الوصائل إلى الرسائل - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-00-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٣٧٢

فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها ، فيقطع بالنتيجة.

فاذا قطع بكون شيء خمرا ، وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشيء.

لكنّ الكلام في أنّ قطعه هذا ،

______________________________________________________

حرام ، وقطع هو بان المائع الفلاني خمر ، لم ينتظر في النتيجة ـ وهي فهذا حرام ـ الى شيء آخر (فيجعل ذلك) الدليل المثبت للحكم (كبرى لصغرى قطع بها) اي بتلك الصغرى (فيقطع بالنتيجة).

اقول : القطع بالنتيجة ، انما يكون إذا كان الحكم مقطوعا به ، وإلّا فالنتيجة تابعة لاخس المقدمتين ، والادلة الشرعية غالبا لا تعطي القطع ، بل الحجة المعذرة والمنجزة ، فالمراد بقوله «يقطع» اي تقوم عنده الحجة.

نعم ربما يقطع المكلّف إذا كان الحكم مقطوعا به (فاذا قطع بكون شيء) من المائعات (خمرا وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها) سواء تعلق به القطع ام لا ـ اذ الموضوع ليس مقيدا ، وانما القطع طريق الى الموضوع كما تقدّم ـ (هي الحرمة) حصلت النتيجة (فيقطع) بالقطع الطريقي ـ وقد عرفت المراد بالقطع ـ (بحرمة ذلك الشيء) اما إذا ظن بان شيئا خمر ، فلا تحصل له هذه الحجة ، لان الشارع لم يجعل الظن طريقا الى الواقع.

نعم ، إذا جعل الشارع الظن في مكان طريقا ، كما قال بعض في تعيين الميقات في باب الحج ، تشكلت المقدمتان أيضا ، فيقول : «هذا ميقات» للظن به ، و «الميقات واجب الاحرام منه» ف «هذا المكان واجب الاحرام منه».

(لكن) حيث ان القطع قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه ، بان يكون من الجهل المركب ، وقع (الكلام) بين الاعلام (في ان قطعه هذا) الموافق أو المخالف

٦١

هل هو حجّة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله ، فيعاقب على مخالفته ، او أنّه حجّة عليه إذا صادف الواقع؟.

بمعنى أنّه لو شرب الخمر الواقعيّ عالما عوقب عليه ، في مقابل من شربها جاهلا ، لا أنّه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا ، وإن لم يكن خمرا في الواقع.

______________________________________________________

للواقع (هل هو حجة عليه من الشارع) فيحتج بقطعه (وان كان مخالفا للواقع في علم الله) سبحانه ، (ف) إذا احتج ، لا يكتفي بالاحتجاج والتأنيب والعتاب بل (يعاقب على مخالفته) اي مخالفة العبد قطعه مطلقا وافق الواقع أو خالف.

ومقتضى ذلك : ان قطعه بموافقة الواقع ، يوجب ثوابه وان خالف في علم الله للواقع ، مثلا : إذا قتل انسانا بزعم انه كافر حربي ـ حيث ان الكافر الحربي واجب القتل باذن الامام عليه‌السلام (١) ـ وصادف ان كان مؤمنا لم يعلم القاتل بايمانه ، يثاب على القتل.

(أو انه) اي القطع (حجة عليه إذا صادف الواقع) فقط؟ فالعقاب والثواب على الواقع ، لا على المقطوع به فيما كان القطع جهلا مركبا.

(بمعنى : انه لو شرب الخمر الواقعي عالما) علما تفصيلا أو علما اجمالا (عوقب عليه ، في مقابل من شربها جاهلا) حيث لا عقاب عليه (لا انه يعاقب على) التجري اي على (شرب ما قطع بكونه خمرا ، وان لم يكن خمرا في الواقع).

فصور المسألة ست ، لانه اما خمر أو ليس بخمر ، وفي كل منهما اما قاطع بانه خمر ، أو قاطع بانه ليس بخمر ، أو شاك بانه خمر ام لا ، فاذا شك بدون حجة

__________________

(١) ـ انظر وسائل الشيعة : ج ٢٨ ص ٣٠٧ ب ١ ح ٣٤٨٣١.

٦٢

ظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاق على الأوّل ، كما يظهر ، من دعوى جماعة الاجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت ، فانّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق.

______________________________________________________

على احد الجانبين فلا عقاب قطعا ، وفي صورة الجهل بالخمرية لا عقاب ، وفي صورتي العلم والمطابقة للواقع عقاب قطعا ، وانما الكلام في صورة ما لم يكن خمرا ، لكنه قطع بانه خمر.

(ظاهر كلماتهم في بعض المقامات : الاتفاق على الاول) اي حجية القطع مطلقا ، وافق الواقع ام لا ، ومعنى ذلك : حرمة التجري ، والعقاب عليه.

وقد استدل للحرمة بوجوه اربعة :

الاول : الاجماع (كما يظهر من دعوى جماعة الاجماع على ان ظان ضيق الوقت) مما كان ظنه غير مطابق للواقع ، بان كان في الوقت سعة (إذا أخر الصلاة) بما ظن خروج الوقت (عصى) لانه خالف ظنه ، وملاك الظن ـ بالاولوية ـ ياتي في القطع اي فيمن قطع بضيق الوقت ، وكان قطعه خلاف الواقع.

(وان انكشف بقاء الوقت) ؛ فالواجب شرعا العمل بالظن وبالقطع ، فاذا لم يعمل بهما ، كان فاعلا للحرام ومعاقبا وان صلى في الوقت ، وما ذلك الّا لكون القطع حجة مطلقا.

لا يقال : انهم لم يذكروا القطع بضيق الوقت.

لانه يقال : (فان تعبيرهم بظن الضيق ، لبيان ادنى فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق) أيضا بطريق أولى.

٦٣

نعم ، حكي عن النهاية وشيخنا البهائيّ التوقف في العصيان ، بل في التذكرة : «لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه ، فالوجه عدم العصيان» ، انتهى.

واستقرب العدم سيّد مشايخنا في المفاتيح ، وكذا لا خلاف بينهم

______________________________________________________

(نعم) هذا الاجماع ممنوع صغرى ، ومناقش فيه كبرى ، اذ(حكي عن النهاية) للشيخ قدس‌سره (وشيخنا البهائي قدس‌سره : التوقف في العصيان) فيما انكشف الخلاف ، والظاهر : ان مرادهما هو وجود الوقت واقعا وان لم ينكشف الخلاف ، اذ الانكشاف وعدمه لا عبرة بهما ، بل العبرة بالواقع.

(بل في التذكرة : لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر) الصلاة (ان استمر الظن) بان لم ينكشف الخلاف (وان انكشف خلافه ، فالوجه) الذي اراه : (عدم العصيان) مما يدل على عدم حرمة التجري (انتهى) كلام التذكرة.

(واستقرب العدم) اي عدم العصيان (سيد مشايخنا) السيد محمد المجاهد ولقب بهذا اللقب ، لانه جاهد الروس حيث ارادوا احتلال ايران ، وتقدموا الى الموضع الحالي منه ، بما لو لم يجاهد السيد والشيخ النراقي وغيرهما ، لكانت ايران اليوم جزءا من روسيا في قصة مشهورة ، لكن لا يخفى ان «الساساني» ذكر في كتابه : ان ايران قبل مائتي سنة ، كان عدد نفوسها مائة مليون نسمة ، ولو بقيت كذلك واطردت ، لكان نفوسها الآن اضعاف ذلك (في المفاتيح) (١) الذي الّفه في الاصول كما ألّف في الفقه كتاب المناهل. بل يمكن ان يقال في عدم الاجماع : ان كثيرا من العلماء ، لم يذكروا هذه المسألة ، فكيف يمكن تحقق الاجماع؟.

(وكذا) مما يؤيد وجود الاجماع في حرمة التجري : انه (لا خلاف بينهم

__________________

(١) ـ المفاتيح : ص ٣٠٧.

٦٤

ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر او مقطوعه معصية ، يجب إتمام الصلاة فيه ، ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه ، فتأمّل.

ويؤيّده

______________________________________________________

ظاهرا) وانّما قلنا ظاهرا ، لان المقدار الذي رايناه من كلماتهم لا خلاف فيها ، ولعل ان هناك مخالفا لم نظفر به (في ان سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه ، معصية يجب اتمام الصلاة فيه) لان سفر المعصية حرام ، وكلما كان السفر حراما كان اللازم الاتمام ، لان السفر الموجب للقصر من شرائطه ان لا يكون معصية ، فاذا سافر لاجل قتل مسلم ، أو شرب خمر ، أو زنا ، أو ما اشبه ، وجب عليه الصيام في شهر رمضان واتمام الصلاة (ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه) إلّا إذا كان السفر بعد الانكشاف جامعا لشرائط القصر.

مثلا : لو اراد بعد الانكشاف ، السير اربع فراسخ ذهابا وإيابا ، أو اراد السير ثمانية فراسخ.

(فتأمل) لعله اشارة الى ان الكلام في القطع الطريقي أو الظن كذلك والقطع بالضرر أو ظنه في السفر ماخوذ في موضوع التمام ، اي ان الشارع قال : من ظن الضرر أو قطع فصلاته تمام وصومه واجب ، فلا يكشف كلامهم عن حرمة التجري.

أو ان امره بالتأمل اشارة الى ان قولهم في موردين ، لا يكشف عن قولهم بحرمة التجرى مطلقا ، فان الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا.

أو اشارة الى ان الاجماع وان تم صغرى ، الّا انه محتمل الاستناد كبرى ، وليس مثله حجة كما سيأتي تحقيقه.

الثاني : من ادلتهم في حرمة التجري ما ذكره قدس‌سره بقوله : (ويؤيده) اي الاجماع ،

٦٥

بناء العقلاء على الاستحقاق وحكم العقل بقبح التجرّي.

وقد يقرّر دلالة العقل على ذلك : بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين

______________________________________________________

على الحرمة (بناء العقلاء على الاستحقاق) للعقاب ، فان من قطع بنهي المولى عن شيء ثم فعله ، أو قطع بامره بشيء ثم تركه ، يراه العقلاء مستحقا للعقاب ، سواء صادف قطعه الواقع أو لم يصادف ، ألا ترى انه لو استهدف العبد من زعم انه ولد المولى ، لكن كان قطعه بانه ولد المولى خطأ بان كان المرمي وحشيا من الحيوانات ، رآه العقلاء مستحقا للعقاب؟.

(و) الثالث : من ادلة القائلين بحرمة التجري : (حكم العقل بقبح التجري) بضميمة التلازم بين القبح والحرمة ، لانه كلما حكم به العقل حكم به الشرع.

والفرق بين حكم العقل ، وبناء العقلاء : ان بينهما عموما مطلقا ، فكلما كان الاول كان الثاني ولا عكس ، فاذا حكم العقل بحسن الاحسان أو قبح الظلم ، بنى العقلاء على ذلك ، اما ليس كلّما بني العقلاء على شيء كان العقل أيضا ملزما لذلك الشيء ـ لو لا حكم العقلاء ـ.

مثلا : العقلاء يبنون على وجود طبيب لكل الف انسان ، لانهم يرون فضيلة المجتمع في ذلك ، فهل ذلك من المستقلات العقلية؟ الى غيره من الامور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها.

(و) الرابع : من ادلتهم ما ذكره بقوله : (قد يقرر دلالة العقل على ذلك) اي تحريم التجري ، والمقرر : السبزواري قدس‌سره في الذخيرة ، والقمي قدس‌سره في القوانين ، والجواهر والفصول ، على ما حكي عن بعضهم ، والدليل هو ما يصطلح عليه : بالسبر والتقسيم (بانا إذا فرضنا شخصين قاطعين) بحرام أو واجب ، وكلاهما

٦٦

بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا فشرباهما ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فامّا أن يستحقّا العقاب ، او لا يستحقّه أحدهما ، او يستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر أو العكس ، لا سبيل إلى الثاني والرابع ، والثالث

______________________________________________________

عمل حسب قطعه باتيان المحظور أو ترك الواجب ، مثلا : (بأن قطع احدهما بكون مائع معين) في الاناء الابيض (خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر) في اناء احمر (خمرا) فخالفا قطعهما (فشرباهما) اي الإناءين (فاتفق مصادفة احدهما للواقع) اي كان الاناء الاحمر خمرا مثلا (ومخالفة الآخر) للواقع ، بان كان الاناء الابيض ماء ، فالصور لا تخلو عن اربع :

١ ـ (فاما ان يستحقا) كلاهما (العقاب).

٢ ـ (أو لا يستحقه احدهما) اي لا هذا المصادف ، ولا ذاك غير المصادف.

٣ ـ (أو يستحقه) اي العقاب (من صادف قطعه الواقع) صاحب الاناء الاحمر ، حيث فيه خمر واقعا (دون الآخر) صاحب الاناء الابيض ، الذي كان فيه الماء واقعا.

٤ ـ (أو العكس) بان يعاقب المولى شارب الماء ولا يعاقب شارب الخمر ، وحيث ان التقسيم عقلي لا مجال لقسم خامس (لا سبيل) عقلا وشرعا (الى الثاني) وهو عدم استحقاق اي منهما العقاب ، اذ لازم ذلك : ان المعصية العمدية لا عقاب عليها ، وهو يخالف العقل والشرع.

(و) كذلك لا سبيل عقلا ولا شرعا الى (الرابع) وهو استحقاق شارب الماء دون شارب الخمر (والثالث) وهو استحقاق شارب الخمر العقاب ، دون شارب

٦٧

مستلزم لاناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل.

______________________________________________________

الماء ، فلا سبيل اليه أيضا ، لانه (مستلزم لاناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار) فان المصادفة لم تكن باختيار العاصي ، فان ما في اختيارهما هو شرب ما قطعا بانه خمر ، وهما متساويان في ذلك ، فلو حكمنا باستحقاق مصادف الخمر وعدم استحقاق غير المصادف ، لزم كون استحقاق العقاب وعدم استحقاقه منوطين بامرين خارجين عن الاختيار.

(وهو) اي هذا الاستلزام (مناف لما يقتضيه العدل) فانه يصح العقاب على الامر الاختياري ، لا على الامر غير الاختياري.

لا يقال : فكيف طلب المؤمنون من الله سبحانه : ان لا يحملهم ما لا طاقة لهم به؟ وكيف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم (١) ، مع ان الصبي غير المميز لا اختيار له؟.

لانه يقال : معنى ما لا طاقة : ما هو اخير الطاقة ـ كما يعبر عن ذلك عرفا ورفع القلم عن غير المميز ، هو القلم المناسب له من تكليفه بعد ذلك ، بما هو اثر التكليف من القضاء والاعادة ، والضمان ـ على قول من يقول : بان لا ضمان عليه إذا كبر ، كما لا يلزم على وليّه الاداء من ماله ـ.

وكيف كان : فاذا بطلت الاقسام الثلاثة (فتعين الاول) وهو : استحقاق المصادف وغيره ، وهذا هو معنى حجية القطع مطلقا وان لم يصادف الواقع ، ولازمه : حرمة التجري.

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٥٢٨ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٤٥ ب ٤ ح ٨١ ، بحار الانوار : ج ٥ ص ٣٠٣ ب ١٤ ح ١٣.

٦٨

ويمكن الخدشة في الكلّ.

أمّا الاجماع ، فالمحصّل منه غير حاصل ، والمسألة عقليّة ، خصوصا مع مخالفة غير واحد ، كما عرفت من النهاية وستعرف من قواعد الشهيد قدس‌سره ،

______________________________________________________

وهناك دليل خامس : يدل على حرمة التجري ، وهي : الآيات والروايات الدالة على ذلك ، كما يأتي جملة منها.

(و) لكن (يمكن الخدشة في الكل :) فان الادلة المذكورة لا يمكن قيامها دليلا على حرمة التجري ، حتى يكون القطع حجة وان لم يصادف الواقع.

(اما الاجماع : فالمحصل منه) وهو : ان يرى الفقيه كلمات الفقهاء ويراهم قد افتوا بشيء (غير حاصل) فبعضهم لم يذكر المسألة ، وبعضهم لم يقل بها ـ كما تقدّم الالماع الى ذلك ـ.

(و) لو فرض وجود الاجماع المحصل لم ينفع ، لان (المسألة عقلية) والمسائل العقلية ، يكون المعيار فيها العقل لا النقل ، لان النقل انّما هو حجة في الامور الشرعية لا العقلية ، فلو فرض ان الاجماع قام على ان الثلاثة مع الثلاثة سبعة ، أو ان الله قابل للرؤية ، فهل يمكن الاعتماد على ذلك؟.

أمّا كيف ان المسألة عقلية؟ فان العقل هو القاضي باستحقاق الثواب للمطيع والعقاب للمعاصي ، كما ان العقل هو الذي يقول : ان المطيع من هو؟ وان العاصي من هو؟.

وبهذا ظهر : ان الاجماع مع تماميته لا ينفع ، فكيف ينفع (خصوصا مع مخالفة غير واحد) مما يوجب عدم وجود الاجماع؟ (كما عرفت من النهاية ، وستعرف من قواعد الشهيد قدس‌سره) حيث انكرا الحكم المذكور ، بل وانكره غيرهما أيضا.

٦٩

والمنقول منه ليس حجّة في المقام.

وأمّا بناء العقلاء ، فلو سلّم فانّما هو على مذمّة الشخص ، من حيث أنّ هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ، لا على نفس فعله ، كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ، فانّ المذمّة

______________________________________________________

(و) بذلك ظهر : ان (المنقول منه) اي من الاجماع بالطريق الاولى (ليس حجة في المقام) اذ المحصل أقوى من المنقول : فاذا لم يكن المحصل حجة لنفيه صغراه وكبراه ، كان المنقول أولى بعدم الحجية.

(وأمّا بناء العقلاء) الذي استدل به لحرمة التجري وعقاب المتجري (فلو سلّم) ان لهم بناء في اصل المسألة ، فلا نسلّم بنائهم على الحرمة والعقاب ، وانّما قال : «لو سلم» لانه لا اشكال في عدم اطلاق ذم العقلاء للمتجري ـ كما سيأتي في أقسام التجري ـ كالتلبس بالفعل برجاء ان لا يكون معصية مع خوف كونه معصية (فانما هو) اي بناؤهم (على مذمة الشخص من حيث ان هذا الفعل) كشرب الماء باعتقاد انه خمر (يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه) وانه لما ذا لم يربّ نفسه حتى لا تهمّ بالعصيان؟ كمن يهرب عن توهم الاسد ، فانهم يذمونه لما ذا لم يربّ نفسه على الشجاعة؟ (لا) ان الذم (على نفس فعله) الخارجي الذي هو شرب الماء ، فان شرب الماء لا ذم له ، وذم العقلاء على الصفة النفسية موجود وان لم يكن فعل في الخارج.

فالشارب للماء بزعم انه خمر حاله (كمن انكشف لهم) اي للعقلاء (من حاله انه) سيئ النية (بحيث لو قدر على قتل سيده) أو انتهاك عرضه ، أو سرقة ماله (لقتله) وانتهك ، وسرق ، وان لم يات منه فعل في الخارج اصلا (فان المذمة)

٧٠

على المنكشف ، لا الكاشف.

ومن هنا : يظهر الجواب عن قبح التجرّي ، فانّه لكشف ما تجرّأ به عن خبث الفاعل ، لكونه جريئا وعازما على العصيان والتمرّد ،

______________________________________________________

من العقلاء انّما هي (على المنكشف) اي الامر الباطني (لا الكاشف) اي القتل الخارجي ، لفرض انه لم يقع قتل.

نعم ، لا اشكال في ان ذمهم على شارب الماء بقصد الخمر يكون اكثر من ذمهم على من لو وجد خمرا لشربها.

وعلى اي حال : فالعقلاء لا يعاقبون الناوي ، وان كانوا يعاقبون العاصي ، والمتجري ناو ، وليس بعاص.

(ومن هنا :) اي من كون المذمة على المنكشف لا الكاشف (يظهر الجواب عن قبح التجري) عقلا (فانه) اي القبح (لكشف ما تجرأ به) من شرب الماء باعتقاد انه خمر (عن خبث الفاعل) نفسا ، خبثا بيده علاجها ، مما يرجع الى الاختيار ، لا خبثا ليس بيده اختيار ، حتى يقال : كيف يذم على الشيء غير الاختياري؟ (لكونه جريئا) وطاغيا (وعازما على العصيان والتمرد).

ومن المعلوم ان خبث النفس لا عقاب عليه ، إلّا إذا كان في اصول الدين ، بأن لم يعتقد بها ، عن تقصير لا عن قصور.

أو كان مما دل الدليل الخاص على العقاب عليه ، مثل ما ورد : من حرمة الرضا بالمعصية ، كما في قصة عقر ناقة صالح ، وان الله سبحانه عمّهم بالعقاب لذلك ، وكما ورد في زيارة الامام الحسين عليه‌السلام : «ولعن الله امة سمعت بذلك فرضيت به» (١).

__________________

(١) ـ مفاتيح الجنان : ص ٥٦٦.

٧١

لا على كون الفعل مبغوضا للمولى.

والحاصل : أنّ الكلام في كون هذا الفعل ـ الغير المنهيّ عنه ـ واقعا ، مبغوضا للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضا ، لا في أنّ هذا الفعل المنهي عنه باعتقاده ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيّده ،

______________________________________________________

و (لا) قبح عقلا في شرب الماء بزعم انه خمر (على كون الفعل مبغوضا للمولى) حتى يكون حراما ، ويكون معاقبا عليه ، فيقال له يوم القيامة : لما ذا شربت الماء الحرام؟.

نعم ، قد يطرأ على الحلال ، الحرمة لامر خارج ، وذلك بحاجة الى دليل خاص ، كما افتى بعض العلماء بحرمة الماء الذي يصبّ في آنية الذهب وان اخرجه منه وشربه ، وكما افتى غير واحد بحرمة المال الشخصي الذي يأخذه مالكه بحكم الجائر.

(والحاصل : ان الكلام في) انه هل القطع حجة مطلقا ، سواء طابق الواقع أو لم يطابق الواقع؟.

ونتيجة ذلك : (كون هذا الفعل) كشرب الماء المزعوم انه خمر (غير المنهي عنه واقعا) أو لا وبالذات (مبغوضا للمولى) فصار شربه كشرب الخمر (من حيث تعلق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضا) أو ليس هذا الشرب مبغوضا للمولى كما نقوله نحن؟.

و (لا) كلام لاحد (في ان هذا الفعل) : شرب الماء المزعوم كونه خمرا (المنهي عنه باعتقاده) لا نهيا واقعيا (ينبئ عن سوء سريرة العبد) وخبث نفسه (مع سيده) بل ومع غير السيد أيضا ، كما إذا كان صديقان لا يعتقد كل منهما بالآخر ، ونوى احدهما ان يسرق مال صديقه أو يقتله ، فانه لا يشك العقلاء

٧٢

وكونه جريئا في مقام الطغيان والمعصية وعازما عليه ، فانّ هذا غير منكر في هذا المقام ، كما سيجيء ، ولكن لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعيّا ، لأنّ استحقاق المذمّة ، على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل.

______________________________________________________

في خبث سريرة الناوي ، حتى إذا لم يات بمظهر ، فكيف ما إذا اتى به؟.

كما إذا رمى صيدا من بعيد ظنّه صديقه ، بقصد قتله ، أو اخذ أوراقا زعم انها مال صديقه ، بينما كان من المباحات.

(و) ينبئ هذا الفعل عن (كونه جريئا) على المولى و (في مقام الطغيان والمعصية و) كونه (عازما عليه) اي على الطغيان والمعصية ، بل قد عرفت : انه فوق العزم حيث اتى بالمظهر أيضا ، وهو اكثر ذمّا عند العقلاء ممن لم يات بالمظهر (فان هذا) الكشف عن سوء السريرة (غير منكر) بفتح الكاف بصيغة اسم المفعول (في هذا المقام) اي مقام التجري (كما سيجيء) : من ان المتجري يستحق الذم والتوبيخ.

(ولكن) هذا الذم (لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعيا) اذ لا تلازم بين الذم والحرمة ، فان الأول اعم من الثاني (لان استحقاق المذمة على ما) اي القصد الذي (كشف عنه) اي عن ذلك القصد السيئ (الفعل) الذي هو : شرب الماء بزعم انه خمر ـ في المثال ـ (لا يوجب استحقاقه) اي الذم (على نفس الفعل) المباح فرضا ، وهو شرب الماء ، فانه على صور :

١ ـ ربما يقبح الفعل دون القصد ، كمن زعم ان المسلم كافر فقتله ، ففعله قبيح دون قصده.

٢ ـ ربما يقبح القصد دون الفعل ، كمن شرب الماء بزعم انه خمر تجريا ،

٧٣

ومن المعلوم : أنّ الحكم العقليّ باستحقاق الذمّ ، إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل ، لا بالفاعل.

وأمّا ما ذكر من الدليل العقليّ ، فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ، لأنّه عصى اختيارا ،

______________________________________________________

فان فعله غير قبيح ، اذ هو شرب الماء المباح ، وانّما قبح قصده ، لانه طغيان وتمرد.

٣ ـ ربما يقبحان معا ، كما إذا شرب الخمر عالما عامدا ، وهذا جمع بين قبح الفعل وقبح القصد ، ولا يخفى ان العلم غير العمد ، فالعلم صفة نفسية ، والعمد صفة الفعل.

(ومن المعلوم : ان الحكم العقلي) والحكم العقلائي ، وقد سبق الفرق بينهما (باستحقاق الذم ، انّما يلازم استحقاق العقاب شرعا ، إذا تعلق) الذم (بالفعل ، لا بالفاعل) الذي فعل مباحا ، وانّما كان ارتكابه كاشفا عن سوء السريرة.

والحاصل : ان الشيء القبيح من جهة وجود مفسدة فيه ، إذا صدر عن علم وعمد ، كان سببا للعقاب ، اما الشيء غير القبيح لعدم المفسدة فيه ، إذا صدر عن سيئ السريرة بزعم انه حرام ، لم يكن فيه عقاب ، والمفروض في شرب الماء بزعم الخمرية ، انه من الثاني لا من الاول.

(واما ما ذكر من الدليل العقلي) الذي قسّم الأمر الى اربعة اقسام ، واختير فيه : تساوي شرب الماء بزعم انه خمر ، وشارب الخمر ، في العقاب (فنلتزم) فيه بالشق الثالث اي (باستحقاق من صادف قطعه الواقع) للعقاب ، دون من لم يصادف قطعه الواقع ، الذي شرب الماء بزعم انه خمر.

وذلك (لانه) اي من صادف قطعه الواقع كان قد (عصى اختيارا) كسائر

٧٤

دون من لم يصادف.

قولك : «إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار» ، ممنوع ، فانّ العقاب بما لا يرجع بالآخرة إلى الاختيار قبيح ، إلّا أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار

______________________________________________________

العصاة ، فله عقاب مثل ما لهم عقاب ، اذ هو مصداق من مصاديق العاصي ، والعاصي له العقاب (دون من لم يصادف) قطعه الواقع ، حيث شرب الماء بزعم انه خمر ، لكنه لم يكن خمرا فلا عقاب له.

واشكالك ب (قولك : إن التفاوت) بينهما (بالاستحقاق) في شارب الخمر (والعدم) في شارب الماء (لا يحسن ان يناط) ذلك التفاوت (بما هو خارج عن الاختيار) من المصادفة للواقع وعدم المصادفة ، اذ اناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار غير صحيح ، فترتيبك ايها المستشكل على هذا استحقاقهما العقاب معا بمناط الشرب الاختياري للخمر المقطوع به (ممنوع) لوضوح انه لا قبح في مثل هذا التفاوت ، بل القبح في عدم التفاوت ، فان هناك امرين :

الاول : ان يعاقب الانسان بما ليس باختياره ، كأن يجبر على شرب الخمر ، ثم يعاقبه المولى ، والحال ان شرب الخمر لم يكن باختياره ، وهذا قبيح بلا اشكال.

الثاني : ان لا يعاقب بما ليس باختياره ، كأن لا يعاقبه لانه شرب الماء ـ وان كان شرب الماء لم يكن باختياره لانه زعم انه خمر ـ وهذا الثاني ليس بقبيح.

والى هذين أشار بقوله قدس‌سره : (فان العقاب بما) اي بالشرب للخمر الاجباري الذي (لا يرجع بالاخرة) اي لا ينتهي (الى الاختيار قبيح) اذ العقاب انّما يكون على الامور الاختيارية (إلّا أن عدم العقاب لامر) شرب الماء الذي (لا يرجع الى الاختيار) لما عرفت : من ان كونه ماء لم يكن باختياره لانه زعم انه خمر ، وشربه

٧٥

قبحه غير معلوم.

كما يشهد به الأخبار الواردة في أنّ : «من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها».

______________________________________________________

بهذا القصد ، فان (قبحه غير معلوم).

وبعبارة اخرى : ان قبحه معلوم العدم.

وان شئت قلت : ان الاقسام أربعة :

الاول : القبيح الاختياري ، وهذا يعاقب عليه.

الثاني : القبيح غير الاختياري ، وهذا لا يعاقب عليه.

الثالث : غير القبيح الاختياري ، وهذا لا يعاقب عليه.

الرابع : غير القبيح غير الاختياري ، وهذا لا يعاقب عليه أيضا.

فالاول : كشرب الخمر اختيارا.

والثاني : كشرب الخمر اجبارا.

والثالث : كشرب الخمر اختيارا.

والرابع : كشرب الماء بدون الاختيار لزعمه انه خمر ـ مثلا ـ.

والمصنّف قدس‌سره ذكر من الاقسام الاربعة : القسم الثاني ، والقسم الرابع ـ لانهما مشتركان في عدم الاختيار ـ.

(كما يشهد به) اي بالتفاوت بين الاشخاص بامر خارج عن الاختيار (الاخبار الواردة في أن : «من سنّ سنّة حسنة ، كان له مثل أجر من عمل بها») من غير ان ينقص من اجورهم شيء ، فلا يؤخذ من اجورهم ، ليعطي الى من سنّ تلك السنّة ، بل ان الله سبحانه يعطيه بفضله بقدر اجر كل واحد عمل بسنّته.

(«ومن سنّ سنة سيئة ، كان له مثل وزر من عمل بها») من غير ان ينقص

٧٦

فاذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة او سيّئة ، واتفق كثرة العامل بإحداهما وقلّة العامل بما سنّه الآخر ، فانّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل او عقابه أعظم ،

______________________________________________________

من أوزارهم شيء» (١) فاذا أسّس انسان مسجدا ، كان له بقدر ثواب المصلين ، وإذا كتب كتاب علم نافع كان له بقدر ثواب المستفيدين منه ، وكذلك إذا اسس مخمرا فله بقدر وزر الخمارين فيه ، وإذا كتب كتاب ضلال ، فله بقدر وزر الضالّين به.

وجه الاستدلال بهذه الروايات للمقام ما ذكره بقوله : (فاذا فرضنا : ان شخصين سنّا سنّة حسنة) فالشيخ المرتضى قدس‌سره كتب المكاسب ، والسبزواري قدس‌سره كتب المكاسب أيضا (أو سيئة) بان بني الرجل المخمر في المدينة ، حيث كثرة الخمارين ، والآخر بناه في القرية حيث قلة الخمارين (واتفق كثرة العامل باحداهما ، وقلة العامل بما سنة الآخر) فمكاسب الشيخ قدس‌سره استفاد منه الآلاف ، ومكاسب السبزواري قدس‌سره استفاد منه العشرات.

وكذلك بالنسبة الى مثال المخمرين (فان مقتضى الروايات) المذكورة (كون ثواب الاول) من سن سنة حسنة (أو عقابه) من سن سنة سيئة (أعظم) من الثاني ، مع انه لا مدخلية لاي منهما في كثرة الاتباع وقلّته ، فان الكثرة والقلة امران اتفاقيان خارجان عن ارادة واختيار كل منهما.

ثم ان اعطاء الاجر بالنسبة الى من سنّ سنّة حسنة لا اشكال فيه ، لان الاجر والثواب كل فضل ـ كما ثبت في مورده ـ فمزيده أيضا فضل.

نعم ، يجب ان لا يخرج المزيد عن الحكمة ، كمن يكرم انسانا بما هو خارج

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٩ ح ١ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٢٨٥ ح ١٣٦ (بالمعنى).

٧٧

وقد اشتهر : «أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا».

______________________________________________________

عن الحكمة ، فانه أيضا ممتنع في حقه سبحانه.

وانّما الكلام في الوزر لمن سن سنة سيئة ، فهل يعطي من سن بقدر كل من عمل بتلك السنة السيئة ، كما في الافراد ، وكيفا في القدر ـ كما ربما يستظهر من الحديث ـ أو المراد اصل الاعطاء لا كيفه؟.

لا يبعد الثاني ، لانه الأوفق بالحكمة ، لوضوح ان من يعمل بالسنّة السيئة أيضا له دخل في ارتكاب هذه السيئة ، فهو ومن سنّها اذن شريكان ، فاعطاء كل واحد بقدر التمام يخالف ـ على الظاهر ـ قوله تعالى : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (١) بل هما ، كما إذا اشترك اثنان في قتل شخص ، حيث لكل واحد نصيبه من الجريمة ، لا انه يعطي لكل واحد جريمة قتل.

نعم ، يمكن ان يقال : بان من سنها له امران : الفعل ، والسببية ، ولكل عقوبة.

وعلى اي حال : فكثرة الثواب والعقاب لمن كثر اتباعه ، معلول لامر اختياري هو اختيار سن الحسنة أو السيئة ، واما قلتهما فيهما ، فهو من جهة ان العلة لم تؤثر قدر اثرها الممكن ، فلا ثواب ازيد ولا عقاب ازيد من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، وتفصيل الكلام في هذه المباحث موكول الى علم الكلام.

(و) مما يدل أيضا على التفاوت بامر خارج عن الاختيار ما (قد اشتهر) في السنتهم ، بل نسبه سلطان العلماء في حاشية المعالم الى الرواية : (ان للمصيب) في اجتهاده بحيث وصل الى الواقع (اجرين) : اجر الاجتهاد ، واجر الاصابة ، مع ان الاصابة لم تكن باختياره (وللمخطئ اجرا واحدا) (٢) لاجتهاده ، مع ان

__________________

(١) ـ سورة الانعام : الآية ١٦٠ ، سورة غافر : الآية ٤٠.

(٢) ـ حاشية سلطان العلماء على المعالم ص ٨٠.

٧٨

والأخبار في أمثال ذلك في طرفي الثواب والعقاب بحدّ التواتر.

فالظاهر أنّ العقل إنّما يحكم بتساويهما في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل

______________________________________________________

الاصابة وعدمها لم يكونا باختيار المجتهدين.

وهذا امر عقلي وان لم يرد فيه نص ، فان من اتعب نفسه للمولى ـ حسب امر المولى ـ لا بد له من جزاء ، فان صادف الواقع ، كان له جزاء ثان ، حيث ان الواقع له آثار.

(والاخبار في امثال ذلك ، في طرفي الثواب والعقاب بحد التواتر) وذلك مثل ما ورد من : ثواب الامام بكثرة المأموم ، وما ورد من : اعطاء ثواب اعمال الولد لوالده ، فان كون الانسان علة ـ ولو علة ناقصة ، حيث ان الامام والوالد علة ناقصة للثواب ـ يعطي جواز اكثرية الثواب في الحكمة ، فلا يقال : انه اعتباط ، والاعتباط لا يليق بالحكيم تعالى.

وإذا عرفت العقلية والشرعية في التفاوت ، نرجع الى بحث التجري (ف) نقول : (الظاهر) ولا يخفى ان الظاهر يقال : لما تكرر حتى ظهر ، مثل ظاهر اللفظ ، وظاهر الحال ، فيقال : ظاهر اللفظ كذا ، وظاهر الحال كذا ، إذا استعمل اللفظ في هذا المعنى مكررا حتى صار اللفظ ظاهرا فيه ، والمسلم تكرر العمل الصحيح منه ، حتى صار ظاهر حاله انه يعمل عملا صحيحا ، وهكذا ، فالظاهر : (ان العقل انّما يحكم بتساويهما) اي الشاربين للمائع ، وكلاهما قاطع بانه خمر ، لكن احدهما صادف الخمر والآخر لم يصادفه ، بل يكون شاربا للماء (في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل).

والشقاء هو : ايقاع النفس في المشقة ، ولذا ورد قوله سبحانه : (طه* ما أَنْزَلْنا)

٧٩

وخبث سريرته مع المولى ، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصية.

وربّما يؤيّد ذلك أنّا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة الذم بين من صادف فعله الواقع وبين من لم يصادف ،

______________________________________________________

(عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)(١).

وشقاوة الفاعل عبارة عن : اختياره القاء نفسه في مشقة غضب الله وبعدها عنه (وخبث سريرته) اي سوء نيته (مع المولى) لان كلا الشاربين بصدد التمرد والعصيان (لا) بتساويهما (في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية) لوضوح انه لا ذم لشرب الماء ، وانّما خاص لشرب الخمر.

(و) بعد ان فرغ المصنّف من الاستدلال الشرعي والعقلي على التفاوت بين الشاربين ، وان غير المصادف لا حرمة لفعله ، فلا عقاب عليه ، أيّد ذلك بقوله :

(ربّما يؤيد ذلك) اي استحقاق المصادف دون غيره للعقاب (انا نجد من انفسنا) وهذا الوجدان دليل على الواقعية ، لان النفس حسب فطرة الله سبحانه منطوية على درك الحقائق (الفرق في مرتبة الذم بين من صادف فعله الواقع ، وبين من لم يصادف) فاذا رأينا نفرين يرميان مسلمين ، فأصاب احدهما هدفه فقتل المسلم المرمي ، والآخر لم يصب هدفه فلم يقتل ذلك المسلم الثاني ، فان العقلاء ينهالون على المصادف بكل سب وذم ، بخلاف الثاني حيث يكون سبابهم وذمهم له اقل ، فان العقلاء يرون في المصيب هدفه إساءتين ، وفي غير المصيب هدفه إساءة واحدة ، وهكذا حال شاربي الإناءين بقصد الخمر ، وقد

__________________

(١) ـ سورة طه : الآيات ١ ـ ٢.

٨٠