الوصائل إلى الرسائل - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-00-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٣٧٢

فلا بدّ في مواردهما من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه ، لأنّ الأدلّة القطعيّة النظريّة في النقليّات مضبوطة محصورة ليس فيها شيء يصادم العقل البديهيّ او الفطريّ.

فان قلت :

______________________________________________________

والحاصل : ان الدليل العقلي البرهاني لا يعارض النقل القطعي (فلا بد في مواردهما) اي موارد العقل البديهي والعقل الفطري (من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه) اي على خلاف العقل.

والفرق بين البديهي والفطري : ان ما يدل عليه العقل الفطري يمكن ان لا يكون بديهيا ، بل حصل بالنظر والاستدلال ، مثل وحدانية الله سبحانه ، حيث انه ليس بديهيا كبداهة وجود اصل الصانع ، فان من ينظر الى الكون يحصل له بالبداهة :

العلم بان له صانعا ، اما انه هل هو واحد ، او اثنان؟ فانه لا بد له من دليل ينتهي الى العقل.

والحاصل : ان الشبهة في مقابل البديهة ـ التي ذكرناها ـ انّما تكون في مقابل غير البديهي والعقل الفطري ، اذ الشبهة تحصل في قبال العقل المشوب.

ونلتزم بعدم حصول القطع على خلاف النقل الصحيح (لان الادلة القطعية النظرية في النقليات) كالاجماعات المحصلة ، والمتواترات ، والمستفيضات الموجبة للقطع (مضبوطة) قد ضبطها اصحاب الكتب و (محصورة) في امور مخصوصة (ليس فيها شيء يصادم العقل) فكيف يقال : ان الدليل القطعي يصادم العقل؟ سواء العقل (البديهي) الذي هو واضح بأوّل فكره (او الفطري) الذي تفهمه الفطرة وان كان بملاحظة واستدلال.

(فان قلت) : ليس نظر الاخباريين في انكارهم حجة العقل ما ذكرتم : من جهة

١٦١

لعلّ نظر هؤلاء في ذلك إلى ما يستفاد من الأخبار ، مثل قولهم عليهم‌السلام : «حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا» ، وقولهم عليهم‌السلام : «لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وحجّ دهره وتصدّق بجميع ماله ولم يعرف ولاية وليّ الله فتكون أعماله بدلالته فيواليه ، ما كان له

______________________________________________________

كثرة الاشتباه في الادلة العقلية ، حتى يرد عليهم الاشكالات المتقدمة ، بل (لعل نظر هؤلاء في ذلك) الذي ذكروه يشير (الى ما يستفاد من الاخبار) من انحصار الطريق في الاحكام في السماع من الصادقين عليهم‌السلام.

(مثل قولهم عليهم‌السلام : حرام عليكم) حرمة تكليفية (أن تقولوا بشيء) من الاحكام.

او الأعم من الاصول والفروع.

والاعم حتى من التاريخ الماضي ، والامور المستقبلية ، كأحوال الامم السالفة ، واحوال ما بعد الموت (ما لم تسمعوه منّا) (١) فانهم هم طريق الاحكام ، وخصوصيات الاصول ، كما ان غيرهم لا علم لهم لا بالماضي ولا بالمستقبل.

(وقولهم عليهم‌السلام : لو أنّ رجلا) والرجل : من باب المثال ، وإلّا فالمرأة كذلك (قام ليله) بالعبادة (وصام نهاره) طول السنة (وحجّ دهره) كل عام او استمر في الحج والعمرة (وتصدّق بجميع ماله) في سبيل الله : وقفا ، وهدية ، وهبة ، وصدقة ، مصطلحة وبرا (ولم يعرف ولاية وليّ الله فتكون) ـ بالنصب كما في القاعدة الادبية ـ كل (أعماله بدلالته فيواليه) الفاء : تفريع على «لم يعرف» بان لم يكن له معرفة بالامام ، او لم يكن اعماله طبقا لما قاله وليّ الله ، بطلت اعماله

__________________

(١) ـ الكافي (أصول) : ج ٢ ص ٤٠١ ح ١ وفيه (الشر) بدل (حرام).

١٦٢

على الله ثواب» وقولهم عليهم‌السلام : «من دان الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا» إلى غير ذلك ، من أنّ الواجب علينا هو امتثال

______________________________________________________

و (ما كان له على الله ثواب) (١) يستحقه.

(وقولهم عليهم‌السلام : من دان الله) اي جعل دينه الذي هو طريق الى الله (بغير سماع من صادق) والمراد بالصادق : هم عليهم‌السلام (فهو كذا وكذا) (٢) من التهديد والعقاب.

وهنا سؤال ، وهو : هل ان امر اتباع القيادة المنصوبة من قبل الله سبحانه بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرعي فقط ، او عقلي ايضا؟.

ولا نقصد من العقلي ان ما ذكره الشرع بحيث لو وصل العقل الى ما فيه من المصلحة الشرعية ، الداعية لجعل ذلك قرّره ، فان ذلك مسلّم وقطعي ولا كلام فيه ، اذ الشارع حكيم ، لا يفعل إلّا حسب المصلحة ، وعليه يبنى قاعدة : ما حكم به الشرع حكم به العقل. بل بمعنى ان العقل مستقلا عن الشرع هل يدرك المصلحة في ذلك؟.

الظاهر : نعم ، اذ القيادة هي التي تجمع الكلمة وتدفع الاعداء ، ولذا ورد في بعض الروايات : إنّ «الامامة نظام الامّة» (٣) ، وبدون القيادة الصحيحة الرشيدة الموحدة ، تنهدم الدنيا وينحرف الدّين ، الذي هو مصلحة الانسان ايضا ، كما شاهدنا ذلك في المسلمين.

(الى غير ذلك من) الاخبار المتواترة الدالة على (ان الواجب علينا : هو امتثال

__________________

(١) ـ المحاسن : ص ٢٨٦ ح ٤٣٠ ، تفسير العياشي : ج ١ ص ٢٧٩ في تفسير سورة النساء.

(٢) ـ الكافي (أصول) : ج ١ ص ٣٧٧ ح ٤ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٩٣ ب ١٤ ح ٢٤.

(٣) ـ غرر الحكم : ج ١ ص ٥٢ ح ١١٣٧.

١٦٣

أحكام الله تعالى التي بلّغها حججه عليهم‌السلام.

فكلّ حكم لم يكن الحجّة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله ، بل يكون من قبيل «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» ، فانّ معنى سكوته عنه عدم أمر أوليائه بتبليغه وحينئذ

______________________________________________________

احكام الله تعالى التي بلّغها حججه عليهم‌السلام) ليس في الواجب والمحرم فحسب ، بل في سائر الاحكام التكليفية والوضعية ، فان امتثال كل حكم بحسبه.

(فكل حكم لم يكن الحجة واسطة في تبليغه ، لم يجب امتثاله) بل نسبته اليه سبحانه تشريع محرم ، من غير فرق بين ان نقطع بانه حكمه تعالى ام لا ، وذلك لان الحكم مقيد به ، كما لو قال المولى : يحرم عليك ان تعمل بما علمت انه حكمي ، اذا لم يكن من طريق عبدي فلان.

(بل يكون) ذلك الحكم الذي ليس من طريقهم (من قبيل : «اسكتوا عمّا سكت الله عنه») (١) وسكوت الله كناية عن الحكم الذي لم يؤده الى الناس من طريق اوليائه ، ولفظة «اسكتوا» امر وهو يدل على الوجوب فخلافه محرم.

وعليه : (فان معنى سكوته) تعالى (عنه) اي عن ذلك الحكم (عدم امر اوليائه بتبليغه) الى العباد لمصلحة في ذلك ، كما قال الشيخ الخال (٢) : ان الله اراد غلق باب الفاسق ، وان كان من اعلم المجتهدين ، ولم يكن العادل يصل اليه في العلم والتحقيق ، وأراد فتح باب العادل ولذلك فالواجب تقليد المجتهد العادل.

(وحينئذ) اي حين كان الامتثال انّما هو في الاحكام التي بلّغها الحجة

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦.

(٢) ـ الامام الشيخ محمد تقي الشيرازي قدس‌سره قائد ثورة العشرين التحررية في العراق.

١٦٤

فالحكم المنكشف بغير واسطة الحجّة ملغى في نظر الشارع وإن كان مطابقا للواقع.

كما يشهد به تصريح الامام عليه‌السلام ، بنفي الثواب على التصدّق بجميع المال ، مع القطع بكونه محبوبا ومرضيّا عند الله.

______________________________________________________

(فالحكم المنكشف بغير واسطة الحجة ملغى في نظر الشارع ، وان كان مطابقا للواقع) اي أن الله شرّعه ، لكن تشريعه وحده غير كاف لجواز العمل وانّما يجوز العمل به اذا جاء من طريق اوليائه عليهم‌السلام ، وفي الحقيقة انّ ما لم يصل عن طريقهم عليهم‌السلام لا يكون حكما فعليا ، بل شأنيا (كما يشهد به) ما ورد في الروايات ، وقد اشار اليها نصير الدين الطوسي بقوله :

لو ان عبدا اتى بالصالحات غدا

وودّ كل نبيّ مرسل ، وولي

وصام ما صام صوّام بلا ضجر

وقام ما قام قوام بلا ملل

وحجّ ما حجّ من فرض ومن سنن

وطاف ما طاف حاف غير منتحل

يكسي اليتامى من الديباج كلّهم

ويطعم الجائعين البر بالعسل

وطار في الجو لا يرقى الى أحد

وعاش في الناس معصوما من الزلل

ما كان في الحشر عند الله منتفعا

الّا بحب أمير المؤمنين علي (١)

ويؤيده : (تصريح الامام عليه‌السلام بنفي الثواب على التصدق بجميع المال) اذا لم يكن بدلالة وليّ الله (مع القطع) اي مع انا نقطع (بكونه) اي كون التصدق بجميع المال (محبوبا) في نفسه (ومرضيا عند الله) تعالى ، فليس نفي الثواب الا لاجل عدم دلالة وليّ الله ، وان كان في نفسه مرضيا له تعالى ، شأنا.

__________________

(١) ـ انظر كتاب فضائل الامام علي عليه‌السلام لمحمد جواد مغنية ، الخاتمة.

١٦٥

ووجه الاستشكال في تقديم النقليّ على العقل الفطريّ السليم ما ورد من النقل المتواتر على حجيّة العقل ، وأنّه حجّة باطنة ، وأنّه ممّا يعبد به الرّحمن ويكتسب به الجنان ، ونحوها ، ممّا يستفاد منه كون العقل السليم أيضا حجّة من الحجج.

فالحكم المستكشف به حكم بلّغه الرسول الباطنيّ الذي هو شرع من داخل ،

______________________________________________________

(و) ان قلت : فعلى هذا يلزم ان لا نشك في تقديم النقلي على العقلي الفطري ايضا ، فلما ذا استشكل بعض الاخباريين في تقديم هذا على ذاك ، او تقديم ذاك على هذا؟.

قلت : (وجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقل الفطري السليم : ما ورد من النقل المتواتر على حجية العقل) الذي أودعه الله في الانسان (وانه حجة باطنة) كما الانبياء حجّة ظاهرة (وانه مما يعبد به الرحمن ، ويكتسب به الجنان (١) ، ونحوها) من الاخبار المادحة للعقل.

مثل ما ورد : «إنّ أوّل خلق خلقه الله» ، وانه سبحانه قال له : «أقبل فأقبل ، وأدبر فأدبر ، فقال له : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أحبّ إليّ منك ، بك أثيب وبك أعاقب» (٢) (ممّا يستفاد منه كون العقل السليم) الفطري غير المشوب بنوازع الهوى (أيضا) كالأولياء عليهم‌السلام (حجة من الحجج ، فالحكم المستكشف به) اي بالعقل الفطري (حكم بلّغه الرسول الباطني الذي هو) نبي و (شرع من داخل)

__________________

(١) ـ الكافي (أصول) : ج ١ ص ١٦ ح ١٢.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٣٦٩ ب ٢ ح ٥٧٦٢.

١٦٦

كما أنّ الشرع عقل من خارج.

وممّا يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء ما ذكره السيّد الصدر قدس‌سره ، في شرح الوافية في جملة كلام له في حكم ما يستقلّ به العقل ،

______________________________________________________

الانسان (كما ان الشرع) الموحى بواسطة النبي (عقل من خارج) (١) الانسان.

إذن له تعالى حجتان يسميان : بالنبي ، والعقل ، وكلاهما يكشفان عن شرع الله تعالى ، فسبب اشكال بعض الاخباريين هو التصادم الظاهري للحجتين في النقلي والعقلي.

والحاصل : ان الحكم المستكشف بغير واسطة العقل والحجة ، ملغى ، اما اذا كشف بواسطة احدهما ، وسكت الآخر ، كان حجة واذا تصادما ففيه الاشكال بانه هل يؤخذ العقل ، او بما ورد من قبل الحجة؟ اما اذا توافقا فما أحسنه ، وعليه : فالاقسام اربعة.

(ومما يشير الى ما ذكرنا) : من ان مراد الاخباريين : مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الامتثال (من قبل هؤلاء) الاخباريين (ما ذكره السيد الصدر قدس‌سره في شرح الوافية في جملة) من (كلام له في حكم ما يستقل به العقل) بمعنى : ان العقل يراه وان لم يكن شرع ، كحسن الاحسان ، وقبح الظلم.

ولا يخفى ان الاختلاف بين الناس من باب الصغريات ، لا من جهة الكبريين المذكورين ، فانك لا تجد من يقول : ان الاحسان ليس بحسن ، او الظلم ليس بقبيح ، وانّما يفعل ما يفعل ، او يقول ما يقول ، بزعمه واقعا ، او لجهة مصلحة له فيه : انه ليس بظلم ، فان حتى مثل فرعون كان يقول : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ)

__________________

(١) ـ تفصيل النشأتين للراغب الاصفهاني : ص ٥١.

١٦٧

ما لفظه : «إنّ المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء او تركه او لا يجب إذا حصل الظنّ او القطع بوجوبه او حرمته او غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه‌السلام ، او فعله او تقريره ، لا أنّه يجب فعله او تركه او لا يجب مع حصولهما من أيّ طريق كان» ، انتهى موضع الحاجة.

______________________________________________________

(دِينَكُمْ)(١) ، والكفار كانوا يقولون (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ..)(٢).

الى غير ذلك (ما لفظه : ان المعلوم) من الاخبار والآثار (هو انه يجب فعل شيء) كالصلاة ونفقة الزوجة ، واجراء الحد.

(او تركه) كترك شرب الخمر ، وترك الجمع بين الاختين.

(او لا يجب) مع ترجيح ، كالمستحب والمكروه ، او بدون ذلك كالمباح (اذا حصل الظن) المعتبر (او القطع بوجوبه او حرمته او غيرهما) من الاحكام التكليفية والوضعية (من جهة) متعلق ب : «يجب» (نقل قول المعصوم عليه‌السلام ، او فعله او تقريره) طبعا مع اشتمال كل من الثلاثة على الشرائط المقررة ، فالقول عن تقية ، او الفعل غير ظاهر الوجه ، أو التقرير أي السكوت لمانع ، وليس كذلك لأنها فاقدة للشرائط.

(لا انه يجب فعله او تركه او لا يجب) في سائر الأحكام (مع حصولهما) اي حصول وجوب الفعل او الترك او غيرها من الاحكام (من أي طريق كان) (٣) ولو كان الطريق من غير المعصوم عليه‌السلام كأن يكون من العقل القطعي فرضا (انتهى موضع الحاجة) من كلامه ، الدال على مدخلية الحجة في طريق الحكم ، فبدونه لا حكم.

__________________

(١) ـ سورة غافر : الآية ٢٦.

(٢) ـ سورة ص : الآية ٥.

(٣) ـ شرح الوافية : مخطوط.

١٦٨

قلت : أوّلا ، نمنع مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم الله سبحانه.

كيف والعقل ، بعد ما عرف أنّ الله تعالى لا يرضى بترك الشيء الفلاني

______________________________________________________

(قلت) : استدلالهم بهذه الاخبار المتقدمة على عدم حجية العقل ، وان اللازم وساطة الحجة ، يرد عليه امور :

(أولا : نمنع مدخلية توسط تبليغ الحجة في) تنجز الاحكام و (وجوب اطاعة حكم الله سبحانه) فاذا علم الانسان انه حكم الله ، وعلم انه لم يقيده بكونه من طريق الحجة ، فهل يقال : بانه لا يلزم عليه اتباعه؟ ولو قيل بذلك ، لزم التناقض وهو محال.

والاخبار انّما تدل على اشتراط الطاعة بولاية وليّ الله مثلما تدل على ان الامور الشرعية يشترط في اجرها وقبولها الاعتراف بالله سبحانه.

وفرق بين لزوم توسط الحجة ، وبين اشتراط قبول الحجة في القبول ، او في اسقاط العقاب.

و (كيف) يكون الحكم مشروطا بوساطة الحجة؟ (و) الحال ان (العقل بعد ما عرف ان الله تعالى لا يرضى بترك الشيء الفلاني) فانه اذا وقع انسان في البئر يموت اذا لم ننقذه ، والقادر على الانقاذ ـ مثلا ـ لا يعرف هل قاله الائمة عليهم‌السلام ام لا؟ وهو يعلم ان الله يريد انقاذه ، حيث قد سمع قوله سبحانه : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)(١).

او لم يسمع ذلك ، لكنه اهتدى اليه بفطرة عقله ، فانه لا يشك في وجوب الانقاذ ، وان انقاذه حسن مثاب عليه.

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٣٢.

١٦٩

وعلم بوجوب إطاعة الله ، لم يحتج بذلك إلى توسّط مبلّغ.

ودعوى استفادة ذلك من الأخبار ممنوعة ، فانّ المقصود من أمثال الخبر المذكور عدم جواز الاستبداد بالأحكام الشرعيّة بالعقول الناقصة

______________________________________________________

ولهذا لم يقترب جعفر ابن ابي طالب عليهما‌السلام من الخمر والزنا والكذب وعبادة الاصنام لاهتداء عقله اليه ، كما استدل هو بعقله عند ما سأله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، وشكره الله تعالى عليه.

فاذا عرف الانسان (وعلم) بضرورة عقله (بوجوب اطاعة الله لم يحتج بذلك) كالانقاذ في المثال (الى توسط مبلّغ).

(و) ان قلت : فلما ذا اشترط في الأخبار المتقدمة لزوم توسط الحجة؟.

قلت : (دعوى استفادة ذلك) اي مدخلية الحجة في الحكم حتى يجب او يحرم او ما اشبه (من الاخبار) المتقدمة (ممنوعة).

(ف) ان قلت : ما هو المقصود إذن من هذه الاخبار؟.

قلت : (ان المقصود من امثال الخبر المذكور) والمراد من الخبر جنس الخبر ، لا خبر واحد ، فان الجنس قد يؤدي بالمفرد المحلى باللام ، مثل : اكرم العالم ، وقد يؤدي بالمفرد المجرد ، مثل :

(آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً)(١).

و «تمرة خير من جرادة» (٢).

الى غير ذلك كما ذكرناه في «الاصول» هو (عدم جواز الاستبداد) والانفراد (بالاحكام الشرعية بالعقول الناقصة) حيث ان العقل ما لم ينظم اليه الشرع

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٠١.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٧٦ ب ٣٧ ح ١٧٢ ، فقه الرضا : ص ٢٢٨.

١٧٠

الظّنّية ، على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة والاستحسانات ،

______________________________________________________

ناقص ، وانّما هما معا جناحا الكمال.

(الظنية) اذ الغالب كون الانسان يظن بالشيء ولا يستيقن به ، كما كان دأب العامة من معاصري الحجج (على ما كان متعارفا) بين الناس المناوئين لهم عليهم‌السلام (في ذلك الزمان من العمل بالاقيسة والاستحسانات) والمصالح المرسلة. والفرق بين هذه الثلاثة هو كالتالي :

ان القياس عبارة عن : تشبيه شيء بشيء لاسراء حكمه اليه ، مثلا : يسري حكم الشاة الى الكلب في حلّيته ـ كما قال به بعض العامة ـ.

والاستحسان : ما لا شبه له في الشريعة حتى يقيس المشبه على المشبه به ، وانّما يستحسن ان يكون الحكم كذلك ، لانه اقرب الى ذوق المستحسن ، فيقول ـ مثلا ـ ليستحسن ان يكون الكشف العلمي في الزنا ، نازلا منزلة الشهود والاقرارات الاربعة ، وقائما مقامها في اثبات الحكم.

واما المصالح المرسلة : فهي عبارة عن عدم وجود قياس ولا استحسان وانّما هناك مصلحة مرسلة ، اي لم يقل الشارع والعقل فيها شيئا ، لا نصا ولا قياسا ولا استحسانا ، وانّما يحكم فيها الفقيه بما شاء ، فاذا توقف امر مرور السيارات وضمان سلامتها من الاصطدام ـ مثلا ـ على السير من ذات اليمين او ذات اليسار يحكم بالسير من ذات اليمين ، لا لقياس او استحسان ، بل لانه مصلحة مرسلة كذلك للفقيه ان يحكم حسب هواه ، كما يأكل الانسان ، ويلبس ويركب ويسكن حسب هواه ، لا لقياس او استحسان.

هذا الماع الى هذه الامور الثلاثة ، والّا فالتفصيل يطلب من مظانّه.

١٧١

من غير مراجعة حجج الله في مقابلهم عليهم‌السلام.

وإلّا فادراك العقل القطعيّ للحكم المخالف للدليل النقليّ على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة ،

______________________________________________________

اما عندنا نحن الشيعة الامامية : فليس شيء الّا فيه حكم من كتاب او سنة ، والفقيه انّما يجتهد لرد الفروع الى الاصول ، من غير فرق بين الحكم ذي موضوعين ، او الاختياري والاضطراري.

فالاول : كالقصر والتمام في السفر والحضر.

والثاني : مثل الادلة الأولية في قبال الضرر ، والحرج ، والعسر ، والاهم والمهم.

وعلى كل : فالروايات في قبال اولئك الذين كانوا يعملون (من غير مراجعة حجج الله ، بل في مقابلهم عليهم‌السلام) حيث كانوا اذا عرفوا شيئا عنهم ضادّوه ، كما قالوا في التختم ونحوه ، لكن لا يخفى ان ذلك على سبيل الجزئية لا الكلية ، وإلّا فان بعضهم كان يأخذ منهم عليهم‌السلام ايضا.

(والّا) بأن لم يكن المقصود من الاخبار المتقدمة ما ذكرناه ، بل كان المقصود تقديم النقل على العقل ، لم يحتج الامر الى هذه الكثرة من الأخبار في بيان لزوم توسيط الحجة (ف) ان (ادراك العقل القطعي) الذي كلامنا فيه (للحكم المخالف للدليل النقلي) بصورة يتعارض العقل والنقل و (على وجه لا يمكن الجمع بينهما) لا جمعا بالحكم الاولي والثانوي ولا بذي موضوعين ولا بالعموم والخصوص ، وما اشبه (في غاية الندرة).

مثل : كون الارض على البقرة والحوت ، وان الله يعذب حسب النية ، ويكون تخليد أهل النار بذلك ، مع ان العقل لا يرى الاول قطعا ، ويرى الثاني ظلما.

لكن لا يخفى ما فيه : اذ الاول مأوّل كما ذكره السيد الشهرستاني قدس‌سره في كتاب :

١٧٢

بل لا نعرف وجوده ، فلا ينبغي الاهتمام به في هذا الأخبار الكثيرة ، مع أنّ ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض.

وعلى ما ذكرنا يحمل

______________________________________________________

«الهيئة والاسلام» ولا عجب من ذلك ، فانه كم من مجاز في الكتاب والسنة ، بل هو من فنون البلاغة.

والثاني : وان ذكره بعض الفلاسفة ، إلّا انه منضما الى قوله سبحانه : (جَزاءً وِفاقاً)(١) وما اشبه ، يعطي ان الخلود لا يكون جزاء فوق العدل ، وعدم ادراك عقولنا خصوصيات العالم الآخر ، كعدم ادراك الطفل مسائل الرياضيات العالية ، لا يدع مجالا لاحتمال الظلم في حقه سبحانه.

(بل لا نعرف وجوده) اصلا ، لما عرفت من ان نحو هذين المثالين ، ايضا ، تمثيلهما للنادر غير تام ، بل حتى واذا وجد نادرا ـ فرضا ـ (فلا ينبغي الاهتمام به) اي بهذا التعارض ، وتقديم النقل على العقل (في هذه الاخبار الكثيرة) فان الاهتمام بشيء نادر الوجود ، او غير موجود ليس من شأن الحكيم ، فكيف بهم عليهم‌السلام الذين هم في قمة العقل والحكمة؟.

(مع) ان هناك جوابا ثانيا على ما ادعاه الاخباريون من إلغاء العقل ، وذلك (ان ظاهرها) اي ظاهر هذه الاخبار (ينفي حكومة العقل) مطلقا (ولو مع عدم المعارض) فكيف يحملها الاخباريون على صورة ما اذا عارض العقل النقل فقط؟ وهل هذا الّا حمل المطلق على فرد منه بدون القرينة؟.

لكن يمكن ان يجاب عنهم : بانهم انّما يعملون بالعقل مع عدم المعارض وذلك لما ورد من حجية العقل ، خرج منه ما عارضه النقل ، لأقوائية ادلة النقل

__________________

(١) ـ سورة النبأ : الآية ٢٦.

١٧٣

ما ورد من : «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول».

وأمّا نفي الثواب على التصدّق مع عدم

______________________________________________________

على اخبار حجية العقل ، اما اذا لم يكن معارض العمل نقلي ، كان اللازم بالعقل.

(و) كيف كان : فانه (على ما ذكرنا) من حمل الاخبار الناهية ، على العمل بالعقل الناقص ، بدون الرجوع اليهم عليهم‌السلام (يحمل ما ورد : من «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول») (١) اي العقل الناقص ، لا العقل الذي هو حجة.

والحاصل : ان الجمع بين ادلة حجية العقل ، وبين ادلة : «دين الله لا يصاب بالعقول» ان الاول : في مجال العقل ، والثاني : في مجال الامور الشرعية ، التي لا مجال للعقل فيها ، مثلا : حسن الاحسان ، وقبح الظلم ، ووجوب العدالة ، وانقاذ الغريق والحريق والمهدوم عليه ، وحسن التواضع والسخاء والشجاعة ، وقبح الظلم والحسد والغرور والكبر ، الى غيرها من مجال العقل في الجملة.

بينما العبادات بخصوصياتها ، والديات ، وخصوصيات النكاح والطلاق وما اشبه ، انّما هي من مجال الشرع ، فلا تصادم بين الطائفتين من الروايات ، ودليل هذا الجمع هو القرائن الداخلية والخارجية في الروايات.

(واما) ما ورد من الاخبار في نفي الثواب عن التصدق بغير دلالة وليّ الله مما يدل على عدم اعتبار العقل القطعي اذ العقل لا يشك في حسن التصدق مطلقا ، وقد خالفه النقل بعدم الثواب عليه ، وعدم الثواب يلازم عدم حسنه ، فالجواب عنه يكون باحد امور :

اولا : ان (نفي الثواب على التصدق مع عدم) توسط الحجة وعدم

__________________

(١) ـ كمال الدين : ص ٣٢٤ ح ٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٢٦٢ ب ٦ ح ٢١٢٨٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٣٠٣ ب ٣٤ ح ٤١.

١٧٤

كون العمل به بدلالة وليّ الله ، فلو ابقي على ظاهره تدلّ على عدم الاعتبار بالعقل الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام ، مع اعترافه بأنّه حجّة من حجج الملك العلّام ، فلا بدّ من حمله على التصدّقات الغير المقبولة ، مثل التصدّق على المخالفين ،

______________________________________________________

(كون العمل به) اي بالتصدق (بدلالة ولي الله) وامره وارشاده لا يمكن الالتزام بظاهره (فلو ابقي على ظاهره تدل على عدم الاعتبار بالعقل الفطري الخالي عن شوائب الاوهام) لما عرفت من حكومة العقل الفطري بحسن التصدق مطلقا.

(مع اعترافه) اي الاخباري (بانه حجة من حجج الملك العلام) بل في الروايات الخاصة ايضا ما يدل عليه ، ففي الحديث : «لكلّ كبد حرّى أجر» (١).

وفي الحديث ما مضمونه : «تخفيف العذاب عن حاتم الطائي على احسانه مع انه كان كافرا ولم يكن احسانه بدلالة ولي الله».

وورد أيضا : «صحة صدقات الكفار ببناء الكنائس ، وان وقفهم عليها صحيح ، وكذلك مساجد العامة» (٢) ومن المعلوم : ان الوقف من قسم الصدقات ، الى غير ذلك ، (فلا بد من حمله على) خلاف الظاهر من (التصدقات غير المقبولة ، مثل : التصدق على المخالفين) من حيث انهم مخالفون ، وإلّا فالتصدق عليهم لانسانيتهم مقبولة قطعا ، ولقد كان الامام الصادق عليه‌السلام يتصدق عليهم في ظلام الليل قائلا : لو كانوا منا لواسيناهم حتى بالدقة ، واعطى الامام الحسين عليه‌السلام الماء لاهل الكوفة الذين جاءوا لقتاله (٣) الى غير ذلك.

__________________

(١) ـ جامع الاخبار : ص ١٣٩ ، بحار الانوار : ج ٧٤ ص ٣٧٠ ب ٢٣ ح ٦٣ ، وكذا ورد في مجمع البحرين مادة كبد «أفضل الصدقة إبراد كبد حرّاء».

(٢) ـ للتفصيل راجع موسوعة الفقه : ج ٦٠ كتاب الوقوف والصدقات للشارح.

(٣) ـ راجع مقتل الحسين للمقرم : ص ١٨٢ ، تاريخ الطبري : ج ٦ ص ٢٢٦.

١٧٥

لأجل تديّنهم بذلك الدين الفاسد ، كما هو الغالب في تصدّق المخالف على المخالف ، كما في تصدّقنا على فقراء الشيعة ، لأجل محبّتهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبغضهم لأعدائه ، او على أنّ المراد حبط ثواب التصدّق ، من أجل عدم المعرفة لوليّ الله تعالى

______________________________________________________

أما التصدق عليهم (لاجل تدينهم بذلك الدين الفاسد) حتى يرجع التصدق الى غير الله سبحانه ، مثل : التصدق للاصنام ، فذلك هو مورد الرواية (كما هو الغالب في تصدق المخالف على المخالف).

ومن المعلوم : ان العقل الفطري لا يحكم بحسن ذلك (كما في تصدقنا على فقراء الشيعة) فانه (لاجل محبتهم لامير المؤمنين عليه‌السلام ، وبغضهم لاعدائه).

وعلى هذا : فلا ثواب للتصدق وذلك من جهة عدم المقتضى للثواب.

(أو) حمل الخبر على وجود المانع ، فان الثواب قد لا يحترق لاجل انه لا نار ، وقد لا يحترق لاجل انه رطب ، والنار الموجودة لا تؤثر فيه ، فالخبر محمول (على ان المراد : حبط ثواب التصدق) فانه وان كان له في نفسه اجر ، إلّا ان الاجر يذهب هدرا (من اجل عدم المعرفة لولي الله تعالى) فهو من قبيل : «حبّ عليّ عليه‌السلام حسنة لا تضرّ معها سيّئة ، وبغض عليّ عليه‌السلام سيّئة لا تنفع معها حسنة (١).

فان حبّ علي عليه‌السلام كالبحر ، اذا صب فيه شيء من القذارة لا يقذر كاملا ، وان قذر موضعا منه في الجملة ، وبغض علي عليه‌السلام كالكنيف اذا صب فيه قارورة من ماء الورد ، لا ينفع في تبديل رائحته الكريهة الى الرائحة الطيبة ، لان الغلبة في كلا الجانبين للاغلب الاعم ، لا للطارئ الاقل.

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ٨٦ ، نهج الحق : ص ٢٥٩.

١٧٦

او على غير ذلك.

وثانيا ، سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الاطاعة. لكنّا اذا علمنا إجمالا بأنّ حكم الواقعة الفلانيّة لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجّة ـ مضافا إلى ما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة حجّة الوداع :

______________________________________________________

(او على غير ذلك) كأن يراد : ان ثوابهم لا يوجب رفع النار عنهم ، وان اوجب التخفيف.

هذا كله هو الجواب الاول عن قول الاخباري : بان العقل لا يؤخذ به اذا خالف النقل ، وبان توسط الحجة شرط في الاخذ بالحكم ، وإلّا بأن لم يتوسط الحجة فلا حكم ، وان قطع به وقطع بان الله يريده.

(وثانيا : سلّمنا مدخلية تبليغ الحجة في) ثبوت الاحكام بحيث لو لا الحجة لا حكم ، وكذا سلّمنا مدخليته في (وجوب الاطاعة) فلا اطاعة بدون توسط (لكنّا) نقول : لا ملازمة بين وساطة الحجة والسماع من الحجة ، اذ من الممكن ان العقل يحكم بالحكم ، فنضم اليه علمنا بان النبي والائمة عليهم‌السلام قالوا كل الاحكام ، فنستكشف منه ان هذا الحكم الذي دل عليه العقل ، هو حكمهم عليهم‌السلام.

وعليه : ف (اذا علمنا اجمالا) الكبرى الكلية (بان حكم الواقعة الفلانية) كذا ، كالصلاة ـ مثلا ـ فيمن توسط الارض الغصبية وليس له من الوقت حتى يصلي في الخارج ، فيصلي في الداخل وصلاته صحيحة فنكتشف (لعموم الابتلاء بها) ان حكمها (قد صدر يقينا من الحجة) فان الوقائع الكثيرة الابتلاء بها ، لا بد وان وقعت في زمانهم واستفتوا منهم ، وانهم اجابوا عنها.

(مضافا الى) علمنا به من جهة كثرة الابتلاء (ما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة حجة الوداع) وهي آخر حجة حجها ، لانه روي انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حج واعتمر اربعين

١٧٧

«معاشر الناس! ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النّار إلّا أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النّار ويباعدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه»

______________________________________________________

مرّة فقال فيها : (معاشر النّاس) بالنصب لحذف حرف النداء ، وهو جمع معشر بمعنى ، الجماعة ، لانهم كانوا جماعات من مختلف البلدان والاماكن والقبائل ، ويسمون بالمعشر لعشرة بعضهم مع بعض (: ما من شيء) واجب او مستحب (يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النّار إلّا أمرتكم به) امر وجوب ، او استحباب امرا بالقول ، او بالفعل ، او بالتقرير (وما من شيء) محرم او مكروه (يقرّبكم إلى النّار ويباعدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه) (١).

ومن المعلوم ان المكروه يبعد الانسان عن الجنة ، كما ان المباح لا يبعد ولا يقرب.

والحاصل : ان المراد ذكر كل الاحكام المحتاج اليها الناس في حياتهم.

لا يقال : كيف والاحكام كثيرة ، ولم يكن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقت لذكرها جميعا؟.

فانه يقال : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرها جميعا ولو بنحو الكلّيات ، وكذا بما أودعه عليا عليه‌السلام «من الف باب يفتح له من كل باب الف الف باب» (٢) ، مما تكون

__________________

(١) ـ مستدرك الوسائل : ج ١٣ ص ٢٧ ب ١٠ ح ١٤٦٤٣ ونظيره ورد في الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٧٤ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٤٥ ب ١٢ ح ٢١٩٣٩ ، بحار الانوار : ج ٧٠ ص ٩٦ ب ٤٧ ح ٤.

(٢) ـ اشارة الى قول الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام : (علمني رسول الله الف باب من العلم يفتح لي من كل باب الف باب) ، انظر الخصال للصدوق : ج ٢ ص ٦٤٧ ، بصائر الدرجات : ص ٢٧٦ ، الغدير للاميني : ج ٣ ص ١٢٠ ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج ٢ ص ٤٨٤ ح ١٠٠٣ ، كنز العمال : ج ٦ ص ٣٩٢ ، تاريخ ابن كثير : ج ٧ ص ٣٦٠.

١٧٨

ـ ثمّ أدركنا ذلك الحكم ، إمّا بالعقل المستقلّ ، وإمّا بواسطة مقدّمة عقليّة ، ـ نجزم من ذلك

______________________________________________________

النتيجة انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر الف مليون باب من العلم ، بينما لا نجد في الجواهر ـ وهو اضخم الكتب الفقهية الى زماننا حسب اطلاعنا ـ الّا ما يضاهي ربع مليون حكم.

ولا يخفى ان ايداعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام هذه العلوم الكثيرة كان اعجازيا عن طريق المعجزة.

كما ان هذا الحديث يدل على الاعم مما ذكرناه : ـ من دلالة العقل على ذكرهم عليهم‌السلام ما هو محل الابتلاء دون غيره ـ حيث ان الحديث يدل على ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان هو محل الابتلاء في ذلك الوقت وما لم يكن.

(ثم) اذا علمنا الصغرى و (ادركنا ذلك الحكم) الذي صدر عن الحجة (اما بالعقل المستقل) بدون دليل شرعي في عالم الاثبات ، كحكم الشارع باتيان الصلاة لمن توسط الارض الغصبية ، ولا مجال له من الوقت حتى يصلي خارج الارض ، لان الصلاة صلة بين الله والعبد ، ولا يجوز تركها بأي حال ، فان العقل مستقل بذلك.

(واما بواسطة مقدمة عقلية) مثل : استفادتنا تنجس الماء القليل بملاقات النجاسة من قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (١).

بضميمة مقدمة عقلية وهي : ان المشروط عدم عند عدم شرطه ف (نجزم من ذلك) القياس صاحب الكبرى المتقدمة ، وهي : «ان الحكم ذكره الشارع قطعا» والصغرى المذكورة وهي : «ان الحكم كذا للعقل المستقل ، او لمقدمة عقلية»

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ١٥٨ ب ٩ ح ٣٩١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٩ ح ١٢ ، الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٢ ح ١ وح ٢ ، الاستبصار : ج ١ ص ٦ ب ١ ح ١ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١٥٠ ب ٦ ح ١١٨.

١٧٩

بأنّ ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجّة ، صلوات الله عليه ، فيكون الاطاعة بواسطة الحجّة.

إلّا أن يدّعي : أنّ الأخبار المتقدّمة وأدلّة وجوب الرجوع الى الأئمة عليهم‌السلام ، تدلّ على مدخليّة تبليغ الحجّة وبيانه

______________________________________________________

فانهما يوجبان الجزم بالنتيجة.

وصورة القياس تكون هكذا : «الحكم الكذائي دل عليه العقل» «وكل ما دل عليه العقل ذكره الشرع» «فالحكم الكذائي حكم به الشرع».

و (ب) ذلك يظهر لنا (ان ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجة صلوات الله عليه) ففي المثال الاول نقول : «الحكم بوجوب الصلاة في الغصب حكم عام البلوى» «وكل حكم عام البلوى صادر عن الحجة» «فوجوب الصلاة صادر عن الحجة» وفي المثال الثاني نقول :

«الحكم بنجاسة الماء مستفاد من اذا الشرطية» «وما استفيد من اذا الشرطية صادر عن الحجة» «فالحكم بالنجاسة صادر عن الحجة».

وعليه : (فتكون الاطاعة بواسطة الحجة) قد انكشف عن الدليل العقلي المستقل ، او عن مقدمة عقلية (الّا ان يدعى) بصيغة المجهول ، او يدّعي الاخباري : (ان الاخبار المتقدمة) الدالة على وجوب اخذ الاحكام من الحجة ، وبدلالته.

(و) كذا (ادلة وجوب الرجوع الى) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والزهراء سلام الله عليها و (الائمة عليهم‌السلام) خاصة بالسماع عنهم ، فلا تشمل ما نستكشفه بواسطة العقل المستقل ، او بواسطة مقدمة عقلية.

وذلك لانها (تدل على مدخلية تبليغ الحجة وبيانه) اي بيان الحجة

١٨٠