الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

الوصائل

الى

الرسائل

تتمّة

المقصد الثالث

٤

توضيح الفساد : أنّ هذه القاعدة تدلّ على عدم جعل الأحكام الضررية واختصاص أدلّة الأحكام بغير موارد الضرر.

نعم ، لو لا الحكومة ومقام الامتنان

______________________________________________________

أمّا (توضيح الفساد) في توهم هذا الاشكال فهو كما قال :

(أنّ هذه القاعدة) بمقتضى الأدلة الكثيرة (تدلّ على عدم جعل الأحكام الضررية) من الشارع فالوضوء والصلاة والحج وغيرها من العبادات إذا كانت ضررية فهي ليست مجعولة (و) تدل أيضا على (اختصاص أدلّة الأحكام) الأولية ، كأدلة الصلاة والصوم والحج وغير ذلك (بغير موارد الضرر).

هذا ، ولعل عمدة تلك الأدلة الكثيرة الدالة على عدم جعل الأحكام الضررية هو : ورود القاعدة قبال الأحكام الأولية حيث انهم عليهم‌السلام رفعوا الأحكام الأولية لمقابلتها دليل لا ضرر أو دليل لا حرج ، أو دليل لا عسر ، وغيرها من الأدلة الحاكمة ، فقد ورد حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع عذق سمرة المضار (١) قبال : «الناس مسلطون على أموالهم» (٢) وورد حكم الإمام عليه‌السلام باثبات حق الشفعة للشريك قبال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣) وورد حكمه عليه‌السلام بالمسح على المرارة (٤) لدليل لا حرج ، قبال : وجوب المسح على البشرة ، وهكذا.

(نعم ، لو لا الحكومة) التي يفهمها العرف بعد الجمع بين الأدلة العامة وبين دليل لا ضرر (و) كذا لو لا (مقام الامتنان) الذي وردت هذه الروايات الثانوية

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٩٤ ح ٨.

(٢) ـ نهج الحق : ص ٤٩٤ وص ٤٩٥ وص ٥٠٤ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٢٢٢ وج ٢ ص ١٣٨ وج ٣ ص ٢٠٨ ح ٥٤ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.

(٣) ـ سورة المائدة : الآية ١.

(٤) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٣ ح ٤ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٣٦٣ ب ١٦ ح ٢٧ ، الاستبصار : ج ١ ص ٧٧ ب ٤٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٤٦٤ ب ٢٩ ح ١٢٣١.

٥

كان للتوهّم المذكور مجال.

وقد يدفع : بأنّ العمومات الجاعلة للأحكام إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر ، وهذه المصلحة لا يتدارك الضرر الموجود في مورده ، فانّ الأمر بالحج والصلاة ـ مثلا ـ يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ، ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر.

______________________________________________________

في مورده (كان للتوهّم المذكور) وهو : تقدّم أدلة التكاليف الأولية على قاعدة لا ضرر وشبهها (مجال) واسع ، لكن القرينتين دليلان على ما ذكرناه : من حكومة لا ضرر ونحوه على الأدلة العامة الأولية.

هذا (وقد يدفع) التوهم المذكور والدافع هو صاحب العوائد وصاحب العناوين : (بأن العمومات الجاعلة للأحكام) مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) ومثل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٢) (إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر) فان الصلاة والصوم والحج إنّما وجبت لمصلحة فيها (وهذه المصلحة لا يتدارك الضرر الموجود في مورده) أي : في مورد الضرر.

وعليه : (فانّ الأمر بالحج والصلاة ـ مثلا ـ يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر) ولذا يجب الاتيان بالحج والصلاة ونحوهما (ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر) من المصلحة ، ولذا تسقط تلك العمومات ، فلا يجب ما كان من العبادات ضرريا.

وان شئت قلت : ان الوضوء إنّما وجب لمصلحة فيه ، فان كان فيه ضرر ، قابل الضرر تلك المصلحة فأسقطها ، وبعد ذلك لا يكون في الوضوء مصلحة حتى يجب الوضوء ، ولذا يسقط وجوب الوضوء.

__________________

(١) ـ سورة المزمل : الآية ٢٠.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٣.

٦

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهّم ، لأنه إذا أسلم عموم الأمر لصورة الضرر ، كشف عن وجود مصلحة يتدارك به الضرر في هذا المورد ، مع أنّه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الأجر المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الأعمال أحمزها» ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول : من أنّ : «الأجر على قدر المشقّة».

______________________________________________________

(وهذا الدفع) للتوهم المتقدم (أشنع من أصل التوهّم) فكما ان أصل التوهم فاسد لما ذكرناه من الأدلة الكثيرة الدالة على حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلة الأولية ، يكون هذا الجواب أفسد من ذلك التوهم لأمرين :

أولا : (لأنه إذا أسلم عموم الأمر) بالوضوء ـ مثلا ـ (لصورة الضرر ، كشف) العموم هذا (عن وجود مصلحة يتدارك به الضرر في هذا المورد) أي : في مورد الضرر أيضا ، فيكون حال الأمر الأولي بالوضوء حينئذ حال الأوامر الأولية المتعلقة بالموضوعات الضررية : من الخمس والزكاة والحج والجهاد وغير ذلك ، فيجب الوضوء حتى في مورد الضرر أيضا.

ثانيا : (مع أنّه يكفي حينئذ) أي : حين شمول الأدلة الأولية لمورد الضرر (في تدارك الضرر : الأجر المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الأعمال أحمزها» (١) ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول : من أنّ : «الأجر على قدر المشقّة» (٢)) فيكون للوضوء الضرري جهتان : جهة المصلحة وهي تسقط بسبب الضرر وجهة الأجر وهي لا تسقط بسبب الضرر ، فيكون واجبا لأجل ما فيه من الأجر.

ثم انه لا بأس باشارة مختصرة إلى هذه الرواية التي ذكرها المصنّف وهي :

__________________

(١) ـ مفتاح الفلاح : ص ٤٥ ، النهاية : ج ١ ص ٤٤٠ ، بحار الانوار : ج ٧٠ ص ١٩١ ب ٥٣ ح ٢ وص ٢٣٧ ب ٥٤ ح ٦.

(٢) ـ بحار الانوار : ج ٧٣ ص ٢٧٥ ب ١٣٢ ح ٢٧ (بيان).

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

«أفضل الأعمال أحمزها» فانه لا يبعد ان يراد بذلك ما إذا كان هناك عملان أحدهما أشد من الآخر ، فان الأشد يكون أفضل ، فدراسة الفقه ـ مثلا ـ أصعب من دراسة الطب ، فيكون دراسة الفقه أفضل وهكذا.

وبهذا المعنى لا ينافي هذا الحديث مثل قوله سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) ولا مثل قوله سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ولا مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ان هذا الدين رفيق فأوغل فيه برفق» (٣).

لكن ربما يقال : انه يمكن إرادة ذلك العمل الواحد أيضا ، كما إذا كان للعمل الواحد طريقان : طريق أصعب وطريق أسهل ، فان الطريق الأصعب يكون أفضل ، فالحج ـ مثلا ـ مشيا أفضل من الحج ركوبا ، ولهذا كان الأئمة عليهم‌السلام يذهبون إلى الحج مشيا.

هذا ، ولكن لا شك في ان الحج مشيا أفضل من الركوب إذا كان لأجل التواضع لله سبحانه ، كما ان بساطة العيش وأكل ما جشب من الطعام لأئمة المسلمين أفضل من خصوبة العيش وأكل اللباب إذا كان لله سبحانه ، وذلك لما فيه من توفير المال على الرعية ، ومواساة الضعفاء منهم ، ودفع اتهام التصرف في أموالهم ، وتسلية الفقراء منهم ، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له في نهج البلاغة (٤).

أمّا بدون مصلحة التواضع ، أو مصلحة المواساة للرعية كما في إمامة المسلمين فالأيسر أفضل.

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

(٢) ـ سورة الحج : الآية ٧٨.

(٣) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ١١٠ ب ٢٦ ح ٢٧٠ وفيه (متين) بدل (رفيق) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٢ ص ٩٤.

(٤) ـ راجع ارشاد القلوب : ص ٢١٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٢٨٧ راجع الخطبة «أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش».

٨

فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ما ذكرناه من «الحكومة» والورود في مقام الامتنان.

ثم إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة ، إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ،

______________________________________________________

والحاصل : ان اليسر هو مراد الله سبحانه ، إلّا ان تكون مصلحة في خلاف اليسر ، وحين وجود تلك المصلحة يكون الأحمز أفضل.

وكيف كان : (فالتحقيق في دفع التوهم المذكور) القائل بتقديم الأدلة العامة على دليل لا ضرر هو : (ما ذكرناه من «الحكومة» والورود في مقام الامتنان) فانه قد عرفت : ان الحكومة وكذلك الامتنان بها قرينتان على تقديم لا ضرر على الأدلة الأولية.

وحيث فرغ المصنّف من الأمور الأربعة المرتبطة بقاعدة لا ضرر : من بيان مدركها ، ومعنى اللفظين فيها ، ومعنى النفي ، وبيان نسبتها مع سائر العمومات ، شرع في الأمر الخامس وهو : بيان إشكالات التمسك بهذه القاعدة فقال : (ثم إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا) لما عرفت : من تواتر السند ، وصحة بعض الأسانيد ، وعمل المشهور بها قديما وحديثا ، بل أجمعوا على العمل بها.

(أو دلالة) لما تقدّم : من حكومة قاعدة «لا ضرر» على الأدلة الأولية.

(إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي : كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي) موارد الضرر في الفقه كثيرة جدا ، فان شراء الماء للوضوء ، أو للغسل ، أو لتطهير الثياب ، أو ما أشبه ذلك ضرر ، كما ان الحقوق المالية كالخمس

٩

كما لا يخفى على المتتبع ، خصوصا على تفسير الضرر بادخال المكروه ، كما تقدّم ، بل لو بنى على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد ،

______________________________________________________

والزكاة والكفارات ، وكذلك الجهاد والقصاص والديات ضرر.

(كما لا يخفى على المتتبع خصوصا على تفسير الضرر بادخال المكروه كما تقدّم) فان الضرر قد يفسّر بمعناه العرفي : من التضرر المالي أو الجسمي أو ما أشبه ذلك ، وقد يفسر بالمعنى الأعم الشامل لما فيه المكروه أيضا ، فيكون الضرر على هذا أوسع دائرة من الضرر بالمعنى العرفي ، لأنه يشمل مثل الصوم الواجب والحج الواجب وأمثالهما مما يدخل بسببها المكروه على الانسان فيكثر بذلك التخصيص في قاعدة لا ضرر.

(بل لو بنى على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد) لأنه يلزم منه تعطيل كثير من الأحكام الضرورية ، وتغيير كثير من الفروع البديهية ، من الخمس والزكاة ، والحج ، والجهاد وما أشبه ، وذلك مما لا يجوز.

أقول : لكن الظاهر : ان هذا الاشكال غير وارد ، فان مثل الخمس والزكاة والحج والضمانات لا يسمى ضررا عرفا ، لأن الامور الموضوعة لمصلحة الفرد أو لمصلحة الاجتماع من مقوّمات الحياة لا من الاضرار ، فالخمس والزكاة ـ مثلا ـ للتكافل الاجتماعي ، والحج لمنافع لهم كما في الآية المباركة من الاجتماع والتعارف ، وتحريك الأسواق ، وانعاش الاقتصاد ، وغير ذلك ، والضمانات لجبر الخسائر ، وهكذا.

ومن المعلوم : انّ مثل هذا لا يسمى ضررا ، وإلّا لصح ان يقال للمشتري الذي يعطي المال في قبال البضاعة أو ما يحتاج إليه : انه متضرر ، ومن أجل ذلك لا يسمى صرف المال في المسكن والمأكل والمشرب والمنكح والمركب

١٠

ومع ذلك فقد استقرّت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام وعدم رفع اليد عنها إلّا بمخصّص قويّ في غاية الاعتبار ، بحيث يعلم منه انحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة.

______________________________________________________

ونحوها ضررا.

وعليه : فاعتبار مثل هذه الامور ضررا وتخصيصا في دليل لا ضرر محل منع قطعي ، كما ان تعميم الضرر لما فيه المكروه خلاف اللغة والعرف والشرع.

إذن : فهذا الاشكال وهو : كثرة التخصيصات في لا ضرر الموهن لها ، من أساسه محل نظر.

(و) لكن (مع ذلك) الوهن كله على فرض تسليمه كما يراه المصنّف ، فان القاعدة معتبرة عند المسلمين كلهم (فقد استقرّت سيرة الفريقين) من العامة والخاصة (على الاستدلال بها) أي : بقاعدة لا ضرر (في مقابل العمومات المثبتة للأحكام) فيسقطون بها وجوب الوضوء الضرري ـ مثلا ـ ولزوم البيع الغبني وغير ذلك من أمثلة تخصيص لا ضرر للعمومات الموجودة من أول الفقه إلى آخره.

كما (و) استقرت سيرتهم أيضا على (عدم رفع اليد عنها) أي : عن قاعدة لا ضرر (إلّا بمخصّص قويّ في غاية الاعتبار) مثل : أدلة وجوب الخمس والزكاة ، والكفارات والديات ، وغيرها من الأحكام الضرورية الثابتة بالدليل القطعي ، لكن هذا التخصيص قد عرفت ما فيه ، فانه تخصّص لا تخصيص.

لا يقال : فلعل الفقهاء ذكروا سقوط الوضوء الضرري وما أشبه لدليل خاص لا لقاعدة لا ضرر ، لأن قاعدة لا ضرر ساقطة بسبب كثرة التخصيصات.

لأنّه يقال : انّهم ذكروا سقوط الوضوء الضرري وما أشبه ذلك مستدلين له بقاعدة لا ضرر (بحيث يعلم منه انحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة)

١١

ولعلّ هذا كاف في جبر الوهن المذكور ، وإن كان في كفايته نظر ، بناء على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك ،

______________________________________________________

بل هم يصرحون بذلك في موارد كثيرة من الفقه (ولعلّ هذا) أي : استدلال الفقهاء بقاعدة لا ضرر لتخصيص الأدلة العامة الأولية (كاف في جبر الوهن المذكور) : من كثرة التخصيصات على تقدير تسليمه.

هذا ، ولكن يمكن القول بعدم كفايته كما قال (وإن كان في كفايته) أي : في كفاية استدلال الفقهاء بهذه القاعدة لتخصيص الأدلة الأولية (نظر ، بناء على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك) أي : تخصيص الأكثر.

وعليه : فاذا ورد عام ورأينا كثرة التخصيص المستهجن فيه ، ودار أمره بين المعنى الظاهر للعام الذي يسبب كثرة تخصيصه ، وبين معنى آخر لا يسبب كثرة التخصيص ، فاستهجان الأوّل يوجب حمل العام على خلاف ظاهره من المعنى الثاني الذي لا يسبب كثرة التخصيص فيه.

مثلا : إذا قال المولى : اكرم العلماء ، فانه ظاهر في العموم الشامل لكل عالم عالم ، فاذا خصص بالنحوي والأديب ، والشاعر والفاسق ، وما أشبه ذلك ، بحيث كان الخارج أكثر من الباقي كما إذا بقي تحت العام عشرة وخرج منه تسعون ، فانه يكون قرينة على ان المراد من هذا العموم ليس معناه الظاهر الشامل لكل أقسام العلماء.

إذن : فالمراد منه معنى آخر لا تخصيص فيه ، أو تخصيصه قليل بحيث لا يكون مستهجنا ، وذلك بحمله ـ مثلا ـ على إرادة المجتهدين منه فيقال : ان هذه القرينة

١٢

غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى ، واستدلال العلماء لا يصلح معيّنا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة

______________________________________________________

دلت على ان إرادة المولى من العالم هنا : المجتهد العادل فقط دون غيره من العلماء.

والكلام فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فانه إذا رأينا ان قاعدة لا ضرر خصصت بكثير من الموارد من أول الطهارة إلى آخر الديات ، كان ذلك قرينة على ان المراد من القاعدة ليس نفي مطلق الضرر الموجب لكثرة التخصيص المستهجن على ما عرفت ، بل المراد : نفي اتلاف مال الغير فقط ، وهذا المعنى اما لم يخصص بشيء ، أو خصص بتخصيص قليل لا يوجب استهجانه.

(غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى) فانه على تقدير عدم الجزم بأن المراد من العام هو المعنى الآخر ، فلا أقل من الترديد في ان المولى هل أراد العموم من هذا العام أو أراد ذلك المعنى الآخر منه؟ فيلزم الاجمال في كلام المولى ، والاجمال يسبب الأخذ بالقدر المتيقن وهو : المجتهد العادل في مثل : اكرم العلماء ، واتلاف مال الغير في مثل لا ضرر.

إذن : فالمعنى العام لا يريده المولى حسب هذه القرينة لا في : اكرم العلماء ولا في قاعدة لا ضرر.

(و) ان قلت : استدلال العلماء بهذه القاعدة لا خراج موارد الضرر من الأدلة العامة يكون معنيا لارادة العموم من لا ضرر.

قلت : (استدلال العلماء لا يصلح معيّنا) لارادة العموم من لا ضرر (خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة) فان إرادة العموم

١٣

إلّا أن يقال : مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلّمت كثرته ، إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنّما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل.

وقد تقرّر : أنّ تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد

______________________________________________________

مع تخصيصات كثيرة مرجوح في نظر العلماء ، وكذلك مناف لمقام الامتنان أيضا.

وعليه : فان قوله : «لا ضرر في الاسلام» (١) وما أشبه ذلك من الروايات السابقة إنّما هو في مقام المنّة وضرب القاعدة ، فكيف يمكن أن يخرج منها هذه الكثرة الكثيرة من الموارد؟.

هذا ، مع انا نرى ان مقام المنّة وضرب القاعدة آبيان عن أصل التخصيص ، فكيف بهذه الكثرة من التخصيص؟ فيكون ذلك دليلا على ان مراد المولى من لا ضرر : إتلاف مال الغير ، فاذا أتلف أحد مال الغير فعليه تداركه بالضمان ونحوه.

(إلّا ان يقال : مضافا إلى منع أكثرية الخارج وان سلّمت كثرته) أي : سلمنا كثرة الموارد الخارجة من تحت عموم لا ضرر ، لكن لا نسلم كونها أكثر من الموارد الباقية تحت عمومه من أول الفقه إلى آخر الفقه ، فانه إضافة إلى ذلك نقول :

(إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنّما خرجت بعنوان واحد جامع لها) أي : لتلك الموارد الكثيرة (وان لم نعرفه) أي : لم نعرف ذلك الجامع (على وجه التفصيل) فلا يكون الخارج حينئذ كثيرا ، وإنّما يكون الخارج عنوانا واحدا ، والعنوان الواحد لا مانع في خروجه من تحت العام.

هذا (وقد تقرّر : أنّ تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد

__________________

(١) ـ معاني الاخبار : ص ٢٨١ ، مصباح الكفعمي : ص ٣٤٦ ، نهج الحق : ص ٤٨٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٦ ص ١٤ ب ١ ح ٣٢٣٨٢.

١٤

جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : «أكرم الناس» ، ودلّ دليل على اعتبار العدالة ، خصوصا إذا كان المخصّص ممّا يعلم به المخاطب حال الخطاب.

ومن هنا ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها ، كما في قوله عليه‌السلام :

______________________________________________________

جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : «أكرم الناس» ، ودلّ دليل على اعتبار العدالة) فيه ، فان غير العادل وان كان كثيرا إلّا انه لا يكون مستهجنا لمّا كان بعنوان واحد ، بخلاف ما إذا كان التخصيص بعناوين متعددة كما إذا قلنا : اكرم العلماء ، ثم قلنا : لا تكرم النحويين ، ولا تكرم الصرفيين ، ولا تكرم الادباء ، ولا تكرم الشعراء ، وما أشبه ذلك ، ولعل التخصيصات الواردة في قاعدة لا ضرر من القسم الأوّل غير المستهجن.

فان قلت : فما هو ذلك العنوان الواحد الخارج عن قاعدة لا ضرر ، المطّرد من أول الفقه إلى آخره؟.

قلت : معرفتنا أو عدم معرفتنا بذلك العنوان ليس بمهم بعد علمنا ان الشارع حكيم ولا يصدر منه التخصيص المستهجن (خصوصا إذا كان المخصّص) الذي خرج بعنوان واحد عن قاعدة لا ضرر (ممّا يعلم به المخاطب حال الخطاب) وان كان ذلك العنوان مجهولا عندنا نحن معاشر الغائبين.

(ومن هنا) أي : مما ذكرنا من ان كثرة الخارج لا يضر إذا كان بعنوان واحد ، لأنه غير مستهجن وان كان الخارج بالنتيجة أكثر من الباقي (ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها. كما في قوله عليه‌السلام :

١٥

«المؤمنون عند شروطهم» وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بناء على إرادة العهود ، كما في الصحيح.

ثم

______________________________________________________

«المؤمنون عند شروطهم» (١) وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) بناء على إرادة العهود ، كما) ورد (في الصحيح) فقد خرج من عموم : «المؤمنون عند شروطهم» شرط ارتكاب الحرام ، وشرط ترك الواجب ، والشرط المنافي لمقتضى العقد ، والشرط المجهول ، والشرط الغرري ، وغير ذلك.

كما خرج من : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عقد الصغير ، والسفيه ، والسكران ، والمفلّس ، والغرري ، والمجهول ، وعقد من ليس له حق العقد كالعبد ، إلى غيرها.

وأمّا بالنسبة إلى العهود ، فانّ أكثر العهود المتعارفة بين الناس لا يجب الوفاء به ، لكنّا ذكرنا في الفقه : ان الظاهر من العقد هو غير العهد ، والتعبير عنه بالعهد تعبير تسامحي ، فانه ليس أحدهما مرادفا للآخر ، كما يدل على ذلك العرف واللغة ، بل والشرع أيضا.

(ثم) ان الظاهر من لا ضرر : نفي الضرر الشخصي ، إلّا إذا دل دليل على نفي الضرر النوعي ، كما في الشفعة والغبن ، فانه يقال فيهما بالنوعية لما دلّ من الدليل على إطلاق حق الشفيع والمغبون في الفسخ.

وعليه : فلا دليل على إرادة نفي الضرر النوعي من لا ضرر ، وإنّما أفاد النوعية في الشفعة والغبن دليل الشفعة وهو الرواية ، ودليل الغبن وهو بناء العقلاء

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٣٧١ ب ٢١ ح ٦٦ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٢٣٢ ب ١٤٢ ح ٤ ، نهج الحق : ص ٤٨٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢١ ص ٢٧٦ ب ٢٠ ح ٢٧٠٨١ ، عيون أخبار الرضا : ج ٢ ص ١٥٩.

(٢) ـ سورة المائدة : الآية ١.

١٦

إنّه يشكل الأمر من حيث أنّ ظاهرهم من الضرر المنفي : الضرر النوعي لا الشخصي ، فحكموا بشرعية الخيار للمغبون ، نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وإن فرض عدم تضرّره في خصوص مقام ، كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقاؤه ضررا على البائع ، لكونه في معرض الإباق أو التلف

______________________________________________________

الذي سكت عليه الشارع ، ولذا نقول بالخيار في الغبن بالنسبة إلى البيع وغير البيع من سائر المعاملات أيضا كالاجارة والمضاربة والرهن وغيرها.

وبذلك ظهر : عدم ورود هذا الاشكال من المصنّف حيث أشار إليه بقوله : (إنّه يشكل الأمر من حيث أنّ ظاهرهم من الضرر المنفي : الضرر النوعي لا الشخصي) بل الظاهر على ما عرفت : ان مرادهم من الضرر المنفي : الضرر الشخصي لا النوعي ، إلّا في موارد خرج من الشخصية إلى النوعية بدليل خارجي.

وعلى أي حال : فالمصنف يرى الظاهر من الفقهاء النوعية ولذلك قال : (فحكموا بشرعية الخيار للمغبون ، نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وان فرض عدم تضرّره في خصوص مقام) بأن لم يكن عليه شخصا ضرر في الغبن ومع ذلك له الخيار (كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقائه ضررا على البائع لكونه في معرض الاباق) ـ مثلا ـ بالنسبة إلى العبد (أو التلف) بالنسبة إلى ما يتلف ليومه غاصب.

إذن : فالفقهاء لما حكموا بخيار البائع المغبون مطلقا ، سواء كان متضررا أم لم يكن متضررا ، وكان حكمهم بالخيار مستندا إلى قاعدة لا ضرر ، دلّ ذلك على ان المراد من نفي الضرر هو : الضرر النوعي لا الشخصي.

١٧

وكما إذا لم يترتّب على ترك الشّفعة ضرر على الشفيع ، بل كان له فيه نفع.

وبالجملة : فالضرر عندهم في بعض الأحكام حكمة لا يعتبر اطّرادها ، وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادها ، مع أنّ ظاهر الرواية اعتبار الضرر الشخصي ، إلّا أن يستظهر منها انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجبه دائما ،

______________________________________________________

(و) كذا في حق الشفعة (كما إذا لم يترتّب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع ، بل كان له فيه نفع) فان الفقهاء لما رأوا ان ترك الشفعة يوجب الضرر على الشريك نوعا ، حكموا بحق الشفعة للشريك مطلقا أيضا.

هذا ، ولكن من الواضح : انه لا نتمكن ان نأخذ بنوعية الضرر في كل أقسامه من أول الفقه إلى آخره ، فاذا كان الوضوء أو الغسل أو الصوم أو الحج ـ مثلا ـ يضرّ غالب الناس لبرد أو مرض أو خطر طريق أو ما أشبه ذلك ، ولم يكن لزيد تلك المحذورات ، فانهم قالوا بوجوب هذه العبادات على زيد الذي لا يتضرر بها ، فكيف يمكن الجمع بين ان المراد بالقاعدة : النوعية ، وبين فتواهم في هذه الموارد بالشخصية؟.

(وبالجملة : فالضرر عندهم في بعض الأحكام حكمة لا يعتبر اطّرادها) كما في باب الشفعة والغبن ونحوهما (وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادها) كما مثلنا له بالوضوء والغسل وغيرهما (مع انّ ظاهر الرواية اعتبار الضرر الشخصي) لأنه لا معنى لرفع الضرر بالنسبة إلى من لا يتضرر فيما إذا كان الغالب يتضررون.

(إلّا ان يستظهر منها) أي من قاعدة لا ضرر بملاحظة بعض القرائن (انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وان لم يوجبه دائما) حتى يكون المراد من لا ضرر : نفي الضرر النوعي وان لم يتضرر به بعض الافراد.

١٨

كما قد يدّعى نظير ذلك في أدلّة نفي الحرج.

ولو قلنا بأنّ التسلط على ملك الغير باخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا ، صار الأمر أشكل ،

______________________________________________________

وأمّا القرائن التي يمكن هذا الاستظهار منها حسب رأي المصنّف فهو مثل : حق الشفعة الذي قرره الإمام عليه‌السلام ، من دون تفصيل بين تضرر هذا الفرد وعدم تضرره.

أقول : لكنك قد عرفت : ان الظاهر من لا ضرر هو الشخصي ، وفي مورد النوعي يحتاج إلى دليل خارجي ، والشفعة والغبن دل الدليل الخارجي على النوعية فيهما ، فدليل الشفعة الروايات ، ودليل الغبن بناء العقلاء الذي سكت الشارح عليه.

هذا (كما قد يدّعى نظير ذلك) أي : نظير ما ادعي من نفي الضرر النوعي (في أدلّة نفي الحرج) أيضا ، لكن الظاهر : ان دليل الحرج والضرر والعسر وغيرها كلها امور شخصية ، وإنّما يحتاج الحكم فيها بالنوعية إلى دليل خارجي.

ولا يخفى انه قد تقدّم منّا الفرق بين الضرر وأخويه (١) : فانّ الضرر يتحقّق في المال والجسم ، بينما الحرج في النفس ، والعسر في الجسد ما لم يكن ضرر ، كما إذا كان الانسان يتأذى من الشمس بدون تضرر وإنّما يقع منها في شدة.

وحيث أشكل المصنّف على إثبات نفي الضرر النوعي بقاعدة لا ضرر ، أشكل على إثبات أصل القاعدة فيما لو تعارض الضرران بقوله : (ولو قلنا بأنّ التسلط على ملك الغير باخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا ، صار الأمر أشكل) لأن نفس القاعدة تنفي سلطته على ملك الغير ، فكيف لها باثبات

__________________

(١) ـ أي الحرج والعسر.

١٩

إلّا أن يقال : إنّ الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار ، فتأمل.

______________________________________________________

سلطته عليه؟.

إذن : فالاستدلال بقاعدة لا ضرر على نفي الضرر النوعي مشكل ، ولكن الأشكل منه هو : الاستدلال بهذه القاعدة على نفي الضرر فيما لو تعارض ضرران ، كما في الشفعة ـ مثلا ـ فان لزوم البيع ضرر على الشريك ، وتزلزل البيع ضرر على المشتري ، فيتعارضان.

(إلّا ان يقال : انّ الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار) فان اخراج الشفيع الملك من المشتري إنّما يعدّ ضررا على المشتري فيما إذا استقر ملك المشتري ، بينما تضرر الشفيع هنا أوجب التزلزل من الأوّل ، فهو كسائر العقود الجائزة ، فلا يكون تعارض بين ضررين ، وإنّما الضرر يكون بالنسبة إلى الشفيع فقط لو لم يكن له حق الفسخ.

(فتأمل) فان المشتري إنّما لا يصدق عليه التضرر إذا كان العقد بنفسه غير مقتض للزوم ، كما في العقود الجائزة مثل : الهبة ونحوها ، وامّا مع اقتضاء العقد اللزوم بنفسه كما في البيع ، وإنّما حدث التزلزل فيه من جهة تضرر الشفيع فانه يصدق على المشتري التضرر حينئذ ، فيتعارض مع تضرر الشريك.

وكيف كان : فقد تقدّم : ان نفي الحرج كنفي الضرر يراد به الشخصي ، فانه وان ذهب جملة من الأصحاب إلى ان المنفي بعمومات نفي الحرج هو الحرج النوعي ، بمعنى : انه إذا كان فعل من الأفعال حرجا في حق الغالب فوجوبه مرتفع حتى في حق من لا حرج عليه كما انه إذا لم يكن حرج في حق الغالب لا يرتفع وجوبه حتى في حق من كان الفعل حرجا بالنسبة اليه ، إلّا ان الظاهر على ما عرفت :

٢٠