الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

وحرامهم حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم.

والحاصل : أنّ ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار ممّا لا ينكر ، فلا محيص عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية أو بعض الفاظها.

وممّا يدلّ على ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار استشهاد الامام عليه‌السلام بها على وجوبه في أخبار كثيرة.

______________________________________________________

وحرامهم ، حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم) فقد عرفت : انّ المحتملات الأوليّة في الآية المباركة ثلاثة ، وكان هذا أحد المحتملات.

(والحاصل : انّ ظهور الآية في وجوب التفقّه والانذار ممّا لا ينكر) لمكان الأمر في قوله سبحانه «لِيَتَفَقَّهُوا .. ولِيُنْذِرُوا» (فلا محيص عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية) عرفت : انّ السياق يدل على انّ الأمر في الجهاد ، لا في غيره ، لكن الظهور أقوى من السياق فيقدّم الظهور على السياق.

(أو) مخالفة الظاهر (بعض ألفاظها) لأنّ ظاهر ألفاظ الآية نفر الطائفة للتفقّه ، فحمله على إرادة نفرهم الى الجهاد والتفقه معا ـ كما ذكرناه ـ أو حمله على إرادة : نفرهم الى الجهاد ، وتخلف طائفة للتفقه على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ينذروا النافرين بعد رجوعهم الى المدينة ، خلاف الظاهر.

هذا ، ولكن الظاهر الذي ذكرناه ، أقوى من ذلك الظاهر ، وإذا تعارض الظاهران ، قدّم الأظهر على الظاهر.

(وممّا يدلّ على ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار : استشهاد الامام عليه‌السلام بها) أي : بالآية (على وجوبه) أي : على وجوب التفقه (في أخبار كثيرة) نذكر بعضها :

٣٤١

منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه‌السلام ، في حديث ، قال : «إنّما أمروا بالحج لعلّة الوفادة إلى الله وطلب الزيادة والخروج عن كلّ ما اقترف العبد ـ إلى ان قال ـ : ولأجل ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، إلى كلّ صفح وناحية. كما قال الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ، الآية».

______________________________________________________

(منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه‌السلام في حديث ، قال عليه‌السلام :

إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة) أي : أن يكونوا وفدا ذاهبين (إلى الله) سبحانه (وطلب الزيادة) في المال ، والعمر ، والصحة ، وما أشبه ، لأنّ الحجّ يوجب كل ذلك (والخروج عن كلّ ما اقترف) أي : ارتكبه (العبد) من ذنب ، فان الحجّ يوجب غفران الذنوب كما في النص.

(الى أن قال عليه‌السلام : ولأجل ما فيه من التفقه) حيث يلتقي زوّار بيت الله الحرام بالائمة من أهل البيت عليهم‌السلام في المدينة ، أو في مكة المكرمة ، أو في الطريق ، فيتفقهون على أيديهم (و) اذا رجعوا قاموا ب (نقل أخبار الأئمة عليهم‌السلام الى كلّ صفح) أي : منطقة (وناحية) ، والفرق بين الصفح والناحية : انّ الناحية تطلق على البلد ، والصفح يطلق على الصحراء التي فيها الخيام.

ومحل الشاهد في الرّواية : انّ الامام عليه‌السلام استشهد بالآية على وجوب التفقه ، الذي هو من غايات الحجّ حيث قال : (كما قال الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) (١)) (٢) الى آخر (الآية) فانّ التفقه والانذار اذا لم يكونا

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

(٢) ـ علل الشرائع : ج ١ ص ٣١٧ ، عيون أخبار الرضا : ج ٢ ص ١١٩ ، وسائل الشيعة : ج ١١ ص ١٣ ب ١ ح ١٤١٢١.

٣٤٢

ومنها : ما ذكره في ديباجة المعالم ، من رواية عليّ بن حمرة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : تفقّهوا في الدّين ، فإنّ من لم يتفقه منكم في الدّين فهو أعرابيّ ، فإنّ الله عزوجل يقول : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا).

ومنها : ما رواه في الكافي ، في باب ما يجب على الناس عند مضيّ

______________________________________________________

واجبين ، لم يكن وجه لجعلهما غاية للحجّ الواجب ، لما عرفت سابقا : من انّ غاية الواجب واجبة خصوصا إذا كانت الغاية فعلا للمكلف.

(ومنها : ما ذكره في ديباجة المعالم ، من رواية علي بن حمزة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : تفقهوا في الدّين ، فإنّ من لم يتفقّه منكم في الدّين فهو أعرابيّ) كناية عن الجهل ، وإشارة الى قوله سبحانه : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) (١).

والمراد بالأعرابي ـ وجمعه أعراب ـ : هم سكان البواديّ ، كما ان الظاهر : كونه أعم ممّن يتكلم بالعربية.

ثم استشهد عليه‌السلام بالآية قائلا (فانّ الله عزوجل يقول : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) (٢) ومن الواضح : انّ المراد بالتفقه : أعمّ من تفقه المجتهد أو المقلد ، ولو بالملاك أو القرينة القطعيّة ، الداخلية أو الخارجية.

(ومنها : ما رواه في الكافي ، في باب ما يجب على النّاس عند مضيّ) أي : وفاة

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٩٧.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٣١ ح ٦ ، معالم الدين : ص ٣٢.

٣٤٣

الامام عليه‌السلام ، عن صحيحة يعقوب بن شعيب : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟.

قال عليه‌السلام : أين قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ ...) الآية. قال : هم في عذر ما داموا في الطلب ، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم».

______________________________________________________

(الامام عليه‌السلام ، عن صحيحة يعقوب بن شعيب قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا حدث على الامام حدث) أي : توفي ، فان هذه العبارة إشارة الى الوفاة (كيف يصنع النّاس) وهم لا يعرفون الحجّة من بعد الامام المتوفى؟.

(قال عليه‌السلام : أين قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ ...)) الى آخر (الآية).

ثم (قال : هم في عذر) أي : إنّهم معذورون في عدم معرفة إمامهم الذي هو بعد الامام المتوفى (ما داموا في الطلب) حتى يصلوا الى المدينة ـ مثلا ـ فيعرفوا إمامهم القائم مقام الامام ـ المتوفى.

(وهؤلاء الّذين ينتظرونهم) أي : ينتظرون وصول الخبر ممّن ذهب في الطلب ، فأهل الكوفة ـ مثلا ـ حينما يبعثون جماعة الى المدينة المنورة في الطلب ، فالّذين بقوا في الكوفة (في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم) (١) النافرون بالخبر.

والظاهر : أنّ ذلك إذا لم يكن تقصير من النافرين ولا من الباقين ، في التحقيق قبل وفاة الامام السابق ، اذ الواجب : التحقيق قبل الوفاة وإلّا ف «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية» (٢) ، ممّا قد ثبت في مكانه من اصول الدّين.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٣٧٨ ح ٢.

(٢) ـ اشارة الى الحديث الوارد في الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٢١ ح ٩ والمحاسن : ص ١٥٤ ح ٨٠ والصراط المستقيم : ج ٣ ص ١١٨ وقريب منه في متشابه القرآن : ج ٢ ص ٥٠.

٣٤٤

ومنها : صحيحة عبد الأعلى قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن قول العامّة إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة. قال : حق والله. قلت : فانّ إماما هلك ،

______________________________________________________

(ومنها : صحيحة عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن قول العامّة انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من مات وليس له إمام) أي : لم يعرف الامام الذي يجب عليه طاعته في زمانه (مات ميتة جاهليّة؟) أي : كما إنّ الجاهلين كانوا لا يعرفون الأئمة وكان مصيرهم الى النّار ـ لمن كان منهم مقصرا ـ كذلك حال من مات في الاسلام وهو لا يعرف إمامة الحق.

ومن الواضح : انّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مات ميتة جاهلية» يفيد الوجوب هنا بخلاف الحديث الشريف القائل :

«من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» (١) فانّه هناك على سبيل الاستحباب.

اللهم الّا اذا كانت الوصية واجبة ممّا ذكر تفصيله في كتاب الوصية (٢).

وعليه : فانّ موتة الجاهلية كما تكون بالنسبة الى الواجبات تكون بالنسبة الى المستحبات ـ أيضا ـ وبالقرائن يعرف ما هو المراد من ميتة الجاهلية : هذا أو ذاك؟.

وعلى أي حال : فلمّا سئل من الامام عليه‌السلام ، عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا (قال : حقّ والله) وصدق.

ف (قلت : فانّ إماما هلك) أي : مات بالمدينة أو في بغداد ، أو في سامراء ـ مثلا ـ والهلاك أحيانا يطلق على المعنى السيئ ، وأحيانا على المعنى الحسن ،

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٢٥٩ ب ١ ح ٢٤٥٤٦.

(٢) ـ للمزيد راجع موسوعة الفقه : كتاب الوصية : ج ٦١ للشارح.

٣٤٥

ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه ، لم يسعه ذلك؟ قال : لا يسعه ، إنّ الامام إذا مات رفعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد ، وحقّ النّفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم انّ الله عزوجل

______________________________________________________

وهو : مطلق الموت ، كما ورد في قوله سبحانه بالنسبة الى يوسف : (حَتَّى إِذا هَلَكَ) (١).

وقال سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢).

فاذا توفي الامام بالمدينة ـ مثلا ـ (ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه) والامام بعده ، (لم يسعه ذلك) والكلام على سبيل الاستفهام أي : ألم يكن معذورا؟.

(قال عليه‌السلام : لا يسعه إنّ الإمام إذا مات رفعت حجّة وصيّه) أي : ظهر الدليل على الوصي والامام من بعده ، والرفع بمعنى الظهور ، لأنّ الشيء المرتفع يظهر للناس ، وكذلك الحجّة المرفوعة تظهر (على من هو معه في البلد) أي : من هو في بلد الامام ، فانه يظهر له ذلك بحيث يعرف الوصي والامام من بعده.

وعليه : فلا تبقى حجّة للذين هم في بلد الامام عليه‌السلام في عدم معرفتهم الوصي والامام اللاحق.

هذا بالنسبة الى من كان في بلد الامام ، وأما من كان في البلاد الاخرى ، فانه قد وجب (وحق النفر على من ليس بحضرته) أي : بحضرة الامام وفي بلده ، فانه (إذا بلغهم) مضي الامام السابق وموته وجب على جماعة منهم أن ينفروا الى بلد الامام الذي توفي فيه ليستظهروا من هو الامام والوصي من بعده.

ثم إن الامام عليه‌السلام استشهد لوجوب النفر بهذه الآية قائلا : (إنّ الله عزوجل

__________________

(١) ـ سورة غافر : الآية ٣٤.

(٢) ـ سورة القصص : الآية ٨٨.

٣٤٦

يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...) الآية.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها : «قلت : ا فيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال : عليه‌السلام أمّا أهل هذه البلدة فلا ـ يعني أهل المدينة ـ وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ،

______________________________________________________

يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...) (١)) (٢) الى آخر (الآية).

ومن المعلوم : انّ التفقه في الدين يشمل الاصول والفروع ، وشموله للاصول بطريق أولى ، وما نحن فيه من النفر إنما هو لأجل تحصيل أصل من اصول الدّين وهو : اصل الامامة ومعرفة الامام الذي يكون خلفا للامام السابق.

(ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها : قلت : أفيسع النّاس إذا مات العالم ان لا يعرفوا الذي بعده؟) أي هل انّهم معذورون في معرفة الامام اللاحق الذي يخلف الامام السابق.؟

(فقال عليه‌السلام : أمّا أهل هذه البلدة فلا).

ثم انّ محمّد بن مسلم فسّر المراد بهذه البلدة بقوله : (يعني : أهل المدينة) وذلك لأنّ أهل المدينة يمكنهم الاستعلام عن وصي الامام وخلفه فورا.

(وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم) أي أنهم معذرون الى أن يصلوا الى المدينة بأنفسهم ، أو يصل خبرهم بعد الاستعلام والرجوع الى الباقين منهم في بلدهم.

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٣٧٨ ح ٢ وهذا الحديث ذكره أحمد بن حنبل في مسنده : ج ٣ ص ٤٤٦ ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وورد في صحيح مسلم بلفظ (من مات ولم تكن في عنقه بيعة).

٣٤٧

إنّ الله عزوجل يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ ..) الى آخره».

ومنها : صحيحة البزنطيّ المرويّة في قرب الاسناد ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام.

ومنها : رواية عبد المؤمن الأنصاريّ ، الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اختلاف أمتي رحمة. قال : إذا كان اختلافهم رحمة فاتفاقهم عذاب!

______________________________________________________

ثم انّه عليه‌السلام استشهد لذلك بالآية قائلا : (إنّ الله عزوجل يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ) الى آخره) (١).

ومن الواضح : انّ مهلة قدر المسير ، إنّما هو بحسب المتعارف من السير ، فلا يلزم السرعة غير المتعارفة ، كما لا يجوز البطؤ غير المتعارف ، لأنّ الألفاظ إنّما تصب على معانيها العرفية ، فانّ أهل العرف هم الذين يتلقون الكلام ، ففهمهم معيار إرادة المتكلمين.

(ومنها : صحيحة البزنطيّ المرويّة في) كتاب (قرب الاسناد (٢) ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام) بنفس مضمون الرّواية المتقدّمة.

(ومنها : رواية عبد المؤمن الأنصاري ، الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اختلاف أمتي رحمة؟) حيث إنّ هذا الحديث مرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأل الامام عن معنى ذلك ، ثم (قال :) أي : الرّاوي معقبا سؤاله بقوله : (إذا كان اختلافهم رحمة فاتفاقهم عذاب؟) لأنّه الظاهر من مقابلة شيئين.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٣٧٩ ح ٣ ، علل الشرائع : ج ٢ ص ٣١٥.

(٢) ـ قرب الاسناد : ص ٣٥٠.

٣٤٨

ليس هذا يراد إنّما يراد الاختلاف في طلب العلم ، على ما قال الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ، الحديث منقول بالمعنى ، ولا يحضرني ألفاظه.

______________________________________________________

فاذا قيل ـ مثلا ـ النهار مضيء ، كان معناه : الليل مظلم ، وإذا قيل إنّ الماء سائل بالطبع ، كان معناه : إنّ التراب ليس كذلك ، وهكذا.

فاجاب عليه‌السلام : (ليس هذا) المعنى هو الذي (يراد ، إنّما يراد : الاختلاف) إيابا وذهابا (في طلب العلم ، على ما قال الله عزوجل ، (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) (١)) (٢) فان الاختلاف بمعنى الاياب والذهاب ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام : إنهم مختلف الملائكة ، وكما ورد : انّ اللّيل والنهار خلفة كما في القرآن الحكيم ، لأنّ أحدهما يذهب والآخر يخلفه.

ثم انّ هذا (الحديث منقول بالمعنى ، ولا يحضرني ألفاظه) والفاظه كما في العلل عن الصادق عليه‌السلام : انه قيل له عليه‌السلام انّ قوما يروون : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اختلاف أمتي رحمة؟. فقال : صدقوا.

فقيل : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟.

قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) الى آخر الآية ، فامروا أن يتفرقوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويختلفوا اليه ، فيتعلّموا ، ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم ، إنّما اراد اختلافهم من البلدان ، لا الاختلاف في دين الله إنّما الدّين واحد.

أقول : مع قطع النظر عن هذا التفسير يمكن أن يراد بالاختلاف : الأعم من

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٢٢.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٤١ ب ١١ ح ٣٣٤٢٥ (بالمعنى) ، معاني الاخبار : ص ١٥٧.

٣٤٩

وجميع هذا هو السّر في استدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم وكونه كفائيّا.

______________________________________________________

ذلك فانه قد يكون التفسير لبعض المصاديق التي تتضمنه رواية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما انّ مثل هذا التفسير المصداقي جاء في جملة من الآيات حيث انهم عليهم‌السلام كانوا يفسّرون بعض الآيات ببعض المصاديق ، وان كانت الآية ، أعم من ذلك المصداق.

وعلى أي حال : فمن الممكن أن يراد من الاختلاف : اختلافهم : في الاعمال ، حتى لا يعرفوا فيأخذوا كما في زمان التقيّة ، ولهذا قال عليه‌السلام : «أنا خالفت بينهم» (١).

أو يراد به : انّه إذا كان هناك اختلاف في الفتوى ، مع توفر شروط الاجتهاد في جميع المفتين جاز للمقلد أن يأخذ بما هو أرفق بحاله ، الى غير ذلك.

وهذا لا يتنافى مع وحدة الدّين لانه من تعدد الاجتهادات في الاحكام الفرعية ، أو إنه من قبيل اختلاف داود مع سليمان ، كما في قوله تعالى : ـ

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) (٢) الى آخر الآية.

(وجميع هذا) الّذي ذكر : من استشهاده عليه‌السلام بالآية على وجوب الطلب والبحث لمعرفة الامام عليه‌السلام ممّا هو أحد مصاديق آية النفر ـ كان (هو السّر في استدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم ، وكونه كفائيّا) لأنّ الواجب : النفر الى الامام أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سبيل الكفاية ـ كما عرفت ـ.

__________________

(١) ـ عدة الاصول : ج ١ ص ١٣٠.

(٢) ـ سورة الانبياء : الآية ٧٨.

٣٥٠

هذا غاية ما قيل ويقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة.

لكنّ الانصاف : عدم جواز الاستدلال بها من وجوه :

الأوّل : انّه لا يستفاد من الكلام إلّا مطلوبيّة الحذر عقيب الأنذار بما يتفقّهون في الجملة ، لكن ليس فيها إطلاق وجوب الحذر ، بل يمكن أن يتوقف وجوبه على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلم فيحذروا.

______________________________________________________

(هذا غاية ما قيل ويقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة) على حجّية خبر الواحد.

(لكنّ الانصاف) عند المصنّف (عدم جواز الاستدلال بها) أي : بالآية على حجّية خبر الواحد لانها لا تدل على ذلك (من وجوه) متعددة : ـ

(الأول : انّه لا يستفاد من الكلام ، الّا مطلوبيّة الحذر عقيب الانذار بما يتفقهون في الجملة) فالآية من قبيل القضايا الطبيعية ، فاذا قيل ـ مثلا ـ : الدواء الفلاني ينفع المرض الفلاني اريد به الاقتضاء ، لا العلّية التامة.

ومن هنا : فالآية دالة على الطبيعة ، بمعنى : انّ طبيعة الانذار إيجابها الحذر ، لا أنّ كلّ إنذار يتعقبه الحذر ، وقول المصنّف : «في الجملة» متعلق بقوله :

«مطلوبية الحذر».

(لكن ليس فيها) أي : في الآية المباركة (إطلاق وجوب الحذر) بأنّه كلما حصل الانذار ، لزم الحذر ووجب (بل يمكن ان يتوقف وجوبه) أي وجوب الحذر (على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلم ، فيحذروا).

وعليه : فان وجوب الحذر وإن كان مطلقا في الآية المباركة ، غير مقيد بحصول العلم ، الّا انّ التمسك بالاطلاق ، انّما يصح اذا كان المتكلم في مقام البيان من

٣٥١

فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الإنذار بما يتفقّهون ومطلوبيّة العمل من المنذرين بما انذروا. وهذا لا ينافي اعتبار العلم في العمل.

______________________________________________________

جميع الخصوصيات والجهات.

بينما ظاهر الآية انه تعالى ليس في مقام بيان هذه الجهة : من ان الحذر واجب مطلقا ، أو واجب في صورة حصول العلم ، أو غير ذلك من القيود والخصوصيات ، بل في مقام بيان وجوب الحذر إجمالا ، غاية لايجاب النفر ، والتفقه ، والانذار ، فهو كما يقول الطبيب للمريض : يجب عليك ان تشرب الدواء.

وهكذا غالب آيات القرآن ، فانها في مقام أصل التشريع ، لا في مقام بيان الخصوصيات.

وعليه : (فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الانذار ، بما يتفقهون ، ومطلوبيّة العمل من المنذرين) بالفتح (بما أنذروا) بصيغة المجهول (وهذا) المقدار أي : مطلوبية الانذار والحذر في الجملة (لا ينافي اعتبار العلم في) الحذر و (العمل) بما انذر المنذرون.

إذن : فالآية ساكتة عن هذه الجهة ، فهي مثل قوله سبحانه : ـ (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ...) (١).

حيث ان الآية في صدد بيان جواز الأكل من الصيد ، وليست الآية المباركة في مقام بيان سائر الخصوصيات حتى يقال : بانّه يحل موضوع عضّ الكلب وسائر محرمات الذبيحة في الحيوان الذي اصطاده الكلب.

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٤.

٣٥٢

ولهذا صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلم. فليس في هذه الآية تخصيص للأدلّة الناهية عن العمل بما لم يعلم ولذا

______________________________________________________

(ولهذا) أي : لعدم المنافاة بين مطلوبية الانذار والحذر وبين اعتبار علم المنذرين ـ بالفتح ـ (صح ذلك) أي : استعمال هذه الآية المباركة (فيما يطلب فيه) عقلا وشرعا (العلم) كمعرفة الامام عليه‌السلام.

ولهذا استدل الأئمة عليهم‌السلام بهذه الآية المباركة على معرفة الامام ، ومن الواضح :

انّ معرفة الامام إنّما تكون بالعلم لا بالخبر الواحد ـ كما قرر في اصول الدين ـ لأنّها يجب ان تكون عن اعتقاد وعلم ، ولا يكفي فيها مجرد الظنّ ، أو خبر الواحد ، أو الشهرة ، أو ما اشبه ذلك.

إذن : (فليس في هذه الآية) المباركة ، بعد ان عرفت سكوتها عن اعتبار حصول العلم وعدمه (تخصيص للأدلّة النّاهية عن العمل بما لم يعلم) مثل :

قوله سبحانه : ـ (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١).

وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) (٢).

وقوله عزوجل (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٣).

ولو كانت هذه الآية ، دالة على حجّية خبر الواحد وان لم يحصل العلم بسببه ، كانت هذه الآية مخصصة للآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، أو الآمرة بالعمل بالعلم ، مع إنها ليست مخصصة لها.

(ولذا) أي : لأجل إنّ مطلوبية الانذار والحذر في الآية المباركة ، لا ينافي اشتراط

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) ـ سورة النجم : الآية ٢٨.

(٣) ـ سورة محمد : الآية ١٩.

٣٥٣

استشهد الامام عليه‌السلام ، فيما سمعت من الأخبار المتقدّمة ، على وجوب النفر في معرفة الإمام عليه‌السلام ، وإنذار النافرين للمتخلّفين ، مع انّ الامامة لا تثبت إلّا بالعلم.

الثاني : انّ التفقّه الواجب ليس إلّا معرفة الأمور الواقعيّة من الدّين ،

______________________________________________________

حصول العلم للمنذرين ـ بالفتح ـ من اخبار المنذرين ـ بالكسر ـ (استشهد الامام عليه‌السلام) بهذه الآية المباركة (فيما سمعت من الأخبار المتقدّمة) التي مرّ ذكرها (على وجوب النفر في معرفة الامام عليه‌السلام و) وجوب (إنذار النّافرين) الى بلد الامام عليه‌السلام اذا رجعوا (للمتخلّفين) الذين بقوا في أوطانهم.

(مع) وضوح : (انّ الامامة لا تثبت الّا بالعلم) كما عرفت : من دلالة العقل والشرع : على انّ اصول الدين يجب فيها العلم ، والامامة من اصول الدين ـ كما هو واضح ـ.

لكن هذا الاشكال غير وارد بعد كون الآية مطلقة ، وإنما يقيد فرد من هذا المعلق ، وهو : ما نحن فيه من الامامة وسائر اصول الدين ، بقيد من الخارج ، فيما إذا أفاد ذلك القيد اشتراط لزوم العلم فيه.

أمّا كون هذه الآية مخصصة لآيات لزوم العلم ، فبالاضافة الى إمكان كون تلك الآيات في اصول الدين ـ كما يظهر من سياق بعضها ـ انّ العلمي أيضا ، يعد من العلم عرفا ، فهل يقول أحد : بلزوم العلم في كل الأحكام؟.

(الثاني) من وجوه عدم جواز الاستدلال ـ عند المصنّف ـ بالآية على حجّية خبر الواحد ، هو (: انّ التفقّه الواجب ، ليس إلّا معرفة الأمور الواقعيّة من الدّين) فانّ معنى النفر من كل فرقة طائفة للتفقّه في الدين هو : ان يعرفوا أحكام الله الواقعية التابعة للمصالح والمفاسد ، لا الأحكام الخيالية ، فانّ الألفاظ موضوعة

٣٥٤

فالانذار الواجب هو الانذار بهذه الامور المتفقّه فيها. فالحذر لا يجب إلّا عقيب الانذار بها. فاذا لم يعرف المنذر ـ بالفتح ـ أنّ الانذار هل وقع بالأمور الدينيّة الواقعيّة أو بغيرها خطاء أو تعمّدا من المنذر ـ بالكسر ـ لم يجب الحذر حينئذ ؛

______________________________________________________

للمعاني الواقعية ، فكما انّ الماء اسم للماء الواقعي ، والخبز اسم للخبز الواقعي وهكذا ، كذلك الدّين يراد به : الدّين الواقعي ، لا الدّين الخيالي ، فاللازم التفقه في أحكام الله الواقعية.

(ف) يكون (الانذار الواجب ، هو : الإنذار بهذه الامور) الواقعية : لأنّ الانذار إنّما يكون بعد التفقه في الدين الواقعي ، فالاحكام الواقعية (المتفقه فيها) يلزم انذارها.

وعليه : (فالحذر لا يجب) بمقتضى ما ذكرناه (الّا عقيب الانذار بها) أي :

بالاحكام الواقعية المذكورة ، فاذا كان التفقه بالنسبة الى الاحكام الواقعية فالانذار يكون أيضا بالنسبة الى الاحكام الواقعية ، وبعد ذلك يأتي دور العمل ـ وهو الحذر فيكون أيضا بالأحكام الواقعية.

(فاذا لم يعرف المنذر ـ بالفتح ـ انّ الانذار ، هل وقع بالامور الدينية الواقعيّة ، أو بغيرها؟) أي : بغير تلك الامور من الأحكام الخيالية ، سواء كان الانذار بغير الأحكام الواقعية (خطأ أو تعمدا) للخطإ (من المنذر ـ بالكسر ـ) فانه (لم يجب) على المنذر بالفتح ـ (الحذر حينئذ).

وذلك لوضوح انّ الحكم إنما يتبع الموضوع الواقعي ، لا الموضوع الخيالي ، فاذا لم يحرز المنذر ـ بالفتح ـ كون الانذار بالامور الواقعية ، لا يتنجز عليه وجوب الحذر.

٣٥٥

فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة ، فهو نظير قول القائل : أخبر فلانا بأوامري ، لعلّه يمتثلها.

فهذه الآية نظير الأمر بنقل الرّوايات ، فانّ المقصود من هذا الكلام ليس إلّا العمل بالامور الواقعيّة ، لا وجوب تصديقه فيما يحكي ولو لم يعلم مطابقته للواقع. ولا يعدّ هذا ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظنّي الصادر من المخاطب في الأمر الكذائيّ.

______________________________________________________

(فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر) ـ بالفتح ـ (صدق المنذر) ـ بالكسر ـ (في إنذاره بالأحكام الواقعيّة فهو) أي : الأمر بالانذار في هذه الآية المباركة (نظير قول القائل : أخبر فلانا بأوامري ، لعلّه يمتثلها) فانّ الظاهر من هذا الأمر ، هو : ارادة الآمر : امتثال فلان لأوامره الواقعية ، لا لأوامره الخيالية.

وايضا (فهذه الآية نظير الأمر بنقل الرّوايات ، فانّ المقصود من هذا الكلام) أي : مقصود الرسول والائمة عليهم‌السلام من أمرهم بنشر الأحكام بين المسلمين (ليس الّا) إيصال الواقعيات الى المسلمين و (العمل) منهم (بالأمور الواقعيّة لا وجوب تصديقه في ما يحكي) عن المعصوم تعبدا (ولو لم يعلم مطابقته للواقع).

فان أمرهم عليهم‌السلام اصحابهم بنقل الروايات ، يقصدون به : وصول الأحكام الالهية الى الناس ، ليعملوا بالأحكام الواقعية ، فيفوزوا بالمصالح الخفية الكامنة في تلك الأحكام ، وليس المقصود من مثل هذه العبارة : جعل الحجّية وإيجاب العمل بخبر الواحد ـ كما استدل به القائل بدلالة الآية على ذلك ـ.

(ولا يعدّ هذا) أي : وصول الخبر الى الناس ووجوب تصديقهم له تعبدا بدون علمهم بأنّ الخبر مطابق للواقع ، أم لا (ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظنّي ، الصادر من المخاطب في الأمر الكذائي).

٣٥٦

ونظيره جميع ما ورد من بيان الحقّ للناس ووجوب تبليغه إليهم ، فانّ المقصود منه اهتداء الناس إلى الحق الواقعيّ ، لا إنشاء حكم ظاهريّ لهم بقبول كلّ ما يخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع.

______________________________________________________

والمراد بالمخاطب : هم نقلة الرّوايات الذين أمرهم المعصومون عليهم‌السلام بنقل رواياتهم الى الناس ، فانّ المتبادر منه : انهم عليهم‌السلام لم يقصدوا بذلك وجوب العمل بالخبر الظنيّ الصادر من هؤلاء الرواة ليكون المناط وجوب العمل بمثل هذا الخبر الظنيّ تعبدا ، بل المتبادر عرفا من أمرهم عليهم‌السلام بنقل الرّوايات للناس : وجوب العمل بالامور الواقعية.

(ونظيره) أي : نظير ما مرّ من الكلام بالنسبة الى الأمر بالتفقه والانذار ، في الآية المباركة ، (جميع ما ورد من) وجوب (بيان الحق للنّاس ووجوب تبليغه إليهم) وحرمة كتمان الحق ، كقوله سبحانه :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ ، أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ، وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١).

(فانّ المقصود منه) أي : من بيان الحق ، ووجوب تبليغه ، وحرمة كتمانه (اهتداء الناس الى الحقّ الواقعي ، لا) المقصود : جعل الحجّية ، و (إنشاء حكم ظاهري ، لهم بقبول كل ما يخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع).

وفيه : انّ ظاهر أخبر فلانا لعلّه يحذر : طلب الأمر الحذر من فلان عقيب الاخبار ، فلو لم يحذر ، بأن لم يعمل بمقتضى خبر المنذر ـ بالكسر ـ معتذرا : بانه لم يحصل له العلم بصدق المخبر ، رآه العقلاء آثما بتركه العمل ، مستحقا

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٥٩.

٣٥٧

ثمّ الفرق بين هذا الايراد وسابقه : أنّ هذا الايراد مبنيّ على أنّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلّم بالحذر عن الأمور الواقعيّة المستلزم لعدم وجوبه إلّا بعد إحراز كون الانذار متعلّقا

______________________________________________________

للعقاب ، وليس معنى ذلك : إنشاء الحكم الظاهري ، بل التنجيز والاعذار.

ومن ذلك يعرف : وجه الرد والقبول في قول الأوثق حيث قال :

فان هذا الايراد في غاية الضعف ، اذ بعد كون المراد بالحذر : وجوب العمل والقبول ، وبالانذار : إبلاغ الحكم مطلقا ـ كما عليه مبنى هذا الايراد ـ لا : ابلاغه على وجه التخفيف ـ كما عليه مبنى الايراد الثالث ـ فلا ريب في ظهور الآية : في انشاء حكم ظاهري لوجوب التعبد بخبر المنذرين ، لأنها حينئذ نظير قولك لزيد : اذا أخبرك عمرو بأمري ، يجب عليك امتثاله.

وأمّا تنظيره على قول القائل : أخبر فلانا بأوامري ، لعله يمتثلها ، فهو قياس مع الفارق ، لأنّ القياس أن يخاطب نفس فلان ، كما مثلنا به ، لعدم اختصاص الخطاب في الآية بالمنذرين.

وأما قياسه على جميع ما ورد من بيان الحق للناس ، ففيه : انّ الأمر ببيان الحق للناس غير أمر الناس بالعمل بما يخبر به المخبر ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، دون الأول ، لسكوته عن كيفية العمل رأسا (١).

(ثمّ الفرق بين هذا الايراد وسابقه : انّ هذا الايراد مبني على انّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلم : بالحذر عن الامور الواقعيّة المستلزم) ذلك الحذر عن الامور الواقعية (لعدم وجوبه) أي : الحذر (إلّا بعد إحراز كون الانذار متعلّقا

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ١٥٧ دلالة آية النفر على حجيّة خبر الواحد.

٣٥٨

بالحكم الواقعيّ. وأمّا الايراد الأول فهو مبنيّ على سكوت الآية عن التعرّض لكون الحذر واجبا على الاطلاق أو بشرط حصول العلم.

الثالث : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا عند إنذار المنذرين ولو لم يفد العلم ، لكن لا يدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث انّه خبر ،

______________________________________________________

بالحكم الواقعي) ممّا يدل على وجوب حصول العلم للمنذرين ـ بالفتح ـ حتى يعملوا بأخبار المنذرين ـ بالكسر ـ.

(وأمّا الايراد الأوّل : فهو مبني على سكوت الآية عن التعرض ، لكون الحذر واجبا على الاطلاق ، أو بشرط حصول العلم) فالآية لا إطلاق لها ، وتقيد بما دلّ على لزوم تحصيل العلم.

أمّا الايراد الثاني : فهو في انّ اللازم : العمل بالأحكام الواقعية ، فما لم يعلم المكلّف بالحكم الواقعي ، لم تكن للآية دلالة على وجوب العمل عليه.

وإن شئت قلت : انّ الاشكال الأول : يقيّد العمل بالعلم ، والاشكال الثاني : يقيّد العمل بما كان الحكم واقعيا.

(الثالث) من وجوه عدم جواز الاستدلال ـ عند المصنّف ـ بآية النفر على حجّية خبر الواحد ، هو (: لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا ، عند إنذار المنذرين ولو لم يفد العلم) وقوله : «ولو لم يفد» بيان قوله : «مطلقا» أي : سواء أفاد العلم أو لم يفد العلم ، فانه يجب على السامعين الحذر عند إنذار المنذرين.

(لكن لا يدل على وجوب العمل بالخبر ، من حيث إنّه خبر) اصطلاحي ، فان الآية أخص من المدّعى ، لأنّ المدعى : كل خبر واحد حجّة بينما الآية تدل على

٣٥٩

لأن الانذار هو الابلاغ مع التخويف. فانشاء التخويف مأخوذ فيه ، والحذر هو التخوّف الحاصل عقيب هذا التخويف ، الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلا ، ومن المعلوم أنّ التخويف لا يجب الّا على الوعّاظ في مقام الإيعاد على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة ، كما يوعد على شرب الخمر وفعل الزنا وترك

______________________________________________________

حجّية الخبر المقرون بالانذار.

وذلك (لأنّ الانذار هو : الابلاغ مع التخويف ، فانشاء التخويف مأخوذ فيه) أي : في الانذار ، فاذا كان هناك خبر مع تخويف ، وجب قبوله ـ حسب الآية المباركة ـ أمّا اذا كان خبر بلا تخويف ، لم يكن الانذار شاملا له ، فلا تدل الآية على حجّية هذا الخبر ، الخالي من الانذار.

(والحذر هو : التخوّف الحاصل عقيب هذا التخويف) فاذا لم يكن انذار ، لم يكن حذر ، وإذا لم يكن حذر ، لم يكن الواجب : التحذر ، وهذا التخوف هو : (الداعي الى العمل بمقتضاه) أي : بمقتضى التخويف (فعلا) وفي حال التخويف.

(ومن المعلوم : ان) الابلاغ مع (التخويف لا يجب إلّا على الوعّاظ في مقام) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و (الإيعاد) بالعقاب والعذاب (على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة).

فاذا علم الناس الواجبات والمحرمات وعظهم الوعاظ : بأنّه يجب عليكم العمل بهذه الواجبات ، وترك هذه المحرمات ، وإلّا كان ورائكم عقاب وعذاب ، وجهنم ونار.

فيكون المعنى على هذا : ليتعظ السامعون ويعملوا بما علموا من الأحكام الواجبة عند انذار المنذرين لهم (كما يوعد على شرب الخمر ، وفعل الزّنا ، وترك

٣٦٠