفاسق) هو الفاسق الواقعي ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الأمرية ، دون من علم فسقه أو لم يعلم فسقه.

والفاسق ، هو : (مطلق الخارج عن طاعة الله ولو بالصّغائر) لأنّ الفسق عبارة عن الخروج ، والخارج بالصغائر أيضا خارج (فكلّ من كان كذلك) أي : كان مرتكبا للكبائر أو الصغائر (أو احتمل في حقّه ذلك) وان كان في نظرنا عادلا ، لكن لا بالقطع ، لأنّ القطع بالعدالة لا يجتمع مع احتمال الفسق (وجب التبيّن في خبره).

فانّ المراد بالفسق ـ على ما عرفت ـ : الفسق الواقعي ، سواء علم به أم لا ، فكل من علمنا فسقه ، أو احتملنا فسقه ، يكون داخلا في المنطوق ، ولا يبقى داخلا في المفهوم حينئذ ، إلّا من علمنا عدم فسقه ، وينحصر من علم عدم فسقه في المعصوم عليه‌السلام ، اذ العادل أيضا يمكن أن يكون فاسقا واقعا وإن كان في نظرنا عادلا.

٣١٢

وغيره ممّن يفيد قوله العلم ، لانحصاره في المعصوم عليه‌السلام أو من هو دونه ، فيكون في تعليق الحكم بالفسق إشارة إلى أنّ مطلق خبر المخبر غير المعصوم ، لا عبرة به ، لاحتمال فسقه ، لأنّ المراد الفاسق الواقعيّ لا المعلوم ، فهذا وجه آخر لافادة الآية حرمة اتّباع غير العلم ،

______________________________________________________

(وغيره) أي غير كل من كان كذلك ، يكون (ممّن يفيد قوله العلم) ولا يخفى : ان قوله : «وغيره» مبتدأ ، و «ممن يفيد» خبره ، وإنما يكون غير من ذكر من الفاسق المعلوم فسقه ، أو المحتمل فسقه ، يفيد قوله العلم (لانحصاره في المعصوم عليه‌السلام أو من هو دونه) كسلمان ، والمقداد ، والعباس بن علي عليهما‌السلام ، ومن أشبههم.

ومن المعلوم : انّ حجّية الخبر العلمي ، لا تحتاج الى مفهوم الآية المباركة ، بل العلم حجّة بنفسه (فيكون في تعليق الحكم بالفسق) في الآية المباركة (إشارة إلى انّ مطلق خبر المخبر غير المعصوم ، لا عبرة به) وذلك (ل) ما تقدّم : من (احتمال فسقه) وان كان في الظاهر عادلا.

(لأنّ المراد) من (الفاسق) في الآية المباركة هو الفاسق (الواقعيّ ، لا المعلوم) فسقه لما تقدّم : من إن الألفاظ إنما هي موضوعة للمعاني الواقعية ، لا للمعاني المستظهرة لدى العرف.

وعلى هذا : فالفاسق ولو محتمل الفسق ، داخل في منطوق الآية ، فلا يبقى في طرف مفهومها ، إلّا من قطع بعدم فسقه ، كالمعصوم والذين هم دون المعصوم ـ ممّن تقدّم ذكرهم ـ.

(فهذا) أي : تعليق الحكم بالفسق الواقعي الموجب لعدم العمل بالخبر حتى في محتمل الفسق (وجه آخر لافادة الآية : حرمة اتّباع غير العلم) مضافا الى الأدلة

٣١٣

لا يحتاج معه إلى التمسّك في ذلك بتعليل الآية ، كما تقدّم في الايراد الثاني من الايرادين الأوّلين.

وفيه : انّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة الله ، من إطلاق الفاسق ، خلاف الظاهر عرفا ، فالمراد به إمّا الكافر ، كما هو

______________________________________________________

الآخر التي تدل على حرمة اتباع غير العلم مثل : قوله سبحانه : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) وغيرها من الآيات والرّوايات.

فانه ممّا (لا يحتاج معه) أي : مع هذا الوجه (الى التمسّك في ذلك) أي : في حرمة اتباع غير العلم (بتعليل الآية) الدال ذلك التعليل على حرمة اتباع غير العلم ، لأنّ فيه احتمال الوقوع في الندم (كما تقدّم في الايراد الثاني من الايرادين الأوّلين).

فانّ الايراد الثاني ، كان مبنيا على تعليل الآية ، وقد قلنا هناك : بانّ التعليل يدل على المنع من كل خبر يحتمل فيه الوقوع في الندم ، وخبر العادل كذلك ، لأنّه لا يورث العلم ، فيحتمل فيه الوقوع في الندم ، فلا يمكن الأخذ بخبر العادل أيضا ، كما لا يمكن الأخذ بخبر الفاسق.

(وفيه : إنّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة الله ، من إطلاق الفاسق ، خلاف الظاهر عرفا) أي : في عرف المتشرعة ، فانّ المتشرعة لا يرون مرتكب الصغيرة فاسقا ، وذلك لتلقيهم معنى الفسق من الشرع ، وهو غير شامل لمرتكب الصغيرة ، فليس معنى الآية المباركة : لزوم كون ناقل الخبر معصوما ، أو تالي تلو المعصوم.

إذن : (فالمراد به) أي بالفاسق في الآية المباركة (إمّا الكافر ، كما هو) المجاز

__________________

(١) ـ سورة الإسراء : الآية ٣٦.

٣١٤

الشائع إطلاقه في الكتاب ، حيث انّه يطلق غالبا في مقابل الايمان. وإمّا الخارج عن طاعة الله بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية.

______________________________________________________

(الشائع) في (إطلاقه) أي في اطلاق الفاسق (في الكتاب) العزيز (حيث انّه) أي : الفاسق (يطلق غالبا في مقابل الايمان) كما في قوله سبحانه : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١).

حيث قابل بين الايمان والفسق فيكون المراد بالفسق : الكفر.

وقال سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) (٢) ، حيث انّ الفسّاق من أهل الكتاب قوبلوا بالمؤمنين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال سبحانه : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا ، أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣) ، وغيرها من الآيات.

والسّر في ذلك هو : إن الفسق بمعنى الخروج ، فهو يطلق على الكافر ، لأنّه خارج عن طاعة الله سبحانه وتعالى في العقائد الصحيحة ، كما ان فاسق المسلمين خارج عن طاعة الله سبحانه وتعالى في الاعمال الحسنة وان كانت عقيدته صحيحة.

وإنما قلنا : انّ اطلاق الفسق على الكفر مجاز شائع ، لانصراف الفسق الى : الفسق العملي ، لا العقيدي.

وعليه : فالمراد بالفاسق : إما الكافر ـ وقد مرّ ـ (وإمّا الخارج عن طاعة الله بالمعاصي الكبيرة ، الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية) وقد حصر المصنّف

__________________

(١) ـ سورة السجدة : الآية ١٨.

(٢) ـ سورة المائدة : الآية ٥٩.

(٣) ـ سورة يونس : الآية ٣٣.

٣١٥

والمرتكب للصّغيرة غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف السّابق ، مضافا إلى قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

______________________________________________________

ثبوت الكبيرة في زمان نزول الآية ، لأنّ المعاصي التي شرعت حرمتها بعد نزول الآية لم تكن في وقت نزول الآية معصية ، بل كانت جائز الارتكاب.

فلو فرض ـ مثلا ـ ان آية حرمة الخمر نزلت بعد هذه الآية ، لم يكن شارب الخمر في زمان نزول هذه الآية مرتكبا للعصيان ، حتى يسمى فاسقا وإنّما الفاسق هو الكافر أو مرتكب الكبائر المحرّمة زمن النزول.

(و) أمّا (المرتكب للصّغيرة) فهو : (غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا) نحن المتشرعة (المطابق) عرفنا هذا بحسب اصالة عدم النقل (للعرف السابق) في زمان نزول الآية.

وبذلك ظهر : انّه سواء كان المراد بالفسق : الكفر ، أو المعاصي الكبيرة ، لم يكن مفهوم الآية خاصا بالمعصوم ، وتالي تلو العصمة ، كسلمان وأبو ذر والعباس.

(مضافا الى قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١)). فان هذه الآية المباركة ، تدلّ على ان مرتكب الصغيرة ، الذي لا يرتكب الكبيرة ، مكفّرا عنه السيئات ، فليس بفاسق.

والحاصل : انّ الآية المباركة لا تشتمل مرتكب الصغيرة ، وذلك لتبادر الفسق الى غير مرتكب الصغيرة في عرف المتشرعة اليوم عرفا مطابقا لعرف المتشرعة في زمان نزول الآية بأصالة عدم النقل.

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٣١.

٣١٦

مع أنّه يمكن فرض الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة.

إذا علم منه التوبة من الذنب السّابق. وبه يندفع الايراد المذكور ، حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة.

______________________________________________________

ولأنّه تعالى بشّر الفاسق بالعذاب ، وحكم بأن من اجتنب الكبائر يكفّر عنه سيئاته ، فيعلم منه : انّ الفاسق هو مرتكب الكبيرة ، ولا يشمل مرتكب الصغيرة.

وعليه : فمن علم اجتنابه عن الكبائر ، وعلم ارتكابه للصغيرة بدون الاصرار ، أو احتمل في حقّه ذلك ، يكون داخلا في مفهوم الآية ، فاشكال : انّ الآية خاصة بالمعصومين ، ومن حذا حذوهم ، غير وارد.

(مع انّه يمكن فرض الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة) معا ، فانه ان سلّمنا : انّ المنطوق يدل على وجوب التبيّن ، في خبر من خرج عن الإطاعة بالكبيرة أو الصغيرة ، أو احتمل في حقه ذلك إلّا انّ المفهوم لا ينحصر في المعصوم ومن تلا تلوه ، بل يدخل فيه غيرهم أيضا.

كما (إذا علم منه التوبة من الذنب السّابق) ولم يرتكب بعد صغيرة ولا كبيرة ، فانه ليس بمعصوم ولا تاليا تلو المعصوم ، ومع ذلك يقبل خبره ، لأنّه لا يصدق عليه : الفاسق ، لفرض إنه تاب ولم يرتكب بعد كبيرة ولا صغيرة.

(وبه) أي : بهذا الفرض الذي ذكرناه : من خلوّ الانسان بالتوبة (يندفع الايراد المذكور) الذي أورده المستشكل على مفهوم آية النبأ من انحصار المفهوم في المعصوم ، ومن حذا حذوه.

فانه يندفع به (حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة) اذ الفقهاء اختلفوا في : ان كلّ ذنب كبيرة ـ كما ذهب إليه جمع ـ أو : انّه قد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة ـ كما ذهب إليه المشهور ـ.

٣١٧

وأمّا احتمال فسقه بهذا الخبر للكذب به فهو غير قادح ، لأنّ ظاهر قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ، تحقّق الفسق قبل النبأ ، لا به ، فالمفهوم يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقا

______________________________________________________

وعلى أي حال : فغير المعصوم ومن حذا حذوه ، أيضا داخل في مفهوم الآية ، لأنّه يوجد من ليس بفاسق ، ولم يكن معصوما ولا حاذيا حذو المعصوم.

فالتائب من الفسق سواء قلنا : بأنّ الفاسق عبارة عن مرتكب الكبائر دون الصغائر ، أو قلنا : بأنه مطلق الخارج عن الطاعة سواء كان قد ارتكب الكبيرة أو الصغيرة ، أو قلنا : بأن كل فاعل للعصيان مرتكب للكبيرة ، لأنّ كل ذنب كبيرة ، فانه على أي التقادير الثلاثة ، لا يتم الاشكال المذكور.

(و) ان قلت : الانسان الذي ليس بفاسق ، كالتائب عن الكبائر والصغائر لا يمكن أن يؤخذ بخبره لعدم إحراز عدالته الآن ، وذلك لاحتمال انّه قد فسق بسبب كذبه بهذا الخبر الذي جاء به.

قلت (أمّا احتمال فسقه بهذا الخبر للكذب به) أي : لأنّه كذب بهذا الخبر ، وان لم يكن قبل إخباره بهذا الخبر فاسقا ، لأنه تاب عن الصغائر والكبائر فرضا (فهو غير قادح) في الأخذ بخبره.

(لأنّ ظاهر قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) (١) تحقّق الفسق قبل النبأ ، لا به) أي :

لا بسبب هذا النبأ ، فاذا قلنا : النبأ جاء به الفاسق ، كان ظاهره : تحقق الموضوع وهو : الفسق قبل كونه منبئا ومخبرا ، فاذا اريد من الفسق ، تحققه بنفس هذا الخبر كان خلاف الظاهر.

إذن : (فالمفهوم) للآية المباركة (يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقا) لأنّه

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٣١٨

مع قطع النظر عن هذا النبأ واحتمال فسقه به.

هذه جملة ما أورد على ظاهر الآية ، وقد عرفت أنّ الوارد منها إيرادان ، والعمدة الايراد الأوّل الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين.

ثمّ إنّه كما استدلّ بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر غير العادل ، إذا حصل الظنّ بصدقه ، بناء على أنّ المراد بالتبيّن ما يعمّ تحصيل الظّنّ.

______________________________________________________

تاب من ذنبه السابق ، وذلك (مع قطع النظر عن هذا النبأ و) غض الطرف عن (احتمال فسقه به) أي : بسبب هذا النبأ.

(هذه جملة ما أورد على ظاهر الآية) في دلالتها على حجّية خبر العادل (وقد عرفت : انّ الوارد منها : إيرادان) وهما اللذان لا يمكن الذّب عنهما عند المصنّف (و) إن كان (العمدة) عنده هو (الايراد الأوّل ، الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين) وقد أشرنا الى انّ الايرادين أيضا ، يمكن دفعهما ، وقد ذكرنا الدفع في تقريراتنا المفصلة ، وفي الاصول.

(ثمّ إنّه كما استدلّ بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل) أو حجية خبر من ليس بفاسق وان لم يكن عادلا ، بناء على وجود الواسطة بين العدالة والفسق ، كما ألمعنا اليه قبل أسطر.

(كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّية خبر غير العادل) وهو الفاسق (إذا حصل الظنّ بصدقه) من الخارج ، أما لو حصل العلم به فالعلم هو المستند في الأخذ ، لا خبر الفاسق ، وذلك (بناء على انّ المراد بالتبيّن) الذي هو شرط للعمل بخبر الفاسق (ما يعمّ تحصيل الظّن).

٣١٩

فإذا حصل من الخارج ظن بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به.

ومن التبيّن الظنّيّ تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر أو على مضمونه أو روايته.

ومن هنا تمسّك بعض بمنطوق الآية على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، وفي حكم الشهرة أمارة اخرى غير معتبرة.

______________________________________________________

وعليه : (فاذا حصل من الخارج ظنّ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به) لأنّ التبيّن الظني من مصاديق التبيّن ، وإذا حصل الشرط حصل المشروط.

قال بعضهم : (ومن التبيّن الظنّي : تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر) بأن تمسك المشهور ، وعملوا بهذا الخبر الذي جاء به الفاسق.

(أو على مضمونه) بأن كان فتوى المشهور مطابقا لمضمون خبر الفاسق وإن لم يتمسكوا بظاهر الخبر ، فانّ في كلا الحالين ، شهرة العلماء قائمة على ما يوافق الخبر لفظا أو مضمونا ، والشهرة من المبيّنات.

(أو روايته) بان كان مشهورا بين الرّواة وإن لم يتمسك به الفقهاء ، ولم يكن فتوى المشهور على طبقه ، فانّه من المبيّنات أيضا.

(ومن هنا) أي : من جهة انّ منطوق الآية المباركة ، دال على حجّية خبر الفاسق اذا حصل الظّن بصدقه من الخارج (تمسّك بعض ، بمنطوق الآية على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة) سواء كان شهرة عملية ، أو شهرة فتوائية ، أو شهرة روائية ، وإن كان ضعيفا في السند من جهة عدم وثاقة رواته ، أو عدم معرفتنا بوثاقتهم ، أو ما أشبه ذلك.

(وفي حكم الشهرة أمارة اخرى غير معتبرة) كالاجماع المنقول ـ مثلا ـ.

٣٢٠