الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-02-3
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤١٦

فاختصاص الفاسق بوجوب التعرّض بخبره والتفتيش عنه دون العادل لا يستلزم كون العادل أسوأ حالا ، بل مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق ، فتأمّل.

______________________________________________________

(فاختصاص الفاسق بوجوب التعرّض بخبره ، والتفتيش عنه) أي : عن خبره (دون العادل لا يستلزم كون العادل أسوأ حالا) من الفاسق ، لأنه في غير مقام العمل يجب وجوبا نفسيّا التبيّن عن خبر الفاسق ، ولا يجب بالنسبة الى خبر العادل ، وفي مقام العمل هما متساويان ، حيث يحتاج الى التبيّن في خبر العادل وخبر الفاسق معا.

وبهذا لم يكن مزيّة لخبر الفاسق على العادل (بل) العكس (مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق) فانه إذا لم يكن يريد العمل وجب عليه التبيّن في خبر الفاسق ، ولم يجب عليه التبيّن في خبر العادل ، وهذه مزية لخبر العادل ، اذ في التبيّن نوع استخفاف ، وربّما كان مستلزما لهتك المخبر ، فانه في الفاسق يكون التبيّن معرضا له للهتك ، بينما في خبر العادل لم يجب نفسيّا التبيّن ، فلا يكون العادل معرضا للهتك.

(فتأمّل) لعله إشارة الى إنّه في غير مقام العمل ، يزداد الاعتناء بخبر الفاسق بسبب التبيّن ، دون خبر العادل الذي يترك بلا تبيّن ، فاذا تبيّن في خبر الفاسق وظهر صدقه ، صار ذلك موجبا لاحترام الناس له ، باعتبار إنه صادق بينما لا يتبيّن عن خبر العادل ، فلا يظهر صدقه في خبره ، ممّا يوجب مزيد احترام الناس له.

وعليه : فيكون خبر الفاسق ، أولى عند الناس من خبر العادل ، بسبب التبيّن النفسيّ في خبر الفاسق ، وليس هذا التبيّن النفسيّ موجودا في خبر العادل ، بل وجوب التبيّن فيه شرطيّ ومقدمة للعمل.

٢٤١

وكيف كان ، فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيف وعشرين ، إلّا أنّ كثيرا منها قابلة للدّفع ، فلنذكر ، أوّلا ما لا يمكن الذّبّ عنه ، ثمّ نتبعه بذكر بعض ما أورد من الايرادات القابلة للدّفع.

أمّا ما لا يمكن الذبّ عنه

فإيرادان : أحدهما : أنّ الاستدلال إن كان راجعا إلى اعتبار مفهوم الوصف أعني الفسق ، ففيه : أنّ المحقّق في محلّه عدم اعتبار المفهوم في الوصف ،

______________________________________________________

(وكيف كان ، فقد أورد على الآية) أي : على دلالة آية النبأ على حجّية خبر الواحد (إيرادات كثيرة ، ربما تبلغ إلى نيف وعشرين) والنيف : على وزن : «سيّد» ما زاد على العقد المذكور ، وهو هنا : عشرين ، حتى يبلغ العقد الآخر : ثلاثين ، فيمكن أن يكون تسع وعشرين ، أو ثمان وعشرين ، أو سبع وعشرين ، وهكذا (إلّا إنّ كثيرا منها) أي : من هذه الايرادات (قابلة للدّفع ، فلنذكر أولا ما لا يمكن الذّب عنه) ممّا يوجب الخدشة في دلالة الآية على حجّية خبر الواحد (ثم نتبعه بذكر بعض ما أورد من الايرادات القابلة للدّفع).

وإنما نقدم الايرادات ، التي لا يمكن الذبّ عنها فمن جهة ظهور عدم دلالة الآية على مقصود المجوزين.

ما لا يمكن الذبّ عنه

(أمّا ما لا يمكن الذبّ عنه ، فايرادان : أحدهما : إنّ الاستدلال ، إن كان راجعا الى اعتبار مفهوم الوصف ، أعني : الفسق) ليكون مفهوم (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) : ان جاءكم غير الفاسق.

(ففيه : انّ المحقّق في محلّه ، عدم اعتبار المفهوم في الوصف) خصوصا اذا لم يعتمد على الموصوف ـ كما في الآية المباركة.

٢٤٢

خصوصا في الوصف الغير المعتمد على موصوف محقّق ، كما فيما نحن فيه ، فانّه أشبه بمفهوم اللقب.

______________________________________________________

اذ قد يقول : إن جاءكم شخص فاسق ، وهذا مختلف فيه ، بأنه هل يدلّ الوصف على المفهوم أم لا؟.

وقد يقول : إن جاءكم الفاسق ، فان المشهور عدم المفهوم لمثل هذا الوصف ، وإنما ذكر الوصف من باب الموضوع ، ومن المعلوم : ان الموضوع لا يدلّ على طرد سائر المواضيع.

فاذا قال : أكرم زيدا لم يدل على عدم إكرام عمرو ، وكذا إذا قال : أكرم العادل ، لم يدلّ على عدم إكرام غير العادل ، والى هذا المعنى أشار بقوله ب (خصوصا في الوصف غير المعتمد على موصوف محقق ـ كما فيما نحن فيه ـ) فانه وإن كان للوصف موصوف مقدّر ، لكن ما دام لم يكن الموصوف محقّقا في الكلام ، لم يكن للوصف الذي هو مناط الحكم إيجابا وسلبا ، دلالة على عدم الحكم في غير هذا الوصف.

ووجه الخصوصية التي ذكرها المصنّف : انّ الوصف إذا ذكر مجردا عن الموصوف ، لا يكون قيدا زائدا احترازيا ، بل يكون لمجرد بيان الحكم ، فعدم المفهوم له أظهر ممّا اذا كان الوصف معتمدا على موصوف مذكور.

(فانّه) أي : الوصف غير المعتمد على الموصوف (أشبه بمفهوم اللّقب).

والمراد باللقب : ما يتعلق الحكم على الاسم ، كما إذا قال : زيدا أكرمه ، وعمروا أضفه ، وما أشبه. فانه لا مفهوم لها حتى يقال : إنّ زيدا أكرمه ، يكون مفهومه : إن عمروا لا تكرمه ، أو عمروا أضفه ، يكون مفهومه : انّ زيدا لا تضفه.

إذن : فتعليق الحكم على الوصف ، المجرد عن الاعتماد على الموصوف ، حاله

٢٤٣

ولعل هذا مراد من أجاب عن الآية ، كالسيّدين وأمين الاسلام والمحقّق والعلّامة وغيرهم ، بأنّ هذا الاستدلال مبنيّ على دليل الخطاب ولا نقول به.

وإن كان باعتبار مفهوم الشرط ، كما يظهر من المعالم والمحكي عن

______________________________________________________

حال اللّقب ، في أنه لا مفهوم له.

وهذا بخلاف ما اذا كان الوصف معتمدا على الموصوف مثل : أكرم الرجل العالم ، حيث يستشمّ منه المفهوم ، ببيان : انه اذا لم يكن له مفهوم ، وانه لا يكرم الرجل الجاهل ، لم يكن وجه لتقييد الرجل بالعالم ، فالتقييد يظهر منه : انه يريد إكرام الرجل العالم فقط لا الرجال الجاهل.

(ولعلّ هذا) أي : عدم اعتبار مفهوم الوصف ، وإن دلالة الآية على حجّية خبر الواحد مبنيّة على حجّية مفهوم الوصف (مراد من أجاب عن) دلالة (الآية) على حجّية خبر الواحد (كالسيّدين) المرتضى ، وابن زهرة (وأمين الاسلام) الطبرسيّ ، صاحب مجمع البيان (والمحقّق ، والعلّامة ، وغيرهم : بأنّ هذا الاستدلال ، مبنيّ على دليل الخطاب).

أي : الاستدلال بآية النبأ على حجّية خبر الواحد ، موقوف على اعتبار مفهوم المخالف في الوصف ، (ولا نقول به) أي : لا نقول بأنّ للوصف مفهوما ، فلا يمكن الاستدلال بالآية ، على حجّية خبر الواحد العادل من جهة مفهوم الآية.

(وان كان) الاستدلال بالآية المباركة على حجّية خبر الواحد (باعتبار مفهوم الشرط) بأن يكون مفهوم (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) إنّه ان لم يجيء الفاسق ، فلا تتبيّنوا كما إذا قال : إن جاءك زيد فاكرمه ، حيث انّ مفهومه : ان لم يجئك فلا تكرمه (كما يظهر) ذلك (من المعالم ، والمحكي عن

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٢٤٤

جماعة ، ففيه : أنّ مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، وعدم التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبيّن. فالجملة الشرطيّة هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ،

______________________________________________________

جماعة) من الأصوليين حيث استدلوا بالآية على مفهوم الشرط ، لا مفهوم الوصف.

(ففيه : انّ) الشرط قد يكون له مفهوم ، وقد لا يكون له مفهوم ، فاذا كان للشيء حالتان ، يكون هناك المفهوم على خلاف المنطوق ، أمّا اذا لم يكن للشيء حالتان ، وإنّما حالة وجود وعدم ، فلا يكون له المفهوم.

مثلا : اذا قال : «الماء إذا بلغ قدر كرّ ، لم ينجّسه شيء» (١) كان مفهومه : انه اذا لم يبلغ قدر كرّ ، ينجّسه بعض الأشياء ، لأن الماء موجود في كلا الحالتين : الكريّة ، وعدم الكريّة.

أما إذا كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مفهوم له ، وكان من قبيل : إذا رزقت ولدا فاختنه ، فانه إذا لم يرزق الولد ، فلا محل للاختتان أصلا.

وما نحن فيه ، من هذا القبيل ، فانه إذا لم يجيء الفاسق بالخبر ، فلا خبر حتى يتبيّن عنه أو لا يتبيّن ، فان (مفهوم الشرط) وهو هنا : عدم وجوب التبيّن ، عند (عدم مجيء الفاسق بالنبإ و) هو يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، فان (عدم التبيّن هنا ، لأجل عدم ما يتبيّن) عنه ، لأنه اذا لم يجيء الفاسق بالخبر ، لم يكن هناك خبر حتى يتبيّن عنه.

إذن : (فالجملة الشرطيّة هنا) لم يؤت بها لأجل المفهوم ، بل هي (مسوقة لبيان تحقّق الموضوع) أي : موضوع وجوب التبيّن ، فانه إذا كان هناك خبر فاسق ،

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ٣ ص ٢ ح ١ وح ٢ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١٥٠ ب ٦ ح ١١٨ ، الاستبصار : ج ١ ص ٦ ب ١ ح ١ وح ٢ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ١٥٨ ب ٩ ح ٣٩١.

٢٤٥

كما في قول القائل : إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن ركب زيد فخذ ركابه ، وإن قدم من السفر فاستقبله ، وإن تزوجت فلا تضيّع حقّ زوجتك ، واذا قرأت الدّرس فاحفظه.

قال سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ، و : (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) ،

______________________________________________________

تحقق الموضوع للتبيّن ، أما اذا لم يكن خبر ، فلا موضوع حتى يتبين أو لا يتبيّن.

وعليه : فيكون الشرط في الآية المباركة (كما في قول القائل : إن رزقت ولدا فاختنه) فانّ موضوع وجوب الاختتان يتحقّق بالولد ، فاذا لم يكن ولد ، لم يكن موضوع للاختتان ، فليس مفهوم : إن رزقت ولدا فاختنه ، ان لم ترزق ولدا فلا تختنه.

(و) كذلك مثل (إن ركب زيد فخذ ركابه) فان وجوب أخذ الركاب ، يتحقّق عند ركوب زيد ، وليس له مفهوم ، بأنّه : ان لم يركب فلا تأخذ ركابه ، لوضوح انّه إن لم يركب فلا ركاب له ، حتى يؤخذ أو لا يؤخذ ، والمراد بالرّكاب : الرّكاب الذي يوضع فيه الرجل ، لا مجرد الحديد.

وهكذا قوله : (وان قدم) زيد (من السفر فاستقبله ، وإن تزوجت فلا تضيّع حق زوجتك ، وإذا قرأت الدّرس فاحفظه) فانّه اذا لم يقدم من السفر ، لا استقبال له ، واذا لم يتزوج ، فلا زوجة له ، حتى يضيّع حقها أو لا يضيعه ، واذا لم يقرأ الدرس ، فلا موضوع للحفظ وعدم الحفظ.

ومن هذا القبيل يكون ما (قال سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (١) و (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ ، فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (٢)) فاذا لم يقرأ القرآن ، لم يكن موضوع للاستماع والإنصات ، وإذا لم تكن تحية ، فلا موضوع

__________________

(١) ـ سورة الاعراف : الآية ٢٠٤

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٨٦.

٢٤٦

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

ومما ذكرنا ظهر فساد ما يقال : تارة إنّ عدم مجيء الفاسق يشمل ما لو جاء العادل بنبإ فلا يجب تبيّنه فيثبت المطلوب ، وأخرى إنّ جعل مدلول الآية هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق لأجل عدمه ، يوجب حمل السّالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو خلاف الظّاهر.

______________________________________________________

للرّد بأحسن منها ، أو مثلها (الى غير ذلك ممّا لا يحصى) من الأمثلة.

(وممّا ذكرنا :) من انّ الشرط إذا كان مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع فهو يساق لبيان الموضوع ، لا لأخذ المفهوم منه ، لأنّه يكون من باب مفهوم اللّقب ، ولا مفهوم له ، تبيّن : انّه لا مفهوم لآية النبأ ، حتى تدل الآية على قبول خبر العادل.

وبذلك (ظهر فساد ما يقال) لأجل إفادة الآية المفهوم (تارة : إنّ عدم مجيء الفاسق) له فردان : ـ

فرد عدم مجيء فاسق بنبإ أصلا ، فيشمله ، وأيضا (يشمل) الفرد الآخر وهو : (ما لو جاء العادل بنبإ ، فلا يجب تبيّنه) أي تبيّن خبر العادل (فيثبت المطلوب) وهو : ان للآية مفهوما ، والمصنّف بقوله : «تارة» يريد بيان : انّ مفهوم الآية له فردان ، أحد فرديه مستلزم لحجّية خبر العادل.

(و) تارة (أخرى : إنّ جعل مدلول الآية ، هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق ، لأجل عدمه) أي : عدم الخبر (يوجب حمل السالبة ، على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو : خلاف الظّاهر) لأنّ السّالبة غالبا ، تكون بانتفاء المحمول ، لا بانتفاء الموضوع ، فان عدم مجيء الفاسق بالنبإ له احتمالان : ـ

الأوّل : أن يكون المراد منها : عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، مع السكوت عن مجيء العادل وعدمه ، وهذا لا يكون له مفهوم.

٢٤٧

وجه الفساد : أنّ الحكم إذا اثبت بخبر الفاسق ، بشرط مجيء الفاسق به كان المفهوم بحسب الدلالة العرفيّة ، أو العقليّة ، انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه

______________________________________________________

الثاني : أن يكون المراد منه : مجيء العادل بالنبإ ، وحيث انّ الاحتمال الأوّل ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ وهو مجاز ـ يحمل الآية المباركة على الثاني ، وهو : مجيء العادل بالنبإ ، فيتم المطلوب من دلالة الآية على حجّية خبر العادل.

وأما (وجه الفساد) في التقرير الأول ، فهو : إنّ المفهوم ، هو المنطوق مع سلب أو إيجاب مخالف للمنطوق ، فاذا قال : إن جاءك زيد فاكرمه ، كان مفهومه :

إن لم يجئك زيد فلا تكرمه ، لا انّ المفهوم يكون حكما على موضوع جديد ، غير مذكور في المنطوق ، فلا يكون مفهوم إن جاءك زيد : ان لم يجئك عمرو.

وعليه : فكيف قلتم : ان المفهوم لقوله سبحانه : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) هو : ان جاءكم عادل؟ فمن أين يأتي العادل في المفهوم ، وهو ليس بمذكور في المنطوق؟.

ف (انّ الحكم) أي : وجوب التبيّن المذكور في الآية المباركة (اذا ثبت بخبر الفاسق ، بشرط مجيء الفاسق به) بأن كان معنى المنطوق : إن جاءكم فاسق بنبإ ، فتبيّنوا في خبر الفاسق (كان المفهوم بحسب الدّلالة العرفيّة ، أو العقليّة).

وإنّما قال : العرفيّة أو العقليّة ، لأن بعضهم ذهب الى أنّ دلالة اللّفظ على المفهوم ، من باب الدّلالة العرفيّة ، وبعضهم ذهب الى انّ الدلالة المفهوميّة هي دلالة عقلية ، أي : يراها العقل لا العرف.

فالمفهوم هو (انتفاء الحكم المذكور في المنطوق) أي : انتفاء وجوب التبيّن الذي ذكر في منطوق الآية المباركة (عن الموضوع المذكور فيه) أي : في نفس

٢٤٨

عند انتفاء الشرط المذكور فيه ، ففرض مجيء العادل بنبإ عند عدم الشرط ـ وهو مجيء الفاسق بالنبإ ـ لا يوجب انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به ، لأنّه لم يكن مثبتا في المنطوق حتّى ينتفي في المفهوم.

فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلا لغير السالبة بانتفاء الموضوع ،

______________________________________________________

المنطوق ، وهو : خبر الفاسق ، وله حالتان : حالة المنطوق وحالة المفهوم ، لا أن يكون هناك خبر الفاسق في المنطوق وخبر العادل في المفهوم ، فان حكم التبيّن ينتفي (عند انتفاء الشرط المذكور) وهو : مجيء الفاسق بالخبر (فيه) أي : في المنطوق بمعنى : التبيّن لعدم مجيء الفاسق لا انّه لمجيء العادل (ففرض مجيء العادل بنبإ عند عدم الشرط و) الشرط (هو : مجيء الفاسق بالنبإ) فاذا لم يجيء الفاسق لم يكن تبيّن ، وهذا (لا يوجب انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به).

وذلك (لأنه) أي : لأن مجيء العادل بالنبإ (لم يكن مثبتا في المنطوق ، حتى ينتفي في المفهوم) فمجيء الفاسق وعدم مجيئه محوران في المنطوق ، والمفهوم ، لا أنّ المحور في المنطوق : مجيء الفاسق ، والمحور في المفهوم : مجيء العادل.

وعلى هذا : (فالمفهوم في الآية وأمثالها ليس قابلا لغير السالبة بانتفاء الموضوع) وبذلك يتحقق إنّه لا مفهوم للآية المباركة ، بل الآية من قبيل : ان رزقت ولدا فاختنه وغيره من الأمثلة المتقدمة.

هذا تمام الكلام على الاشكال في التقرير الأول ، حيث قال المصنّف : «ظهر فساد ما يقال تارة ..».

٢٤٩

وليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أو لانتفاء الموضوع.

الثاني : ما أورده ، في محكيّ العدّة والذّريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من أنّا لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : إنّ مقتضى عموم التعليل وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبر

______________________________________________________

(و) أمّا وجه الفساد في التقرير الآخر الذي ذكره المصنّف بقوله : «واخرى ان جعل مدلول الآية» ، فهو انّه (ليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة ، دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود ، أو لانتفاء الموضوع) فانه لا وجه في المفهوم هنا ، الّا السالبة بانتفاء الموضوع ، وليس يحتمل السالبة بانتفاء المحمول.

وذلك لأن الآية المباركة لم تكن من قبيل : ليس زيد عالما ، حيث يحتمل أن لا يكون وجود لزيد أصلا ، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع ، وأن يكون له وجود ، لكن ليس بعالم حتى يكون من السالبة بانتفاء المحمول ، لأنّه اذا لم يأت الفاسق بالنبإ ، فلا نبأ أصلا ليرتبط بالفاسق ، الذي ذكر في المنطوق ، وهو سالبة بانتفاء الموضوع فقط.

(الثاني :) من الايرادين ، الّذين اوردا على دلالة آية النبأ لحجّية خبر الواحد ، ممّا لم يمكن ـ حسب قول المصنّف ـ الذبّ عنهما (ما أورده في محكيّ العدّة) للشيخ (والذّريعة) للسيّد المرتضى (والغنية) للسيّد ابن زهرة (ومجمع البيان) للطبرسيّ (والمعارج) للمحقّق (وغيرها : من انّا لو سلّمنا ، دلالة المفهوم على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم ، لكن نقول : انّ مقتضى عموم التعليل : وجوب التبيّن في كلّ خبر ، لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به ، وإن كان المخبر

٢٥٠

عادلا ، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل.

لا يقال : إنّ النسبة بينهما وإن كان عموما من وجه ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي خبر العادل ، الغير المفيد للعلم ، لكن يجب تقديم عموم المفهوم ، وإدخال مادّة الاجتماع فيه.

______________________________________________________

عادلا).

فان عموم التعليل ، أقوى من خصوص المورد ، وكل ما كان عموم التعليل أقوى كان حكم التعليل جاريا في غير المورد ، فهو مثل أن يقول : لا تأكل الرّمان لأنه حامض ، حيث يدلّ صدره على خصوص الرّمان ، وذيله وهو التعليل على إنّ كل حامض لا يجوز أكله ، كذلك الآية ، فمقتضى الصدر فيها : حجّية خبر العادل ، ومقتضى التعليل فيها : عدم الحجّية مطلقا ، لأن احتمال وقوع الندم يعمّ خبر العادل والفاسق ، فاللازم أن لا يؤخذ بخبره العادل أيضا لهذا العموم.

وعليه : (فيعارض) عموم التعليل (المفهوم) لأن المفهوم يقول خذ بخبر العادل ، وعموم التعليل يقول ، لا تأخذ بخبره (والترجيح مع ظهور التعليل) فان علّة الحكم ، توجب وجود الحكم في كل مورد وجدت العلّة ، سواء كان موردا للتعليل ، أو لم يكن موردا له.

(لا يقال : انّ النسبة بينهما وإن كان عموما من وجه) اذ مقتضى المفهوم : حجّية خبر العادل مطلقا ، سواء أورث العلم أو الظنّ ، ومقتضى التعليل : عدم حجّية الخبر الواحد مطلقا ، عادلا كان المخبر أو فاسقا (فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي خبر العادل ، غير المفيد للعلم) فهو لكونه عادلا يؤخذ بخبره ، ولكونه غير مفيد للعلم لا يؤخذ بخبره ، ومقتضى المفهوم : حجّيته ، ومقتضى التعليل : عدم حجّيته.

(لكن يجب تقديم عموم المفهوم ، وإدخال مادّة الاجتماع فيه) أي : في عموم

٢٥١

إذ لو خرج عنه وانحصر مورده في خبر العادل المفيد للعلم كان لغوا ، لأنّ خبر الفاسق المفيد للعلم أيضا واجب العمل ، بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، فيكون المفهوم اخصّ مطلقا من عموم التعليل.

______________________________________________________

المفهوم ، حتى يؤخذ بخبر العادل ولو كان ظنّيا.

وإنّما يجب إدراج مادة الاجتماع في المفهوم (اذ لو خرج) مادة الاجتماع (عنه) أي : عن المفهوم (وانحصر مورده) أي مورد المفهوم (في خبر العادل المفيد للعلم) فقط (كان) المفهوم (لغوا) فانّا لو أدرجنا خبر العادل الظنّي في التعليل ، بان لم يكن حجّة ، لزم لغوية المفهوم (لأنّ خبر الفاسق المفيد للعلم ، أيضا واجب العمل).

وذلك لوضوح : انّ حجّية الخبر العلمي سواء كان المخبر عادلا أو فاسقا ، من الامور القطعية ، ولا يحتاج حجّيته الى دلالة مفهوم الآية ، فيلغو المفهوم رأسا ، فاللازم ـ حذرا عن اللغوية ـ حمل التعليل على خبر الفاسق ، وادراج مادة الاجتماع وهو خبر العادل الظني ، في المفهوم ، مما يكون حجّة.

(بل) يمكن أن يقال : انّه ليس التعارض بين المنطوق والمفهوم ، من التعارض في العموم من وجه ، بل من التعارض في العموم المطلق ، لأنّ (الخبر المفيد للعلم) سواء كان صادرا من الفاسق ، أو من العادل (خارج عن المنطوق والمفهوم معا) اذ الخبر العلمي لا يمكن إسقاطه ، كما لا يمكن إثباته بحجّية جعلية.

وعليه : (فيكون المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل) فانّ التعليل : يدل على عدم حجّية الخبر الظنّي مطلقا ، والمفهوم : يدل على حجّية خبر العادل

٢٥٢

لأنّا نقول : ما ذكره أخيرا من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل مسلّم ، إلّا أنّا ندّعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل الغير العلميّ وظهور الجملة الشرطيّة او الوصفيّة في ثبوت المفهوم.

فطرح المفهوم والحكم بخلوّ الجملة

______________________________________________________

الظنّي ، فيكون المفهوم مخصصا للتعليل.

وعلى هذا : فان قلنا انّ بين التعليل والمفهوم عموما من وجه ، أدرجنا مادة الاجتماع في المفهوم.

وإن قلنا : انّ بينهما عموما مطلقا ، يكون المفهوم أخص مطلقا.

وعلى كلا الحالين : يكون خبر العادل الظنّي حجّة ، وهو ما يراد إثباته بآية النبأ.

(لأنّا نقول : ما ذكره) المستشكل (أخيرا : من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل ، مسلّم) فهما متعارضان بالعموم والخصوص المطلق لا بالعموم والخصوص من وجه ، لما تقدّم : من انّ الخبر العلمي خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، ومن الواضح : انّ الخاص مقدّم على العام ، الّا انّ الأمر هنا بالعكس ، أي : عموم التعليل يقدّم على خصوص المفهوم ، لا أنّ المفهوم يقدم على عموم التعليل.

وإليه أشار بقوله : (الّا انّا ندّعي التعارض بين : ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل غير العلميّ) كما لا يعمل بخبر الفاسق غير العلمي.

(و) بين (ظهور الجملة الشرطية ، أو الوصفيّة) على ما تقدّم : من انّ المدعي لدلالة الآية يدعيها إما من جهة الجملة الشرطية ، أو من جهة الجملة الوصفية ، ويستدل بها (في ثبوت المفهوم) بمعنى : حجّية خبر العادل غير العلمي.

وحينئذ (فطرح المفهوم) والأخذ بعموم التعليل (والحكم بخلوّ الجملة

٢٥٣

الشرطيّة عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل.

وإليه أشار في محكيّ العدّة بقوله : «لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل ، والتعليل دليل».

______________________________________________________

الشرطيّة) أيضا كالحكم بخلوّ الجملة الوصفية (عن المفهوم ، أولى من) العكس.

والعكس هو عبارة عن : (ارتكاب التخصيص في التعليل).

وإنّما كان اولى لما سيأتي : من قوة التعليل الشامل لخبر العادل الظنّي ، وخبر الفاسق الظنّي ، فلا يدع هذا التعليل مجالا للمفهوم ، اذ إسقاط المفهوم ، أقرب الى الذهن العرفي من إسقاط عموم التعليل ، فاذا دار الأمر بينهما ، اخذ بعموم التعليل لا بالمفهوم ، فتكون الجملة الشرطية أو الوصفية خالية عن المفهوم.

(واليه) أي الى ما ذكرنا : من أولوية طرح المفهوم بسبب التعليل (أشار في محكيّ العدّة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب) أي : طرح مفهوم المخالفة (لدليل) يوجد هناك يوجب طرح مفهوم المخالفة (والتعليل دليل) (١) فنتمسك به لطرح المفهوم.

وإن قلت : التعليل في الآية المباركة عام يشمل للخبر الظنّي من العادل ، والخبر الظنّي من الفاسق ، والمفهوم خاص ، لأنّه يدل على حجّية الخبر الظني من العادل فقط ، فيخصّص التعليل به ، كما يخصّص قوله سبحانه : ـ

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٢) بمفهوم : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (٣).

__________________

(١) ـ عدّة الاصول : ص ١٧٦.

(٢) ـ سورة الفرقان : الآية ٤٨.

(٣) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١٥٠ ب ٦ ح ١١٨ ، الكافي : (فروع) : ج ٣ ص ٢ ح ١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٦ ب ١ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ١٥٨ ب ٩ ح ٣٩١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٩ ح ١٢.

٢٥٤

وليس في ذلك منافاة لما هو الحقّ ، وعليه الأكثر ، من جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك اوّلا بالمخصّص المنفصل.

______________________________________________________

فانّ مفهوم الحديث ـ وهو نجاسة الماء بسبب المنجسات اذا لم يبلغ قد كرّ ـ مخصص للآية المتقدمة.

قلت : (وليس في ذلك) أي : في طرح المفهوم ، والأخذ بعموم التعليل (منافاة لما هو الحقّ ، وعليه الأكثر : من جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة).

وانّما لم يكن في ذلك منافاة (لاختصاص ذلك أوّلا : بالمخصّص المنفصل) بمعنى : أن يكون العام والمفهوم ، في كلامين منفصلين ، كما تقدّم : من تخصيص عموم الآية المباركة بمفهوم : «الماء إذا بلغ قد كرّ» (١).

دون ما اذا كان العام والمفهوم في كلام واحد ، كما في آية النبأ حيث عموم التعليل ، والمفهوم متصلان في كلام واحد.

فهو مثل : «أكرم كل عالم ، وأكرم هذا العالم إن جاءك» فانّ مفهوم : إن جاءك ، وهو : لا تكرمه إن لم يجئك ، لا يخصص : أكرم كل عالم ، حتى تكون النتيجة :

عدم إكرام هذا العالم عند عدم المجيء ، بل اللازم إكرام هذا العالم ، سواء جاء أو لم يجيء ، فالعام يقدّم على المفهوم ، لا ان المفهوم يقدّم على العام.

ولعلّ الفرق بين المتصل والمنفصل هو : إنّ في المنفصل : يكون عام وخاص ، فيخصص الخاص العام ـ كما هي القاعدة ـ.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ١٢ ح ١ وح ٢ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١٥٠ ب ٦ ح ١١٨ ، الاستبصار : ج ١ ص ٦ ب ١ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ١٥٨ ب ٩ ح ٣٩١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٩ ح ١٢.

٢٥٥

ولو سلّم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلّة والمعلول ، فانّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص.

فالعلّة تارة تخصّص مورد المعلول وإن كان عامّا بحسب اللفظ ، كما في قول القائل : «لا تأكل الرمّان لأنّه حامض» ، فيخصّصه بالأفراد الحامضة ، فيكون عدم التقييد في الرمّان لغلبة الحموضة فيه.

______________________________________________________

أما في المتصل : فلا ينعقد المفهوم لقوة العموم ، واذ لا مفهوم ، فلا يخصص العام بالمفهوم.

وحيث كان هذا الفرق ضعيفا ، قال المصنّف : (ولو سلّم جريانه) أي : تخصيص العام بالمفهوم ، حتى (في الكلام الواحد) بأن لم نفرّق بين المتصل والمنفصل ، وقلنا : بأنّ المفهوم يخصّص العام مطلقا ، سواء كان في كلامين منفصلين ، أو في كلام واحد متصل.

فانه وإن سلّمنا ذلك ، لكن (منعناه) أي : منعنا تخصيص العام بالمفهوم (في العلّة والمعلول) كما فيما نحن فيه من آية النبأ (فانّ الظاهر عند العرف : انّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص ، فالعلّة تارة تخصّص مورد المعلول وإن كان) المورد (عامّا بحسب اللّفظ كما في قول القائل «لا تأكل الرّمان لأنّه حامض»).

فانّ الرمّان الذي هو مورد النهي ، شامل للحلو والحامض إلّا انّ التعليل يخصّص الرّمان بالحامض (ف) التعليل (يخصّصه) أي : المورد (بالأفراد الحامضة ، فيكون عدم التقييد في الرّمان ، لغلبة الحموضة فيه).

فانّه لمّا كان الرّمان في الاغلب حامضا ، نزّل الرّمان الحلو بمنزلة العدم فلم يقل

٢٥٦

وقد توجب عموم المعلول وإن كان بحسب الدّلالة اللفظيّة خاصا ، كما في قول القائل : «لا تشرب الأدوية ، التي تصفها لك النسوان ، أو إذا وصفت لك امرأة دواء ، فلا تشربه ، لأنّك لا تأمن ضرره».

فيدلّ على أنّ الحكم عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضرره ، من أيّ واصف كان ،

______________________________________________________

لا تأكل الرّمان الحامض ، بل قال : لا تأكل الرّمان لأنّه حامض ، مع انه يريد في الكلامين معنى واحد ، وهو : الاجتناب عن الرّمان الحامض ، أمّا الرّمان الحلو فلا بأس بأكله.

(وقد توجب) العلّة تارة اخرى (عموم المعلول وإن كان) المعلول (بحسب الدّلالة اللّفظيّة خاصّا ، كما في) نفس المثال ، فانّ عموم التعليل يعمم النهي للرّمان الحامض ، وغير الرّمان من سائر الحموضات ، كالاترج ونحوه.

وكما في (قول القائل) في جملة وصفيّة : (لا تشرب الأدوية ، التي تصفها لك النسوان ، أو) قول القائل في جملة شرطية (إذا وصفت لك امرأة دواء ، فلا تشربه ، لأنّك لا تأمن ضرره) فانّ المورد وإن كان خصوص الأدوية التي تصفها النسوان ، فيكون المفهوم : جواز شرب الأدوية التي يصفها الرجال ، إلّا إنّ التعليل بعدم أمن الضرر ، يشمل الأدوية التي يصفها الرجال أيضا.

وإنّما خصص النسوان بالذكر في النهي ، لأنّ الغالب هو : أنّ النسوان يصفن الدّواء ، دون الرّجال (فيدلّ) التعليل في الجملتين (على انّ الحكم) بعدم شرب الدواء (عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضرره ، من أيّ واصف كان) سواء كان الواصف رجلا أو امرأة.

٢٥٧

ويكون تخصيص النّسوان بالذكر من بين الجهال لنكتة خاصّة أو عامّة لاحظها المتكلّم.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فلعلّ النكتة فيه التنبيه على فسق الوليد ، كما نبّه عليه في المعارج.

______________________________________________________

(و) إن قلت : فلما ذا خصص النهي ، بالأدوية التي يصفها النسوان؟.

قلت : (يكون تخصيص النسوان بالذكر ، من بين الجهّال) بعلم الطب بالأدوية والأمراض (لنكتة خاصة ، أو عامة لاحظها المتكلّم) فالنكتة الخاصة : لعلّة عاطفية المرأة ، حيث انها تغلب عليها العاطفة بخلاف الرجل الذي هو عقلائي.

والنكتة العامة : لعلّه غلبة توصيف النساء الأدوية ، دون الرجال ، فالغلبة عامة وفي أي مورد حصلت الغلبة ، أوجبت إلحاق غير الغالب بالغالب.

(وما نحن فيه) من الآية المباركة ، حيث اشتملت على التعليل العام ، وعلى المورد الخاص (من هذا القبيل).

فان قلت : إذن كان ينبغي أن يقال : إن جاءكم خبر تبينوا ، لأنّ احتمال الندم عام في خبر العادل والفاسق ، فلا وجه لذكر الفاسق؟.

قلت : (فلعلّ النكتة فيه) أي : في ذكر الفاسق بصورة خاصة ، مع أنّ التعليل عام شامل للعادل والفاسق معا (التنبيه على فسق الوليد ـ كما نبّه عليه) المحقّق (في المعارج) (١) فهو مثل : اطعم الجائع حيث يكون الاطعام لكل فقير ، وإنّما يذكر الجائع ، للتنبيه على أنّ هذا الفقير بالخصوص جائع ايضا.

أو لعل النكتة : إنّ الفاسق أولى بالتبيّن في خبره من غيره ، فيكون مثل قوله

__________________

(١) ـ معارج الاصول : ص ١٤٤.

٢٥٨

وهذا الايراد مبنيّ على أنّ المراد بالتبيّن هو التبيّن العلميّ

______________________________________________________

تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) (١) حيث أنّ من في الحجور ، ومن في غير الحجور ، متساويان في حرمة الربيبة ، الّا انّ من في الحجور ، أولى في الاجتناب.

الى غير ذلك من الاحتمالات ، التي تسبب ذكر صفة خاصة ، مع انّ الحكم للأعم من المتّصف وغير المتّصف.

ثمّ انه قد ذكرنا : التعارض بين المفهوم وهو : انّ خبر العادل حجّة ، وبين التعليل ، وهو أنّ كل خبر يحتمل الندم في اتباعه ولو كان خبر العادل ليس بحجّة ، فيرجّح التعليل على المفهوم ، ممّا يسبب عدم حجّية خبر العادل.

لكن في الآية احتمال آخر ، وهو : إن المراد بالتبيّن : الظهور العرفي الأعم من العلم والاطمينان ، فكل خبر يطمأن إليه عرفا ، لا يحتاج الى التبيّن ، والعادل يطمأن الى خبره ، بخلاف الفاسق ، فلا عموم للتعليل ، اذ العمل بعد الاطمينان الحاصل بسبب وجود خبر العادل ليس بجهالة ، فان الجهالة في قبال الاطمينان ولو لم يكن علم ، وحيث كان اطمئنان فلا جهالة ، فلا عموم للتعليل يشمل خبر الفاسق.

(و) بذلك تبين : انّ (هذا الايراد) أي تعارض التعليل والمفهوم (مبنيّ على انّ المراد بالتبيّن هو : التبيّن العلميّ) فيكون المعنى : إن جاءكم فاسق بنبإ ، يجب عليكم تحصيل العلم لئلا تصيبوا قوما بجهالة.

ومعنى لا تصيبوا قوما بجهالة : أي لا تفعلوا فعلا بدون العلم ، فيسبب ذلك

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٢٣.

٢٥٩

كما هو مقتضى اشتقاقه.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد منه ما يعم الظهور العرفيّ الحاصل من الاطمينان الذي هو في مقابلة الجهالة.

______________________________________________________

الفعل ندمكم.

فمقتضى المفهوم : عدم وجوب تحصيل العلم في خبر العادل ، ومقتضى التعليل : وجوب تحصيل العلم في كل خبر غير علمي ، سواء كان عادلا او فاسقا ، فيتعارض عموم التعليل مع المفهوم.

لكن هذا التعارض فيما إذا فسّرنا التبيّن بمعنى العلم (كما هو) أي : ارادة العلم من التبيّن (مقتضى اشتقاقه) فان التبيّن مشتق من البيان ، والبيان بمعنى : الكشف والوضوح ، والكشف والوضوح انّما يكون مع العلم كما قال : بان الأمر إذا ظهر ، والظهور دائما يوجب العلم ، ومنه قوله سبحانه : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) (١) أي : يظهر لكم ظهورا علميا.

(ويمكن أن يقال : انّ المراد منه) أي من التبيّن : (ما يعمّ الظهور العرفي الحاصل من الاطمينان ، الذي هو في مقابلة الجهالة) ، فان الجهالة قد تقابل العلم ، وقد تقابل الأعم من العلم ، والاطمينان.

والمراد بالتبيّن هنا : الأعم من تحصيل الظهور الحقيقي المسمّى بالعلم ، والظهور العلمي المسمّى بالاطمينان ، فان العلم والعلمي كلاهما تبيّن ويقابلان الجهل ، اذ المراد بالجهل حينئذ : عدم تحصيل شيء من العلم والاطمينان ، بل الاكتفاء بمجرد الاحتمال والظنّ.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٧.

٢٦٠